«تيمة الهجرة» في الأدب العربي المعاصر
أصدر الباحث والمفكر التونسي عمر الشارني، أستاذ الفلسفة بالجامعة التونسية وكذا جامعة Clermont –Ferrand الفرنسية، كتابا باللغة الفرنسية تحت عنوان: Figures de L’émigration dans la littérature arabe contemporaine : le moi assiégé. تناول فيه تداول تيمة الهجرة داخل بعض نصوص الأدب العربي الحديث من خلال ثلاثة نماذج هي: توفيق الحكيم، الطيب صالح، أحلام مستغانمي. ولا شك في أن هذا العمل، سيشكل إضافة كمية ونوعية داخل الخزانة العربية، وبالأخص الكتابات الفرنسية التي تناولت بعض قضايا أدبنا العربي الحديث والمعاصر.
يؤكد الأستاذ الشارني أن النصوص الروائية التي وظفها في عمله هذا تمثل مرحلة متقدمة وعميقة، في ما يخص قضية إدراك علاقة الذات بذاتها وكذا الآخر. التطور الذي حصل داخل وعي بعض الأدباء العرب، هو ما سعى إلى التقاطه والوقوف عليه، إلا أنه من الصعب الإجابة أو معرفة التأثير الذي يمكن أن يحدثه عمق هذه النصوص على الواقع العربي.
توفيق الحكيم، نموذج للمثقف العربي الذي هاجر إلى باريس في بداية هذا القرن من أجل العلم والمعرفة. وبالتالي سنقف في هذه الحكاية على نوع من الصراع الفكري والأيديولوجي بين الشرق والغرب، أي بداية تشكل ملامح «صراع» حضارتين مختلفتين من ناحية الأسس والغايات والقيم والمفاهيم.
هذه المرحلة أعطاها الأستاذ الشارني تسمية «الوعي النرجسي» حيث جسد الحكيم هذا الإحساس المفرط والمرضي بالذات في مواجهتها للآخر الأوربي، لأنه: «ظل لصيق ذاته، مكتفيا بالحكم على حياة يرفض معرفتها أو فهمها»، فهي «ذات مكبوحة ملتفتة إلى ما سلف. ذات تبقى سجينة ذاتها وأوهامها وهلوساتها. ثم ترفض أي شكل من المواجهة مع الحاضر».
في حين مصطفى سعيد مع «موسم الهجرة إلى الشمال» يمثل مرحلة تاريخية تعود إلى سنوات السبعينيات، وهجرة أستاذ سوداني قصد التدريس في الجامعة البريطانية. وهو على العكس من «محسن» عند توفيق الحكيم، فإن البطل هنا «يقيم استعلاءه على خضوعه، ويتقدم إلى بوابة الواقع، أي بوابة التاريخ».
بينما تدخل «ذاكرة الجسد» لأحلام مستغانمي، ضمن نموذج آخر سعى من خلاله الأستاذ الشارني إلى فحص واختبار مفهوم الهجرة السياسية مع لجوء أحد المقاومين الجزائريين القدماء إلى باريس. نوع من المنفى الاختياري، احتجاجا على واقع قد لا يتحمل حتى ذاته، ليستبدل هذا العمل تاريخنا الميت بمفهوم آخر يؤسس «لذاكرة متوحشة وثائرة، تأخذ كل أهميتها التراجيدية من خلال مجابهة الوعي لذاته. العنصر الجديد في هذا الشأن، هو أن الأمر لا يتعلق بتاريخ عبء ولكن تاريخ قوة، قوة حية لا تقهر، تسكننا وتوجهنا وتضغط بثقل على أفكارنا وأفعالنا، لم يتم وضعها داخل خزانات الزمان. هي تاريخ تراجيدي، لأنها مازالت رهان حاضر يرتجف ويهتز حياة وعنفا».
كل واحدة من هذه المسارات تمثل لحظة وعي مختلفة ومتميزة داخل الوعي العربي هناك: 1-النرجسية.
2- الثورة.
3- النقد الذاتي.
إذا تأملنا التمرحل، فسنلاحظ أن الوعي العربي يتطور وينمو تصاعديا داخل هذه النماذج الإبداعية. فالنرجسية لا يمكنها في جميع الأحوال إلا التعبير عن حالة مرضية باثولوجية. تظهر عجز الذات عن التفاعل بشكل موضوعي مع المحيط والأشياء. تمركز جنوني حول الذات، يحتكم إلى موقف طفولي وساذج.
أما ثورة مصطفى سعيد الأنطولوجية، فإنها تشكل بداية أسس وعي نقدي. أي ملامسة الذات في نسبيتها وجدلياتها وتوتراتها، سواء عبر تاريخها أو علاقتها بالعالم ومكوناته.
السياق العام للكتاب وأطروحته الثاوية وكذا الظاهرة، يفكران في مدى قدرتنا على القيام برؤية جذرية بخصوص قضايانا السياسية والفكرية والثقافية والاقتصادية. والتخلص من هذه النرجسية الفارغة التي شكلت مأساة العرب ولا تستند إلى أي منطق تاريخي أو مبررات سيكولوجية.
