العقل الوضعي وسؤال التجديد

إن التفكير في النهضة والتجديد الحضاري في الفكر العربي المعاصر، يرتبط ارتباطا تاريخيا بالاحتكاك أو التصادم الذي وقع بين الحضارة الغربية الحديثة الوافدة، والحضارة العربية الإسلامية. هذا الاحتكاك بين الذات والآخر، بين العرب والغرب، طرح هاجس النهضة وولَّد التوتر الشديد، بضرورة تأسيس الحضارة العربية الإسلامية من جديد، هكذا بدأ د. مصطفى كيحل كتابه الموسوم بـ: «العقل الوضعي وسؤال التجديد.. دراسة نقدية في الجهود الحديثة لزكي نجيب محمود»، الصادر حديثا عن دار الوسام العربي للنشر والتوزيع بالجزائر, بالاشتراك مع دار الزمان للنشر والتوزيع بسورية، الذي اختار أن يهديه إلى شباب الثورات العربية.
يدور موضوع هذه الدراسة حول إشكالية التجديد الحضاري، عند واحد من أهم كبار المفكرين العرب المعاصرين، وهو الفيلسوف المصري زكي نجيب محمود.
الظروف الفكرية لعصر وفلسفة زكي نجيب محمود
في البداية، تعرَّض الكاتب لأهم التيارات الفكرية العربية في عصر النهضة، وبين المبادئ الأساسية لكل تيار، كما حاول إبراز الأطر التاريخية التي تكونت في سياقها قناعة زكي نجيب محمود وحماسته للوضعية المنطقية، حيث ذكر أن العمر امتد بزكي نجيب محمود ليمسك القرن العشرين من طرفيه (1905-1993). وهو قرن تميز بكثير من التحــــولات فـــي رأي الكاتب، حيث إنه انطبع بكثير من الحروب والثورات والصراعات الاقتصادية والأيديولوجية، واعتـــبره عصر العلم بــــلا منازع.
ومن بين التيارات التي تناولها الكاتب بالدراسة: التيار السلفي الإصلاحي، وأوعز البدايات الأولى لهذا التيار إلى القرن الثامن عشر الميلادي، وهو تيار أخفق - حسب رأي الكاتب - في تحقيق المعاصرة واستيعاب الحضارة الغربية، ثم تطرق إلى التيار العلماني - الليبرالي، حيــــــث رأى أن الحمـــــلة الفـــرنســـية كانت بمنزلة الصدمة الحضارية، التي دفعت العرب إلى التفكير من جديد في ضرورة تحـــــقيق النهضة.
ويرجع الكاتب بدايات هذا التيار إلى المفكرين المسيحيين، الذين يتفقون على أن العلمانية ضرورة حضارية.
كما تعرَّض للمفاهيم الأساسية كمفهوم الفلسفة، ونظرية المعــرفة، والميتافــــيزيقا، والقيم، وما انطوت عليه هذه المفاهــيم الأساسية مـــــن آلــــيات، كآلية التحـــقيق والمعنى، والتحلـــيل اللغوي، وبـيـــن بعدها الأيديـــــولوجي وجوانبها اللاعلمية.
فلسفة الحضارة عند زكي نجيب محمود
توقف د. مصطفى كيحل عند مفهوم الفيلسوف المصري للحضارة وتصنيفاته لها، وتمييزه بين الشرق والغرب والشرق الأوسط، ثم تصوره للإنسان الكامل، أو فلسفة الإنسان، حيث يرى زكي نجيب محمود أن تحديد معنى الحضارة يتضح فقط عندما نجريها في سياق الحديث، وتستعصي على الفهم والإدراك حينما نعزلها وحدها. ويرصد الفيلسوف المصري أربعة أمثلة في التاريخ لحضارات لا يظن أن أحدا بإمكانه المجادلة في رفعتها، وهي: أتيا في عهد بركليز في القرن الخامس قبل الميلاد، بغداد في عهد المأمون في القرن التاسع، فلورنسة في القرن الخامس عشر، باريس في عصر التنوير إبان القرن الثامن عشر، كما يرى أن الاحتكام إلى العقل هو القاسم المشترك بين هذه الحالات الحضارية، وينفي أن يكون الفن والأدب والقدرة العسكرية والنظام السياسي عوامل مشتركة في قيام الحضارات، لأنها في اعتباره تتوافر في شعوب ولا تتوافر في أخرى. أما في ما يتعلق بفلسفة الإنسان، فهو يراه عنصرا مقوما من عناصر المعادلة الحضارية، ويعود إلى التراث ليفتش عن نموذج الإنسان الكامل، حيث يتوقف عند مجموعة من فلاسفة الأخلاق وعلى رأسهم ابن مسكويه وأبو حامد الغزالي، ويخلص إلى أن إنسان الحضارة تحكمه محددات عدة يعمل في إطارها، وهي: العقل للتفكير والتنظير، والإرادة للتنفيذ والتطبيق، والقيم والمثل لصقل الأعمال والأفكار.
