«تيمة الهجرة» في الأدب العربي المعاصر

«تيمة الهجرة» في الأدب العربي المعاصر

أصدر‭  ‬الباحث‭ ‬والمفكر‭  ‬التونسي‭  ‬عمر‭ ‬الشارني،‭ ‬أستاذ‭ ‬الفلسفة‭ ‬بالجامعة‭ ‬التونسية‭ ‬وكذا‭ ‬جامعة‭ ‬Clermont‭ ‬–Ferrand‭ ‬الفرنسية،‭ ‬كتابا‭ ‬باللغة‭ ‬الفرنسية‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭: ‬Figures‭ ‬de‭ ‬L’émigration‭ ‬dans‭ ‬la‭ ‬littérature‭ ‬arabe‭ ‬contemporaine‮ ‬‭: ‬le‭ ‬moi‭ ‬assiégé‭. ‬تناول‭ ‬فيه‭ ‬تداول‭ ‬تيمة‭ ‬الهجرة‭ ‬داخل‭ ‬بعض‭ ‬نصوص‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬الحديث‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ثلاثة‭ ‬نماذج‭ ‬هي‭: ‬توفيق‭ ‬الحكيم،‭ ‬الطيب‭ ‬صالح،‭ ‬أحلام‭ ‬مستغانمي‭. ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬العمل،‭ ‬سيشكل‭ ‬إضافة‭ ‬كمية‭ ‬ونوعية‭ ‬داخل‭ ‬الخزانة‭ ‬العربية،‭ ‬وبالأخص‭ ‬الكتابات‭ ‬الفرنسية‭ ‬التي‭ ‬تناولت‭ ‬بعض‭ ‬قضايا‭ ‬أدبنا‭ ‬العربي‭ ‬الحديث‭ ‬والمعاصر‭.‬

يؤكد‭ ‬الأستاذ‭ ‬الشارني‭ ‬أن‭ ‬النصوص‭ ‬الروائية‭ ‬التي‭ ‬وظفها‭ ‬في‭ ‬عمله‭ ‬هذا‭ ‬تمثل‭ ‬مرحلة‭ ‬متقدمة‭ ‬وعميقة،‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يخص‭ ‬قضية‭ ‬إدراك‭ ‬علاقة‭ ‬الذات‭ ‬بذاتها‭ ‬وكذا‭ ‬الآخر‭. ‬التطور‭ ‬الذي‭ ‬حصل‭ ‬داخل‭ ‬وعي‭ ‬بعض‭ ‬الأدباء‭ ‬العرب،‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬سعى‭ ‬إلى‭ ‬التقاطه‭ ‬والوقوف‭ ‬عليه،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬الإجابة‭ ‬أو‭ ‬معرفة‭ ‬التأثير‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يحدثه‭ ‬عمق‭ ‬هذه‭ ‬النصوص‭ ‬على‭ ‬الواقع‭ ‬العربي‭.‬

توفيق‭ ‬الحكيم،‭ ‬نموذج‭ ‬للمثقف‭ ‬العربي‭ ‬الذي‭ ‬هاجر‭ ‬إلى‭ ‬باريس‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬هذا‭ ‬القرن‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬العلم‭ ‬والمعرفة‭. ‬وبالتالي‭ ‬سنقف‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحكاية‭ ‬على‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الصراع‭ ‬الفكري‭ ‬والأيديولوجي‭ ‬بين‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب،‭ ‬أي‭ ‬بداية‭ ‬تشكل‭ ‬ملامح‭ ‬‮«‬صراع‮»‬‭ ‬حضارتين‭ ‬مختلفتين‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬الأسس‭ ‬والغايات‭ ‬والقيم‭ ‬والمفاهيم‭.‬

هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬أعطاها‭ ‬الأستاذ‭ ‬الشارني‭ ‬تسمية‭ ‬‮«‬الوعي‭ ‬النرجسي‮»‬‭ ‬حيث‭ ‬جسد‭ ‬الحكيم‭ ‬هذا‭ ‬الإحساس‭ ‬المفرط‭ ‬والمرضي‭ ‬بالذات‭ ‬في‭ ‬مواجهتها‭ ‬للآخر‭ ‬الأوربي،‭ ‬لأنه‭: ‬‮«‬ظل‭ ‬لصيق‭ ‬ذاته،‭ ‬مكتفيا‭ ‬بالحكم‭ ‬على‭ ‬حياة‭ ‬يرفض‭ ‬معرفتها‭ ‬أو‭ ‬فهمها‮»‬،‭ ‬فهي‭ ‬‮«‬ذات‭ ‬مكبوحة‭ ‬ملتفتة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬سلف‭. ‬ذات‭ ‬تبقى‭ ‬سجينة‭ ‬ذاتها‭ ‬وأوهامها‭ ‬وهلوساتها‭. ‬ثم‭ ‬ترفض‭ ‬أي‭ ‬شكل‭ ‬من‭ ‬المواجهة‭ ‬مع‭ ‬الحاضر‮»‬‭.‬

في‭ ‬حين‭ ‬مصطفى‭ ‬سعيد‭ ‬مع‭ ‬‮«‬موسم‭ ‬الهجرة‭ ‬إلى‭ ‬الشمال‮»‬‭ ‬يمثل‭ ‬مرحلة‭ ‬تاريخية‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬سنوات‭ ‬السبعينيات،‭ ‬وهجرة‭ ‬أستاذ‭ ‬سوداني‭ ‬قصد‭ ‬التدريس‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬البريطانية‭. ‬وهو‭ ‬على‭ ‬العكس‭ ‬من‭ ‬‮«‬محسن‮»‬‭ ‬عند‭ ‬توفيق‭ ‬الحكيم،‭ ‬فإن‭ ‬البطل‭ ‬هنا‭ ‬‮«‬يقيم‭ ‬استعلاءه‭ ‬على‭ ‬خضوعه،‭ ‬ويتقدم‭ ‬إلى‭ ‬بوابة‭ ‬الواقع،‭ ‬أي‭ ‬بوابة‭ ‬التاريخ‮»‬‭.‬

بينما‭ ‬تدخل‭ ‬‮«‬ذاكرة‭ ‬الجسد‮»‬‭ ‬لأحلام‭ ‬مستغانمي،‭ ‬ضمن‭ ‬نموذج‭ ‬آخر‭ ‬سعى‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬الأستاذ‭ ‬الشارني‭ ‬إلى‭ ‬فحص‭ ‬واختبار‭ ‬مفهوم‭ ‬الهجرة‭ ‬السياسية‭ ‬مع‭ ‬لجوء‭ ‬أحد‭ ‬المقاومين‭ ‬الجزائريين‭ ‬القدماء‭ ‬إلى‭ ‬باريس‭. ‬نوع‭ ‬من‭ ‬المنفى‭ ‬الاختياري،‭ ‬احتجاجا‭ ‬على‭ ‬واقع‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يتحمل‭ ‬حتى‭ ‬ذاته،‭ ‬ليستبدل‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬تاريخنا‭ ‬الميت‭ ‬بمفهوم‭ ‬آخر‭ ‬يؤسس‭ ‬‮«‬لذاكرة‭ ‬متوحشة‭ ‬وثائرة،‭ ‬تأخذ‭ ‬كل‭ ‬أهميتها‭ ‬التراجيدية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مجابهة‭ ‬الوعي‭ ‬لذاته‭. ‬العنصر‭ ‬الجديد‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشأن،‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬لا‭ ‬يتعلق‭ ‬بتاريخ‭ ‬عبء‭ ‬ولكن‭ ‬تاريخ‭ ‬قوة،‭ ‬قوة‭ ‬حية‭ ‬لا‭ ‬تقهر،‭ ‬تسكننا‭ ‬وتوجهنا‭ ‬وتضغط‭ ‬بثقل‭ ‬على‭ ‬أفكارنا‭ ‬وأفعالنا،‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬وضعها‭ ‬داخل‭ ‬خزانات‭ ‬الزمان‭. ‬هي‭ ‬تاريخ‭ ‬تراجيدي،‭ ‬لأنها‭ ‬مازالت‭ ‬رهان‭ ‬حاضر‭ ‬يرتجف‭ ‬ويهتز‭ ‬حياة‭ ‬وعنفا‮»‬‭.‬

كل‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المسارات‭ ‬تمثل‭ ‬لحظة‭ ‬وعي‭ ‬مختلفة‭ ‬ومتميزة‭ ‬داخل‭ ‬الوعي‭ ‬العربي‭ ‬هناك‭: ‬1‭-‬النرجسية‭.‬

2-‭ ‬الثورة‭.‬

3-‭ ‬النقد‭ ‬الذاتي‭.‬

إذا‭ ‬تأملنا‭ ‬التمرحل،‭ ‬فسنلاحظ‭ ‬أن‭ ‬الوعي‭ ‬العربي‭ ‬يتطور‭ ‬وينمو‭ ‬تصاعديا‭ ‬داخل‭ ‬هذه‭ ‬النماذج‭ ‬الإبداعية‭. ‬فالنرجسية‭ ‬لا‭ ‬يمكنها‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬الأحوال‭ ‬إلا‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬حالة‭ ‬مرضية‭ ‬باثولوجية‭. ‬تظهر‭ ‬عجز‭ ‬الذات‭ ‬عن‭ ‬التفاعل‭ ‬بشكل‭ ‬موضوعي‭ ‬مع‭ ‬المحيط‭ ‬والأشياء‭. ‬تمركز‭ ‬جنوني‭ ‬حول‭ ‬الذات،‭ ‬يحتكم‭ ‬إلى‭ ‬موقف‭ ‬طفولي‭ ‬وساذج‭.‬

أما‭ ‬ثورة‭ ‬مصطفى‭ ‬سعيد‭ ‬الأنطولوجية،‭ ‬فإنها‭ ‬تشكل‭ ‬بداية‭ ‬أسس‭ ‬وعي‭ ‬نقدي‭. ‬أي‭ ‬ملامسة‭ ‬الذات‭ ‬في‭ ‬نسبيتها‭ ‬وجدلياتها‭ ‬وتوتراتها،‭ ‬سواء‭ ‬عبر‭ ‬تاريخها‭ ‬أو‭ ‬علاقتها‭ ‬بالعالم‭ ‬ومكوناته‭.‬

السياق‭ ‬العام‭ ‬للكتاب‭ ‬وأطروحته‭ ‬الثاوية‭ ‬وكذا‭ ‬الظاهرة،‭ ‬يفكران‭ ‬في‭ ‬مدى‭ ‬قدرتنا‭ ‬على‭ ‬القيام‭ ‬برؤية‭ ‬جذرية‭ ‬بخصوص‭ ‬قضايانا‭ ‬السياسية‭ ‬والفكرية‭ ‬والثقافية‭ ‬والاقتصادية‭. ‬والتخلص‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬النرجسية‭ ‬الفارغة‭ ‬التي‭ ‬شكلت‭ ‬مأساة‭ ‬العرب‭ ‬ولا‭ ‬تستند‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬منطق‭ ‬تاريخي‭ ‬أو‭ ‬مبررات‭ ‬سيكولوجية‭.‬

