قراءة أوّلية في الممارسات والاستراتيجيات .. النّوع بوصفه مؤسسةً أدبيةً
كثيرا ما كان أرسطوطاليس يتحدث في «فنّ الشعر» عن الفروق المائزة بين الأجناس الأدبية، أو المواقف الجمالية، الثلاثة (الغنائي، الدرامي، الملحمي) على أساس من الخاصية المائزة (المحاكاة ومن ذلك قوله:
«قد تقع المحاكاة في الوسائط نفسها والأشخاص أنفسهم، تارةً بطريق القصص - إما بأن يتقمَّص الشاعر شخصا آخر كما يفعل هوميروس، وإما بأن يظل هو هو لا يتغير - وتارةً بأن يعرض أشخاصه جميعا وهم يعملون وينشطون. فالمحاكاة إذن لها هذه الفصول الثلاثة: ما يُحاكَى به وما يحاكى وطريقة المحاكاة».
كتاب أرسطوطاليس في الشعر، نقل أبي بشر متّى بن يونس القنائي، من السرياني إلى العربي. حقَّقه مع ترجمة حديثة ودراسة لتأثيره في البلاغة العربية: د. شكري محمد عياد، الهيئة المصرية العامة للكتاب>
لقد توصّلت النظرية الأدبية الحديثة إلى أن الأنواع أو الأجناس الأدبية تصنيفات مفهومية نظرية لا توجد بالضرورة بشكل نقيّ، بل يمكن لجنس واحد أن يستوعب بهذه الدرجة أو تلك أساليب الأنواع الأخرى مجتمعة. ومع ذلك، فالنظرية ذاتها جزء من الحياة، تتطور بتطورها، وتتحرك في مجالها صعودا وهبوطا. وأي نظرية، في نهاية المطاف، هي ممارسة اجتماعية قبل أن تكون مقولةً أو عددا من المقولات القابلة للتحقّق verification أو العرض على معيار الصدق والكذب؛ بمعنى أنها جزء من حياة البشر أنفسهم. وتبعا لتطور العصر وتفاعل الثقافات، تتبادل الأنواع الأدبية التأثير والتأثر في ما بينها، فتستعير من بعضها البعض التقنيات والحيل الفنية والأسلوبية والبلاغية. من هنا، ينزاح قانون الشعر العربي القديم الذي كان يركن إلى طاقة المجاز (ممثّلا في الاستعارة والكناية والتشبيه، بوصفها مكوّنات الصورة الشعرية) والإيقاع (ممثلا في الوزن القافية)، ليزاحمه فوضى (لاقانون) قصيدة النثر الجديدة بمراوغاتها وتلويناتها التي اقترضت من الشعر جوهر «الشعرية» الذي لا يكمن في وزن أو قافية فحسب، واستعارت من فنون القص «سرديتها» التي لا تكتفي بحدث أو شخصية، واقتبست من فن المسرح «فعله الدرامي» الذي هو فعل وجود إنساني حيّ، يتجاوز مجرد صراع بين شخصيات تتحرك على خشبة أو منصّة.
إن أزمة ما بعد الحداثة ونظرياتها، سواء في علم الجمال أو الفلسفة أو حتى في مجال النقد الأدبي والفني، تكمن في تصور مفهوم «الشكل الفني» باعتباره غاية قصوى للفن، ومرجعية نهائية بالنسبة إلى الناقد أو المتذوّق على السواء، في حين أن الشكل الفني الخالص ليس إلا محض وهم لا وجود له في عالم الفن. إن مفهوم الشكل الخالص أو الصورة المحددة مفهوم لا وجود له إلا في عالمي المنطق الصوري والرياضيات فحسب. لذا، فإن كتابة «النص المفتوح» لا تعني بلوغ النهاية القصوى بالنسبة إلى مغامرات الكاتب التجريبية في رحلة البحث عن «شكل» مغاير، طموح، يتصف بالمرونة اللامحدودة.
خلخلة الأبنية
نهضت فلسفة النظرية الأدبية في زمن الحداثة وما بعدها على سعيٍ حثيثٍ نحو خلخلة الأبنية والمفاهيم المستقرة؛ الأمر الذي تجلّى في أن أصبحت شعارات من قبيل «الكتابة» و«النص» و«التناص» و«موت المؤلف»، .. وغيرها، بمنزلة حصون دفاعية في مواجهة تكلّس المفاهيم البلاغية والنقدية القديمة مثل «الصدق الفني» و«مشاكلة الواقع» و«الأدب» و«نقاء النوع الأدبي».
