قراءة أوّلية في الممارسات والاستراتيجيات .. النّوع بوصفه مؤسسةً أدبيةً

قراءة أوّلية في الممارسات والاستراتيجيات .. النّوع بوصفه مؤسسةً أدبيةً

كثيرا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬أرسطوطاليس‭ ‬يتحدث‭ ‬في‭ ‬‮«‬فنّ‭ ‬الشعر‮»‬‭ ‬عن‭ ‬الفروق‭ ‬المائزة‭ ‬بين‭ ‬الأجناس‭ ‬الأدبية،‭ ‬أو‭ ‬المواقف‭ ‬الجمالية،‭ ‬الثلاثة‭ (‬الغنائي،‭ ‬الدرامي،‭ ‬الملحمي‭) ‬على‭ ‬أساس‭ ‬من‭ ‬الخاصية‭ ‬المائزة‭ (‬المحاكاة‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬قوله‭:‬

‮«‬قد‭ ‬تقع‭ ‬المحاكاة‭ ‬في‭ ‬الوسائط‭ ‬نفسها‭ ‬والأشخاص‭ ‬أنفسهم،‭ ‬تارةً‭ ‬بطريق‭ ‬القصص‭ - ‬إما‭ ‬بأن‭ ‬يتقمَّص‭ ‬الشاعر‭ ‬شخصا‭ ‬آخر‭ ‬كما‭ ‬يفعل‭ ‬هوميروس،‭ ‬وإما‭ ‬بأن‭ ‬يظل‭ ‬هو‭ ‬هو‭ ‬لا‭ ‬يتغير‭ - ‬وتارةً‭ ‬بأن‭ ‬يعرض‭ ‬أشخاصه‭ ‬جميعا‭ ‬وهم‭ ‬يعملون‭ ‬وينشطون‭. ‬فالمحاكاة‭ ‬إذن‭ ‬لها‭ ‬هذه‭ ‬الفصول‭ ‬الثلاثة‭: ‬ما‭ ‬يُحاكَى‭ ‬به‭ ‬وما‭ ‬يحاكى‭ ‬وطريقة‭ ‬المحاكاة‮»‬‭.‬

‭‬كتاب‭ ‬أرسطوطاليس‭ ‬في‭ ‬الشعر،‭ ‬نقل‭ ‬أبي‭ ‬بشر‭ ‬متّى‭ ‬بن‭ ‬يونس‭ ‬القنائي،‭ ‬من‭ ‬السرياني‭ ‬إلى‭ ‬العربي‭. ‬حقَّقه‭ ‬مع‭ ‬ترجمة‭ ‬حديثة‭ ‬ودراسة‭ ‬لتأثيره‭ ‬في‭ ‬البلاغة‭ ‬العربية‭: ‬د‭. ‬شكري‭ ‬محمد‭ ‬عياد،‭ ‬الهيئة‭ ‬المصرية‭ ‬العامة‭ ‬للكتاب>