1-‭ ‬توفيق‭ ‬الحكيم‭.. ‬‮«‬عصفور‭ ‬من‭ ‬الشرق‮»‬

تجسد‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬نموذجا‭ ‬شبه‭ ‬كاريكاتيري‭ ‬لتلك‭ ‬‮«‬النفس‭ ‬السعيدة‮»‬‭ ‬الغارقة‭ ‬في‭ ‬نرجسيتها‭ ‬والمتمحورة‭ ‬على‭ ‬ذاتها‭ ‬بشكل‭ ‬مرضي،‭ ‬لكي‭ ‬تجعل‭ ‬منها‭ ‬مركزا‭ ‬للعالم‭ ‬ومصدرا‭ ‬وحيدا‭ ‬لكل‭ ‬التصورات‭ ‬والاحتمالات‭ ‬الممكنة‭ ‬حوله‭.‬

لقد‭ ‬مثَّل‭ ‬محسن‭ ‬حقا‭ ‬هذا‭ ‬النزوع‭ ‬النرجسي،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬دفاعه‭ ‬المستميت‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬الرواية،‭ ‬عن‭ ‬الأطروحة‭ ‬التاريخية‭ ‬المغلوطة‭ ‬التي‭ ‬تؤكد‭ ‬تفوق‭ ‬المشرق‭ ‬على‭ ‬الغرب،‭ ‬انطلاقا‭ ‬من‭ ‬كون‭ ‬المشرق‭ ‬منبعا‭ ‬لقيم‭ ‬روحية‭ ‬سامية‭. ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬الغرب‭ ‬مرتع‭ ‬لنزعات‭ ‬مادية‭ ‬إلحادية‭ ‬ولا‭ ‬أخلاقية،‭ ‬ستؤدي‭ ‬به‭ ‬حتما‭ ‬إلى‭ ‬الانحطاط‭.‬

ظل‭ ‬هذا‭ ‬التصور‭ ‬مغلفا‭ ‬الوعي‭ ‬العربي،‭ ‬بل‭ ‬ولايزال‭ ‬يتمظهر‭ ‬بشكل‭ ‬أو‭ ‬بآخر‭ ‬في‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الكتابات،‭ ‬تؤكد‭ ‬أننا‭ ‬الأقوى‭ ‬بقيمنا‭ ‬وعقيدتنا‭. ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬الحضارة‭ ‬الأوربية‭ ‬بفلسفتها‭ ‬الفكرية‭ ‬الوضعية،‭ ‬تقود‭ ‬لا‭ ‬محالة‭ ‬الإنسانية‭ ‬إلى‭ ‬الانهيار‭!! ‬لذلك‭ ‬ظل‭ ‬محسن‭ ‬ذ‭ ‬بطل‭ ‬‮«‬عصفور‭ ‬الشرق‮»‬‭ - ‬ومن‭ ‬ورائه‭ ‬توفيق‭ ‬الحكيم،‭ ‬يشعر‭ ‬بأنه‭ ‬عليه‭ ‬القيام‭ ‬بمهمة‭: ‬‮«‬إعادة‭ ‬فتح‭ ‬سبل‭ ‬العالم‭ ‬الآخر‭ ‬أمام‭ ‬الأنفس‭ ‬الضائعة‭ ‬بـ«الحضارة‭ ‬المعاصرة‮»‬‭. ‬وحيث‭ ‬يرتبط‭ ‬بعزم‭ ‬وقوة‭: ‬‮«‬‭ ‬بطريق‭ ‬السماء،‭ ‬مؤكدا‭ ‬أنه‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬تخطي‭ ‬كل‭ ‬العوائق،‭ ‬إذ‭ ‬يظهر‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬تجربته‭ ‬في‭ ‬‮«‬مملكة‭ ‬الأرض‮»‬‭ ‬تشتغل‭ ‬كتجربة‭ ‬مضادة‭ ‬للكشف‭ ‬عن‭ ‬البطلان‭ ‬وبالتالي‭ ‬ضرورة‭ ‬الرجوع‭ ‬إلى‭ ‬السماء‮»‬‭.‬

تمثل‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬عصفور‭ ‬من‭ ‬الشرق‮»‬‭ ‬نموذج‭ ‬الهجرة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬غايتها‭ ‬الدراسة‭ ‬وكسب‭ ‬العلم‭. ‬طالب‭ ‬يحمل‭ ‬بين‭ ‬حقائبه‭ ‬تمثُّلا‭ ‬نوستالجيا‭ ‬عن‭ ‬فضاءات‭ ‬وأمكنة‭ ‬الولادة‭. ‬صور‭ ‬تشتغل‭ ‬سلبيا‭ ‬عن‭ ‬الذات‭ ‬الحاملة‭ ‬لها،‭ ‬مما‭ ‬يجعلها‭ ‬عاجزة‭ ‬وجوديا‭ ‬عن‭ ‬الاندماج‭ ‬الفعلي‭ ‬والحقيقي‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الجديد‭.‬

فشل‭ ‬محسن‭ ‬في‭ ‬‮«‬عصفور‭ ‬من‭ ‬الشرق‮»‬‭ ‬في‭ ‬إدراك‭ ‬الواقع‭ ‬الموضوعي‭ ‬للمؤسسات‭ ‬التي‭ ‬تشكل‭ ‬المحيط‭ ‬الجديد،‭ ‬تحول‭ ‬عنده‭ ‬إلى‭ ‬كبح‭ ‬وعجز‭ ‬نفسيين‭. ‬تم‭ ‬التعويض‭ ‬عنهما‭ ‬بالهروب‭ ‬إلى‭ ‬الماضي‭ ‬أو‭ ‬إبداع‭ ‬وخلق‭ ‬صورة‭ ‬وهمية‭ ‬ومتوهمة‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬الجديد‭. ‬وزائفة‭ ‬في‭ ‬تصورها‭ ‬المطلق‭ ‬لماض‭ ‬‮«‬رائع‮»‬،‭ ‬‮«‬ومثالي‮»‬‭. ‬الشيء‭ ‬الذي‭ ‬يعكس‭ ‬عدم‭ ‬قدرة‭ ‬محسن‭ ‬ذ‭ ‬ومن‭ ‬خلاله‭ ‬الوعي‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر‭ - ‬على‭ ‬امتلاك‭ ‬الحاضر‭ ‬وبالتالي‭ ‬الدخول‭ ‬إلى‭ ‬التاريخ‭ ‬من‭ ‬بابه‭ ‬الواسع‭.‬

لقد‭ ‬انطلقت‭ ‬الرواية‭ - ‬إذن‭ - ‬من‭ ‬اعتقاد‭ ‬أساسي،‭ ‬مضمونه‭ ‬تفوق‭ ‬وتميز‭ ‬الشرق‭ ‬العربي‭ ‬عن‭ ‬الغرب‭ ‬الأوربي‭. ‬عناصر‭ ‬هذا‭ ‬الاعتقاد،‭ ‬تفعله‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬العلاقات‭ ‬الضدية‭ ‬والعكسية،‭ ‬تنصهر‭ ‬في‭ ‬تقابلين‭ ‬كبيرين‭:‬

1-عنصر‭ ‬مكاني‭: ‬حياة‭ ‬باريس‭ ‬الحديثة‭ ‬والعصرية‭.‬

2-عنصر‭ ‬زماني‭: ‬زمان‭ ‬الماضي‭ ‬بإلهاماته‭ ‬التي‭ ‬ترتكز‭ ‬على‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬القيم‭ ‬الروحية‭.‬

ينتقد‭ ‬محسن‭ ‬بشكل‭ ‬حاد‭ ‬وعنيف‭ ‬مفهوم‭ ‬المكان‭ / ‬الحاضر‭ ‬باريس‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬بعض‭ ‬المظاهر‭ - ‬وكذا‭ ‬التجليات‭ ‬الثقافية‭ ‬التي‭ ‬تتمظهر‭ ‬كذلك‭ ‬اقتصاديا‭ - ‬الفوارق‭ ‬بين‭ ‬الأغنياء‭ ‬والفقراء،‭ ‬اضمحلال‭ ‬القيم‭ ‬النبيلة،‭ ‬بداية‭ ‬الإمبريالية‭ ‬الجديدة،‭ ‬وكذا‭ ‬تبلور‭ ‬أشكال‭ ‬أخرى‭ ‬للعبودية،‭ ‬ثم‭ ‬المكانة‭ ‬التي‭ ‬أصبح‭ ‬يحتلها‭ ‬المال‭ ‬في‭ ‬عقول‭ ‬الناس‭ ‬وأحاسيسهم‭ ‬مقابل‭ ‬كل‭ ‬القيم‭ ‬الأخرى‭. ‬باختصار،‭ ‬فإن‭ ‬محسن‭ ‬يعبِّر‭ ‬بشكل‭ ‬من‭ ‬الأشكال‭ ‬عن‭ ‬قيم‭ ‬الرفض‭ ‬البروليتارية‭ ‬انطلاقا‭ ‬من‭ ‬احتكاكه‭ ‬المباشر‭ ‬بالوضع‭ ‬الاجتماعي‭ ‬لأسرة‭ ‬عاملة‭ ‬استضافته‭ ‬أثناء‭ ‬هجرته‭ ‬لفرنسا‭.‬

وقد‭ ‬احتد‭ ‬شعوره‭ ‬هذا‭ ‬حين‭ ‬زيارته‭ ‬للمسرح‭ ‬والأوبرا،‭ ‬ووقوفه‭ ‬المباشر‭ ‬على‭ ‬الفارق‭ ‬الطبقي‭ ‬الصارخ‭ ‬بين‭ ‬الغني‭ ‬والفقير‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الباريسي،‭ ‬مؤكدا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬لحظة‭ ‬ضرورة‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬مملكة‭ ‬السماء‮»‬،‭ ‬وبالتالي‭ ‬تمثل‭ ‬قيم‭ ‬الشرق‭ ‬الروحية‭ ‬باعتبارها‭ ‬ملاذنا‭ ‬وخلاصنا‭ ‬الوحيد‭.‬

فضح‭ ‬الواقع‭ ‬الأوربي‭ ‬والكشف‭ ‬عن‭ ‬مأساته‭ ‬وانحلاله،‭ ‬وكذا‭ ‬ضياعه‭ ‬تقابله‭ ‬في‭ ‬الجهة‭ ‬الأخرى‭ ‬حتمية‭ ‬ضرورة‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬السماء‭ ‬لكي‭ ‬يتخلص‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬العبودية‭ ‬والخضوع‭. ‬لذلك،‭ ‬سنلاحظ‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬مكونات‭ ‬الأنا‭ ‬في‭ ‬‮«‬عصفور‭ ‬من‭ ‬الشرق‮»‬‭ ‬تسير‭ ‬وفق‭ ‬استراتيجية‭ ‬هذه‭ ‬الثنائية‭ ‬القطبية‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬سيأخذ‭ ‬منحى‭ ‬آخر،‭ ‬في‭ ‬اللحظة‭ ‬الثانية‭ ‬مع‭ ‬مصطفى‭ ‬سعيد‭ ‬في‭ ‬‮«‬موسم‭ ‬الهجرة‭ ‬إلى‭ ‬الشمال‮»‬‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تغير‭ ‬موقف‭ ‬‮«‬الأنا‮»‬‭ ‬حيال‭ ‬العالم‭ ‬والآخر‭ ‬وكذا‭ ‬الأشياء‭ ‬المحيطة‭ ‬بها‭. ‬يقول‭ ‬الأستاذ‭ ‬الشارني‭ ‬معقبا‭: ‬‮«‬الاستعلاء‭ ‬والخضوع‭ ‬كثنائية‭ ‬قطبية،‭ ‬تُظهر‭ ‬وتُخفي‭ ‬بشكل‭ ‬تناوبي‭ ‬الإحساس‭ ‬بهذا‭ ‬الشعور‭ ‬أو‭ ‬ذاك،‭ ‬ولكنها‭ ‬تقسمه‭ ‬بإنصاف‭ ‬بين‭ ‬الواقع‭ ‬والخيال،‭ ‬ثم‭ ‬بين‭ ‬‮«‬مملكة‭ ‬الأرض‮»‬‭ ‬و«مملكة‭ ‬السماء‮»‬‭.‬

