الـحصيـرة

الـحصيـرة

بشوشة، وطموحة، وجاذبة، ومتسعة، واثقة بنفسها، ومتماسكة بقوة, رغم رقتها وضعفها، قادرة على الاستحواذ والضم والثورة، بساطتها سر من أسرار الكون، كريمة في خجل وتحسن استقبالك في ودّ وبشر، ومع ذلك قادرة على طرد ذوات الدم البارد والعابس والثقيل.

ملكة المجالس المتسعة، نسيج أسطوري وحكاية حب للأرض التي صنعت منها، تتشكل كما تريد: مفروشة ومضمومة ومعلقة ومسقوفة، رفيقة الأنبياء والزاهدين والساجدين والموتى، متمسكة بالتراث والهوية في صبر نادر، وقادرة على طرد الأحزان ومعالجة الفكر والأرق.
بعد أن دهمني الحزن بقسوة خلال الفترة الماضية، لم أجد غير الحصيرة تستقبلني كي أجلس عليها، وأبدأ في إخراج أحزاني وترتيبها حزنا حزنا، كانت الحصيرة متسعة كبيوتنا القديمة، ومبتسمة في بشر كشمس البكور، وودودة كجدتي، فذكرتني بالهتاف المشهور الذي كنا نطلقه أثناء ثورات الربيع العربي، دليلا على ما وصلت إليه أمور وأحوال شعوبنا، «بلا تحرير وبلا تطهير الشعب صار عَالحصير»، لكن الحصيرة أمدتني بالابتسامة والحماس ونحن نقوم بفرشها في الشارع تمهيداً لصلاة العيدين الأضحى والفطر، وإن كانت مصنوعة من البلاستيك ذي اللون الأخضر الغامق، تلك الابتسامة التي شاهدتها في أحد الأفراح الريفية وهي تفرش في الحارة وتوضع على كل حصيرة صينية متسعة من الفتة واللحم، وبعدها تناولنا أطباق الأرز باللبن في كرم لا أنساه، ذلك الكرم الذي شاهدته وأنا جالس في موالد عدة على الحصيرة، مستمتعاً بالمدائح النبوية وبالأجساد وهي تتمايل مع التواشيح وأحتسي الشاي أو القرفة أو الحلبة.
وهكذا تصبح الحصيرة مبسوطة ومفروشة باتساع العالم العربي من الخليج للمحيط، تستقبل الزوار والغرباء والمسافرين والساجدين والمناضلين، في كرم وودّ وبشاشة، قادرة على معالجة الأجساد من الرطوبة والألم، وطرد كل هواجس الفكر وتعكير المزاج، وإزاحة الأحزان التي لا تكف عن غمرنا كل فترة.
ولا يوجد بيت في العالم العربي لم يفرش بالحصيرة أو تعلق على جدرانه أو تظلل وتزين سقف قاعاته ودواوينه، سواء كان أصحاب البيت من الأثرياء أو الفقراء، فالحصيرة رمز عربي مائة في المائة، ذات خصوصية للبيئة التي تصنع منها، وهي متوافرة في جميع أنحاء الوطن العربي.
والمدهش أن كلمة الحصير تتنوع في المعاجم العربية، ما بين الضيِّق الصدر، والبخيل الممْسِك، والسَّجين، والحابِسُ المانعُ من الحركة، والمكان الضيق، ولحم جنب الفرس ما بين الكتف إلى الخاصرة، وملك، ومجلس، وطريق، كما يقال في التنزيل العزيز {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} (سورة الإسراء آية 8)، والجمع: حُصُرٌ، وأَحْصِرَةٌ وحَصَائِرُ، فيقال «أدَّى الصَّلاَةَ عَلَى حَصِيرٍ».
لكن ما يهمنا هو الحصير ذلك البِساط المنْسُوج بِطَرِيقَةٍ يَدَوِيَّةٍ مِنْ سَعَفِ النَّخِيلِ وَمَا شَابَهَ ذلِكَ، حيث كانت المساجد قديمًا تُفرش بالحصير، كما تُستعمل الحصيرةُ الآن للزينة فهي تُعبّر لدى الكثيرين عن الاعتزاز بالتراث وبالبيئة.
والآن تستطيع أن تشكل الحصيرة كما تريد، فقد تداخلت في الكثير من أمور حياتنا، فنجدهم يقولون «حَصِيرْةِ البيت تَحرُم على الجامع»، «وحصيرة الصيف واسعة»، والمقصود بالحصيرة هنا المكان ذاته، أي لا يضيق مكان بقوم في الصيف لاستطاعتهم النوم في الخلاء والبراح، ويقولون أيضا عندما تريد أن تتزوج «خد الأصيلة ولو كانت ع الحصيرة»، أي تزوج طيبة الأصل ولو كانت فقيرة ليس لها ما تجلس عليه غير الحصير، بينما تتغير الحال، ويقال «طول ما هو ع الحصيرة ما يشوف طويلة أو قصيرة»، وهو مثل تطلقه النساء عندما تهدد المرأة بضرة تأتي مكانها في البيت، لأنها مالكة أمره وبالتالي لا يستطيع الزواج بغيرها، بينما تدل الحصيرة على تبدل الحال فيقال «كان على نُخّ وصبح على حصير ... فَضْلْ من ربنا إللي ما يطير» أي أنه أصبح يجلس على حصير فيجب أن يطير من الفرحة، لأن ذلك فضل من الله.