لقد‭ ‬توصّلت‭ ‬النظرية‭ ‬الأدبية‭ ‬الحديثة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الأنواع‭ ‬أو‭ ‬الأجناس‭ ‬الأدبية‭ ‬تصنيفات‭ ‬مفهومية‭ ‬نظرية‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬بالضرورة‭ ‬بشكل‭ ‬نقيّ،‭ ‬بل‭ ‬يمكن‭ ‬لجنس‭ ‬واحد‭ ‬أن‭ ‬يستوعب‭ ‬بهذه‭ ‬الدرجة‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬أساليب‭ ‬الأنواع‭ ‬الأخرى‭ ‬مجتمعة‭. ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬فالنظرية‭ ‬ذاتها‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬الحياة،‭ ‬تتطور‭ ‬بتطورها،‭ ‬وتتحرك‭ ‬في‭ ‬مجالها‭ ‬صعودا‭ ‬وهبوطا‭. ‬وأي‭ ‬نظرية،‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف،‭ ‬هي‭ ‬ممارسة‭ ‬اجتماعية‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬مقولةً‭ ‬أو‭ ‬عددا‭ ‬من‭ ‬المقولات‭ ‬القابلة‭ ‬للتحقّق‭ ‬verification‭ ‬أو‭ ‬العرض‭ ‬على‭ ‬معيار‭ ‬الصدق‭ ‬والكذب؛‭ ‬بمعنى‭ ‬أنها‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬البشر‭ ‬أنفسهم‭. ‬وتبعا‭ ‬لتطور‭ ‬العصر‭ ‬وتفاعل‭ ‬الثقافات،‭ ‬تتبادل‭ ‬الأنواع‭ ‬الأدبية‭ ‬التأثير‭ ‬والتأثر‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بينها،‭ ‬فتستعير‭ ‬من‭ ‬بعضها‭ ‬البعض‭ ‬التقنيات‭ ‬والحيل‭ ‬الفنية‭ ‬والأسلوبية‭ ‬والبلاغية‭. ‬من‭ ‬هنا،‭ ‬ينزاح‭ ‬قانون‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬القديم‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يركن‭ ‬إلى‭ ‬طاقة‭ ‬المجاز‭ (‬ممثّلا‭ ‬في‭ ‬الاستعارة‭ ‬والكناية‭ ‬والتشبيه،‭ ‬بوصفها‭ ‬مكوّنات‭ ‬الصورة‭ ‬الشعرية‭) ‬والإيقاع‭ (‬ممثلا‭ ‬في‭ ‬الوزن‭ ‬القافية‭)‬،‭ ‬ليزاحمه‭ ‬فوضى‭ (‬لاقانون‭) ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬الجديدة‭ ‬بمراوغاتها‭ ‬وتلويناتها‭ ‬التي‭ ‬اقترضت‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬جوهر‭ ‬‮«‬الشعرية‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬وزن‭ ‬أو‭ ‬قافية‭ ‬فحسب،‭ ‬واستعارت‭ ‬من‭ ‬فنون‭ ‬القص‭ ‬‮«‬سرديتها‮»‬‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تكتفي‭ ‬بحدث‭ ‬أو‭ ‬شخصية،‭ ‬واقتبست‭ ‬من‭ ‬فن‭ ‬المسرح‭ ‬‮«‬فعله‭ ‬الدرامي‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬فعل‭ ‬وجود‭ ‬إنساني‭ ‬حيّ،‭ ‬يتجاوز‭ ‬مجرد‭ ‬صراع‭ ‬بين‭ ‬شخصيات‭ ‬تتحرك‭ ‬على‭ ‬خشبة‭ ‬أو‭ ‬منصّة‭.‬

إن‭ ‬أزمة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة‭ ‬ونظرياتها،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬الجمال‭ ‬أو‭ ‬الفلسفة‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬والفني،‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬تصور‭ ‬مفهوم‭ ‬‮«‬الشكل‭ ‬الفني‮»‬‭ ‬باعتباره‭ ‬غاية‭ ‬قصوى‭ ‬للفن،‭ ‬ومرجعية‭ ‬نهائية‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الناقد‭ ‬أو‭ ‬المتذوّق‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬الشكل‭ ‬الفني‭ ‬الخالص‭ ‬ليس‭ ‬إلا‭ ‬محض‭ ‬وهم‭ ‬لا‭ ‬وجود‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الفن‭. ‬إن‭ ‬مفهوم‭ ‬الشكل‭ ‬الخالص‭ ‬أو‭ ‬الصورة‭ ‬المحددة‭ ‬مفهوم‭ ‬لا‭ ‬وجود‭ ‬له‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬عالمي‭ ‬المنطق‭ ‬الصوري‭ ‬والرياضيات‭ ‬فحسب‭. ‬لذا،‭ ‬فإن‭ ‬كتابة‭ ‬‮«‬النص‭ ‬المفتوح‮»‬‭ ‬لا‭ ‬تعني‭ ‬بلوغ‭ ‬النهاية‭ ‬القصوى‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬مغامرات‭ ‬الكاتب‭ ‬التجريبية‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬‮«‬شكل‮»‬‭ ‬مغاير،‭ ‬طموح،‭ ‬يتصف‭ ‬بالمرونة‭ ‬اللامحدودة‭.‬

 

خلخلة‭ ‬الأبنية

نهضت‭ ‬فلسفة‭ ‬النظرية‭ ‬الأدبية‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الحداثة‭ ‬وما‭ ‬بعدها‭ ‬على‭ ‬سعيٍ‭ ‬حثيثٍ‭ ‬نحو‭ ‬خلخلة‭ ‬الأبنية‭ ‬والمفاهيم‭ ‬المستقرة؛‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬تجلّى‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬أصبحت‭ ‬شعارات‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬‮«‬الكتابة‮»‬‭ ‬و«النص‮»‬‭ ‬و‮«‬التناص‮»‬‭ ‬و«موت‭ ‬المؤلف‮»‬،‭ .. ‬وغيرها،‭ ‬بمنزلة‭ ‬حصون‭ ‬دفاعية‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬تكلّس‭ ‬المفاهيم‭ ‬البلاغية‭ ‬والنقدية‭ ‬القديمة‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬الصدق‭ ‬الفني‮»‬‭ ‬و‮«‬مشاكلة‭ ‬الواقع‮»‬‭ ‬و«الأدب‮»‬‭ ‬و«نقاء‭ ‬النوع‭ ‬الأدبي‮»‬‭.‬

 