1- توفيق الحكيم.. «عصفور من الشرق»
تجسد هذه الرواية نموذجا شبه كاريكاتيري لتلك «النفس السعيدة» الغارقة في نرجسيتها والمتمحورة على ذاتها بشكل مرضي، لكي تجعل منها مركزا للعالم ومصدرا وحيدا لكل التصورات والاحتمالات الممكنة حوله.
لقد مثَّل محسن حقا هذا النزوع النرجسي، من خلال دفاعه المستميت على امتداد الرواية، عن الأطروحة التاريخية المغلوطة التي تؤكد تفوق المشرق على الغرب، انطلاقا من كون المشرق منبعا لقيم روحية سامية. في حين أن الغرب مرتع لنزعات مادية إلحادية ولا أخلاقية، ستؤدي به حتما إلى الانحطاط.
ظل هذا التصور مغلفا الوعي العربي، بل ولايزال يتمظهر بشكل أو بآخر في مجموعة من الكتابات، تؤكد أننا الأقوى بقيمنا وعقيدتنا. في حين أن الحضارة الأوربية بفلسفتها الفكرية الوضعية، تقود لا محالة الإنسانية إلى الانهيار!! لذلك ظل محسن ذ بطل «عصفور الشرق» - ومن ورائه توفيق الحكيم، يشعر بأنه عليه القيام بمهمة: «إعادة فتح سبل العالم الآخر أمام الأنفس الضائعة بـ«الحضارة المعاصرة». وحيث يرتبط بعزم وقوة: « بطريق السماء، مؤكدا أنه قادر على تخطي كل العوائق، إذ يظهر أن كل تجربته في «مملكة الأرض» تشتغل كتجربة مضادة للكشف عن البطلان وبالتالي ضرورة الرجوع إلى السماء».
تمثل رواية «عصفور من الشرق» نموذج الهجرة التي كانت غايتها الدراسة وكسب العلم. طالب يحمل بين حقائبه تمثُّلا نوستالجيا عن فضاءات وأمكنة الولادة. صور تشتغل سلبيا عن الذات الحاملة لها، مما يجعلها عاجزة وجوديا عن الاندماج الفعلي والحقيقي في المجتمع الجديد.
فشل محسن في «عصفور من الشرق» في إدراك الواقع الموضوعي للمؤسسات التي تشكل المحيط الجديد، تحول عنده إلى كبح وعجز نفسيين. تم التعويض عنهما بالهروب إلى الماضي أو إبداع وخلق صورة وهمية ومتوهمة عن هذا الواقع الجديد. وزائفة في تصورها المطلق لماض «رائع»، «ومثالي». الشيء الذي يعكس عدم قدرة محسن ذ ومن خلاله الوعي العربي المعاصر - على امتلاك الحاضر وبالتالي الدخول إلى التاريخ من بابه الواسع.
لقد انطلقت الرواية - إذن - من اعتقاد أساسي، مضمونه تفوق وتميز الشرق العربي عن الغرب الأوربي. عناصر هذا الاعتقاد، تفعله مجموعة من العلاقات الضدية والعكسية، تنصهر في تقابلين كبيرين:
1-عنصر مكاني: حياة باريس الحديثة والعصرية.
2-عنصر زماني: زمان الماضي بإلهاماته التي ترتكز على مجموعة من القيم الروحية.
ينتقد محسن بشكل حاد وعنيف مفهوم المكان / الحاضر باريس من خلال بعض المظاهر - وكذا التجليات الثقافية التي تتمظهر كذلك اقتصاديا - الفوارق بين الأغنياء والفقراء، اضمحلال القيم النبيلة، بداية الإمبريالية الجديدة، وكذا تبلور أشكال أخرى للعبودية، ثم المكانة التي أصبح يحتلها المال في عقول الناس وأحاسيسهم مقابل كل القيم الأخرى. باختصار، فإن محسن يعبِّر بشكل من الأشكال عن قيم الرفض البروليتارية انطلاقا من احتكاكه المباشر بالوضع الاجتماعي لأسرة عاملة استضافته أثناء هجرته لفرنسا.
وقد احتد شعوره هذا حين زيارته للمسرح والأوبرا، ووقوفه المباشر على الفارق الطبقي الصارخ بين الغني والفقير في المجتمع الباريسي، مؤكدا في كل لحظة ضرورة العودة إلى «مملكة السماء»، وبالتالي تمثل قيم الشرق الروحية باعتبارها ملاذنا وخلاصنا الوحيد.
فضح الواقع الأوربي والكشف عن مأساته وانحلاله، وكذا ضياعه تقابله في الجهة الأخرى حتمية ضرورة العودة إلى السماء لكي يتخلص الإنسان من العبودية والخضوع. لذلك، سنلاحظ أن كل مكونات الأنا في «عصفور من الشرق» تسير وفق استراتيجية هذه الثنائية القطبية. وهو ما سيأخذ منحى آخر، في اللحظة الثانية مع مصطفى سعيد في «موسم الهجرة إلى الشمال» من خلال تغير موقف «الأنا» حيال العالم والآخر وكذا الأشياء المحيطة بها. يقول الأستاذ الشارني معقبا: «الاستعلاء والخضوع كثنائية قطبية، تُظهر وتُخفي بشكل تناوبي الإحساس بهذا الشعور أو ذاك، ولكنها تقسمه بإنصاف بين الواقع والخيال، ثم بين «مملكة الأرض» و«مملكة السماء».
