«الحضارة»

«الحضارة»

تواجه قارئ اللغة العربية إشكالات في تحديد معنى المصطلح إذا كان مترجمًا عن لغة أخرى، فتحديد المفهوم أصل للترجمة، لذلك يقع كثير من الباحثين في الخطأ إن ضلّت الترجمة وحادت عن تبيان حقيقة المصطلح. وهذا ما حدث بالفعل عندما بدأت الدراسات الحضارية شق طرقها في موكب الدراسات الأكاديمية، وخصصت لها مقاعد وفصول في أقسام الدراسات الاجتماعية في الجامعات الأجنبية. وعندما انتقلت هذه الدراسات لتأخذ مكانها في الجامعات العربية، كان لزامًا على تلك الجامعات وضع المنهج الموائم لهذا الميدان الجديد (الحضارة).

وعند وضع المنهج تُرجمت أهم المراجع الأجنبية وأُلّفَت الكتب، وبعد التدريس تبين أنّ تلك الدراسات قد تناولت مفاهيم أخرى ألبستها ثوب مصطلح الحضارة، فألبست على الطلبة والباحثين حقيقة المصطلح وغاية المفهوم. كانت الدلالات واضحة بأنّ خلطًا قد حدث في ترجمة المصطلحات، الأمر الذي أدى بالضرورة إلى الارتباك في شرح المعاني. هذا الخلط كان أساسه خطأ في ترجمة المصطلحات: حضارة Civilization ومدنية Urbanization وثقافة Culture، فالحضارة هي المظاهر المادية والميكانيكية التي ابتدعها الإنسان لضبط ظروف حياته. أما الثقافة فهي «العلوم والفنون التي يُطلب الحذق بها»، وعليه فالمثقف هو الحاذق بمعرفة تلك الفنون والعلوم. وبذلك تكون الثقافة هي كلّ نشاط إنساني محلّي نابع من بيئة معيّنة يعبّر عن حياة مجتمع أو أمّة. وعليه فإننا نستطيع أن نصوّر الحضارة عقلاً، يسافر فكره بسهولة ولا يحدّه وطن، بينما الثقافة أشبه ما تكون روحًا تُعبّر عن نفس الإنسان، وبالتالي عن كيان أمّة أو مجتمع. أما المدنية فهي النشاط المادي للمجتمع بما يحمله هذا المجتمع من تطور شكلي في حياة الإنسان، كالمأكل والملبس والمسكن والمعاملات. ولقد أثار تعريف أوسولد شبنجلر Oswald Spengler للحضارة ثورة بين مفكري الغرب. ولكنّه بدلاً من أن يبسِّط في نظريته المفاهيم التي تتعلّق بالحضارة، زاد الأمر سوءًا وتعقيدًا. فشبنجلر في كتابه «انهيار الغرب» The Dicline Of The West يطرح صورة لا تختلف كثيرًا عمّا طرحه ابن خلدون في مقدمته، حيث نراه يوافقه عندما يذكر أنّ الحضارة كائن حيّ يخضع لناموس الخلق في النمو والتطوّر والفناء. أمّا وِل ديورانت Will Durant فيقول في موسوعته الرائعة «قصّة الحضارة» Story Of Civilization، إنّ الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي. ويزيد على ذلك بأنها تتألف من أربع ركائز: موارد اقتصادية، ونظم سياسية، وقيَم وأخلاق (أو دين)، ومتابعة للعلوم والفنون. وبناء عليه، فإنّ الحضارة تبدأ بانتهاء الاضطراب والقلق. بمعنى أنّ الحضارة لا تزدهر أو تتطور مع وجود الحروب والتطاحن أو الأوبئة والمجاعات. ويوافق قسطنطين زريق ما أورده ديورانت في تعريفه، ولكنّه يضيف أنّ ديورانت إنّما اقتصر تعريفه على المعنى الوصفي للحضارة. ويزيد زريق أنّ هناك معنىً آخر، وهو المعنى التقييمي، الذي من خلاله يمكننا معرفة وقياس مدى تفوّق حضارة عن أخرى. والمعيار هنا يكون دائمًا بقياس التقدم والانحطاط، والازدهار والذبول في أيّ مجال من المجالات، وهي العناصر، التي تقوم عليها الحضارة. وعلى الرغم من كل التعريفات، فإننا نراها تدور في إطار تعريف ابن خلدون. فالحضارة عند ابن خلدون عبارة عن كائن حي يمر بأدوار النمو والتطوّر، ولادة وطفولة وصبا وشباب ورجولة وكهولة. هكذا، وبما أنّ ابن خلدون قد شبهها بالكائن الحي، فإننا نضيف على تلك المراحل مرحلة «الموت». نعم، تموت الحضارات قتلاً وانتحارًا. وعلى ما ذكرنا فإننا نرى أنّه باستطاعتنا تعريف الحضارة على أنّها الأنماط الحياتية التي تتبعها المجتمعات، توارثًا وإبداعًا، لترقى إلى حياة أفضل، مما يؤكد أنّ حضارة الإنسان عبارة عن سلسلة من الإنجازات