مفهوم‭ ‬النثرية

لكنّ‭ ‬ثمة‭ ‬تساؤلا‭ ‬يفرض‭ ‬نفسه‭ ‬هنا،‭ ‬مؤدّاه‭: ‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬ردم‭ ‬الهوّة‭ ‬السحيقة‭ ‬الواقعة‭ ‬بين‭ ‬النثر‭ ‬والشعر‭ ‬والدراما؟‭ (‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نذهب‭ ‬بعيدا‭ ‬جدا‭ ‬كي‭ ‬نبدأ‭ ‬مما‭ ‬ورد‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬أرسطوطاليس‭). ‬إن‭ ‬مفاهيم‭ ‬الأجناس‭ ‬تبدو‭ ‬مفاهيم‭ ‬حسَّاسة‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬ما،‭ ‬فيما‭ ‬يتصل‭ ‬بفكرة‭ ‬الحداثة‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص‭. ‬ومن‭ ‬هنا،‭ ‬سوف‭ ‬يقترح‭ ‬البعض‭ ‬تمييزا‭ ‬ممكنا‭ ‬بين‭ ‬الأنواع‭ ‬أو‭ ‬الأجناس‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أبنيتها‭ ‬الزمانية،‭ ‬مادامت‭ ‬فكرة‭ ‬الحداثة‭ ‬في‭ ‬جوهرها‭ ‬فكرةً‭ ‬زمانية‭. ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الحداثة‭ ‬والأجناس‭ ‬الأدبية‭ ‬تبدو‭ ‬علاقة‭ ‬يشوبها‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الغموض‭ ‬والارتباك‭/‬أو‭ ‬سوء‭ ‬الفهم‭ (‬بول‭ ‬دي‭ ‬مان‭: ‬العمى‭ ‬والبصيرة،‭ ‬مقالات‭ ‬في‭ ‬بلاغة‭ ‬النقد‭ ‬المعاصر،‭ ‬ترجمة‭: ‬سعيد‭ ‬الغانمي،‭ ‬المشروع‭ ‬القومي‭ ‬للترجمة،‭ ‬المجلس‭ ‬الأعلى‭ ‬للثقافة،‭ ‬القاهرة،‭ ‬2000م،‭ ‬ص‭ ‬194‭). ‬إن‭ ‬الأنواع‭ ‬الأدبية‭ ‬مفاهيم‭ ‬مرنة‭ ‬متطورة‭ ‬بتطور‭ ‬حياة‭ ‬الإنسان،‭ ‬حتى‭ ‬أنها‭ ‬تمرّ‭ ‬بجميع‭ ‬مراحل‭ ‬الوجود‭ ‬الإنساني‭: ‬الميلاد،‭ ‬فالصبا،‭ ‬فالشباب،‭ ‬فالشيخوخة،‭ ‬ثم‭ ‬الموت‭. ‬لذلك،‭ ‬فإن‭ ‬ناقدا‭ ‬مثل‭ ‬ميخائيل‭ ‬باختين‭ (‬1895-1975م‭) ‬سوف‭ ‬ينتصر‭ ‬لجنس‭ ‬الرواية،‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬الإعجاب‭ ‬الذاتي‭ ‬أو‭ ‬التحيّز‭ ‬الانفعالي‭ ‬لنوع‭ ‬إبداعي‭ ‬ضدّ‭ ‬آخر،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬الوعي‭ ‬النقدي‭ ‬المرهف‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يرى‭ ‬مستقبل‭ ‬الأنواع‭ ‬الإبداعية‭ ‬مرهونا‭ ‬بمدى‭ ‬مرونة‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬الأدبي‭ ‬أو‭ ‬ذاك‭. ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬الرجل‭ ‬يفكّر‭ ‬في‭ ‬‮«‬الرواية‮»‬‭ ‬باعتبارها‭ ‬الجنس‭ ‬الأقدر‭ ‬على‭ ‬التقاط‭ ‬نغمات‭ ‬العصر‭ ‬المتباعدة؛‭ ‬لأنها‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬استيعاب‭ ‬باقي‭ ‬الأنواع‭ ‬في‭ ‬رحمها‭ ‬وامتصاصها‭ ‬وتمثّلها‭ (‬من‭ ‬التمثيل‭ ‬الغذائي‭ ‬أو‭ ‬العضوي‭) ‬وإخراجها‭ ‬في‭ ‬أشكال‭ ‬جديدة‭ ‬كل‭ ‬الجِدّة؛‭ ‬ولأنها‭ ‬كذلك‭ ‬الجنس‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬لايزال‭ ‬في‭ ‬قيد‭ ‬التشكّل؛‭ ‬حيث‭ ‬إنها‭ ‬تعكس‭ ‬بعمق‭ ‬ودقة‭ ‬وسرعة‭ ‬تطور‭ ‬الواقع‭ ‬نفسه‭: ‬‮«‬وما‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬قيد‭ ‬التشكل‭ ‬يستطيع‭ ‬وحده‭ ‬أن‭ ‬يفهم‭ ‬ظاهرة‭ ‬الصيرورة‮»‬‭.‬

