يوم وُلدتُ

يوم وُلدتُ
        

ريشة: أمين الباشا

          قال إنه وُلِد في ساعة مبكّرة من يوم الخميس من القرن الماضي، وكان - على ما أذكر - القرن العشرين، ويؤكّد أن الساعة كانت تعلن الخامسة صباحًا، ذاك اليوم من ذاك الشهر الخامس واسمه «آيار» من عام ألف وتسعمائة وخمسين، وبعد لحظات تابع بصوت مؤثّر أنه يحب هذا الرقم المؤلف من أربعة أرقام 1950، ويتابع وهو مغمّض العينين: اليوم.. القرن العشرون انتهى.. مضى.. حلّ محله القرن الواحد والعشرون، وهذا اليوم هو اليوم نفسه الذي وُلدت فيه، لكن التاريخ تغيّر، الساعة الخامسة صباحًا من يوم الخميس في عام ألفين وعشرة، مضت أيّام، إن حسبناها جيدًا نرى أن عددها صار 21.900 يومًا.. سكت.. وبان العجب على وجهه عندما ظهرت الأرقام، وطال سكوته كأنه ندم على تعداد أيّامه.. ثم وقف، وقام من مجلسه، ثم سار من سريره حتى باب الغرفة، بعدها عاد إلى السرير وجلس على طرفه وكان الباب المغلق في وجهه بابًا لونه أبيض يميل إلى الأصفر علامة عمره، ابتسم ابتسامة لا معنى لها عندما قال لنفسه إن الباب يعتق أيضًا، والسرير أيضًا، ينظر إلى الحائط لا يرى فيه شيئًا سوى لونه، بل ألوانه التي اختلطت مع الزمن ودخل فيها الرمادي الفاتح مع الأزرق الفاتح والأصفر وبعض نقط من لون الزّهر، كأن كل يوم يمثل مرحلة من تاريخ الحائط ومن تاريخ عمره، من مراحله، توقّف قليلًا عن الكلام.. كان يكلّم ذاته.. ذاته أفضل المستمعين إليه، بعد دقائق قليلة قال: أنظر إلى الحائط فيستريح نظري، أرى أيامي الماضية، أرى الحاضر.. أرى وأتخيّل مستقبلي.. صمت.. ولم يدم صمته طويلاً.. ثم ضحك وقال وهو ينفض أو يزيل من يديه ذكرياته: لابأس.. لم نسأله ماذا يريد أن يقول بـ«لابأس»، لأننا نعلم أنه يفسّر كل كلمة يقولها، أو جملة أو فكرة، قلنا نحن أيضًا: لابأس، وبقي صامتًا دقائق لم نعدّها.

          عندما مضت تلك الدقائق قال بصوت هادئ: لمّا مرّت الأيام ووصلت إلى اليوم الذي نحن فيه الآن وهو الخميس من الشهر الخامس المسمّى «آيار»، وأتذكّر تاريخ ذاك اليوم حيث سمعت «الدّاية» أعني القابلة القانونية، تسحبني من بطن أمّي تقول: هذا يوم مبارك.. المسيح وُلد بعد أشهر من الآن وطفلكم سيولد الآن.. وُلدت أنا، وعندما أخرجتني «الدّاية» من بطن أمي سمعت أول صرخة، كانت صرخة فرح من الجارات، فصرخت بدوري عندما رأيتهن ينظرن بين فخذي ثم يصرخن معًا: صبي.. صبي، عندئذ زاد صراخي واختلط بصراخ الجارات ونظرات حنونة من أمي.

          هنا صمت ووضع رأسه بين يديه وتمتم بكلمات مبهمة، كان غياب الشمس واللون الأحمر الذي تركته في الغرفة، قد أخذ الكلام من لسانه ووقف عن التمتمة وسكت.

          فجأة نفض يديه ثانية كأنه يزيل عنهما شيئًا علق بهما، ونحن كنا نعلم أن ما كان عالقًا بيديه هي الكلمات الساكتة الهادئة الحاملة ذكريات مولده وأيامه التي قاربت العدد الثلاثين ألفًا أو أقل أو أكثر.

          ثم عاد ليقول: لا أدري، لم أدر يومًا، متى وكيف ولماذا؟ ثم عاد السكوت إليه ولم يطل: لا أدري.. لم أكن أدري، إني سأصل إلى يوم الخميس هذا.. كأنه يلاحقني منذ ولادتي وأنا أشك بأن السيد المسيح قد وُلد في خميس ما.. وأعلم جيدًا أنه وُلد ذات يوم مخلصًا، وذات يوم حمل السّوط وسلّطته على الجشعين والحاقدين الذين صلبوه، هنا سكت وتدحرجت من عينيه دمعتان، دمعة فرح ودمعة حزن، في هذه الآونة بكى أحد من الحاضرين، كان القمر مشعًا، أنار الغرفة، وفجأة سطعت الشمس بنورها، نظر الجميع إلى بعضهم متسائلين: أين الشخص الذي بكى، لم يجدوه في الغرفة؟

          هنا نظر إلينا سائلاً إذا كنّا راغبين بأن أكمّل حديثي، لم يجبه أحد، لكنه لم يبال، قال: أنا أعلم أن كلامي تسمعونه، لكنكم لا تفهمونه، تقولون إنكم أصحابي ومخلصون لي وناشرون كلامي بين النّاس، لكني أعلم أنكم لن تفعلوا ذلك وأنتم لا تعلمون أني أعفو عنكم وأصلّي لأجلكم، هنا ضحك الجميع وراحوا يرقصون.. تابع قائلاً: عندما رأيت ما حصل منهم، انسحبت وابتعدت عنهم وبقوا الليل بطوله يرقصون ويغنّون وقد غطّت غيمة سوداء أكثر سوادًا من ظلمة الليل، غطّت القمر، عندما رأوا أني انسحبت وبعدتُ عنهم لحقوا بي، لم يجدوني، لكنهم ردّدوا كلامي دون أن يفعلوا به. أما أنا فقد تخطّيت الثلاثين ألف يوم، فرحت فرحًا شديدًا ووقعت مغمى عليّ، ليس حزنًا ولا خوفًا بل فرحًا، إذ أني تجاوزت هذا الرقم، وكان حدسي يخبرني أني سأبقى أعدّ الأيام وأفرح بكل يوم، مطمئنًا لذاتي وواثقًا أن لكل إنسان دنياه، جحيمه وجنّته، عندما رأيت أن قصتي انتهت، ابتسمت راضيًا بما يحصل لي، معتبرًا أن ما يحدث من خير وشر هو الحدث الأجمل والأهم والمعبّر عن أغنى ما أُعطي لي: الحياة.

----------------------------------

          دقّت الساعةُ في أرضِ بلادي العربيّة
                                        جلجلتْ, ضجّتْ، ودوّتْ ملءَ وديانٍ قصيّة
          غلغلتْ عبر بساتين النخيلِ العنبريّة
                                        وتلوّتْ في صحارٍ رسختْ كالأبديّة
          دقّت الساعةُ واهتزّتْ لها سمرُ الصحاري
                                        وارتوتْ بيدٍ عطاشٍ لانبلاجٍٍ, لانفجار

نازك الملائكة

 

أمين الباشا