مفهوم النثرية
لكنّ ثمة تساؤلا يفرض نفسه هنا، مؤدّاه: هل يمكن ردم الهوّة السحيقة الواقعة بين النثر والشعر والدراما؟ (علينا أن نذهب بعيدا جدا كي نبدأ مما ورد على لسان أرسطوطاليس). إن مفاهيم الأجناس تبدو مفاهيم حسَّاسة إلى حدّ ما، فيما يتصل بفكرة الحداثة على وجه الخصوص. ومن هنا، سوف يقترح البعض تمييزا ممكنا بين الأنواع أو الأجناس من خلال أبنيتها الزمانية، مادامت فكرة الحداثة في جوهرها فكرةً زمانية. ومع ذلك، فإن العلاقة بين الحداثة والأجناس الأدبية تبدو علاقة يشوبها كثير من الغموض والارتباك/أو سوء الفهم (بول دي مان: العمى والبصيرة، مقالات في بلاغة النقد المعاصر، ترجمة: سعيد الغانمي، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2000م، ص 194). إن الأنواع الأدبية مفاهيم مرنة متطورة بتطور حياة الإنسان، حتى أنها تمرّ بجميع مراحل الوجود الإنساني: الميلاد، فالصبا، فالشباب، فالشيخوخة، ثم الموت. لذلك، فإن ناقدا مثل ميخائيل باختين (1895-1975م) سوف ينتصر لجنس الرواية، لا على سبيل الإعجاب الذاتي أو التحيّز الانفعالي لنوع إبداعي ضدّ آخر، بل على سبيل الوعي النقدي المرهف الذي كان يرى مستقبل الأنواع الإبداعية مرهونا بمدى مرونة هذا النوع الأدبي أو ذاك. لقد كان الرجل يفكّر في «الرواية» باعتبارها الجنس الأقدر على التقاط نغمات العصر المتباعدة؛ لأنها قادرة على استيعاب باقي الأنواع في رحمها وامتصاصها وتمثّلها (من التمثيل الغذائي أو العضوي) وإخراجها في أشكال جديدة كل الجِدّة؛ ولأنها كذلك الجنس الوحيد الذي لايزال في قيد التشكّل؛ حيث إنها تعكس بعمق ودقة وسرعة تطور الواقع نفسه: «وما هو في قيد التشكل يستطيع وحده أن يفهم ظاهرة الصيرورة».
فالعلاقة بين «الشكل» و«الأسلوب» و«النوع» علاقة وطيدة: «فحيثما وُجِد الأسلوب وُجِد النوع».
من هنا، طرح باختين مفهوم «النثرية Prosaics» (أو «البروزيقا») (M. Bakhtin; Creation of Prosaics, 1990, p. 15-16) الذي يجب أن يتم التعامل معه باعتباره مقابلا، لا مضادا، للشعرية من ناحية، وبوصفه شكلا من أشكال التفكير التي تُسلّم ضمنا بأهمية اليومي والعادي والمنثور من ناحية أخرى. ينبغي ألا نفهم النثرية بوصفها مضادا للشعرية، بل هي وجه مغاير من أوجه الشعرية التي ينطوي عليها كل «أدب» أو «فن». لقد كان باختين أول من صاغ مفهوم «النثرية» Prosaics كمقابل للشعرية أو البويطيقا Poetics. ولم يكن الرجل متأخرا في ذلك كثيرا عن اللاحقين له من نقّاد الأدب ومنظِّريه مثل تيري إيجلتون (1943) أو فريدريك جيمسون (1934) أو جوناثان كولر (1944) أو جيرار جينيت (1930) أو حتى إدوارد سعيد (1935- 2003)، بل كانت أفكاره مستشرفة للزمن القادم الذي يحمل بشارات النصوص المفتوحة التي لا تعترف بقيود النوع الضيّقة ولا تستسلم لحدود الجنس الذي قد يكبّل يدي النص وساقيه ويُلقِي به يتيما منفردا في فضاء قبو مظلم. (يمكن أن نذكر في هذا السياق كتاب إدوار الخراط (الكتابة عبر النوعية) (1994م) الذي كان يتحدث فيه مؤلفه عن مفاهيم مثل «القصة- اللوحة» و«القصة القصيدة» و«القصة الدرامية»، وكان في أفكاره مستشرفا لأنواع ثانوية جديدة أخذت تفرزها الحياة الثقافية المصرية لاحقا خلال السنوات العشرين الأخيرة.