التراث والتجديد في الثقافة العربية المعاصرة عند زكي نجيب محمود
في هذا الفصل، حلل الكاتب تطبيقات الوضعية المنطقية في الثقافة العربية، حيث تعرض لإشكالية التراث والتجديد، وتوقف عند أهم التحولات الفكرية التي عرفها زكي نجيب محمود، وأهم الأفكار التي اقترحها، كفكرة الثنائية في الثقافة العربية، وبنية الثقافة الغربية، ثم كشف عن الآليات التي اصطنعها المفكر للجمع بين التراث والمعاصرة، ومن ضمنها: آلية التطبيق، وآلية الإطار والمضمون، وآليات الثبات والتغير، حيث يرى أن أكبر المشكلات التي استغرقت الفكر العربي المعاصر هي مشكلة الأصالة والمعاصرة، معتبرا أن الصراع بين طرفي هذه الثنائية يشكل محور التفكير العربي في العصر الحديث، ومردّ هذا الصراع، هو التصادم الذي وقع بين الحضارة العربية الإسلامية، والحضارة الغربية الحديثة، وغياب التوازن بين هاتين الحضارتين، وإرادة الحضارة الغربية في احتواء الحضارة العربية الإسلامية، في حين ترفض هذه الأخيرة نزعات الحضارة الغربية، وتؤكد هويتها واستقلالها الحضاري، كما يرى الكاتب أن زكي نجيب محمود نظر إلى التراث في الواقع الثقافي الذي عاشه، وهو الواقع الغربي، بمعنى أنه قرأ تراثا بتراث آخر، كما أنه غلب عليه استعمال أدوات البحث التي اصطنعها المحدثون الغربيون، في مقارباتهم للتراث، على ظن منه أنه استوفى شروط النظر العلمي الصحيح.
كما بيَّن د. كيحل القيم الجديدة التي أكدها زكي نجيب محمود، في عملية التجديد الحضاري، ومن بينها قيمة العقل والحرية، متعرضا لمفهوم العقل وثنائية العقل والوجدان، والعقل والخرافة، ومتطرقا إلى مفهوم الحرية وأنواعها، حيث يرى أن العقل والحرية يشكلان مدار الفكر العربي المعاصر، فهو من جهة دعوة صريحة إلى التحرر من كل العوائق التي من شأنها أن تكبح مسيرة الإنسان العربي نحو تحقيق مشروع النهضة، ومن جهة أخرى إعمال العقل في شتى مجالات الحياة، حيث إن ماهية الإنسان ومعنى وجوده ينحصران في كلمتين: عقل وحرية، فبالعقل يدرك الإنسان حقيقته والمعنى النهائي لوجوده، وبالحرية يتحكم بقوى القدر أو الطبيعة، ويعلن استقلاله عن سلطان الهوى أو الشهوة.
إصلاح الفكر العربي المعاصر عند زكي نجيب محمود
تناول المؤلف في هذا الفصل تصور زكي نجيب محمود لعملية إصلاح الفكر العربي، وهي عملية تقوم على ثلاثة محاور: أولها ضرورة الانتقال من اللغة إلى الواقع أو إضافة المنهج التجريبي إلى المنهج الاستنتاجي في دراسة الظواهر، ثم بيان خطر الفكرة الغامضة، وما تترتب عليها من صعوبات، وضرورة الانتقال من الوضع الذي تنصب فيه فعالية العقل على أفكار الآخرين، إلى الوضع الذي تنصب فيه على مشكلات واقعية، حيث إن تحليل الفكر المعاصر، وبيان مواطن ضعفه، والكشف عن بنيته وتحديد أسباب فقر العقل العربي، وفقدانه القدرة على الإبداع، كانت من المعالم الكبرى التي شغلت فكر زكي نجيب محمود كما يذكر الكاتب.
كما سعى الفيلسوف إلى تقديم بعض المعالجات، من أهمها نقل العقل العربي من مجال النظري إلى مجال العملي، ودعا إلى ضرورة التمييز بين الفكر والعلم والأدب، وضرورة تحقيق الإبداع الأدبي. ويرى الكاتب أن بيان زكي نجيب محمود لمواطن الضعف في الفكر العربي المعاصر هو شكل من أشكال ممارسة النقد الذاتي.
وفي الأخير، خلص المؤلف إلى مجموعة نتائج، منها: استناد مشروع زكي نجيب محمود الحضاري إلى مجموعة مفاهيم، كضرورة الأخذ بمنطق العلم، وتخليص العقل من الانفعال والغموض، والجمع بين النظرية والتطبيق، ومحاربة الخرافة، كما أن أهم انشغالات الفيلسوف في إطار مشروع التجديد الحضاري، هو الدمج بين الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الغربية، والنتيجة أن زكي نجيب محمود كان وفيا لفلسفته أكثر من وفائه لثقافة مجتمعه وحاجاته الفكرية .