فالعلاقة‭ ‬بين‭ ‬‮«‬الشكل‮»‬‭ ‬و«الأسلوب‮»‬‭ ‬و«النوع‮»‬‭ ‬علاقة‭ ‬وطيدة‭: ‬‮«‬فحيثما‭ ‬وُجِد‭ ‬الأسلوب‭ ‬وُجِد‭ ‬النوع‮»‬‭.‬

من‭ ‬هنا،‭ ‬طرح‭ ‬باختين‭ ‬مفهوم‭ ‬‮«‬النثرية‭ ‬Prosaics‮»‬‭ (‬أو‭ ‬‮«‬البروزيقا‮»‬‭) ‬‭(‬M‭. ‬Bakhtin‭;‬‭ ‬Creation‭ ‬of‭ ‬Prosaics‭,‬‭ ‬1990‭,‬‭ ‬p‭. ‬15-16‭) ‬الذي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬التعامل‭ ‬معه‭ ‬باعتباره‭ ‬مقابلا،‭ ‬لا‭ ‬مضادا،‭ ‬للشعرية‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬وبوصفه‭ ‬شكلا‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬التفكير‭ ‬التي‭ ‬تُسلّم‭ ‬ضمنا‭ ‬بأهمية‭ ‬اليومي‭ ‬والعادي‭ ‬والمنثور‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭. ‬ينبغي‭ ‬ألا‭ ‬نفهم‭ ‬النثرية‭ ‬بوصفها‭ ‬مضادا‭ ‬للشعرية،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬وجه‭ ‬مغاير‭ ‬من‭ ‬أوجه‭ ‬الشعرية‭ ‬التي‭ ‬ينطوي‭ ‬عليها‭ ‬كل‭ ‬‮«‬أدب‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬فن‮»‬‭. ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬باختين‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬صاغ‭ ‬مفهوم‭ ‬‮«‬النثرية‮»‬‭ ‬Prosaics‭ ‬كمقابل‭ ‬للشعرية‭ ‬أو‭ ‬البويطيقا‭ ‬Poetics‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬الرجل‭ ‬متأخرا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬كثيرا‭ ‬عن‭ ‬اللاحقين‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬نقّاد‭ ‬الأدب‭ ‬ومنظِّريه‭ ‬مثل‭ ‬تيري‭ ‬إيجلتون‭ (‬1943‭) ‬أو‭ ‬فريدريك‭ ‬جيمسون‭ (‬1934‭) ‬أو‭ ‬جوناثان‭ ‬كولر‭ (‬1944‭) ‬أو‭ ‬جيرار‭ ‬جينيت‭ (‬1930‭) ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ (‬1935-‭ ‬2003‭)‬،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬أفكاره‭ ‬مستشرفة‭ ‬للزمن‭ ‬القادم‭ ‬الذي‭ ‬يحمل‭ ‬بشارات‭ ‬النصوص‭ ‬المفتوحة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تعترف‭ ‬بقيود‭ ‬النوع‭ ‬الضيّقة‭ ‬ولا‭ ‬تستسلم‭ ‬لحدود‭ ‬الجنس‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬يكبّل‭ ‬يدي‭ ‬النص‭ ‬وساقيه‭ ‬ويُلقِي‭ ‬به‭ ‬يتيما‭ ‬منفردا‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬قبو‭ ‬مظلم‭. (‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نذكر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬كتاب‭ ‬إدوار‭ ‬الخراط‭ (‬الكتابة‭ ‬عبر‭ ‬النوعية‭) (‬1994م‭) ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتحدث‭ ‬فيه‭ ‬مؤلفه‭ ‬عن‭ ‬مفاهيم‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬القصة‭- ‬اللوحة‮»‬‭ ‬و«القصة‭ ‬القصيدة‮»‬‭ ‬و«القصة‭ ‬الدرامية‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬في‭ ‬أفكاره‭ ‬مستشرفا‭ ‬لأنواع‭ ‬ثانوية‭ ‬جديدة‭ ‬أخذت‭ ‬تفرزها‭ ‬الحياة‭ ‬الثقافية‭ ‬المصرية‭ ‬لاحقا‭ ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬العشرين‭ ‬الأخيرة‭. ‬

 