تمتد حلقاتها بامتداد تاريخ البشرية، وتتوزع حلقاتها بتناسق عبر جغرافية العالم وتاريخه. وقد توارث إنجازات تلك الحضارات العديد من الأمم، لتنقل معطياتها من قواعد القيم الإنسانية الثابتة وتنتجها إبداعًا في العلوم المبتكرة، عند ذلك تترسخ القيم وتتطور العلوم، ويستمر الإبداع الحقيقي لنشاط الإنسان عبر العصور. أمّا التميّز في بعض الحضارات، وهو المعيار التقييمي الذي ذكره زريق، فيتمثل في المعمار والهندسة عند الفراعنة، والتنظير والفلسفة عند اليونان، والصناعة عند الصين، وأصول الحكمة وعلوم الفلك عند الهند، وما إلى ذلك. ليست هناك حضارة إنسانية تقوم دون أن تتوافر لها بيئة طبيعية ملائمة، تتلاءم مع ظروف الإنسان والمجتمع واحتياجاته المادية من غذاء وسُكنى وكساء. وقد نرى أنّه غالبًا ما يكون من المستحيل نشأة الحضارة بعيدًا عن مصادر المياه الطبيعية، كالأنهار والينابيع، فمنها يستطيع الإنسان أن يجد مجالاً للصيد والرعي والزراعة. ونستثني من ذلك بعض الحضارات التي قامت في أماكن استراتيجية كانت أساسًا ملتقىً للقوافل التجارية. كما نلاحظ أنّ الحضارات عادةً ما تنشأ بعيدًا عن أماكن تقلبات البيئة الطبيعية، بأن تكون في مأمن عن أماكن الزلازل والبراكين والفيضانات والتصحُّر. لذلك، فإنّ مستوى الحضارة يتناسب تناسبًا طرديًا مع سهولة البيئة الطبيعية، فكلما كانت البيئة الطبيعية أيسر وأغنى، ارتفع المستوى الحضاري للمجتمع. ولا تقوم الحضارات بمظاهرها، بل بنظامها وقيمها، فعلينا أن نؤكّد أنّ هناك مجموعة من المقومات لا يمكن لأيّ كيان حضاري أن يتقدم بمنأى عنها. فلا يمكن أن تستغني أيّ حضارة عن المقومات الأخلاقية والاقتصادية والسياسية والثقافية. إنّ أخلاق المجتمعات الحضارية عبارة عن تلك القيم التي ترسم للفرد والمجتمع مثالية السلوك الإنساني. وعادة ما تدوّن تلك القيم على شكل شرائع دينية أو قوانين يلتزم بها أفراد المجتمعات، تنظم معيشتهم وحياتهم اليومية. إنّ التزام الأفراد بالقانون ومواده أو الشريعة وأحكامها، إنّما يأتي خشية الغرق في خضم الفوضى وضياع الحقوق، وطمعًا في حياة آمنة مستقرة، فالالتزام بالقيَم والأخلاق وعي أدبي لمجتمع راقٍ. والملاحظ أنه كلما ضعف التمسك بالقيم الاجتماعية والأخلاق، تزايدت حركة وضع القوانين وسنّ الشرائع. ولا يمكن لأي أمّة أن تتقدم وتحتفظ بحضارتها إلاّ إذا تأصلت قوانينها وشاعت قيمها الخلقية، فعنصر الثبات واستقرار المجتمع الروحي أصل لقيام الكيان الحضاري، وإذا كان القانون أساس التزام المجتمع، فالدين أساس أخلاق أفراده. ولعل ذلك يرجع إلى أنّ صلة الدين بالأخلاق صلة وطيدة، فمن الأخلاق تكون الرقابة الذاتية على النفس البشرية وتصرفاتها. والحقيقة أنّ مفهوم الأخلاق مفهوم نسبي بين مجتمع وآخر، وبذلك تتفاوت مقاييس السلوك من ثقافة إلى أخرى، وبالتالي من حضارة إلى حضارة. والجدير بالذكر أنّ بعض الحضارات قد انهارت، من خلال التزمت والتطرف في استخدام سلطة القانون، مع البعد عن روح أصل التشريع في خدمة الإنسان والمجتمع، فشريعة حمورابي أنهتها ممارسة الكهنة في تعسفهم لفهم مواد الشريعة، وأخذهم بالأصعب والأحوط، فاتخذوا الورع وسطية، وعدّوا الإبداع بدعة. أما الرومان، فقد كانت معرفة مواد قانون الدولة حصرًا على الأرستقراطيين دون فئات الشعب الأخرى، فتفردوا بالسلطة وشاع الظُلم. ولم تقم حضارة عصر النهضة الأوربية إلا عندما بالغ رجال الكنيسة بتسليط سيف الدين على رقاب المؤمنين بقصد الأخلاق، وعندما ساروا على نمط الرومان في عدّ الإبداع بدعة، حيث وصموا بالكفر معظم الكتابات الأدبية والاكتشافات العلمية، الفلكية والطبية والكيميائية والفيزيائية. إنّ الدين آلة يحتاجها الإنسان للنهوض بحياته، ولم يكن يومًا سيفًا مصلتًا على رقاب المؤمنين يزيدهم رهقا. 