كما أن رؤيته في الأحلام تدل على الخادم وعلى مجلس الحاكم والسلطان، ومن رأى أنه جالس على حصير فإنه يأتي أمراً يتحسر عليه ويندم، بينما الذي يرى أنه ملفوف في حصير فإنه يتحصر أو يناله حصر البول، وقد يدل الحصير على البساط.
ولانتشار الحصير في كل بقع الوطن العربي، نجد بالمملكة السعودية سلسلة جبال «الحصير»، وهي جبال جميلة حمراء جرانيتية تكثر فيها الأودية والأشجار الكبيرة، كما يوجد احتفال بمقام «أبو حصيرة» بمدينة دمنهور بمحافظة البحيرة في مصر، وهو حاخام يهودي من أصل مغربي، عاش من 1805 إلى 1880، ينتمي لعائلة الباز الشهيرة بالمغرب العربي، ويعتقد عدد من اليهود أنه شخصية مباركة، وتذكر إحدى الروايات الشعبية أنه غادر المغرب لزيارة أماكن مقدسة في فلسطين، إلا أن سفينته غرقت، وظل متعلقا بحصيرة قادته إلى سورية ومنها إلى فلسطين، وعند عودته للمغرب عبر مصر توفي فيه، وقد أوقفت السلطات المصرية هذا الاحتفال منذ سنوات عدة.
وصناعة الحصر من الصناعات الشعبية القديمة الممتدة في الوجدان العربي، والتي عرفت منذ العصر الفرعوني، وهو يصنع من أشياء البيئة المحيطة بنا، وخاصة من الخوص وسعف النخيل ونبـــــات الحلفا بعد تجفيفه في الشمس، ويطلق عـــــلى طائفة صناعة الحصير «الحصرية»، ونظرا لانتــــــشاره فقد قــيل إنه ليس بمصر ما هو أكثر انتشارا من استعمال الحصر، ويوجد سوق «حي الحصرية» بالقاهرة لصناعته وبيعه، وسوق الحصــرية بالإسكندرية.
 والحصير يمر في صناعته بمرحلتين: جمعه وتجفيفه في الشمس لمدة شهرين تقريبا ثم وضعه في الكركم لتليينه، وبعدها يوضع على النول ويبدأ في تشبيكه، بعد ذلك يتم صبغه بالألوان الأحمر والأخضر والأزرق، ونادرا ما  يصبغ بالأسود، وكثيرا ما يحلى برسوم وزخارف، ومن بعض أسماء تلك التصاميم: دقي الشمع، والمعقرب، والقلب الخالي، ولا يضع الحرفي تصميما ينقل منه بل هو على مقدرة كبيرة في حفظ التصاميم المتوارثة، وكان الحصير من أساسيات العروس قديماً.
والحصير متعدد الاستخدامات، ما بين فرشه في غرف الاستقبال أو على السرير أو الأرض للنوم أو على المصاطب في الأرياف وخاصة النوع المعروف بـ «الإياس»، كما يستخدم للزينة على الجدران كما نراه الآن في المقاهي والفنادق، أو يعلق على الأسقف، حيث يمنع الحرارة الشديدة ويجعل المكان رطبا، ويوجد نوع من الحصير يطلق عليه اسم «السفرة» أو «السرود» وهو دائري الشكل مصنوع من الخوص يجلس حوله الأفراد لتناول الطعام، ثم يعلق على الحائط بعد انتهاء تناول الطعام، لكن أغرب ما سمعته عن الحصير أنه كان يستخدم كأكفان للموتى قديمًا. 
والنوم على الحصير يزيل آلام العمود الفقري، حيث يساعد على تسويتها، ويقضي على الأحلام المرعبة، ويداوي الاكتئاب، ويساعد على الشعور برطوبة الأرض في فصل الصيف، ويدفئك في فصل الشتاء.
ونحن الآن في حاجة للنوم فترة على الحصيرة العربية في البراح الطلق أو الصحراء بعد أن فقدنا عتبات ومصاطب بيوتنا، كي نطل في السقف ونقوم بعد الثقوب أو تتجول عيوننا في السماء والملكوت ونقوم بعدِّ النجوم كما الماضي، وكي تعود الحرية لأجسادنا وعقولنا، ونستطيع أن نعالج العمود الفقري العربي بعد أن أصابه العطب نتيجة جلوسه دون عمل حقيقي أمام شاشات التلفزيون وأسفل التكييفيات في الغرف المغلقة، ونخرج من دائرة الاكتئاب الذي يحاصرنا من مجريات الحياة حولنا، وكي نزيح أحزاننا التي تكالبت علينا وغمرتنا، ولم تعد لها أي بهجة إلا الجلوس على الحصير في الهواء الطلق .