يضع‭ ‬الأستاذ‭ ‬الشارني‭ ‬ترسيمة‭ ‬نظرية‭ ‬لرواية‭ ‬توفيق‭ ‬الحكيم،‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬ثلاثة‭ ‬حدود‭ ‬أساسية‭:‬

1-الإنسان‭ ‬المتخيل‭.‬

2-‭ ‬صلة‭ ‬الإنسان‭ ‬بالعالم‭.‬

3-الفلسفة‭ ‬التي‭ ‬تسند‭ ‬وتدعم‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭.‬

تقوم‭ ‬اللحظة‭ ‬الأولى‭ ‬على‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬التعارضات،‭ ‬تشتغل‭ ‬انطلاقا‭ ‬من‭ ‬تقابل‭ ‬جوهري‭ ‬بين‭ ‬الجسد‭ ‬والروح،‭ ‬الواقع‭ ‬والمتخيل،‭ ‬السعادة‭ ‬والحرمان‭: ‬‮«‬كل‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬العناصر‭ ‬يتطور‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬عنصر‭ ‬ساخر‭ ‬Ironique،‭ ‬يحمل‭ ‬مضمونه‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬مبالغ‭ ‬فيه،‭ ‬بحيث‭ ‬إنه‭ ‬يختزل‭ ‬وضعية‭ ‬مأساوية‭ ‬ذهزلية‮»‬‭.‬

‭ ‬يرتدي‭ ‬محسن‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭ ‬جسدا‭ ‬بسيطا‭ ‬زاهدا‭ ‬متنسكا،‭ ‬وخاصة‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬تشبع‭ ‬منذ‭ ‬صغره‭ ‬بقيم‭: ‬‮«‬التزهد،‭ ‬ولم‭ ‬يتخيل‭ ‬أبدا‭ ‬سعادة‭ ‬مثل‭ ‬سعادة‭ ‬السماء‮»‬‭.‬

لقد‭ ‬اختزل‭ ‬هذا‭ ‬الجسد‭ ‬إلى‭ ‬مجرد‭ ‬كيان‭ ‬يتم‭ ‬تأمله‭ ‬من‭ ‬بعيد،‭ ‬ينظر‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعطيه‭ ‬اسما‭ ‬أو‭ ‬هوية‭ ‬أو‭ ‬صوتا،‭ ‬فهو‭ ‬مجرد‭ ‬جسد‭ / ‬شبح،‭ ‬روح‭ ‬منعزلة‭ ‬ملقاة‭ ‬إلى‭ ‬مملكة‭ ‬الأرض‭ ‬وفي‭ ‬عالم‭ ‬المادة،‭ ‬حيث‭: ‬‮«‬تؤسس‭ ‬لتجربة‭ ‬الألم‭ ‬والحرمان‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنها‭ ‬عوقبت‭ ‬بسبب‭ ‬مغادرتها‭ ‬السماء،‭ ‬يعشق‭ ‬محسن‭ ‬الفكر،‭ ‬جسدا‭/ ‬صنما‭! ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬عنصر‭ ‬السخرية‮»‬‭.‬

أما‭ ‬التعارض‭ ‬الثاني،‭ ‬فيتحدد‭ ‬انطلاقا‭ ‬من‭ ‬صلة‭ ‬الواقعي‭ ‬بالمتخيل‭. ‬موقف‭ ‬وجودي‭ ‬يعكس‭ ‬إخفاق‭ ‬وخيبة‭ ‬محسن‭ ‬في‭ ‬تجربته‭ ‬العاطفية‭ ‬وفشله‭ ‬في‭ ‬الحياة‭: ‬‮«‬تتغدى‭ ‬اللذة‭ ‬بالحرمان‭ ‬والألم،‭ ‬مثل‭ ‬النقيض‭ ‬من‭ ‬نقيضه،‭ ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬الإشباع‭ ‬في‭ ‬الحرمان‭ ‬وبالحرمان‭ ‬يدعمه‭ ‬تعويض‭ ‬نرجسي،‭ ‬والذي‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬الفشل‭ ‬وفقدان‭ ‬الشيء،‭ ‬فإنه‭ ‬يبرز‭ ‬الذات‭ ‬ويسمو‭ ‬بها‭ ‬أمام‭ ‬أعين‭ ‬الآخر‭. ‬هكذا‭ ‬يتحول‭ ‬الاستمتاع‭ ‬من‭ ‬الشيء‭ ‬المفتقد‭ ‬إلى‭ ‬صورته،‭ ‬كما‭ ‬تنعكس‭ ‬في‭ ‬المحيط‭ ‬والإشعاع‭ ‬الذي‭ ‬يبرز‭ ‬منها،‭ ‬المأساوي‭ - ‬الهزلي،‭ ‬في‭ ‬أوجه‭ ‬مادامت‭ ‬الذات‭ ‬تعترف‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬بفشلها‭ ‬وشقائها،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬تضلل‭ ‬ذلك‭ ‬بآلية‭ ‬دفاعية،‭ ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬ثانية،‭ ‬تعوضه‭ ‬بالشفقة‭ ‬والعطف‮»‬‭.‬

في‭ ‬حين‭ ‬يشتغل‭ ‬التعارض‭ ‬الثالث‭ ‬على‭ ‬تقابلات‭ ‬السعادة‭ ‬والحزن،‭ ‬الفرح‭ ‬والمعاناة،‭ ‬الابتهاج‭ ‬والحرمان‭.‬

لقد‭ ‬ظل‭ ‬محسن‭ ‬محتجزا‭ ‬في‭ ‬قفصه،‭ ‬بينما‭ ‬كانت‭ ‬باريس‭ ‬تشدو‭ ‬ألحان‭ ‬عصرها‭ ‬الذهبي،‭ ‬حيت‭ ‬سيأخذ‭ ‬القفص‭ ‬كل‭ ‬دلالته‭: ‬‮«‬كمعبد‭ ‬للحقيقة‭ ‬والحرية،‭ ‬ومحراب‭ ‬للفكر‭ ‬ثم‭ ‬‮«‬مملكة‭ ‬للسماء‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬يتهيأ‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تلقي‭ ‬النقاشات‭ ‬النظرية‭ ‬الكبرى‮»‬‭.‬

صورة‭ ‬الطائر‭ ‬في‭ ‬قفصه‭ ‬تحكم‭ ‬إذن،‭ ‬بل‭ ‬تختزل‭ ‬كل‭ ‬علاقات‭ ‬محسن‭ ‬بالعالم‭. ‬وهي‭ ‬لا‭ ‬تقوم‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬إحساس‭ ‬ذاتي‭ ‬باطني،‭ ‬ولكن‭ ‬تساهم‭ ‬في‭ ‬صياغتها‭ ‬كذلك‭ ‬الصور‭ ‬التي‭ ‬يبعثها‭ ‬الآخرون‭. ‬إنه‭ ‬أكثر‭ ‬حرية‭ ‬واعتباطا‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬يعيشون‭ ‬خارج‭ ‬هذا‭ ‬القفص‭ ‬وينعمون‭ ‬بالحرية‭ ‬الفعلية‭.‬

المشرق‭ ‬في‭ ‬‮«‬عصفور‭ ‬من‭ ‬الشرق‮»‬‭ ‬هو‭ ‬الخلاص‭ ‬والملجأ‭ ‬وطوق‭ ‬النجاة،‭ ‬إنه‭ ‬الرحيل‭ ‬الأبدي‭ ‬للإنسانية‭ ‬إذا‭ ‬أرادت‭ ‬تجاوز‭ ‬‮«‬انهيارات‮»‬‭ ‬الغرب‭. ‬لذا‭ ‬فإن‭ ‬محسن‭ ‬يستميت‭ ‬في‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬المشرق‭ ‬والمشارقة،‭ ‬محولا‭ ‬هذا‭ ‬العشق‭ ‬الوهمي‭ ‬إلى‭ ‬نرجسية‭ ‬مرضية‭ ‬تبرر‭ ‬الأشياء‭ ‬والسلوكيات‭ ‬بطريقة‭ ‬لاعقلانية‭.‬

لا‭ ‬تمثل‭ ‬‮«‬مملكة‭ ‬الأرض‮»‬‭ ‬شيئا‭ ‬بالنسبة‭ ‬لمحسن،‭ ‬إنها‭ ‬سقطة‭ ‬وورطة،‭ ‬‮«‬نهر‭ ‬من‭ ‬الدموع‮»‬‭ ‬والأحزان،‭ ‬وبالتالي‭ ‬من‭ ‬الأفضل‭ ‬ألا‭ ‬نرتبط‭ ‬بها‭ ‬كثيرا،‭ ‬وأن‭ ‬نتسامى‭ ‬بخيالنا‭ ‬ومشاعرنا‭ ‬نحو‭ ‬‮«‬مملكة‭ ‬السماء‮»‬،‭ ‬لأنها‭ ‬حقيقتنا‭ ‬ومصيرنا‭ ‬الأبدي‭. ‬وبالتأكيد‭ ‬فإن‭ ‬القفص‭ ‬يؤسس‭ ‬بامتياز‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ / ‬الحصن‭ ‬الذي‭ ‬يشكل‭ ‬حاجزا‭ ‬بين‭ ‬الذات‭ ‬والموبقات‭ ‬التي‭ ‬تسود‭ ‬العالم‭ ‬الخارجي،‭ ‬وبالتالي‭ ‬من‭ ‬الضروري‭ ‬الاعتزاز‭ ‬والافتخار‭ ‬بهذا‭ ‬المكان‭ ‬البديل‭: ‬‮«‬سيتحول‭ ‬القفص‭ ‬الذهبي،‭ ‬ظرفيا‭ ‬إلى‭ ‬معبد‭ ‬للحقيقة‭ ‬والحرية‮»‬‭.‬

