الرفضُ والمعارضةُ عندَ الطفلِ بين الصِّحةِ والمرض
بادئ ذي بدء، لا أريد الادعاء بأن الرفض عمل مُنكر أو مُستهجن، لأن أروع الأعمال وأعظم السير وأخلد الحوادث تكونت عن نطفة الرفض ومن طاقاته. الأنبياء رفضوا أوضاعاً فاسدة أو ضارة أو باطلة، المخترعون والعلماء والرواد رفضوا نظريات جامدة أو ناقصة، والمكتشفون رفضوا العيش ضمن جغرافية محدودة وحياة رتيبة مملة، مشاهير الكتاب والأدباء والمجددين في القصة والشعر رفضوا بعض الأساليب الوصفية المتكررة الخاملة... وأخيراً، المصلحون في كل مكان رفضوا النظم والسياسات التي كانت تذل الإنسان أو تسيء إلى تمتعه بديمقراطية اجتماعية واقتصادية وثقافية، والجميع رفضوا أو حاربوا الرياء والدجل في كل شيء.
الرفض إذن هو لب أعاظم الأفعال، إلا أنه رفض مشروع ومعقول، وشرعية هذا النوع من الرفض أنه ترعرع بفعل عوامل ملحة، وكان مهضوما ومدروسا لا اعتباطيا أحمق، وكان يرمي إلى الإصلاح والفائدة الأعم أو دفع الأذى ومكافحة الشر الخطير، ومعقولية هذا النوع من الرفض أنه في البناء الحضاري للمجتمع وللعالم.
الرفض الطفولي: إن بعض الأطفال يرفضون الذهاب إلى المدرسة مثلا، وأصبح هذا النوع من الرفض مرضا نفسيا يُدعى بـ «رفض المدرسة»، وللمرض النفسي أسباب ودوافع لا ريب فيها، وقد تكمن في المدرسة نفسها فتستنفر التلميذ من الاقتراب منها، وقد تكمن في البيت والأسرة التي تجذبه إليها وتعرقل اندفاعه أو مودته نحو المدرسة، ومعظم الدوافع والأسباب تمكن معالجتها بالوسائل النفسية، وينقلب الرفض بالنهاية إلى ألفة وانسجام، ويغدو الرفض المدرسي وأمثاله من الأمراض النفسية للطفولة ظاهرة مرضية تستوجب العطف والرعاية الطبية النفسية.
ويمكن أن نجمل الأسباب التي تؤدي إلى عصيان الأطفال أو معارضتهم المستمرة لكل أوامر توجه إليهم، وعدم تحقيق تلك الواجبات التي توكل إليهم، بل يظهرون كثيرا من الغضب والتذمر لأهلهم ومدرسيهم وللمحيطين بهم، وأهم هذه الأسباب:
أولا: كل الأطفال يستخدمون المعارضة: إما ليتكيفوا مع مرحلة جديدة من حياتهم، أو ليكتسبوا استقلاليتهم، وإظهار الطفل لمعارضته شيء ضروري وصحي لنموه بشكل جيد، مهما بدا الأمر متناقضا، ويمكن القول إن الطفل بحال جيدة حين يعارض. فالمعارضة هي انعكاس لمرحلة جديدة من حياة الطفل، ومن رغبته بالاستقلال، وبالتالي، يعيش الأهل بشكل دائم ومنتظم وضعيات، لا بل مراحل، من المعارضة تستمر عموما إلى أن يستقل ويترك المنزل الأسري.
ويحصل التعبير عنها في المجال أو المجالات المتعددة، التي تتضمن فرض الممنوعات (العائلية، الاجتماعية، المدرسية)، والتي تساعد الطفل على تكوين قوانينه الداخلية انطلاقا من إدراكه الشخصي لهذه الممنوعات (وهذا ما يسمى «الأنا العليا»).
ومن الممكن أن تكون هذه المعارضة عبارة عن موقف رفض عام، حيث تتواتر الصراعات بشكل يومي، وحيث تتعدد مواضيعها وتتنوع، ويمكن التمييز هنا بين شكلين (الرفض الناشط والرفض السلبي العدائي) وهما غير متماثلين، إن من حيث الدلالة، أو من حيث المظاهر أو النتائج (أي ما ينجم عنهما من انعاكسات).