يضع الأستاذ الشارني ترسيمة نظرية لرواية توفيق الحكيم، تقوم على ثلاثة حدود أساسية:
1-الإنسان المتخيل.
2- صلة الإنسان بالعالم.
3-الفلسفة التي تسند وتدعم هذه العلاقة.
تقوم اللحظة الأولى على سلسلة من التعارضات، تشتغل انطلاقا من تقابل جوهري بين الجسد والروح، الواقع والمتخيل، السعادة والحرمان: «كل واحد من هذه العناصر يتطور من خلال عنصر ساخر Ironique، يحمل مضمونه إلى مستوى مبالغ فيه، بحيث إنه يختزل وضعية مأساوية ذهزلية».
يرتدي محسن في هذه اللحظة جسدا بسيطا زاهدا متنسكا، وخاصة أنه قد تشبع منذ صغره بقيم: «التزهد، ولم يتخيل أبدا سعادة مثل سعادة السماء».
لقد اختزل هذا الجسد إلى مجرد كيان يتم تأمله من بعيد، ينظر دون أن يعطيه اسما أو هوية أو صوتا، فهو مجرد جسد / شبح، روح منعزلة ملقاة إلى مملكة الأرض وفي عالم المادة، حيث: «تؤسس لتجربة الألم والحرمان كما لو أنها عوقبت بسبب مغادرتها السماء، يعشق محسن الفكر، جسدا/ صنما! هذا هو عنصر السخرية».
أما التعارض الثاني، فيتحدد انطلاقا من صلة الواقعي بالمتخيل. موقف وجودي يعكس إخفاق وخيبة محسن في تجربته العاطفية وفشله في الحياة: «تتغدى اللذة بالحرمان والألم، مثل النقيض من نقيضه، ولكن هذا الإشباع في الحرمان وبالحرمان يدعمه تعويض نرجسي، والذي بالرغم من الفشل وفقدان الشيء، فإنه يبرز الذات ويسمو بها أمام أعين الآخر. هكذا يتحول الاستمتاع من الشيء المفتقد إلى صورته، كما تنعكس في المحيط والإشعاع الذي يبرز منها، المأساوي - الهزلي، في أوجه مادامت الذات تعترف من جهة بفشلها وشقائها، وإن كانت تضلل ذلك بآلية دفاعية، ومن جهة ثانية، تعوضه بالشفقة والعطف».
في حين يشتغل التعارض الثالث على تقابلات السعادة والحزن، الفرح والمعاناة، الابتهاج والحرمان.
لقد ظل محسن محتجزا في قفصه، بينما كانت باريس تشدو ألحان عصرها الذهبي، حيت سيأخذ القفص كل دلالته: «كمعبد للحقيقة والحرية، ومحراب للفكر ثم «مملكة للسماء»، كما يتهيأ من أجل تلقي النقاشات النظرية الكبرى».
صورة الطائر في قفصه تحكم إذن، بل تختزل كل علاقات محسن بالعالم. وهي لا تقوم فقط على إحساس ذاتي باطني، ولكن تساهم في صياغتها كذلك الصور التي يبعثها الآخرون. إنه أكثر حرية واعتباطا من كل هؤلاء الذين يعيشون خارج هذا القفص وينعمون بالحرية الفعلية.
المشرق في «عصفور من الشرق» هو الخلاص والملجأ وطوق النجاة، إنه الرحيل الأبدي للإنسانية إذا أرادت تجاوز «انهيارات» الغرب. لذا فإن محسن يستميت في الدفاع عن هذا المشرق والمشارقة، محولا هذا العشق الوهمي إلى نرجسية مرضية تبرر الأشياء والسلوكيات بطريقة لاعقلانية.
لا تمثل «مملكة الأرض» شيئا بالنسبة لمحسن، إنها سقطة وورطة، «نهر من الدموع» والأحزان، وبالتالي من الأفضل ألا نرتبط بها كثيرا، وأن نتسامى بخيالنا ومشاعرنا نحو «مملكة السماء»، لأنها حقيقتنا ومصيرنا الأبدي. وبالتأكيد فإن القفص يؤسس بامتياز هذا المكان / الحصن الذي يشكل حاجزا بين الذات والموبقات التي تسود العالم الخارجي، وبالتالي من الضروري الاعتزاز والافتخار بهذا المكان البديل: «سيتحول القفص الذهبي، ظرفيا إلى معبد للحقيقة والحرية».
تغييب محسن لمبدأ الواقع، ظل يشكل نواة مأساته، لأن ذلك يؤدي إلى تمزق وشرخ نفسيين خطيرين، لا يريد حتى ولو على مستوى السيكولوجي، الاقتناع بكون الشرق كحقيقة إنسانية وثقافية تسري عليه القوانين البيولوجية والتاريخية نفسها التي تحكم بقية الجغرافيات الأخرى. حقيقته لا تختلف في أي شيء عن أي بقعة ثانية.