تغييب‭ ‬محسن‭ ‬لمبدأ‭ ‬الواقع،‭ ‬ظل‭ ‬يشكل‭ ‬نواة‭ ‬مأساته،‭ ‬لأن‭ ‬ذلك‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تمزق‭ ‬وشرخ‭ ‬نفسيين‭ ‬خطيرين،‭ ‬لا‭ ‬يريد‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬السيكولوجي،‭ ‬الاقتناع‭ ‬بكون‭ ‬الشرق‭ ‬كحقيقة‭ ‬إنسانية‭ ‬وثقافية‭ ‬تسري‭ ‬عليه‭ ‬القوانين‭ ‬البيولوجية‭ ‬والتاريخية‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬تحكم‭ ‬بقية‭ ‬الجغرافيات‭ ‬الأخرى‭. ‬حقيقته‭ ‬لا‭ ‬تختلف‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬بقعة‭ ‬ثانية‭.‬

هنا‭ ‬كذلك‭ ‬يولدون‭ ‬ويموتون،‭ ‬يفرحون‭ ‬ويحزنون،‭ ‬يفكرون‭ ‬وينفعلون،‭ ‬يخطئون‭ ‬ويصيبون‭. ‬باختصار،‭ ‬المشرق‭ ‬ليس‭ ‬كيانا‭ ‬إلهيا‭ ‬يحلِّق‭ ‬في‭ ‬السماء،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬أولا‭ ‬وأخيرا‭ ‬ماهية‭ ‬بشرية‭.‬

يمثل‭ ‬إذن‭ ‬توفيق‭ ‬الحكيم‭ ‬ومعه‭ ‬محسن،‭ ‬لحظة‭ ‬الوعي‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬الذات‭ ‬العربية‭ ‬بالغرب،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الاصطدام‭ ‬والمجابهة‭ ‬المباغتة‭ ‬أديا‭ ‬إلى‭ ‬ارتجاج‭ ‬في‭ ‬التوازن‭ ‬النفسي‭ ‬لهذه‭ ‬الذات‭. ‬وكان‭ ‬منطق‭ ‬رد‭ ‬الفعل‭ ‬لا‭ ‬عقليا‭ ‬بالتأكيد‭.‬

2-‭ ‬الطيب‭ ‬صالح‭ ‬و«موسم‭ ‬الهجرة‭ ‬إلى‭ ‬الشمال‮»‬

هذه‭ ‬الرواية‭ ‬معروفة‭ ‬أكثر‭ ‬عند‭ ‬القارئ‭ ‬العربي،‭ ‬وهي‭ ‬ذات‭ ‬بناء‭ ‬تقني‭ ‬دقيق‭ ‬جدا‭ ‬ومهيأ‭ ‬بما‭ ‬فيه‭ ‬الكفاية‭.‬

بعد‭ ‬عودته‭ ‬من‭ ‬إنجلترا،‭ ‬حيث‭ ‬أنهى‭ ‬أطروحته‭ ‬الجامعية،‭ ‬وبعد‭ ‬لقائه‭ ‬بالمعارف‭ ‬القدامى،‭ ‬فإن‭ ‬الراوي‭ ‬سيتعرف‭ ‬على‭ ‬مصطفى‭ ‬سعيد،‭ ‬وهو‭ ‬إنسان‭ ‬غريب‭ ‬الأطوار‭ ‬والمزاج،‭ ‬شخصية‭ ‬كيفية‭ ‬تميل‭ ‬أكثر‭ ‬إلى‭ ‬البوهيمية‭ ‬جاء‭ ‬إلى‭ ‬القرية‭ ‬وتزوج‭ ‬من‭ ‬ابنة‭ ‬أحد‭ ‬السكان‭. ‬وفي‭ ‬الحقيقة،‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬يتعلق‭ ‬هنا‭ ‬بالبطل‭ ‬الحقيقي‭ ‬كذات‭ ‬تعشق‭ ‬المغامرات‭ ‬والرحيل‭ ‬واللاستقرار‭ ‬والأسفار‭ ‬الكبرى،‭ ‬يقول‭ ‬الأستاذ‭ ‬الشارني‭: ‬‮«‬مثل‭ ‬كل‭ ‬العباقرة،‭ ‬فإن‭ ‬شخصية‭ ‬مصطفى‭ ‬سعيد‭ ‬متعددة‭ ‬الأشكال‭ ‬والمعاني،‭ ‬إنه‭ ‬لكل‭ ‬العوالم‭ ‬والمغامرات‭. ‬ويؤثر‭ ‬في‭ ‬محاوره‭ ‬‮«‬صديقه‭ ‬الوثيق‮»‬‭ ‬منذ‭ ‬أول‭ ‬لقاء،‭ ‬يسكنه‭ ‬ويلازمه‭ ‬في‭ ‬عزلته‭ ‬ولقاءاته‮»‬‭.‬

يظهر‭ ‬مصطفى‭ ‬سعيد‭ ‬كشخص‭ ‬منقطع‭ ‬عن‭ ‬جذوره،‭ ‬بلا‭ ‬ماض‭ ‬أو‭ ‬ذاكرة،‭ ‬حاملا‭ ‬شعار‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬أكذوبة‮»‬،‭ ‬بلا‭ ‬أم‭ ‬أو‭ ‬أب‭ ‬يفتقد‭ ‬أي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الارتباطات‭ ‬الاجتماعية‭. ‬كائن‭ ‬مختلف‭ ‬عن‭ ‬بقية‭ ‬الكائنات‭ ‬الآدمية‭ ‬الأخرى،‭ ‬بلا‭ ‬عواطف‭ ‬أو‭ ‬أحاسيس‭. ‬إنه‭ ‬كتلة‭ ‬متجمدة‭ ‬من‭ ‬المشاعر‭ ‬التي‭ ‬تنتاب‭ ‬بقية‭ ‬البشر‭.‬

أول‭ ‬مشهد‭ ‬تم‭ ‬التركيز‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬الرواية،‭ ‬هو‭ ‬تواتر‭ ‬تيمة‭ ‬المدرسة‭ ‬في‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬مقاطعها‭. ‬والمسألة‭ ‬ليست‭ ‬وليدة‭ ‬الصدفة‭ ‬أو‭ ‬الاعتباط،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬المدرسة‭ ‬تشكل‭ - ‬وظلت‭ ‬دائما‭ ‬كذلك‭ - ‬في‭ ‬برنامج‭ ‬المثقف‭ ‬الوطني‭ ‬التقدمي‭ ‬مشروعا‭ ‬مجتمعيا‭ ‬وحضاريا‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحقيق‭ ‬التقدم‭ ‬وتجاوز‭ ‬التخلف‭. ‬لقد‭ ‬سعت‭ ‬الدكتاتوريات‭ ‬السياسية‭ ‬دائما‭ ‬بشتى‭ ‬الوسائل،‭ ‬إلى‭ ‬إفشال‭ ‬العلاقة‭ ‬الإبداعية‭ ‬التأسيسية‭ ‬الجدلية‭ ‬بين‭ ‬المدرسة‭ ‬والمجتمع،‭ ‬بل‭ ‬ظل‭ ‬رهانها‭ ‬قائما‭ ‬بالأساس‭ ‬على‭ ‬تفعيل‭ ‬شعارات‭ ‬دوغماطيقية‭ ‬جوفاء،‭ ‬وإفراغ‭ ‬المؤسسات‭ ‬التعليمية‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬مضمون‭ ‬أو‭ ‬محتوى‭ ‬تقدمي،‭ ‬بل‭ ‬ووضع‭ ‬البرامج‭ ‬الدراسية‭ ‬على‭ ‬مقياس‭ ‬ومنوال‭ ‬الطموحات‭ ‬السياسية‭ ‬الاستبدادية‭ ‬لهذه‭ ‬الأنظمة‭. ‬بالتالي‭ ‬كانت‭ ‬النتيجة‭ ‬مأساوية‭: ‬نسبة‭ ‬أمية‭ ‬كبيرة‭ ‬تنخر‭ ‬وتستنزف‭ ‬جسد‭ ‬الوطن‭ ‬العربي،‭ ‬والإحصاءات‭ ‬مخجلة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬ضعف‭ ‬هذا‭ ‬التعليم‭ ‬وضحالة‭ ‬مردوديته،‭ ‬أو‭ ‬عجزه‭ ‬الكلي‭ ‬عن‭ ‬النهوض‭ ‬بالمهام‭ ‬التاريخية‭ ‬المنتظرة‭ ‬منه‭. ‬يشكل‭ ‬مصطفى‭ ‬سعيد‭ ‬باكورة‭ ‬هذا‭ ‬العنف‭ ‬السياسي‭ ‬والعسكري‭ ‬والثقافي‭ ‬الذي‭ ‬يمارس‭ ‬يوميا‭ ‬على‭ ‬المواطن‭ ‬العربي‭. ‬إنه‭ ‬بالأحرى‭ ‬عنف‭ ‬رمزي،‭ ‬يغتال‭ ‬تاريخه‭ ‬وحاضره‭ ‬وتطلعاته‭ ‬وأحاسيسه‭ ‬وأفراحه‭ ‬وأحزانه،‭ ‬وينعكس‭ ‬بلا‭ ‬شك‭ ‬على‭ ‬توازنه‭ ‬النفسي‭.‬

عاش‭ ‬مصطفى‭ ‬سعيد‭ ‬هذا‭ ‬العنف‭ ‬في‭ ‬صورته‭ ‬التراجيدية‭ ‬والمأساوية‭ ‬التي‭ ‬وصفها‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬علاقاته‭ ‬الغرامية‭ ‬الكثيرة‭ ‬والمتعددة،‭ ‬حيث‭ ‬أعطاها‭ ‬أقصى‭ ‬احتمالاتها‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬التحقق،‭ ‬وكانت‭ ‬علاقات‭ ‬عنيفة‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬الأحيان،‭ ‬لكنها‭ ‬في‭ ‬حقيقة‭ ‬الأمر‭ ‬تستند‭ ‬إلى‭ ‬رؤية‭ ‬فلسفية‭ ‬عميقة‭ ‬جدا،‭ ‬تظهر‭ ‬تطور‭ ‬الذات‭ ‬العربية‭ ‬والوعي‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬مفهومية‭ ‬جديدة‭ ‬للعلاقة‭ ‬بالآخر‭ ‬والعالم‭.‬

ركز‭ ‬مصطفى‭ ‬سعيد‭ ‬كثيرا‭ ‬في‭ ‬مغامراته‭ ‬العاطفية‭ ‬هاته‭ ‬على‭ ‬ثقافة‭ ‬منظومة‭ ‬الجسد،‭ ‬باعتباره‭ ‬اللغة‭ ‬الحقيقية‭ ‬والطبيعية‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتكلمها‭ ‬الجميع‭ ‬دون‭ ‬اختلاف‭ ‬في‭ ‬الفهم‭ ‬والتمثل‭: ‬‮«‬هذا‭ ‬الهاجس‭ ‬بالجسد‭ ‬يشتغل‭ ‬كحيز‭ ‬للحقيقة‭ ‬المؤكدة،‭ ‬حيث‭ ‬ينتفي‭ ‬كل‭ ‬خداع‭ ‬أو‭ ‬كذب‭ ‬لتظهر‭ ‬الحقيقة‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬عرائها‭ ‬وصفائها‭. ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬يقوم‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬العقول‭ ‬انخدعت،‭ ‬ولم‭ ‬يتبق‭ ‬للبشر‭ ‬سوى‭ ‬اللغة‭ ‬الطبيعية‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تربط‭ ‬بين‭ ‬الأجساد‭ ‬وتمكنها‭ ‬من‭ ‬التواصل‭ ‬في‭ ‬صمت،‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬تركيبها‭ ‬الخاص‭: ‬لغة‭ ‬الحب‭ ‬والموت‮»‬‭.‬