من السنة الثانية إلى الأربعة أعوام: يبدأ الطفل بضبط اللغة، وينمو الإحساس عنده بقيمته كشخص قادر على تحقيق التواصل مع الآخرين والتأثير فيهم، في هذه المرحلة، يرفض الطفل عمليا كل شيء، ويقيم نتائج رفضه، بحيث بعد تكرار الأكثر تأثيرا في هؤلاء يترك السلوكيات الأخرى.
مرحلة ما قبل المراهقة (10 - 12 سنة): تتميز بوضعية خاصة، إذ يطلب من الطفل ترك أحلامه أو مواقف الأطفال، لكن يمنع عليه التصرف كمراهق، ويواجه الطفل كذلك في هذه المرحلة الإكراهات (الضغوط) نفسها (العائلية، المدرسية، والاجتماعية الثقافية) المفروضة على المراهقين، والطفل يترجم انزعاجه من هذا الوضع عن طريق رفض ناشط شامل تجاه كل الإكراهات، رفض يهدف لإظهار اختلافه عن المراهقين، دون أن يكون قادرا على إعطاء التفسيرات الكفيلة بإيضاح رفضه.
مرحلة المراهقة: حيث تبدو المعارضة في أوجها، وهذا أمر طبيعي، فلكي يصبح الطفل مراهقا عليه دفن معتقداته الطفولية السابقة، ومنها اعتقاده بأن أهله هم الأجمل، الأقوى، يعرفون كل شيء...إلخ، وبمقدار ما يكبر، يحتاج إلى هدم هذه الهوامة.
ثانيا: هناك مجموعة من الأسباب الأخرى التي تؤدي إلى الغضب والرفض عند الأطفال، وأهم هذه الأسباب:
1 - سوء استعمال السلطة قد يكون السبب الرئيس لبعض مظاهر العصيان الحاد.
2 - اتصاف بعض الآباء بالضعف وعدم التصميم والحزم في طاعة الأوامر، رغم ما يبدو عليهم ظاهريا من مظاهر القوة والصرامة، والتجهم، وارتفاع الصوت، على الرغم من أن الشخص ذا السيطرة والسلطة الحقيقية ليس بحاجة إلى هذه الحركات الظاهرية ليملي إرادته على الآخرين.
3 - تقنين حرية الأطفال وعدم منحهم أوقاتا ينطلقون فيها على سجيتهم، وينفسون عن طاقاتهم باللعب، أو الرياضة، أو بالترفيه الحسن.
4 - استمرار السلطة المطلقة التى فرضت على الأطفال في سنواتهم الأولى وعدم تحولها إلى لون من ألوان النصح متى كبروا وبصورة ترشدهم وتساعدهم على المضي في طريق النجاح والنضج والاكتمال.
5 - الغيرة: ليس هناك من هو أكثر شقاء وتعاسة من الطفل الغيور، فهو يشعر بأنه أخفق في الحصول على الرعاية والحماية من شخص مولع به ولعا شديدا، لذا فهو يختزن أحزانه ويبالغ فيها حتى يشعر بأن الدنيا كلها تعمل ضده.
ويقول لنا الكاتب عبدالرزاق سمعو رعال: يجب ألا ينخدع الآباء بأن عبارات الانتقاد الشديد لأطفالهم قد تمر دون مشكلات، على اعتبار أنها شكل من أشكال المزاح والمداعبة، إلا أن الطفل الواثق بنفسه لا يتعامل مع هذه العبارات على هذا النحو، إذ إنه من خلال فترات المشاحنات العائلية فإن عبارة ممازحة ما قد تؤدي إلى جرح مشاعر الطفل ولاسيما ما بين 4 و6 سنوات.