النص‭ ‬المفتوح

لا‭ ‬تعدّ‭ ‬ظاهرة‭ ‬‮«‬النص‭ ‬المفتوح‮»‬‭ ‬وليداً‭ ‬شرعياً‭ ‬للحداثة‭ ‬وحدها،‭ ‬كما‭ ‬قد‭ ‬يتصوّر‭ ‬البعض،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬تواتر‭ ‬وتكاثر‭ ‬النصوص‭ ‬التي‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬النوع‭ ‬الفرعي‭ ‬sub‭-‬genre‭ ‬الذي‭ ‬أدرك‭ ‬النور‭ ‬بفعل‭ ‬تزاوج‭ ‬ذكر‭ ‬الإبداع‭ ‬العربي‭ ‬وأنثاه؛‭ ‬أقصد‭ ‬إلى‭ ‬جنسي‭ ‬الشعر‭ ‬والقصة‭ ‬تحديدا،‭ ‬أو‭ ‬الشعرية‭ ‬والسردية‭ ‬بصفة‭ ‬أساسية‭. ‬النص‭ ‬المفتوح‭ ‬نص‭ ‬متعدٍّ،‭ ‬بينيّ،‭ ‬هجين‭.‬
ويعني‭ ‬‮«‬تعدّيه‮»‬‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يكتفي‭ ‬بذاته،‭ ‬بل‭ ‬يحيل‭ ‬دائما‭ ‬إلى‭ ‬غيره‭. ‬وتلمّح‭ ‬‮«‬بينيّته‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬يقع‭ ‬موقعا‭ ‬وسيطا‭ ‬على‭ ‬خريطة‭ ‬الأنواع‭ ‬الأدبية،‭ ‬فلا‭ ‬هو‭ ‬بالشعر‭ ‬الخالص‭ ‬ولا‭ ‬السرد‭ ‬الصافي‭ ‬ولا‭ ‬الدراما‭ ‬النقيّة،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬آخذٌ‭ ‬من‭ ‬كلٍّ‭ ‬بطرف؛‭ ‬إذ‭ ‬ينهض‭ ‬على‭ ‬الحرث‭ ‬في‭ ‬أشكال‭ ‬جديدة،‭ ‬واللعب‭ ‬باللغة،‭ ‬والاشتغال‭ ‬على‭ ‬مساحات‭ ‬البياض‭ ‬والسواد،‭ ‬وتبادل‭ ‬المواقع‭ ‬بين‭ ‬المتن‭ ‬والهامش،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يوجّه‭ ‬الذائقة‭ ‬الجمالية‭ ‬التقليدية‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬فلسفة‭ ‬خاصة‭ ‬للغة‭ ‬والأدب‭ ‬وجهةً‭ ‬أخرى‭. ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬نضرب‭ ‬مثالا‭ ‬هنا‭ ‬بنص‭ (‬الكتاب‭) ‬لأدونيس،‭ ‬ومن‭ ‬قبله‭ ‬مجموعته‭ ‬الشعرية‭ (‬المفرد‭ ‬بصيغة‭ ‬الجمع‭)‬،‭ ‬و«في‭ ‬حضرة‭ ‬الغياب‮»‬‭ ‬لمحمود‭ ‬درويش،‭ ‬والكثير‭ ‬من‭ ‬نصوص‭ ‬سليم‭ ‬بركات،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬النصوص‭ ‬العربية‭ ‬المتواترة‭ (‬راجع‭ ‬بعض‭ ‬نصوص‭ ‬سليم‭ ‬بركات‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬الكرمل‭ (‬مجلة‭ ‬الاتحاد‭ ‬العام‭ ‬للكتاب‭ ‬والصحفيين‭ ‬الفلسطينيين‭)‬،‭ ‬أعداد‭: ‬12‭ (‬1983‭)‬،‭ ‬48‭-‬49‭ (‬1993‭)‬،‭ ‬50‭ (‬1997‭)‬،‭ ‬53‭ (‬1997‭)). ‬أما‭ ‬‮«‬هجنته‮»‬‭ ‬فلأنه‭ ‬قائم‭ ‬على‭ ‬تناصّات‭ ‬مع‭ ‬نصوص‭ ‬عربية‭ ‬وغير‭ ‬عربية‭ ‬تتشابك‭ ‬كلها‭ ‬في‭ ‬ذاكرة‭ ‬القارئ‭ ‬الذي‭ ‬تقع‭ ‬على‭ ‬عاتقه‭ ‬مهمة‭ ‬تأويل‭ ‬النص‭ ‬المفتوح‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يتخلّى‭ ‬مطلقا‭ ‬عن‭ ‬ثقافة‭ ‬القارئ‭ ‬المتشعبة‭ ‬وتنقّله‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬فنون‭ ‬الشعر‭ ‬والسرد‭ ‬والسينما‭ ‬والدراما‭ ‬والفولكلور‭ ‬والفلسفة‭ ‬والتصوف،‭ .. ‬إلخ‭. ‬إن‭ ‬النص‭ ‬المتعدّي‭ ‬أو‭ ‬النصّ‭ ‬المفتوح‭ ‬مفهوم‭ ‬كتابي‭ ‬قرائي‭ ‬في‭ ‬آن‭. ‬‮«‬كتابي‮»‬‭ ‬لأن‭ ‬بذرته‭ ‬الملعونة‭ ‬تنخر‭ ‬في‭ ‬عقل‭ ‬المؤلف‭ ‬منذ‭ ‬اللحظة‭ ‬الأولى‭ ‬لمولدها‭ ‬ولا‭ ‬تستجيب‭ ‬لشكل‭ ‬أو‭ ‬نوع‭ ‬أدبي‭ ‬بعينه،‭ ‬حتى‭ ‬تدفع‭ ‬صاحبها‭ ‬إلى‭ ‬عدم‭ ‬وضع‭ ‬أي‭ ‬محدّد‭ ‬قرائي‭ ‬على‭ ‬غلاف‭ ‬كتابه،‭ ‬بل‭ ‬يكتفي‭ ‬بأن‭ ‬يكتب‭ ‬عليه‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬نصّ‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬نصوص‮»‬،‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬تنطوي‭ ‬عليه‭ ‬التسمية‭ ‬من‭ ‬غموض‭ ‬فضفاض‭ ‬ومجازية‭ ‬رحبة‭. ‬و«قرائي‮»‬‭ ‬لأنه‭ ‬يدفع‭ ‬بقارئه‭ ‬إلى‭ ‬خوض‭ ‬أكبر‭ ‬معارك‭ ‬التأويل‭ ‬بدءا‭ ‬من‭ ‬عنوانه‭ ‬حتى‭ ‬الكلمة‭ ‬الأخيرة‭ ‬التي‭ ‬يتوقف‭ ‬فيها‭ ‬الراجز‭ ‬عن‭ ‬رجزه،‭ ‬أو‭ ‬يرفع‭ ‬فيها‭ ‬الستار،‭ ‬أو‭  ‬يدرك‭ ‬شهرزاد‭ ‬الصباح‭ ‬فتسكت‭ ‬عن‭ ‬الكلام‭ ‬المباح‭. ‬النص‭ ‬المفتوح‭ ‬أو‭ ‬المتعدّي‭ ‬نصّ‭ ‬عابر‭ ‬للقارات،‭ ‬مُتَحَدٍّ‭ ‬للتقاليد‭ ‬والأعراف‭ ‬الجامدة،‭ ‬مبشِّر‭ ‬بزمن‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬أزمنة‭ ‬الكتابة‭ ‬الواعدة،‭ ‬الحرة،‭ ‬الطليقة،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تعتد‭ ‬بأي‭ ‬شروط؛‭ ‬لأنه‭ ‬بطبعه‭ ‬متمرّد‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬شرط‭. ‬لكنّ‭ ‬المزلق‭ ‬كل‭ ‬المزلق‭ ‬ألا‭ ‬يعي‭ ‬بعض‭ ‬ممارسي‭ ‬هذه‭ ‬الكتابة‭ - ‬سواء‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الإنتاج‭ ‬أو‭ ‬الاستقبال‭- ‬أنه‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬النص‭ ‬المفتوح،‭ ‬المتجاوز‭ ‬لكل‭ ‬الشروط‭ ‬والمواضعات،‭ ‬ثمة‭ ‬شعرية‭ (‬أو‭ ‬نثرية‭) ‬محايثة،‭ ‬لا‭ ‬تعترف‭ ‬بمفهوم‭ ‬الإحالة‭ ‬إلى‭ ‬التراث‭ ‬النوعي‭ ‬للنص،‭ ‬لكنها‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته‭ ‬تطالب‭ ‬مؤلفها‭ ‬بالاستغراق‭ ‬اللامتناهي‭ ‬في‭ ‬شروط‭ ‬الكتابة‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬هي‭ ‬فعل‭ ‬إبداعي‭ ‬خلاق‭.‬