ظل‭ ‬الأفق‭ ‬الفكري‭ ‬للمجتمعات‭ ‬العربية،‭ ‬ينظر‭ ‬بنوع‭ ‬من‭ ‬الارتياب‭ ‬إلى‭ ‬الجسد،‭ ‬مما‭ ‬جعل‭ ‬التراكمات‭ ‬النظرية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الإطار‭ ‬قليلة‭ ‬جدا،‭ ‬لأنه‭ ‬تم‭ ‬الربط‭ ‬دائما‭ ‬بين‭ ‬الجسد‭ ‬والخطيئة‭.‬

الحديث‭ ‬عن‭ ‬الجسد‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬مبحوح‭ ‬ومحتشم‭ ‬بل‭ ‬مجروح‭. ‬الجسد‭ ‬محاصر،‭ ‬لأنه‭ ‬الذات‭ ‬في‭ ‬فاعليتها‭ ‬المباشرة‭ ‬والآنية‭. ‬وبما‭ ‬أن‭ ‬الأنسقة‭ ‬الكليانية،‭ ‬والمنظومات‭ ‬الدوغماطيقية‭ ‬تتوخى‭ ‬تحييد‭ ‬وقتل‭ ‬هذه‭ ‬الفاعلية،‭ ‬فإنه‭ ‬من‭ ‬الضروري‭ ‬ضبط‭ ‬العنصر‭ ‬الأساسي‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬اللعبة‭ ‬وتحويله‭ ‬إلى‭ ‬مجرد‭ ‬هيكل‭.‬

كل‭ ‬تحرر‭ ‬للأجساد‭ ‬يمثل‭ ‬انطلاقة‭ ‬واندفاعة‭ ‬كبرى‭ ‬للتاريخ‭. ‬ولذلك‭ ‬فإن‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬موسم‭ ‬الهجرة‭ ‬إلى‭ ‬الشمال‮»‬،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬نصوص‭ ‬أخرى‭ ‬رسخت‭ ‬رؤية‭ ‬ومنظورًا‭ ‬جديدين‭ ‬للمتن‭ ‬الروائي‭ ‬العربي‭. ‬وكذلك‭ ‬الحمولة‭ ‬المعرفية‭ ‬والمضمون‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬لخطابه‭. ‬وبالتالي،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬جدتها‭ ‬وروعتها‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬اللغة‭ ‬والرؤية‭ ‬الفنية‭ ‬ومضمون‭ ‬الوعي،‭ ‬فإنها‭ ‬مقاربة‭ ‬جديدة‭ ‬ومبدعة‭ ‬للجسد،‭ ‬ارتفعت‭ ‬بهذا‭ ‬الكيان‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬متميزة‭ ‬حضاريا‭.‬

لقد‭ ‬توقف‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬خطيئة،‭ ‬أو‭ ‬مجرد‭ ‬أداة‭ ‬للإشباع‭ ‬الغرائزي،‭ ‬بل‭ ‬استرجع‭ ‬وبامتياز‭ ‬قيمته‭ ‬الفلسفية‭. ‬أن‭ ‬تكتب‭ ‬عن‭ ‬الجسد،‭ ‬معناه‭ ‬أن‭ ‬تكسر‭ ‬جدار‭ ‬وحاجز‭ ‬الصمت‭ ‬عن‭ ‬جزء‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬بقي‭ ‬مهملا‭ ‬وهامشيا‭ ‬ومغيبا،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أنه‭ ‬يمثل‭ ‬تعبيرا‭ ‬كبيرا‭ ‬داخل‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭. ‬لذلك‭ ‬من‭ ‬الحتمي‭ ‬خلخلة‭ ‬ثوابت‭ ‬هذه‭ ‬القيمة‭ ‬المحظورة‭.‬

هناك‭ ‬تطوير‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬وصياغة‭ ‬جديدة‭ ‬لثقافة‭ ‬الجسد‭ ‬وكذلك‭ ‬ثقافة‭ ‬الطبيعة‭. ‬لأنه‭ ‬في‭ ‬الصحراء‭ ‬الشاسعة‭ ‬ذات‭ ‬الطبيعة‭ ‬القاسية‭ ‬والقاحلة‭ ‬يتم‭ ‬التمركز‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬على‭ ‬التوظيف‭ ‬الجسدي‭ ‬والقوة‭ ‬الفيزيائية،‭ ‬حيث‭ ‬يلعب‭ ‬ذلك‭ ‬دورا‭ ‬محددا‭ ‬وأساسيا‭ ‬في‭ ‬المجابهة‭ ‬المباشرة‭ ‬مع‭ ‬الطبيعة‭ ‬تتضاعف‭ ‬القيمة‭ ‬الحضورية‭ ‬والتأسيسية‭ ‬للجسد‭. ‬يعقب‭ ‬الأستاذ‭ ‬الشارني‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬قائلا‭: ‬‮«‬الثقافات‭ ‬المتواضعة‭ ‬أو‭ ‬‮«‬الباردة‮»‬‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬بأي‭ ‬شيء‭: ‬مع‭ ‬بقائها‭ ‬ملتصقة‭ ‬بتواضعها‭ ‬‮«‬وبرودها‮»‬،‭ ‬فإنها‭ ‬لم‭ ‬تترك‭ ‬أبدا‭ ‬مجالها،‭ ‬لقد‭ ‬بقيت‭ ‬دائما‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬ثقافات‭ ‬للجسد‭. ‬منذ‭ ‬البداية‭ ‬ينكرون‭ ‬الجسد،‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬كانوا‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬ضحيته‭ ‬الصامتة‭ ‬والمحددة‭. ‬لقد‭ ‬جعلوا‭ ‬دائما‭ ‬من‭ ‬الجسد‭ ‬في‭ ‬الآن‭ ‬ذاته‭ ‬فضاءهم‭ ‬الرمزي‭ ‬وكذا‭ ‬ثروتهم‭ ‬النفسية‭: ‬شيء‭ ‬تجب‭ ‬صيانته‭ ‬وإعادة‭ ‬إنتاجه،‭ ‬وموضوع‭ ‬تجب‭ ‬تقويته‭ ‬وكذا‭ ‬التسامي‭ ‬به،‭ ‬وسيلة‭ ‬نعيش‭ ‬بها‭ ‬الطبيعة‭ ‬ونتمتع‭ ‬بها‮»‬‭.‬

الاحتكاك‭ ‬بالطبيعة‭ ‬والقسوة‭ ‬التي‭ ‬تبديها،‭ ‬ثم‭ ‬محاولة‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬قواها‭ ‬هما‭ ‬ما‭ ‬يوحدان‭ ‬الشعوب‭ ‬بأكملها،‭ ‬ويجعلانها‭ ‬تواجه‭ ‬المصير‭ ‬نفسه،‭ ‬ثم‭ ‬تتكلم‭ ‬لغة‭ ‬مشتركة،‭ ‬أي‭ ‬لغة‭ ‬الجسد‭. ‬ففي‭ ‬صحراء‭ ‬شاسعة‭ ‬ومترامية‭ ‬الأطراف‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬إلا‭ ‬الرهان‭ ‬على‭ ‬الجسد،‭ ‬لأنه‭ ‬وحده‭ ‬يكفل‭ ‬البقاء‭.‬

مصطفى‭ ‬سعيد‭ ‬الذي‭ ‬ظل‭ ‬يعرف‭ ‬نفسه‭ ‬كأكذوبة،‭ ‬نبي‭ ‬الصحراء‭ ‬الجديد،‭ ‬جاء‭ ‬كمنقذ‭ ‬للإنسانية‭ ‬ومبشر‭ ‬بثقافة‭ ‬وفلسفة‭ ‬بديلتين‭ ‬للجسد،‭ ‬لأنه‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬المقياس‭ ‬والمرجع‭ ‬الوحيد‭ ‬لكل‭ ‬ثقافة‭ ‬تسعى‭ ‬لإعطاء‭ ‬الإنسان‭ ‬آدميته‭ ‬الحقيقية‭.‬

تحديد‭ ‬الذات‭ -‬‭ ‬باعتبارها‭ ‬أكذوبة‭ - ‬شيء‭ ‬غير‭ ‬قائم،‭ ‬مجرد‭ ‬عدم‭ ‬ومساحة‭ ‬لغوية‭ ‬تلوكها‭ ‬الألسن‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬لا‭ ‬مقابل‭ ‬لها‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الواقع،‭ ‬وهذا‭ ‬يمثل‭ ‬وعيا‭ ‬نقديا‭ ‬إيجابيا‭ ‬يقابل‭ ‬بشكل‭ ‬جذري‭ ‬الوعي‭ ‬النرجسي‭ ‬المرضي‭ ‬كما‭ ‬يحضر‭ ‬عند‭ ‬توفيق‭ ‬الحكيم‭.‬

أنا‭ ‬أكذوبة،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬تظهر‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬الدونية‭ ‬والعدمية،‭ ‬فإنها‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬النفسي‭ ‬تعكس‭ ‬شعورا‭ ‬صادقا‭ ‬وتاريخيا،‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الذات‭ ‬حية‭ ‬جدا،‭ ‬ومشاعرها‭ ‬قائمة،‭ ‬تتفاعل‭ ‬جدليا‭ ‬وبشكل‭ ‬ذكي‭ ‬وجيد‭ ‬مع‭ ‬الأشياء‭ ‬والعالم‭. ‬إنها‭ ‬لا‭ ‬تقتنع‭ ‬ولا‭ ‬ترضى‭ ‬بتاريخها‭ ‬بل‭ ‬تطمح‭ ‬دائما‭ ‬إلى‭ ‬الممكن‭ ‬المنفتح‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬أفضل‭ ‬وأحسن‭. ‬أنا‭ ‬أكذوبة،‭ ‬انتقاد‭ ‬تاريخي‭ ‬وبلاغي‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬الأنطولوجية‭ ‬لواقع‭ ‬يثير‭ ‬التقزز‭ ‬والغثيان‭ ‬عند‭ ‬نموذج‭ ‬إنساني‭ ‬كيفي‭ ‬ومتميز‭ ‬جدا،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الشأن‭ ‬مع‭ ‬مصطفى‭ ‬سعيد‭.‬