توجيهات نفسية نافعة: هذا الرفض والعناد الذي يصاحب الطفل في بعض مراحل حياته كثيرا ما يكون علامة طيبة وصحية على نموه النفسي والاجتماعي والثقافي، يمكن استثمارها في مصلحته ولمنفعته، وإسلاس تربيته ونموه، ولذلك علّم طفلك منذ نعومة أظفاره معنى كلمة (لا)، لكن يجب عدم تكرارها كثيرا على مسامع الطفل لئلا تحبط دوافعه في حب الاستكشاف والاستطلاع، إلا إذا كان يقترب من أذى نفسه أو غيره ، فيجب أن تقول له (لا) بصوت هادئ وحازم، واللجوء إلى الضرب ممنوع إلا في حالة طفل لا يفهم الكلام، ولتكن ضربة واحدة لاسعة ليد الضارب أيضا، لذلك يفضل أن تكون الأم من تقوم بالضرب دون أن تهتم بالطفل إذا بكى بعد ذلك أو تضمه أو تجعله لا يتفهم المغزى من الضرب، ما يؤدي به إلى تكرار الخطأ مرة بعد مرة، وبالتالي يصبح العناد والتمادي في الخطأ جزءا من الشخصية.
بقي أمر أخير وهو وجوب تنشئة الأطفال على الثقة بالنفس والجرأة في الحق بأن نعلمهم أن من حقهم قول (لا)، لئلا يتعودوا الطاعة العمياء وطأطأة الرؤوس وتقبيل الأيدي، ولنذكر مثالا واحدا من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم على جرأة أولاد الصحابة في قول (لا)، والاحتفاظ بالحق حتى لو كان من يطلب ذلك هو الرسول نفسه. «أتى رسول الله عليه الصلاة والسلام بشراب فشرب منه، وعن يمينه غلام هو ابن عباس رضي الله عنهما، وعن يساره أشياخ، فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ فقال الغلام: لا والله، ولا أؤثر بنصيبي منك أحدا». ورحم الله عمر بن الخطاب عندما قال: «يعجبني الرجل إذا سيم خطة خسف أن يقول بملء فيه: لا»!!
المُقتضى: وهكذا تبين لنا أن هناك نوعين من الرفض والغضب عند الأطفال، وخاصة في مراحل العمر الأولى، أولهما: الغضب الإيجابي، وفي هذه الحالة يظهر على الطفل الصراخ أو الرفس أو كسر الأشياء أو تخريبها، وعادة تظهر هذه الحالة لدى الأطفال الانبساطيين Extroversion. وثانيهما: الغضب السلبي، وتبدو مظاهره في شكل انسحاب وانطواء مع كبت المشاعر، حيث نرى الطفل يرفض الطعام أو الذهاب للمدرسة، أو الخروج مع والديه، وتظهر هذه الحالة لدى الأطفال الانطوائيين Introverrsion.
أما أساليب السيطرة على الغضب وعلاجه، لكي تتجنب الأم نوبات الغضب التي تحدث عند طفلها، فهي كالتالي: إزالة جميع الأسباب المحيطة بالطفل والتي تسبب له الإزعاج وتثير لديه نوبات من الغضب، ومنها عدم تعرض الطفل للأوامر الكثيرة وعدم تكليفه بأعمال تفوق طاقته. وإذا غضب الطفل فيجب على الأم أن تكون هادئة وتتحكم في ثورتها أمامه، وتكف فورا عن الصياح والهيجان، وتخصص وقتا كافيا للعب مع الطفل، وعدم إخضاعه لجدول غير مرن من حيث المواعيد الدقيقة في الواجبات والنوم والدراسة.
تجنب التناقض في الأوامر بين الوالدين في تربية الطفل.
يجب على الوالدين أو الإخوة الابتعاد عن إثارة الطفل بهدف الضحك أو التسلية أو إذلال الطفل وتخويفه، ولكن العمل على تهدئته، ويجب على الأم ألا تنفعل في تقييد حرية الطفل أو إرغامه على الطاعة من دون إقناعه أو إجراء حوار معه أولا.
إعطاء فرصة للطفل لممارسة هوايات متعددة، كما يجب إعطاؤه الوقت الكافي في اللعب، حيث إن الطفل الغضوب يكون محروما من ممارسة اللعب، كما تجب مكافأته على إنجازاته.
أما الأطفال في مرحلة المراهقة وخاصة في السنوات الأولى منها فيجب:
أولا: تنبغي ملاحظة الطفل أو المراهق ومحاولة الكشف عن السلوكيات غير المتكيفة التي تبدو متطرفة، ثم التحقق منها بسؤال أشخاص آخرين (أفراد العائلة الموسعة، الأصدقاء، الوسط المدرسي) وأخذ عجز الأشخاص من خارج الأسرة عن تحمل هذه السلوكيات بالاعتبار.