 

إغواء‭ ‬بريق‭ ‬الحداثة

إنّ‭ ‬ما‭ ‬اصطلح‭ ‬على‭ ‬تسميته‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬النص‭ ‬المفتوح‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬النص‭ ‬عبر‭ ‬النَّوعي‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬‮«‬النص‭ ‬العابر‭ ‬للأنواع‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬‮«‬النص‭ ‬المتعدّي‮»‬،‭ ‬لا‭ ‬يتجاوز‭ ‬كثيرا‭ ‬بعض‭ ‬محاولات‭ ‬الترجمة‭ ‬التي‭ ‬تتقاطع،‭ ‬بطريقة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى،‭ ‬مع‭ ‬المصطلح‭ ‬الإنجليزي‭ ‬Trans‭-‬Generic‭ ‬Text،‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬تسميات‭ ‬واصطلاحات‭ ‬انبرى‭ ‬لها‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬النقاد‭ ‬والدارسين‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬العشرين‭ ‬الأخيرة‭ ‬بالتنظير‭ ‬والتأطير‭ ‬باعتبارها‭ ‬ظاهرةً‭ ‬أنتجتها‭ ‬حقبتا‭ ‬الحداثة‭ ‬وما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة‭. ‬لكن‭ ‬مرجعيات‭ ‬الظاهرة‭ ‬تختلف،‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظري،‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يحاول‭ ‬التأريخ‭ ‬لبداياتها‭ ‬ورصد‭ ‬تجلياتها‭ ‬الإبداعية‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬والأدب‭ ‬العربيين‭. ‬إنّ‭ ‬المظهر‭ ‬الحداثي‭ ‬للنصوص‭ ‬المفتوحة‭ ‬انعكاس‭ ‬وتجلٍّ‭ ‬لتحولات‭ ‬شاملة‭ ‬في‭ ‬صيغ‭ ‬النموذج‭ ‬الإرشادي‭ ‬Paradigm‭ ‬‭(‬بمصطلح‭ ‬توماس‭ ‬كون‭) ‬الذي‭ ‬انبثق‭ ‬من‭ ‬النظم‭ ‬الثقافية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬لمجتمع‭ ‬الحداثة‭ ‬وما‭ ‬بعدها‭ (‬توماس‭ ‬كون‭: ‬بنية‭ ‬الثورات‭ ‬العلمية،‭ ‬ترجمة‭: ‬شوقي‭ ‬جلال،‭ ‬عالم‭ ‬المعرفة،‭ ‬المجلس‭ ‬الوطني‭ ‬للثقافة‭ ‬والفنون‭ ‬والآداب،‭ ‬الكويت،‭ ‬العدد‭ ‬168،‭ ‬ديسمبر‭ ‬1992‭). ‬لقد‭ ‬أغوى‭ ‬الكثيرين‭ ‬من‭ ‬كتّابنا‭ ‬العرب‭ ‬بريقُ‭ ‬الحداثة‭ ‬وما‭ ‬بعدها،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ينشغل‭ ‬المنظِّرون‭ ‬منهم‭ ‬بتأمل‭ ‬الظاهرة‭ ‬في‭ ‬سياقها‭ ‬العربي‭ ‬الأكبر‭ ‬الذي‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬حقب‭ ‬تاريخية‭ ‬أقدم،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تعرف‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬رطان‭ ‬الحداثة‭ ‬وما‭ ‬بعدها؛‭ ‬أقصد‭ ‬إلى‭ ‬ظواهر‭ ‬إبداعية‭ ‬ارتبطت‭ ‬بعدد‭ ‬غير‭ ‬قليل‭ ‬من‭ ‬النصوص‭ ‬والرسائل‭ ‬والمتون‭ ‬التي‭ ‬تولَّدت‭ ‬من‭ ‬رحم‭ ‬حمولات‭ ‬ثقافية‭ ‬ومعرفية‭ ‬أكسبتها‭ ‬أشكالها‭ ‬المائزة‭. ‬لكنّ‭ ‬المُشكِل‭ ‬أنّ‭ ‬الذاكرة‭ ‬القرائية‭ ‬المعاصرة‭ ‬باتت‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬مبدأين‭ ‬اثنين‭ ‬رسَّختهما‭ ‬تكنولوجيا‭ ‬الحداثة‭ ‬هما‭: ‬التصنيف‭ ‬والقولبة‭. ‬بينما‭ ‬النصوص‭ ‬الأدبية‭ ‬أولا،‭ ‬والأنواع‭ ‬ثانيا،‭ ‬تأبى‭ ‬هذين‭ ‬المعيارين‭ ‬بصلافة‭.‬

 

النصوص‭ ‬الأولى

تعود‭ ‬ظاهرة‭ ‬النصّ‭ ‬المفتوح‭  Open‭ ‬Text‭ ‬إلى‭ ‬طرائق‭ ‬اشتغال‭ ‬النصوص‭ ‬الدينية‭ ‬التي‭ ‬نهضت‭ ‬بالأساس‭ ‬على‭ ‬تحفيز‭ ‬المتلقّي‭ ‬عبر‭ ‬تأثيراتها‭ ‬المختلفة‭ ‬في‭ ‬المخيّلة‭ ‬والعقل‭ ‬البشريين،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬دفع‭ ‬المتلقّي،‭ ‬المعلَن‭ ‬أو‭ ‬المضمَر،‭ ‬الحاضر‭ ‬أو‭ ‬الغائب،‭ ‬المتعيَّن‭ ‬أو‭ ‬المسكوت‭ ‬عنه،‭ ‬إلى‭ ‬اتخاذ‭ ‬موقف‭ ‬مغاير‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬والإنسان‭ ‬والله‭. ‬ومن‭ ‬يقرأ‭ ‬مطلع‭ ‬‮«‬سفر‭ ‬التكوين‮»‬‭ ‬مثلا‭ ‬يدرك‭ ‬هذا‭ ‬الهدف‭:‬