يقول‭ ‬الأستاذ‭ ‬الشارني‭ ‬مختزلا‭ ‬رؤيته‭ ‬المعرفية‭ ‬لمغامرات‭ ‬هذا‭ ‬العربي‭ ‬الجديد‭ ‬مصطفى‭ ‬سعيد،‭ ‬في‭ ‬تجاوز‭ ‬جريء‭ ‬لانطوائية‭ ‬محسن‭: ‬‮«‬بالموازاة‭ ‬نعاين‭ ‬لا‭ ‬تمركزا‭ ‬للذات،‭ ‬كتشهير‭ ‬ذاتي‭ ‬يأخذ‭ ‬شكل‭ ‬نقد‭ ‬ذاتي،‭ ‬ورد‭ ‬الاعتبار‭ ‬للآخر‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬الأحوال‭ ‬تحييده‭ ‬كوجه‭ ‬غريب‭ ‬عن‭ ‬مأساة‭ ‬الأنا،‭ ‬ولكن‭ ‬يظهر‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المحاكمة‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬نشوء‭ ‬تراجيديا‭ ‬نلاحظ‭ ‬أنها‭ ‬تظهر‭ ‬وتنمو‭ ‬وتنحل‭ ‬وفق‭ ‬تمنهج‭ ‬وعي‭ ‬نقدي‭ ‬مستعد‭ ‬لمواجهة‭ ‬العالم‭ ‬وكذلك‭ ‬مواجهة‭ ‬عالمه،‭ ‬وأن‭ ‬يبدو‭ ‬قويا‭ ‬في‭ ‬تحمُّل‭ ‬مصيره‭ ‬وأن‭ ‬يمتص‭ ‬ذاتيته‭. ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬الرواية‭ ‬الأولى‭ ‬إلا‭ ‬نشيد‭ ‬ذاتية‭ ‬منذهلة‭ ‬بنفس‭ ‬سعيدة،‭ ‬راضية‭ ‬عن‭ ‬ذاتها‭ ‬وأسطورتها‭. ‬ولكن‭ ‬مثل‭ ‬كل‭ ‬نفس‭ ‬سعيدة،‭ ‬فإنها‭ ‬تفرغ‭ ‬العنصر‭ ‬الدرامي‭ ‬وتدفعه‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬حدود‭ ‬ذاتيتها،‭ ‬التي‭ ‬تظهر‭ ‬بأنها‭ ‬سرها‭ ‬الحقيقي‭. ‬إنها‭ ‬نفس‭ ‬تمتدح‭ ‬الغنى‭ ‬في‭ ‬لب‭ ‬فقرها،‭ ‬والحرية‭ ‬في‭ ‬صميم‭ ‬عبوديتها،‭ ‬ثم‭ ‬المعرفة‭ ‬في‭ ‬جوهر‭ ‬جهلها‭. ‬إنها‭ ‬أسيرة‭ ‬أوهام‭ ‬تجعل‭ ‬منها‭ ‬ديكورات‭ ‬متسامية‭ ‬لسجنها،‭ ‬لأن‭ ‬النفس‭ ‬السعيدة‭ ‬كيان‭ ‬تعويض،‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬حجب‭ ‬فراغها‭ ‬بأثاث‭ ‬من‭ ‬قش‭ ‬وأن‭ ‬تبدد‭ ‬عتمتها‭ ‬العميقة‭ ‬بنيران‭ ‬زائلة‭. ‬في‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬مع‭ ‬ذاتها‭ ‬والعالم‭ ‬تندرج‭ ‬علاقتها‭ ‬مع‭ ‬الآخر،‭ ‬الذي‭ ‬يختفي‭ ‬هو‭ ‬كذلك‭ ‬في‭ ‬حقيقتها،‭ ‬ويظهر‭ ‬في‭ ‬صورتها‭ ‬الوهمية‭. ‬لهذا‭ ‬السبب،‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬لا‭ ‬تقوم‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬اتفاق‭ ‬أو‭ ‬اختلاف،‭ ‬ولا‭ ‬تعطي‭ ‬حيزا‭ ‬لتحالف‭ ‬أو‭ ‬مجابهة‭. ‬إنها‭ ‬مستوعبة‭ ‬كليا‭ ‬في‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬العلاقة‭ ‬الانطوائية‭ ‬والنرجسية‭ ‬حول‭ ‬الذات،‭ ‬حيث‭ ‬تحاصر‭ ‬الذات‭ ‬وتخفي‭ ‬عنها‭ ‬وجه‭ ‬العالم‭. ‬بالمقابل،‭ ‬فإن‭ ‬الرواية‭ ‬الثانية‭ ‬تمثل‭ ‬لائحة‭ ‬سوداء‭ ‬عن‭ ‬عالم‭ ‬يتزحزح،‭ ‬حيث‭ ‬يقوم‭ ‬الوعي‭ ‬الشقي‭ ‬بشكل‭ ‬مريح‭. ‬هنا‭ ‬تصنع‭ ‬المأساة‭ ‬دخولها‭ ‬المجلجل‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬الروائي‭ ‬العربي‭. ‬تظهر‭ ‬الذات‭ ‬صراحة‭ ‬اضطرابها‭ ‬العميق‭ ‬وتعلن‭ ‬علانية‭ - ‬وبقوة‭ - ‬عن‭ ‬جرحها‭ ‬وتمزقها‭. ‬مع‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬المأساة‭ ‬تبقى‭ ‬حبيسة‭ ‬عنصر‭ ‬خارجي،‭ ‬يبدو‭ ‬أنها‭ ‬تعيشه‭ ‬كحتمية‭. ‬كما‭ ‬هي‭ ‬الحال،‭ ‬مع‭ ‬اليونان‭ ‬فإن‭ ‬البطل‭ ‬بالتأكيد‭ ‬يتحرك‭ ‬بقوى‭ ‬داخلية‭ ‬تفرض‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬الخارج،‭ ‬ولا‭ ‬يمكنه‭ ‬إلا‭ ‬الخضوع‭ ‬لها‭ ‬بشكل‭ ‬أعمى‭. ‬إنه‭ ‬مشهد‭ ‬جميل‭ ‬في‭ ‬سواده‭ ‬ترسمه‭ ‬الروح‭ ‬العربية‭ ‬المستسلمة‭ ‬لقدرها‭ ‬والخاضعة‭ ‬لمصيرها،‭ ‬مصير‭ ‬ترسخ‭ ‬منذ‭ ‬الأزل،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬يثير‭ ‬الانتباه،‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬العلاقة‭ ‬مع‭ ‬الآخر‭ ‬تندرج‭ ‬ضمن‭ ‬منطق‭ ‬القدرية‭. ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تحمل‭ ‬الذات‭ ‬اضطرابها‭ ‬وتصرخ‭ ‬من‭ ‬تمزقها،‭ ‬فإنها‭ ‬تنخرط‭ ‬في‭ ‬المجابهة‭ ‬والصراع‭ ‬مع‭ ‬الآخر‭. ‬إنه‭ ‬صراع‭ ‬مفتوح‭ ‬وقوي،‭ ‬يحدث‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬المستويات‭ ‬ولكنه‭ ‬ينتهي‭ ‬دائما‭ ‬بفشل‭ ‬الذات،‭ ‬لأنه‭ ‬في‭ ‬حتمية‭ ‬القدر‭ ‬هذه‭ ‬التي‭ ‬تسلب‭ ‬البطل،‭ ‬فإن‭ ‬الفشل‭ ‬عملة‭ ‬مهيمنة،‭ ‬من‭ ‬دونها‭ ‬فإن‭ ‬المأساة‭ ‬لا‭ ‬معنى‭ ‬لها‭. ‬في‭ ‬شبكة‭ ‬القدر‭ ‬هذه،‭ ‬يجب‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الآخر‭ ‬مرتبطا‭ ‬بقوى‭ ‬الشر،‭ ‬مجسدا‭ ‬عنصر‭ ‬مؤامرة‭ ‬واسعة‭ ‬ضد‭ ‬الذات،‭ ‬تأخذ‭ ‬أحجاما‭ ‬كونية‭ ‬تقتضي‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬شروطها‭ ‬سقوط‭ ‬الذات‭.‬

مصطفى‭ ‬سعيد‭ ‬بطل‭ ‬حقيقي‭ ‬للتراجيديا‭ ‬العربية‭ ‬بذاتيته‭ ‬المضطربة‭ ‬وخضوعه‭ ‬للقدرية‭ ‬ثم‭ ‬فشله‭ ‬النهائي‭ ‬والمميت‭. ‬

3-‭ ‬أحلام‭ ‬مستغانمي‭.. ‬ذاكرة‭ ‬الجسد

رواية‭ ‬أحلام‭ ‬مستغانمي،‭ ‬قصيدة‭ ‬مهداة‭ ‬إلى‭ ‬الهجرة‭ ‬والمنفى‭ ‬والألم‭ ‬والحنين‭.‬

في‭ ‬حين‭ ‬كانت‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬موسم‭ ‬الهجرة‭ ‬إلى‭ ‬الشمال‮»‬‭ ‬نفسها‭ ‬إعادة‭ ‬تصفية‭ ‬حسابات‭ ‬مع‭ ‬التاريخ‭ ‬بمعنى‭ ‬من‭ ‬المعاني،‭ ‬لكن‭ ‬كمقولة‭ ‬كونية‭ ‬مجردة،‭ ‬ذات‭ ‬حمولة‭ ‬فلسفية‭ ‬عميقة‭. ‬فإن‭ ‬عمل‭ ‬مستغانمي‭ ‬يحاكم‭ ‬ويمارس‭ ‬نقدا‭ ‬ذاتيا‭ ‬على‭ ‬تاريخ‭ ‬وقائعي‭ ‬وسياسي‭ ‬مباشر‭.‬

تأملات‭ ‬الطيب‭ ‬صالح‭ ‬تحيل‭ ‬على‭ ‬تراجيديا‭ ‬إنسانية‭ ‬في‭ ‬صراعاتها‭ ‬النفسية‭ ‬والوجودية،‭ ‬تعيش‭ ‬تمزقا‭ ‬وانقساما‭ ‬بين‭ ‬إكراهات‭ ‬المصير‭ ‬المشترك‭ ‬المرتبط‭ ‬بوضع‭ ‬زماني‭ ‬ومكاني‭ ‬محددين‭ ‬ثم‭ ‬طموحات‭ ‬شخصية‭ ‬لا‭ ‬نهائية‭.‬

بينما‭ ‬رواية‭ ‬أحلام‭ ‬مستغانمي‭ ‬تفضح‭ ‬وتكشف‭ ‬عن‭ ‬فشل‭ ‬المشروع‭ ‬السياسي‭ ‬للدولة‭ ‬الوطنية،‭ ‬وإحباط‭ ‬أجيال‭ ‬بأكملها‭ ‬نظرا‭ ‬للإخفاقات‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬الكبيرة‭ ‬التي‭ ‬تلت‭ ‬مباشرة‭ ‬ما‭ ‬سمي‭ ‬بتصفية‭ ‬الاستعمار،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الضروري‭ ‬وضع‭ ‬ذلك‭ ‬بين‭ ‬مزدوجين،‭ ‬نظرا‭ ‬لأن‭ ‬خروج‭ ‬هذا‭ ‬الاستعمار‭ ‬بقي‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطلق‭ ‬صوريا‭ ‬وشكليا،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬وطد‭ ‬طبقة‭ ‬إقطاعية‭ ‬هجينة،‭ ‬حتى‭ ‬ترعى‭ ‬مصالحه‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والعسكرية‭. ‬وبالتالي،‭ ‬فالثورات‭ ‬التي‭ ‬خلفت‭ ‬آلاف‭ ‬الشهداء‭ ‬والمناضلين‭ ‬ذ‭ ‬يكفي‭ ‬أن‭ ‬نستحضر‭ ‬مثال‭ ‬الثورة‭ ‬الجزائرية‭ - ‬ذهبت‭ ‬سدى‭ ‬وعبثا‭ ‬أدراج‭ ‬الرياح‭. ‬كانت‭ ‬تضحيات‭ ‬هؤلاء‭ ‬مجرد‭ ‬نباح‭ ‬كلاب،‭ ‬حيث‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬عادت‭ ‬الأمور‭ ‬إلى‭ ‬طبيعتها‭ ‬الأولى‭. ‬اشتغلت‭ ‬الأنظمة‭ ‬العسكرية‭ ‬والدكتاتوريات‭ ‬الفاسدة‭ ‬وفق‭ ‬الاستراتيجيات‭ ‬الاستعمارية‭ ‬لتبقى‭ ‬البنيات‭ ‬المجتمعية‭ ‬جامدة،‭ ‬وما‭ ‬نتج‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬تراكمات‭ ‬تحولت‭ ‬مع‭ ‬مرور‭ ‬الأيام‭ ‬إلى‭ ‬أزمات‭ ‬هيكلية‭ ‬وبنيوية‭ ‬تدفع‭ ‬اليوم‭ ‬الشعوب‭ ‬الثمن‭ ‬غاليا‭ ‬بسببها‭.‬