النص المفتوح
لا تعدّ ظاهرة «النص المفتوح» وليداً شرعياً للحداثة وحدها، كما قد يتصوّر البعض، على الرغم من تواتر وتكاثر النصوص التي تنتمي إلى ذلك النوع الفرعي sub-genre الذي أدرك النور بفعل تزاوج ذكر الإبداع العربي وأنثاه؛ أقصد إلى جنسي الشعر والقصة تحديدا، أو الشعرية والسردية بصفة أساسية. النص المفتوح نص متعدٍّ، بينيّ، هجين.
ويعني «تعدّيه» أنه لا يكتفي بذاته، بل يحيل دائما إلى غيره. وتلمّح «بينيّته» إلى أنه يقع موقعا وسيطا على خريطة الأنواع الأدبية، فلا هو بالشعر الخالص ولا السرد الصافي ولا الدراما النقيّة، بل هو آخذٌ من كلٍّ بطرف؛ إذ ينهض على الحرث في أشكال جديدة، واللعب باللغة، والاشتغال على مساحات البياض والسواد، وتبادل المواقع بين المتن والهامش، وكل ما من شأنه أن يوجّه الذائقة الجمالية التقليدية التي تقوم على فلسفة خاصة للغة والأدب وجهةً أخرى. ويمكن أن نضرب مثالا هنا بنص (الكتاب) لأدونيس، ومن قبله مجموعته الشعرية (المفرد بصيغة الجمع)، و«في حضرة الغياب» لمحمود درويش، والكثير من نصوص سليم بركات، وغيرها من النصوص العربية المتواترة (راجع بعض نصوص سليم بركات في مجلة الكرمل (مجلة الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين)، أعداد: 12 (1983)، 48-49 (1993)، 50 (1997)، 53 (1997)). أما «هجنته» فلأنه قائم على تناصّات مع نصوص عربية وغير عربية تتشابك كلها في ذاكرة القارئ الذي تقع على عاتقه مهمة تأويل النص المفتوح الذي لا يتخلّى مطلقا عن ثقافة القارئ المتشعبة وتنقّله ما بين فنون الشعر والسرد والسينما والدراما والفولكلور والفلسفة والتصوف، .. إلخ. إن النص المتعدّي أو النصّ المفتوح مفهوم كتابي قرائي في آن. «كتابي» لأن بذرته الملعونة تنخر في عقل المؤلف منذ اللحظة الأولى لمولدها ولا تستجيب لشكل أو نوع أدبي بعينه، حتى تدفع صاحبها إلى عدم وضع أي محدّد قرائي على غلاف كتابه، بل يكتفي بأن يكتب عليه كلمة «نصّ» أو «نصوص»، بكل ما تنطوي عليه التسمية من غموض فضفاض ومجازية رحبة. و«قرائي» لأنه يدفع بقارئه إلى خوض أكبر معارك التأويل بدءا من عنوانه حتى الكلمة الأخيرة التي يتوقف فيها الراجز عن رجزه، أو يرفع فيها الستار، أو يدرك شهرزاد الصباح فتسكت عن الكلام المباح. النص المفتوح أو المتعدّي نصّ عابر للقارات، مُتَحَدٍّ للتقاليد والأعراف الجامدة، مبشِّر بزمن جديد من أزمنة الكتابة الواعدة، الحرة، الطليقة، التي لا تعتد بأي شروط؛ لأنه بطبعه متمرّد على كل شرط. لكنّ المزلق كل المزلق ألا يعي بعض ممارسي هذه الكتابة - سواء على مستوى الإنتاج أو الاستقبال- أنه حتى في فضاء النص المفتوح، المتجاوز لكل الشروط والمواضعات، ثمة شعرية (أو نثرية) محايثة، لا تعترف بمفهوم الإحالة إلى التراث النوعي للنص، لكنها في الوقت ذاته تطالب مؤلفها بالاستغراق اللامتناهي في شروط الكتابة من حيث هي فعل إبداعي خلاق.