هنا كذلك يولدون ويموتون، يفرحون ويحزنون، يفكرون وينفعلون، يخطئون ويصيبون. باختصار، المشرق ليس كيانا إلهيا يحلِّق في السماء، بل هو أولا وأخيرا ماهية بشرية.
يمثل إذن توفيق الحكيم ومعه محسن، لحظة الوعي الأولى في علاقة الذات العربية بالغرب، ذلك أن الاصطدام والمجابهة المباغتة أديا إلى ارتجاج في التوازن النفسي لهذه الذات. وكان منطق رد الفعل لا عقليا بالتأكيد.
2- الطيب صالح و«موسم الهجرة إلى الشمال»
هذه الرواية معروفة أكثر عند القارئ العربي، وهي ذات بناء تقني دقيق جدا ومهيأ بما فيه الكفاية.
بعد عودته من إنجلترا، حيث أنهى أطروحته الجامعية، وبعد لقائه بالمعارف القدامى، فإن الراوي سيتعرف على مصطفى سعيد، وهو إنسان غريب الأطوار والمزاج، شخصية كيفية تميل أكثر إلى البوهيمية جاء إلى القرية وتزوج من ابنة أحد السكان. وفي الحقيقة، أن الأمر يتعلق هنا بالبطل الحقيقي كذات تعشق المغامرات والرحيل واللاستقرار والأسفار الكبرى، يقول الأستاذ الشارني: «مثل كل العباقرة، فإن شخصية مصطفى سعيد متعددة الأشكال والمعاني، إنه لكل العوالم والمغامرات. ويؤثر في محاوره «صديقه الوثيق» منذ أول لقاء، يسكنه ويلازمه في عزلته ولقاءاته».
يظهر مصطفى سعيد كشخص منقطع عن جذوره، بلا ماض أو ذاكرة، حاملا شعار: «أنا أكذوبة»، بلا أم أو أب يفتقد أي نوع من الارتباطات الاجتماعية. كائن مختلف عن بقية الكائنات الآدمية الأخرى، بلا عواطف أو أحاسيس. إنه كتلة متجمدة من المشاعر التي تنتاب بقية البشر.
أول مشهد تم التركيز عليه في الرواية، هو تواتر تيمة المدرسة في مجموعة من مقاطعها. والمسألة ليست وليدة الصدفة أو الاعتباط، ذلك أن المدرسة تشكل - وظلت دائما كذلك - في برنامج المثقف الوطني التقدمي مشروعا مجتمعيا وحضاريا من أجل تحقيق التقدم وتجاوز التخلف. لقد سعت الدكتاتوريات السياسية دائما بشتى الوسائل، إلى إفشال العلاقة الإبداعية التأسيسية الجدلية بين المدرسة والمجتمع، بل ظل رهانها قائما بالأساس على تفعيل شعارات دوغماطيقية جوفاء، وإفراغ المؤسسات التعليمية من أي مضمون أو محتوى تقدمي، بل ووضع البرامج الدراسية على مقياس ومنوال الطموحات السياسية الاستبدادية لهذه الأنظمة. بالتالي كانت النتيجة مأساوية: نسبة أمية كبيرة تنخر وتستنزف جسد الوطن العربي، والإحصاءات مخجلة في هذا السياق، إضافة إلى ضعف هذا التعليم وضحالة مردوديته، أو عجزه الكلي عن النهوض بالمهام التاريخية المنتظرة منه. يشكل مصطفى سعيد باكورة هذا العنف السياسي والعسكري والثقافي الذي يمارس يوميا على المواطن العربي. إنه بالأحرى عنف رمزي، يغتال تاريخه وحاضره وتطلعاته وأحاسيسه وأفراحه وأحزانه، وينعكس بلا شك على توازنه النفسي.
عاش مصطفى سعيد هذا العنف في صورته التراجيدية والمأساوية التي وصفها على مستوى علاقاته الغرامية الكثيرة والمتعددة، حيث أعطاها أقصى احتمالاتها على مستوى التحقق، وكانت علاقات عنيفة في أغلب الأحيان، لكنها في حقيقة الأمر تستند إلى رؤية فلسفية عميقة جدا، تظهر تطور الذات العربية والوعي العربي في صياغة مفهومية جديدة للعلاقة بالآخر والعالم.
ركز مصطفى سعيد كثيرا في مغامراته العاطفية هاته على ثقافة منظومة الجسد، باعتباره اللغة الحقيقية والطبيعية التي يمكن أن يتكلمها الجميع دون اختلاف في الفهم والتمثل: «هذا الهاجس بالجسد يشتغل كحيز للحقيقة المؤكدة، حيث ينتفي كل خداع أو كذب لتظهر الحقيقة الإنسانية في عرائها وصفائها. كل شيء يقوم كما لو أن العقول انخدعت، ولم يتبق للبشر سوى اللغة الطبيعية تلك التي تربط بين الأجساد وتمكنها من التواصل في صمت، أي في تركيبها الخاص: لغة الحب والموت».