ولا تنهض الحضارة دون المرور بمراحل اقتصادية تتطور بتطور المجتمع، وتبدأ تلك المراحل بالصيد ثم الرعي ثم الزراعة ثم الصناعة، حيث يعتبر المجتمع الصناعي أرقى المجتمعات الحضارية، ومن التنوع تقوم التجارة ويأتي الكسب. ولا تستقيم الحضارة إلا بوجود دولة تمثل السلطة الاجتماعية التي تتكفّل بحماية الحقوق وفرض الواجبات لأفراد المجتمع. وقد تأخذ هذه السلطة أشكالاً مختلفة أو تتبع أساليب معينة وفق حاجة المجتمع أو أدائه، من هنا نشأت الأنظمة السياسية بأنماط مختلفة، فمنها الأوتوقراطي الفردي، كما في أغلب الحضارات البائدة، ومنها الديمقراطي الذي بدأ بأثينا وتطور على مر الزمان إلى اليوم، والنومقراطي القانوني الذي دعا إليه حمورابي، والأوليجاركي النخبوي الذي حبذه أفلاطون، والثيوقراطي القائم على سلطة ممثلي الشرائع الدينية، وغير ذلك من الأنظمة السياسية التي واكبت حاجات مجتمعاتها. ومن مقومات الحضارة الأساسية النشاط الفكري والفنّي، وما يصدر عنه من ضروب الإبداع في المعرفة والتصورات الجمالية. وداخل هذا النطاق تكون الفلسفة والفن باختلاف المذاهب والألوان. ولا بدّ لنا أن نؤكد أنّ مظاهر الحضارة هي التي تحدد ثقافة مجتمعاتها، فتراها بصمات في العلوم والفنون. وقمة منحى أي حضارة لا تكون إلا من خلال ظواهر الفنون وأشكالها الأدبية والعلمية، فمجتمعات الجوع والحرب والمرض لا تنتج فنّاً. إنّ هلاك الحضارة يبدأ بالطغيان، والطغيان ألوان من صنيعة الإنسان، فحين نعلم أنّ قمّة مدارك الغايات هي نفسها بداية المنحدر والانهيار، نتأكد من أنّ الاستقرار على القمة أمر صعب جدًا. وعندما ذكرنا إنّ نهاية الحضارة موتها، وأنّ هذا الموت لا يكون إلا بالقتل أو الانتحار، فإننا نقصد أنّ قتل الحضارة عادة ما يكون بغزو شعب أدنى لشعب أرقى منه فكريًا وعلميًا وثقافيًا، يمحو ملامح التقدم والتطور ليقتات على فتات الغنيمة، وما إن تنضب الموارد، حتى تترك الأرض أطلالاً، أما انتحار الحضارة فيكون من شعبها؛ بطرًا وترفًا ولا مسؤولية، وهذا ما كان في أغلب الحضارات. الحضارة الرومانية على سبيل المثال أطاح بها الترف، حتى أنّ المواطن كان يوكل مهامه وشؤون بيته إلى الخدم والعبيد، ليتفرغ إلى نزواته ورغباته الترفيهية. والأمر نفسه قد حدث للمسلمين في الأندلس، ويتكرر في التاريخ .