لا‭ ‬تخوض‭ ‬رواية‭ ‬أحلام‭ ‬مستغانمي‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬مثالي،‭ ‬ولكنها‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬أحداث‭ ‬محددة‭ ‬ومعطيات‭ ‬واقعية‭. ‬تاريخ‭ ‬يظهر‭ ‬كخلاصة‭ ‬سلبية‭. ‬وتختلف‭ ‬عن‭ ‬عمل‭ ‬الطيب‭ ‬صالح‭ ‬في‭ ‬أنها‭ ‬تقود‭ ‬مشروع‭ ‬محاكمة‭ ‬مقصودة‭ ‬للذات‭ ‬والمجتمع،‭ ‬مع‭ ‬تبني‭ ‬طريقة‭ ‬الرواية‭ ‬السياسية‭. ‬لكنها‭ ‬على‭ ‬منوال‭ ‬‮«‬موسم‭ ‬الهجرة‭ ‬إلى‭ ‬الشمال‮»‬،‭ ‬فإن‭ ‬النص‭ ‬يقارب‭ ‬ويمارس‭ ‬لعبة‭ ‬لغوية‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬يختلط‭ ‬ويمتزج‭ ‬فيه‭ ‬الحب‭ ‬بالموت‭. ‬بطل‭ ‬‮«‬ذاكرة‭ ‬الجسد‮»‬‭ ‬يعيش‭ ‬سيكولوجيا‭ ‬تمزقات‭ ‬وتشظيات‭ ‬كثيرة‭ ‬ومتعددة‭. ‬فالمونشو‭ ‬الذي‭ ‬يقيم‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬فقد‭ ‬يده‭ ‬في‭ ‬الجبهة‭ ‬وترك‭ ‬الجزائر،‭ ‬يتأمل‭ ‬من‭ ‬منفاه‭ ‬الاختياري‭ - ‬وبشكل‭ ‬ساخر‭ -‬‭ ‬مفارقة‭ ‬سوريالية،‭ ‬حيث‭ ‬مكر‭ ‬التاريخ‭ ‬واستهزاء‭ ‬القدر‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬ظلوا‭ ‬يحاربون‭ ‬المستعمر‭ ‬الأوربي‭ ‬هم‭ ‬الذين‭ ‬يلهثون‭ ‬اليوم‭ ‬إلى‭ ‬قنصليات‭ ‬هذا‭ ‬المستعمر‭ ‬في‭ ‬طوابير‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬جواز‭ ‬العبور،‭ ‬أوربا‭ ‬هي‭ ‬الملجأ‭ ‬والخلاص‭.‬

يعني‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬التاريخ‭ ‬توقف‭ ‬عن‭ ‬السريان‭ ‬كليا‭. ‬لم‭ ‬نحقق‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬منذ‭ ‬خروج‭ ‬المستعمر‭ ‬عن‭ ‬الأرض‭ ‬العربية‭. ‬وبالتالي‭ ‬فإن‭ ‬شعوب‭ ‬المنطقة‭ ‬تجد‭ ‬نفسها‭ ‬محاصرة‭ ‬بين‭ ‬مخالب‭ ‬واقع‭ ‬اقتصادي‭ ‬واجتماعي‭ ‬متردٍ‭ ‬جدا،‭ ‬ما‭ ‬يدفعها‭ ‬إلى‭ ‬هجرة‭ ‬أوطانها‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬حق‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬وشرط‭ ‬مقبول‭ ‬للوجود‭.‬

يخرج‭ ‬الوعي‭ ‬العربي‭ ‬هنا‭ ‬من‭ ‬تمركزه‭ ‬الذاتي‭ ‬ويترك‭ ‬نرجسيته‭ ‬الطفولية،‭ ‬ثم‭ ‬يتجاوز‭ ‬تمزقه‭ ‬التراجيدي‭ ‬القاتل،‭ ‬حيث‭ ‬يتعامل‭ ‬مع‭ ‬الآخر‭ ‬بنوع‭ ‬من‭ ‬الموضوعية‭ ‬والنضج‭ ‬والحكمة‭. ‬وتتحول‭ ‬الهجرة‭ ‬إلى‭ ‬فضاء‭ ‬للتأمل‭ ‬وخلق‭ ‬المسافات‭.. ‬إنها‭ ‬ليست‭ ‬مرآة‭ ‬تحيله‭ ‬إلى‭ ‬ذاته‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الشأن‭ ‬مع‭ ‬الحكيم،‭ ‬ولا‭ ‬صحراء‭ ‬تدفعه‭ ‬إلى‭ ‬تحققه‭ ‬الكلي‭ ‬أو‭ ‬النقي‭ ‬المطلق‭ ‬كما‭ ‬يحدث‭ ‬مع‭ ‬الطيب‭ ‬صالح،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬العكس‭ ‬تشكل‭ ‬الهجرة‭ ‬في‭ ‬ذاكرة‭ ‬الجسد‭ ‬مجالا‭ ‬للهدوء‭ ‬والسكينة‭ ‬والتفكير،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الآخر‭ ‬يغير‭ ‬من‭ ‬وجهه،‭ ‬فهو‭ ‬ليس‭ ‬آخرية‭ ‬الذات،‭ ‬بل‭ ‬وجه‭ ‬ثان‭ ‬للذات‭ ‬نفسها‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬مجابهة‭: ‬‮«‬يغير‭ ‬الآخر‭ ‬من‭ ‬وجهه،‭ ‬إنه‭ ‬ليس‭ ‬قط‭ ‬الآخرية‭ ‬أو‭ ‬إفسادًا‭ ‬للذات،‭ ‬سلطة‭ ‬غريبة‭ ‬عنها‭ ‬بحيث‭ ‬يوجدان‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬مجابهة‭ ‬تاريخية،‭ ‬إنها‭ ‬الوجه‭ ‬الآخر‭ ‬للذات،‭ ‬نصيبها‭ ‬الملعون‭ ‬وجزءها‭ ‬الفاسد‮»‬‭. ‬تصور‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬رؤية‭ ‬جديدة‭ ‬للتاريخ‭ ‬تزيح‭ ‬عنه‭ ‬الحمولة‭ ‬التيولوجية‭ ‬والإكلينيكية،‭ ‬لكي‭ ‬نلمس‭ ‬تطوره‭ ‬الموضوعي‭ ‬العقلاني‭.‬

افتقد‭ ‬الوعي‭ ‬العربي‭ ‬للزمان‭ ‬والجسد‭ ‬والتاريخ‭. ‬أصبح‭ ‬يحاصر‭ ‬ممكناته‭ ‬باستمرار،‭ ‬لأن‭ ‬الجسد‭ ‬حرية‭ ‬والزمان‭ ‬سيرورة‭ ‬والتاريخ‭ ‬تبلور‭. ‬أي‭ ‬علاقة‭ ‬بين‭ ‬الزمان‭ ‬والتاريخ؟‭ ‬الزمان‭ ‬مقولة‭ ‬ميتافيزيقية‭ ‬والتاريخ‭ ‬مجال‭ ‬وقائعي،‭ ‬الأول‭ ‬رؤية‭ ‬مفهومية‭ ‬والثاني‭ ‬تموضع‭ ‬تجريبي‭.‬

لقد‭ ‬ظل‭ ‬التاريخ‭ ‬العربي‭ ‬ملتصقا‭ ‬بمفهوم‭ ‬ثيولوجي‭. ‬فالزمان‭ ‬سيرورة‭ ‬إلهية‭ ‬والتاريخ‭ ‬لحظة‭ ‬مطلقة‭ ‬تكتمل‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬أي‭ ‬مبادرة‭ ‬بشرية‭. ‬فهم‭ ‬ستكسره‭ ‬رواية‭ ‬ذاكرة‭ ‬الجسد‭ ‬وقبلها‭ ‬‮«‬موسم‭ ‬الهجرة‭ ‬إلى‭ ‬الشمال‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬التاريخ‭ ‬وضعي‭ ‬يأخذ‭ ‬مساره‭ ‬الحقيقي‭ ‬باعتباره‭ ‬حصيلة‭ ‬مواقف‭ ‬واختيارات‭ ‬إنسانية‭ ‬محضة،‭ ‬لذلك‭ ‬يمكننا‭ ‬إعادة‭ ‬كتابته‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬وتجاوز‭ ‬صيغه‭ ‬الخاطئة‭.‬

الارتكاز‭ ‬على‭ ‬التاريخ‭ ‬باعتباره‭ ‬الحلقة‭ ‬المفقودة‭ ‬أو‭ ‬المغيبة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬أعداء‭ ‬التاريخ،‭ ‬أي‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬يتوخون‭ ‬بقاء‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬على‭ ‬الهامش‭ ‬منه‭. ‬ننتقد‭ ‬تاريخنا‭ ‬السياسي‭ ‬ونسعى‭ ‬إلى‭ ‬تجاوز‭ ‬زيف‭ ‬وغلطات‭ ‬إرثنا‭ ‬الثقافي‭. ‬الشعوب‭ ‬لا‭ ‬تملك‭ ‬إلا‭ ‬تاريخها،‭ ‬وتكتب‭ ‬حكاية‭ ‬الوطن‭ ‬بعرقها‭ ‬ودمها‭: ‬‮«‬بينما‭ ‬آخرون‭ ‬يكتبونه‭ ‬في‭ ‬جدادات‭ ‬وكذا‭ ‬أرشيفات‭ ‬بوليس‭ ‬فظيع‭ ‬وجيوش‭ ‬دموية‭ ‬ثم‭ ‬يوقعونها‭ ‬بختمهم‭ ‬الزجري‮»‬‭.‬‭ ‬