ظل الأفق الفكري للمجتمعات العربية، ينظر بنوع من الارتياب إلى الجسد، مما جعل التراكمات النظرية في هذا الإطار قليلة جدا، لأنه تم الربط دائما بين الجسد والخطيئة.
الحديث عن الجسد في الثقافة العربية مبحوح ومحتشم بل مجروح. الجسد محاصر، لأنه الذات في فاعليتها المباشرة والآنية. وبما أن الأنسقة الكليانية، والمنظومات الدوغماطيقية تتوخى تحييد وقتل هذه الفاعلية، فإنه من الضروري ضبط العنصر الأساسي في هذه اللعبة وتحويله إلى مجرد هيكل.
كل تحرر للأجساد يمثل انطلاقة واندفاعة كبرى للتاريخ. ولذلك فإن رواية «موسم الهجرة إلى الشمال»، إضافة إلى نصوص أخرى رسخت رؤية ومنظورًا جديدين للمتن الروائي العربي. وكذلك الحمولة المعرفية والمضمون الأيديولوجي لخطابه. وبالتالي، إضافة إلى جدتها وروعتها على مستوى اللغة والرؤية الفنية ومضمون الوعي، فإنها مقاربة جديدة ومبدعة للجسد، ارتفعت بهذا الكيان إلى درجة متميزة حضاريا.
لقد توقف على أن يكون خطيئة، أو مجرد أداة للإشباع الغرائزي، بل استرجع وبامتياز قيمته الفلسفية. أن تكتب عن الجسد، معناه أن تكسر جدار وحاجز الصمت عن جزء كبير من الثقافة العربية بقي مهملا وهامشيا ومغيبا، في حين أنه يمثل تعبيرا كبيرا داخل الثقافة العربية. لذلك من الحتمي خلخلة ثوابت هذه القيمة المحظورة.
هناك تطوير في الرواية وصياغة جديدة لثقافة الجسد وكذلك ثقافة الطبيعة. لأنه في الصحراء الشاسعة ذات الطبيعة القاسية والقاحلة يتم التمركز بشكل كبير على التوظيف الجسدي والقوة الفيزيائية، حيث يلعب ذلك دورا محددا وأساسيا في المجابهة المباشرة مع الطبيعة تتضاعف القيمة الحضورية والتأسيسية للجسد. يعقب الأستاذ الشارني على ذلك قائلا: «الثقافات المتواضعة أو «الباردة» لم تعد بأي شيء: مع بقائها ملتصقة بتواضعها «وبرودها»، فإنها لم تترك أبدا مجالها، لقد بقيت دائما كما كانت ثقافات للجسد. منذ البداية ينكرون الجسد، حتى ولو كانوا في الغالب ضحيته الصامتة والمحددة. لقد جعلوا دائما من الجسد في الآن ذاته فضاءهم الرمزي وكذا ثروتهم النفسية: شيء تجب صيانته وإعادة إنتاجه، وموضوع تجب تقويته وكذا التسامي به، وسيلة نعيش بها الطبيعة ونتمتع بها».
الاحتكاك بالطبيعة والقسوة التي تبديها، ثم محاولة السيطرة على قواها هما ما يوحدان الشعوب بأكملها، ويجعلانها تواجه المصير نفسه، ثم تتكلم لغة مشتركة، أي لغة الجسد. ففي صحراء شاسعة ومترامية الأطراف لا يمكن إلا الرهان على الجسد، لأنه وحده يكفل البقاء.
مصطفى سعيد الذي ظل يعرف نفسه كأكذوبة، نبي الصحراء الجديد، جاء كمنقذ للإنسانية ومبشر بثقافة وفلسفة بديلتين للجسد، لأنه في الحقيقة المقياس والمرجع الوحيد لكل ثقافة تسعى لإعطاء الإنسان آدميته الحقيقية.
تحديد الذات - باعتبارها أكذوبة - شيء غير قائم، مجرد عدم ومساحة لغوية تلوكها الألسن في حين لا مقابل لها على أرض الواقع، وهذا يمثل وعيا نقديا إيجابيا يقابل بشكل جذري الوعي النرجسي المرضي كما يحضر عند توفيق الحكيم.
أنا أكذوبة، وإن كانت تظهر نوعا من الدونية والعدمية، فإنها على المستوى النفسي تعكس شعورا صادقا وتاريخيا، يؤكد أن هذه الذات حية جدا، ومشاعرها قائمة، تتفاعل جدليا وبشكل ذكي وجيد مع الأشياء والعالم. إنها لا تقتنع ولا ترضى بتاريخها بل تطمح دائما إلى الممكن المنفتح الذي هو أفضل وأحسن. أنا أكذوبة، انتقاد تاريخي وبلاغي من الناحية الأنطولوجية لواقع يثير التقزز والغثيان عند نموذج إنساني كيفي ومتميز جدا، كما هو الشأن مع مصطفى سعيد.