ثانيا: ملاحظة كل سلوك انطلاقا من المحكات الآتية (تواتر السلوك، استمراره، درجة الألم النفسي الناجم عنه، امتداده لقطاعات أخرى، عدم التكيف مع وضعيات الحياة..)، تقييم درجة الانزعاج التي يثيرها السلوك عند الطفل أو المراهق خلال اليوم.
ثالثا: ملاحظة الأهل درجة احتمالهم لهذا السلوك، وخصوصا مقارنة موقفهم مع مواقف أولئك الأشخاص الذين تم سؤالهم سابقا بهذا الخصوص.
رابعا: إذا كانت درجة عجزهم عن تحمل هذا السلوك مسيطرة، أو إذا كانوا يتحملونه كسلوك والآخرون لا، فعليهم الاستعلام (بقراءة كتب متخصصة و/أو سؤال ذوي الخبرة و/أو الحديث عنه مع الطبيب في أول زيارة له أو مع طبيب المدرسة) للتمكن من تقييمه بدقة.
خامسا: إن كان التواصل مع الطفل والمراهق لايزال ممكنا، وهم كأهل، ليسوا مصابين بدرجة مرتفعة من القلق نتيجة ما اكتشفوه، فبإمكانهم إذن معالجة الموضوع معه في الوقت المناسب الذي يختارونه لكي: يقيموا درجة تألمه ووعيه (أي إدراكه للمشكلة، تحسيسه وتهيئته لخطة العلاج التي سيتم تحديدها في ضوء التشخيص الذي قاموا به، أو الذي أشار إليه الاختصاصي عند استشارته، وعليهم المشاركة بالعلاج).
وينصح أساتذة علم النفس «نصائح تربوية عدة مهمة منها:
تجنبوا قدر المستطاع الدخول بصراع مع الطفل أو المراهق، وإن اضطررتم لذلك، فأوقفوا العراك بأسرع ما يمكن لأنكم الخاسرون مسبقا.
لا تشعروا بالذنب، فلستم عرافين، ثم مع أفضل إرادة بالعالم، تبقى الصراعات موجودة باستمرار.
لا تسببوا الصراع لأنفسكم، فابنكم يحاول بكل بساطة، اختبار حدوده أو رؤية إن كان بإمكانه تسييركم.
تقبلوا الإخفاقات، فلستم كاملين (لا وجود لإنسان كامل، كما لا وجود لطفل أو مراهق كامل).
تقبلوا، لا بل ساعدوه ليبدي إحباطه، فالتعبير اللفظي وغير اللفظي يساعدانه كثيرا على التنفيس عما يعتمل بداخله، ومن ثم، على الارتياح.
لا تحسوا بأنكم وحدكم من يواجه مثل هذه الصعوبات، وأنكم مسؤولون عن كل سوء يحدث، حاولوا مناقشة ذلك مع أهل الآخرين (وخصوصا الصادقين منهم)، فسرعان ما يتبين لكم أنهم يواجهون المشكلات مع أولادهم. استغلوا الفرصة وتبادلوا الخبرات في ما بينكم، إذ من شأن ذلك مساعدتكم على مواجهة الصعوبة بتقاسمها مع الآخرين وبالاغتناء مما يقدمه لكم تبادل الخبرات في ما بينكم.
حاولوا دائما استعادة التواصل مع ابنكم (أو ابنتكم)، فالصراع والشجار يحولان دون ذلك، أما الحوار الهادئ فيؤمّنه.
اعتبروا من البداية أن السلوك (سلوك المعارضة خصوصا) هو مؤشر على الصحة، صحة ابنكم (أو ابنتكم) الذي يكبر، يصبح أكثر استقلالية وتتطور شخصيته، ودوركم يكمن فى رعاية هذا النمو والتطور المحققين عنده، وتأمين الإطار السليم لهما.
لا تترددوا أبدا باستشارة الاختصاصي حين تحسون بأن الأمور تتجاوزكم، فكلما جاءت المعالجة بشكل أبكر كان الحل أسرع، وإمكانات الشفاء أكبر وأفضل، وإلا فإن الأمور ستتفاقم وتتأزم الأحوال .