لقد‭ ‬ظل‭ ‬التاريخ‭ ‬عقدتنا‭ ‬بامتياز،‭ ‬يخيفنا‭ ‬ونخشى‭ ‬من‭ ‬لعبة‭ ‬مكاشفته‭ ‬فتحدث‭ ‬عملية‭ ‬الهروب‭ ‬والمراوغة،‭ ‬كما‭ ‬نخلط‭ ‬بين‭ ‬التاريخ‭ ‬والتراث‭. ‬يتم‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬أحدهما‭ ‬باسم‭ ‬صور‭ ‬الآخر،‭ ‬نسقط‭ ‬صورتنا‭ ‬التقليدية‭ ‬للثرات‭ ‬على‭ ‬التاريخ‭. ‬في‭ ‬حين‭ ‬تأخذ‭ ‬المعادلة‭ ‬الصيغ‭ ‬التالية‭: ‬التاريخ‭ ‬تراث،‭ ‬وللتراث‭ ‬تاريخ‭. ‬التاريخ‭ ‬حكم‭ ‬بشري‭ ‬وقيمة‭ ‬إنسانية،‭ ‬من‭ ‬الضرورة‭ ‬إذن‭ ‬خضوعه‭ ‬لمنطق‭ ‬وضعي‭ ‬انطلاقا‭ ‬من‭ ‬عملية‭ ‬تقويم‭ ‬لانفعالات‭ ‬وعقلانيات‭ ‬تتأرجح‭ ‬بين‭ ‬جدلية‭ ‬السقوط‭ ‬والتحقق‭.‬

التاريخ‭ ‬إذن‭ ‬هو‭ ‬محور‭ ‬الروايات‭ ‬الثلاث،‭ ‬لكن‭ ‬مع‭ ‬اختلاف‭ ‬الرؤية‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يخص‭ ‬المقاربة‭. ‬مع‭ ‬الحكيم‭ ‬بقي‭ ‬هذا‭ ‬التاريخ‭ ‬غالبا‭ ‬ومسيطرا‭ ‬وقابعا‭ ‬داخل‭ ‬أقبية‭ ‬من‭ ‬ذهب‭. ‬وفي‭ ‬اللحظة‭ ‬الثانية‭ ‬مع‭ ‬الطيب‭ ‬صالح‭ ‬وأحلام‭ ‬مستغانمي،‭ ‬فإنه‭ ‬سينزل‭ ‬من‭ ‬برجه‭ ‬لكي‭ ‬يخضع‭ ‬للفحص‭ ‬والتحليل‭ ‬والتمحيص‭ ‬والنقد،‭ ‬ثم‭ ‬المحاكمة‭ ‬إيجابا‭ ‬أو‭ ‬سلبا‭.‬

يجب‭ ‬أن‭ ‬تحقق‭ ‬ثورة‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الكتابة،‭ ‬تلامس‭ ‬أجسادنا‭ ‬وتاريخنا،‭ ‬حتى‭ ‬نعيد‭ ‬لرؤيتنا‭ ‬حيال‭ ‬العالم‭ ‬شيئا‭ ‬من‭ ‬انتباهها‭ ‬ويقظتها‭.‬

مادام‭ ‬الجسد‭ ‬مغتصبا‭ ‬والتاريخ‭ ‬مغيبا‭ ‬أو‭ ‬مزيفا‭ ‬فلا‭ ‬يمكننا‭ ‬البتة‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬إمكان‭ ‬خلق‭ ‬منظومة‭ ‬ثقافية‭ ‬عربية‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬التكلم‭ ‬بلغة‭ ‬العصر‭.‬

الأعمال‭ ‬الثلاثة‭ ‬صرخة‭ ‬ضد‭ ‬واقع‭ ‬عربي‭ ‬مترهل،‭ ‬تحركه‭ ‬مؤسسات‭ ‬ثقافية‭ ‬وسياسية‭ ‬واجتماعية‭ ‬شائخة‭ ‬وقروسطية‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬نظرية‭ ‬ماضوية‭ ‬ونزعة‭ ‬تقليدانية‭. ‬يقول‭ ‬الأستاذ‭ ‬الشارني‭ ‬وهو‭ ‬يتأمل‭ ‬الموقف‭: ‬‮«‬بالتأكيد‭ ‬فالتقليدانية‭ ‬سلوك‭ ‬ينحو‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬إنجاز‭ ‬حلول‭ ‬مستهلكة‭ ‬داخل‭ ‬مواقف‭ ‬جديدة‭. ‬إنها‭ ‬تمثل‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬اليرقان‭ ‬التاريخي‭. ‬يعيق‭ ‬بل‭ ‬يوقف‭ ‬أحيانا‭ ‬وبشكل‭ ‬جلي‭ ‬تطور‭ ‬الشعوب‭ ‬التي‭ ‬يصيبها،‭ ‬لهذا‭ ‬السبب،‭ ‬فإن‭ ‬التقليدانية‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬أبدا‭ ‬واقعة‭ ‬كونية‭ ‬داخل‭ ‬مجتمع‭ ‬ما‭. ‬إنها‭ ‬دائما‭ ‬موقف‭ ‬مجموعة‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬طبقة‭ ‬تجب‭ ‬دائما‭ ‬محاربتها‮»‬‭.‬

خيانة‭ ‬الثورة‭ ‬والمبادئ‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬ذهب‭ ‬ضحيتها‭ ‬آلاف‭ ‬الشهداء،‭ ‬وذلك‭ ‬لتحقيق‭ ‬مجتمع‭ ‬عادل‭ ‬يقتسم‭ ‬ثروته‭ ‬وخيراته‭ ‬الجميع،‭ ‬وفشل‭ ‬المشروع‭ ‬السياسي‭ ‬الوطني،‭ ‬أديا‭ ‬إلى‭ ‬دخول‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬مرحلة‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الكولونيالية‭ ‬وإخضاع‭ ‬المواطن‭ ‬العربي‭ ‬إلى‭ ‬سيادة‭ ‬أنظمة‭ ‬كليانية‭ ‬لا‭ ‬تؤمن‭ ‬إلا‭ ‬بالحكم‭ ‬الفردي‭ ‬الأتوقراطي،‭ ‬عملت‭ ‬على‭ ‬تجميد‭ ‬المسارات‭ ‬الطبيعية‭ ‬الممكنة‭ ‬لأي‭ ‬تقدم‭ ‬مجتمعي،‭ ‬فأقامت‭ ‬دولة‭ ‬داخل‭ ‬الدولة،‭ ‬وعملت‭ ‬على‭ ‬اجتثاث‭ ‬كل‭ ‬ملامح‭ ‬ولبنات‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬الذي‭ ‬تسيِّره‭ ‬مؤسسات‭ ‬حرة‭.‬

لقد‭ ‬تحدث‭ ‬المونشو‭ ‬في‭ ‬‮«‬ذاكرة‭ ‬الجسد‮»‬‭ ‬عن‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الاغتصاب‭ ‬الســياسي‭ ‬le‭ ‬viol‭ ‬politique‭ ‬لرسم‭ ‬الصورة‭ ‬التي‭ ‬حدثت‭ ‬مباشرة‭ ‬بعد‭ ‬الاستقلال‭ ‬بين‭ ‬حركات‭ ‬التحرر‭ ‬والأنظمة‭ ‬السياسية‭. ‬الاغتصاب‭ ‬في‭ ‬مفهومه‭ ‬الجنسي‭ ‬يمثل‭ ‬ويعبر‭ ‬عن‭ ‬واقع‭ ‬حقيقي،‭ ‬تم‭ ‬فيه‭ ‬خطف‭ ‬واغتيال‭ ‬عذرية‭ ‬التاريخ،‭ ‬أي‭ ‬تلك‭ ‬الأحلام‭ ‬العفوية‭ ‬والنبيلة‭ ‬لكل‭ ‬الناس‭ ‬وحقهم‭ ‬الطبيعي‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬كريمة‭.‬

يقول‭ ‬الأستاذ‭ ‬الشارني‭: ‬‮«‬نلاحظ‭ ‬إذن‭ ‬قيام‭ ‬معادلة‭ ‬بين‭ ‬الصنف‭ ‬الجنسي‭ ‬للتملك‭ ‬المغتصب‭ ‬للوطن،‭ ‬والصنف‭ ‬السياسي‭ ‬للتملك‭ ‬العنيف،‭ ‬أي‭ ‬بالقوة‭ ‬ودون‭ ‬شرعية‮»‬‭.‬

تطرح‭ ‬رواية‭ ‬أحلام‭ ‬مستغانمي‭ ‬إذن‭ ‬كخلاصة‭ ‬فشل‭ ‬الأنظمة‭ ‬الوطنية‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬استقلال‭ ‬فعلي‭ ‬وحقيقي،‭ ‬واستثماره‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬بلورة‭ ‬اختيارات‭ ‬سياسية‭ ‬واقتصادية‭ ‬حقيقية،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬تضعنا‭ ‬حقا‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬التاريخ‭. ‬لقد‭ ‬أخذوا‭ ‬البلاد‭ ‬واغتصبوها‭ ‬سياسيا،‭ ‬بالمفهوم‭ ‬الجنسي‭ ‬للكلمة‭. ‬لذلك‭ ‬فإن‭ ‬المونشو‭ ‬وضع‭ ‬في‭ ‬المستوى‭ ‬نفسه،‭ ‬الاغتصاب‭ ‬السياسي‭ ‬والجنسي‭ ‬ماداما‭ ‬يحيلان‭ ‬على‭ ‬المعنى‭ ‬ذاته‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الوطن‭ ‬كالمرأة‭ ‬مشاعرهما‭ ‬زئبقية‭ ‬يعيشان‭ ‬أقصى‭ ‬تجلياتها‭.‬

وربما‭ ‬الصيغة‭ ‬التي‭ ‬حضرت‭ ‬بها‭ ‬المرأة‭ ‬عند‭ ‬مصطفى‭ ‬سعيد‭ ‬أو‭ ‬المونشو،‭ ‬كما‭ ‬كشف‭ ‬عنها‭ ‬الأستاذ‭ ‬الشارني‭ - ‬بذكاء‭ ‬وبلاغة‭ - ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نعكسها‭ ‬هنا‭ ‬على‭ ‬الوطن‭ ‬لنقول‭: ‬‮«‬يتم‭ ‬تقديم‭ ‬المرأة‭ ‬كغاية‭ ‬ومرة‭ ‬كوسيلة،‭ ‬ومرة‭ ‬كحاملة‭ ‬للحب‭ ‬والأمل‭ ‬‮«‬خصوبة‮»‬،‭ ‬ومرة‭ ‬يتم‭ ‬ربطها‭ ‬بالحيل‭ ‬والمساومة‭ ‬والابتزاز‭. ‬ومرة‭ ‬يتم‭ ‬تملقها‭ ‬ومداهنتها‭ ‬ومجاملتها‭ ‬واحترامها،‭ ‬ومرة‭ ‬مكروهة‭ ‬ومرفوضة‭ ‬ومحتقرة‭ ‬وتباع‭ ‬بالجملة‭ ‬أو‭ ‬التقسيط‮»‬‭. ‬هو‭ ‬الوطن‭ ‬كذلك،‭ ‬يتوارى‭ ‬أحيانا‭ ‬من‭ ‬مساحة‭ ‬أحلامنا،‭ ‬حينما‭ ‬يتنكر‭ ‬لجوارحنا‭. ‬لكننا‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬نعشقه‭ ‬إلى‭ ‬النخاع،‭ ‬مثل‭ ‬المرأة‭ ‬تماما‭ ‬‭>‬