يقول الأستاذ الشارني مختزلا رؤيته المعرفية لمغامرات هذا العربي الجديد مصطفى سعيد، في تجاوز جريء لانطوائية محسن: «بالموازاة نعاين لا تمركزا للذات، كتشهير ذاتي يأخذ شكل نقد ذاتي، ورد الاعتبار للآخر أو في جميع الأحوال تحييده كوجه غريب عن مأساة الأنا، ولكن يظهر أن هذه المحاكمة تشير إلى نشوء تراجيديا نلاحظ أنها تظهر وتنمو وتنحل وفق تمنهج وعي نقدي مستعد لمواجهة العالم وكذلك مواجهة عالمه، وأن يبدو قويا في تحمُّل مصيره وأن يمتص ذاتيته. لم تكن الرواية الأولى إلا نشيد ذاتية منذهلة بنفس سعيدة، راضية عن ذاتها وأسطورتها. ولكن مثل كل نفس سعيدة، فإنها تفرغ العنصر الدرامي وتدفعه إلى ما وراء حدود ذاتيتها، التي تظهر بأنها سرها الحقيقي. إنها نفس تمتدح الغنى في لب فقرها، والحرية في صميم عبوديتها، ثم المعرفة في جوهر جهلها. إنها أسيرة أوهام تجعل منها ديكورات متسامية لسجنها، لأن النفس السعيدة كيان تعويض، تبحث عن حجب فراغها بأثاث من قش وأن تبدد عتمتها العميقة بنيران زائلة. في هذه العلاقة مع ذاتها والعالم تندرج علاقتها مع الآخر، الذي يختفي هو كذلك في حقيقتها، ويظهر في صورتها الوهمية. لهذا السبب، فإن هذه العلاقة لا تقوم لا على اتفاق أو اختلاف، ولا تعطي حيزا لتحالف أو مجابهة. إنها مستوعبة كليا في نوع من العلاقة الانطوائية والنرجسية حول الذات، حيث تحاصر الذات وتخفي عنها وجه العالم. بالمقابل، فإن الرواية الثانية تمثل لائحة سوداء عن عالم يتزحزح، حيث يقوم الوعي الشقي بشكل مريح. هنا تصنع المأساة دخولها المجلجل إلى العالم الروائي العربي. تظهر الذات صراحة اضطرابها العميق وتعلن علانية - وبقوة - عن جرحها وتمزقها. مع ذلك، فإن المأساة تبقى حبيسة عنصر خارجي، يبدو أنها تعيشه كحتمية. كما هي الحال، مع اليونان فإن البطل بالتأكيد يتحرك بقوى داخلية تفرض عليه من الخارج، ولا يمكنه إلا الخضوع لها بشكل أعمى. إنه مشهد جميل في سواده ترسمه الروح العربية المستسلمة لقدرها والخاضعة لمصيرها، مصير ترسخ منذ الأزل، لكن ما يثير الانتباه، هو أن العلاقة مع الآخر تندرج ضمن منطق القدرية. بقدر ما تحمل الذات اضطرابها وتصرخ من تمزقها، فإنها تنخرط في المجابهة والصراع مع الآخر. إنه صراع مفتوح وقوي، يحدث على جميع المستويات ولكنه ينتهي دائما بفشل الذات، لأنه في حتمية القدر هذه التي تسلب البطل، فإن الفشل عملة مهيمنة، من دونها فإن المأساة لا معنى لها. في شبكة القدر هذه، يجب في الواقع أن يكون الآخر مرتبطا بقوى الشر، مجسدا عنصر مؤامرة واسعة ضد الذات، تأخذ أحجاما كونية تقتضي من بين شروطها سقوط الذات.
مصطفى سعيد بطل حقيقي للتراجيديا العربية بذاتيته المضطربة وخضوعه للقدرية ثم فشله النهائي والمميت.
3- أحلام مستغانمي.. ذاكرة الجسد
رواية أحلام مستغانمي، قصيدة مهداة إلى الهجرة والمنفى والألم والحنين.
في حين كانت رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» نفسها إعادة تصفية حسابات مع التاريخ بمعنى من المعاني، لكن كمقولة كونية مجردة، ذات حمولة فلسفية عميقة. فإن عمل مستغانمي يحاكم ويمارس نقدا ذاتيا على تاريخ وقائعي وسياسي مباشر.
تأملات الطيب صالح تحيل على تراجيديا إنسانية في صراعاتها النفسية والوجودية، تعيش تمزقا وانقساما بين إكراهات المصير المشترك المرتبط بوضع زماني ومكاني محددين ثم طموحات شخصية لا نهائية.
بينما رواية أحلام مستغانمي تفضح وتكشف عن فشل المشروع السياسي للدولة الوطنية، وإحباط أجيال بأكملها نظرا للإخفاقات السياسية والاجتماعية الكبيرة التي تلت مباشرة ما سمي بتصفية الاستعمار، وإن كان من الضروري وضع ذلك بين مزدوجين، نظرا لأن خروج هذا الاستعمار بقي في نهاية المطلق صوريا وشكليا، بعد أن وطد طبقة إقطاعية هجينة، حتى ترعى مصالحه الاقتصادية والعسكرية. وبالتالي، فالثورات التي خلفت آلاف الشهداء والمناضلين ذ يكفي أن نستحضر مثال الثورة الجزائرية - ذهبت سدى وعبثا أدراج الرياح. كانت تضحيات هؤلاء مجرد نباح كلاب، حيث سرعان ما عادت الأمور إلى طبيعتها الأولى. اشتغلت الأنظمة العسكرية والدكتاتوريات الفاسدة وفق الاستراتيجيات الاستعمارية لتبقى البنيات المجتمعية جامدة، وما نتج عن ذلك من تراكمات تحولت مع مرور الأيام إلى أزمات هيكلية وبنيوية تدفع اليوم الشعوب الثمن غاليا بسببها.