‮«‬في‭ ‬البدء‭ ‬خلق‭ ‬الله‭ ‬السماوات‭ ‬والأرض‭. ‬وكانت‭ ‬الأرض‭ ‬خربة‭ ‬وخالية‭ ‬وعلى‭ ‬وجه‭ ‬الأرض‭ ‬ظلمة،‭ ‬وروح‭ ‬الله‭ ‬يرفّ‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬المياه‭. ‬وقال‭ ‬الله‭ ‬ليكن‭ ‬نور‭ ‬فكان‭ ‬نور‭. ‬ورأى‭ ‬الله‭ ‬النور‭ ‬أنه‭ ‬حسن‭. ‬وفصَلَ‭ ‬الله‭ ‬بين‭ ‬النور‭ ‬والظلمة‭. ‬ودعا‭ ‬الله‭ ‬النور‭ ‬نهارا،‭ ‬والظلمةُ‭ ‬دعاها‭ ‬ليلا‭. ‬وكان‭ ‬مساء‭ ‬وكان‭ ‬صباح‭ ‬يوما‭ ‬واحدا‮»‬‭. ‬‭(‬سفر‭ ‬التكوين،‭ ‬الإصحاح‭ ‬الأول،‭ ‬آيات‭: ‬1‭-‬5‭.)‬

ليس‭ ‬‮«‬سفر‭ ‬التكوين‮»‬‭ ‬بعيدا،‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬عن‭ ‬سفر‭ ‬‮«‬المزامير‮»‬‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬لا‭ ‬الحصر،‭ ‬ولا‭ ‬هما‭ ‬معا‭ ‬بعيدين‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬الأناجيل‭ ‬التي‭ ‬يتضمنها‭ (‬العهد‭ ‬الجديد‭)‬،‭ ‬ولا‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬النصوص‭ ‬الدينية‭ ‬بعيدةً‭ ‬عن‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬باعتباره‭ ‬النص‭ ‬الأكبر‭ ‬الذي‭ ‬صدم‭ ‬العرب‭ ‬ببلاغته‭ ‬وأذهلهم‭ ‬بفصاحته‭.‬

وفي‭ ‬السياق‭ ‬ذاته،‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬المتأمّل‭ ‬أو‭ ‬الباحث‭ ‬المدقّق‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬وعلومه‭ ‬أن‭ ‬ينكر‭ ‬على‭ ‬القرآن‭ - ‬بوصفه‭ ‬نصا‭ ‬مفتوحا‭ ‬بامتياز‭ - ‬درامية‭ ‬سورة‭ ‬يوسف‭ ‬مثلا،‭ ‬أو‭ ‬غنائية‭ ‬سورة‭ ‬مريم‭ ‬مثل‭ ‬أغلب‭ ‬السور‭ ‬المكية‭ ‬ذات‭ ‬الجرس‭ ‬والإيقاع‭ ‬الخاص‭ ‬الذي‭ ‬تنتهي‭ ‬به‭ ‬فواصل‭ ‬الآيات،‭ ‬أو‭ ‬ملحمية‭ ‬سورة‭ ‬القصص‭ ‬بمشاهدها‭ ‬المتخمة‭ ‬بروح‭ ‬الفقد‭ ‬ومرارة‭ ‬الفجيعة‭. ‬واستنادا‭ ‬إلى‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬التصور،‭ ‬يمكن‭ ‬إدراك‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬نصوص‭ ‬المتصوفة‭ ‬والفلاسفة‭ ‬العرب،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬أخبار‮»‬‭ ‬الحلاج،‭ ‬و«فتوحات‮»‬‭ ‬محيي‭ ‬الدين‭ ‬بن‭ ‬عربي‭ ‬و«فصوصه‮»‬،‭ ‬و«مواقف‮»‬‭ ‬النفري‭ ‬و«مخاطباته‮»‬،‭ ‬و«إشارات‮»‬‭ ‬أبي‭ ‬حيان‭ ‬التوحيدي‭ ‬و«مقابساته‮»‬،‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬نصوص‭ ‬ورسائل‭ ‬وحكايات‭ ‬ورحلات‭ ‬شتّى‭ ‬‭.