إغواء بريق الحداثة
إنّ ما اصطلح على تسميته باسم «النص المفتوح» أو «النص عبر النَّوعي»، أو «النص العابر للأنواع»، أو «النص المتعدّي»، لا يتجاوز كثيرا بعض محاولات الترجمة التي تتقاطع، بطريقة أو بأخرى، مع المصطلح الإنجليزي Trans-Generic Text، وغير ذلك من تسميات واصطلاحات انبرى لها كثير من النقاد والدارسين في السنوات العشرين الأخيرة بالتنظير والتأطير باعتبارها ظاهرةً أنتجتها حقبتا الحداثة وما بعد الحداثة. لكن مرجعيات الظاهرة تختلف، من وجهة نظري، بالنسبة إلى كل من يحاول التأريخ لبداياتها ورصد تجلياتها الإبداعية في الثقافة والأدب العربيين. إنّ المظهر الحداثي للنصوص المفتوحة انعكاس وتجلٍّ لتحولات شاملة في صيغ النموذج الإرشادي Paradigm (بمصطلح توماس كون) الذي انبثق من النظم الثقافية والاجتماعية والاقتصادية لمجتمع الحداثة وما بعدها (توماس كون: بنية الثورات العلمية، ترجمة: شوقي جلال، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 168، ديسمبر 1992). لقد أغوى الكثيرين من كتّابنا العرب بريقُ الحداثة وما بعدها، دون أن ينشغل المنظِّرون منهم بتأمل الظاهرة في سياقها العربي الأكبر الذي يعود إلى حقب تاريخية أقدم، قبل أن تعرف الثقافة العربية رطان الحداثة وما بعدها؛ أقصد إلى ظواهر إبداعية ارتبطت بعدد غير قليل من النصوص والرسائل والمتون التي تولَّدت من رحم حمولات ثقافية ومعرفية أكسبتها أشكالها المائزة. لكنّ المُشكِل أنّ الذاكرة القرائية المعاصرة باتت تعتمد على مبدأين اثنين رسَّختهما تكنولوجيا الحداثة هما: التصنيف والقولبة. بينما النصوص الأدبية أولا، والأنواع ثانيا، تأبى هذين المعيارين بصلافة.
النصوص الأولى
تعود ظاهرة النصّ المفتوح Open Text إلى طرائق اشتغال النصوص الدينية التي نهضت بالأساس على تحفيز المتلقّي عبر تأثيراتها المختلفة في المخيّلة والعقل البشريين، ومن ثم دفع المتلقّي، المعلَن أو المضمَر، الحاضر أو الغائب، المتعيَّن أو المسكوت عنه، إلى اتخاذ موقف مغاير من العالم والإنسان والله. ومن يقرأ مطلع «سفر التكوين» مثلا يدرك هذا الهدف:
«في البدء خلق الله السماوات والأرض. وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الأرض ظلمة، وروح الله يرفّ على وجه المياه. وقال الله ليكن نور فكان نور. ورأى الله النور أنه حسن. وفصَلَ الله بين النور والظلمة. ودعا الله النور نهارا، والظلمةُ دعاها ليلا. وكان مساء وكان صباح يوما واحدا». (سفر التكوين، الإصحاح الأول، آيات: 1-5.)
ليس «سفر التكوين» بعيدا، في مثل هذا السياق، عن سفر «المزامير» على سبيل المثال لا الحصر، ولا هما معا بعيدين عن بعض الأناجيل التي يتضمنها (العهد الجديد)، ولا كل هذه النصوص الدينية بعيدةً عن القرآن الكريم باعتباره النص الأكبر الذي صدم العرب ببلاغته وأذهلهم بفصاحته.
وفي السياق ذاته، لا يستطيع المتأمّل أو الباحث المدقّق في القرآن وعلومه أن ينكر على القرآن - بوصفه نصا مفتوحا بامتياز - درامية سورة يوسف مثلا، أو غنائية سورة مريم مثل أغلب السور المكية ذات الجرس والإيقاع الخاص الذي تنتهي به فواصل الآيات، أو ملحمية سورة القصص بمشاهدها المتخمة بروح الفقد ومرارة الفجيعة. واستنادا إلى مثل هذا التصور، يمكن إدراك كثير من نصوص المتصوفة والفلاسفة العرب، مثل «أخبار» الحلاج، و«فتوحات» محيي الدين بن عربي و«فصوصه»، و«مواقف» النفري و«مخاطباته»، و«إشارات» أبي حيان التوحيدي و«مقابساته»، وغير ذلك من نصوص ورسائل وحكايات ورحلات شتّى .