لا تخوض رواية أحلام مستغانمي في تاريخ مثالي، ولكنها تقوم على أحداث محددة ومعطيات واقعية. تاريخ يظهر كخلاصة سلبية. وتختلف عن عمل الطيب صالح في أنها تقود مشروع محاكمة مقصودة للذات والمجتمع، مع تبني طريقة الرواية السياسية. لكنها على منوال «موسم الهجرة إلى الشمال»، فإن النص يقارب ويمارس لعبة لغوية عن تاريخ يختلط ويمتزج فيه الحب بالموت. بطل «ذاكرة الجسد» يعيش سيكولوجيا تمزقات وتشظيات كثيرة ومتعددة. فالمونشو الذي يقيم في باريس بعد أن فقد يده في الجبهة وترك الجزائر، يتأمل من منفاه الاختياري - وبشكل ساخر - مفارقة سوريالية، حيث مكر التاريخ واستهزاء القدر. ذلك أن أولئك الذين ظلوا يحاربون المستعمر الأوربي هم الذين يلهثون اليوم إلى قنصليات هذا المستعمر في طوابير طويلة من أجل الحصول على جواز العبور، أوربا هي الملجأ والخلاص.
يعني ذلك أن التاريخ توقف عن السريان كليا. لم نحقق أي شيء منذ خروج المستعمر عن الأرض العربية. وبالتالي فإن شعوب المنطقة تجد نفسها محاصرة بين مخالب واقع اقتصادي واجتماعي متردٍ جدا، ما يدفعها إلى هجرة أوطانها للبحث عن حق في الحياة وشرط مقبول للوجود.
يخرج الوعي العربي هنا من تمركزه الذاتي ويترك نرجسيته الطفولية، ثم يتجاوز تمزقه التراجيدي القاتل، حيث يتعامل مع الآخر بنوع من الموضوعية والنضج والحكمة. وتتحول الهجرة إلى فضاء للتأمل وخلق المسافات.. إنها ليست مرآة تحيله إلى ذاته كما هو الشأن مع الحكيم، ولا صحراء تدفعه إلى تحققه الكلي أو النقي المطلق كما يحدث مع الطيب صالح، بل على العكس تشكل الهجرة في ذاكرة الجسد مجالا للهدوء والسكينة والتفكير، كما أن الآخر يغير من وجهه، فهو ليس آخرية الذات، بل وجه ثان للذات نفسها في لحظة مجابهة: «يغير الآخر من وجهه، إنه ليس قط الآخرية أو إفسادًا للذات، سلطة غريبة عنها بحيث يوجدان في علاقة مجابهة تاريخية، إنها الوجه الآخر للذات، نصيبها الملعون وجزءها الفاسد». تصور يسعى إلى رؤية جديدة للتاريخ تزيح عنه الحمولة التيولوجية والإكلينيكية، لكي نلمس تطوره الموضوعي العقلاني.
افتقد الوعي العربي للزمان والجسد والتاريخ. أصبح يحاصر ممكناته باستمرار، لأن الجسد حرية والزمان سيرورة والتاريخ تبلور. أي علاقة بين الزمان والتاريخ؟ الزمان مقولة ميتافيزيقية والتاريخ مجال وقائعي، الأول رؤية مفهومية والثاني تموضع تجريبي.
لقد ظل التاريخ العربي ملتصقا بمفهوم ثيولوجي. فالزمان سيرورة إلهية والتاريخ لحظة مطلقة تكتمل في غياب أي مبادرة بشرية. فهم ستكسره رواية ذاكرة الجسد وقبلها «موسم الهجرة إلى الشمال»، حيث إن التاريخ وضعي يأخذ مساره الحقيقي باعتباره حصيلة مواقف واختيارات إنسانية محضة، لذلك يمكننا إعادة كتابته من جديد وتجاوز صيغه الخاطئة.
الارتكاز على التاريخ باعتباره الحلقة المفقودة أو المغيبة من قبل أعداء التاريخ، أي أولئك الذين يتوخون بقاء المجتمعات العربية على الهامش منه. ننتقد تاريخنا السياسي ونسعى إلى تجاوز زيف وغلطات إرثنا الثقافي. الشعوب لا تملك إلا تاريخها، وتكتب حكاية الوطن بعرقها ودمها: «بينما آخرون يكتبونه في جدادات وكذا أرشيفات بوليس فظيع وجيوش دموية ثم يوقعونها بختمهم الزجري».
لقد ظل التاريخ عقدتنا بامتياز، يخيفنا ونخشى من لعبة مكاشفته فتحدث عملية الهروب والمراوغة، كما نخلط بين التاريخ والتراث. يتم الحديث عن أحدهما باسم صور الآخر، نسقط صورتنا التقليدية للثرات على التاريخ. في حين تأخذ المعادلة الصيغ التالية: التاريخ تراث، وللتراث تاريخ. التاريخ حكم بشري وقيمة إنسانية، من الضرورة إذن خضوعه لمنطق وضعي انطلاقا من عملية تقويم لانفعالات وعقلانيات تتأرجح بين جدلية السقوط والتحقق.
التاريخ إذن هو محور الروايات الثلاث، لكن مع اختلاف الرؤية في ما يخص المقاربة. مع الحكيم بقي هذا التاريخ غالبا ومسيطرا وقابعا داخل أقبية من ذهب. وفي اللحظة الثانية مع الطيب صالح وأحلام مستغانمي، فإنه سينزل من برجه لكي يخضع للفحص والتحليل والتمحيص والنقد، ثم المحاكمة إيجابا أو سلبا.
يجب أن تحقق ثورة على مستوى الكتابة، تلامس أجسادنا وتاريخنا، حتى نعيد لرؤيتنا حيال العالم شيئا من انتباهها ويقظتها.
مادام الجسد مغتصبا والتاريخ مغيبا أو مزيفا فلا يمكننا البتة التفكير في إمكان خلق منظومة ثقافية عربية قادرة على التكلم بلغة العصر.
الأعمال الثلاثة صرخة ضد واقع عربي مترهل، تحركه مؤسسات ثقافية وسياسية واجتماعية شائخة وقروسطية تقوم على نظرية ماضوية ونزعة تقليدانية. يقول الأستاذ الشارني وهو يتأمل الموقف: «بالتأكيد فالتقليدانية سلوك ينحو إلى إعادة إنجاز حلول مستهلكة داخل مواقف جديدة. إنها تمثل بشكل عام نوعا من اليرقان التاريخي. يعيق بل يوقف أحيانا وبشكل جلي تطور الشعوب التي يصيبها، لهذا السبب، فإن التقليدانية لم تكن أبدا واقعة كونية داخل مجتمع ما. إنها دائما موقف مجموعة إن لم تكن طبقة تجب دائما محاربتها».
خيانة الثورة والمبادئ الكبرى التي ذهب ضحيتها آلاف الشهداء، وذلك لتحقيق مجتمع عادل يقتسم ثروته وخيراته الجميع، وفشل المشروع السياسي الوطني، أديا إلى دخول المجتمعات العربية مرحلة ما قبل الكولونيالية وإخضاع المواطن العربي إلى سيادة أنظمة كليانية لا تؤمن إلا بالحكم الفردي الأتوقراطي، عملت على تجميد المسارات الطبيعية الممكنة لأي تقدم مجتمعي، فأقامت دولة داخل الدولة، وعملت على اجتثاث كل ملامح ولبنات المجتمع المدني الذي تسيِّره مؤسسات حرة.
لقد تحدث المونشو في «ذاكرة الجسد» عن نوع من الاغتصاب الســياسي le viol politique لرسم الصورة التي حدثت مباشرة بعد الاستقلال بين حركات التحرر والأنظمة السياسية. الاغتصاب في مفهومه الجنسي يمثل ويعبر عن واقع حقيقي، تم فيه خطف واغتيال عذرية التاريخ، أي تلك الأحلام العفوية والنبيلة لكل الناس وحقهم الطبيعي في حياة كريمة.
يقول الأستاذ الشارني: «نلاحظ إذن قيام معادلة بين الصنف الجنسي للتملك المغتصب للوطن، والصنف السياسي للتملك العنيف، أي بالقوة ودون شرعية».
تطرح رواية أحلام مستغانمي إذن كخلاصة فشل الأنظمة الوطنية في تحقيق استقلال فعلي وحقيقي، واستثماره من أجل بلورة اختيارات سياسية واقتصادية حقيقية، كان من الممكن أن تضعنا حقا في قلب التاريخ. لقد أخذوا البلاد واغتصبوها سياسيا، بالمفهوم الجنسي للكلمة. لذلك فإن المونشو وضع في المستوى نفسه، الاغتصاب السياسي والجنسي ماداما يحيلان على المعنى ذاته. كما أن الوطن كالمرأة مشاعرهما زئبقية يعيشان أقصى تجلياتها.
وربما الصيغة التي حضرت بها المرأة عند مصطفى سعيد أو المونشو، كما كشف عنها الأستاذ الشارني - بذكاء وبلاغة - يمكن أن نعكسها هنا على الوطن لنقول: «يتم تقديم المرأة كغاية ومرة كوسيلة، ومرة كحاملة للحب والأمل «خصوبة»، ومرة يتم ربطها بالحيل والمساومة والابتزاز. ومرة يتم تملقها ومداهنتها ومجاملتها واحترامها، ومرة مكروهة ومرفوضة ومحتقرة وتباع بالجملة أو التقسيط». هو الوطن كذلك، يتوارى أحيانا من مساحة أحلامنا، حينما يتنكر لجوارحنا. لكننا رغم كل شيء نعشقه إلى النخاع، مثل المرأة تماما >