العرب... ضحية عصر الهويات المتقوقعة

العرب... ضحية عصر الهويات المتقوقعة

نعيش في زمن غريب جداً، تحركه تيارات متضاربة وتحفزه تغيرات تقنية وفكرية، إن مناخات العالم جميعها واقعة في خضم التطور والاضطراب، وخاصة في عالمنا العربي. لكن التناقض الكبير الذي نحياه اليوم يتمثل في تزايد التقوقع على الهويات الفرعية المذهبية والإقليمية والعرقية والعشائرية وتزايد الاحتفالات بذاكرات أمجاد تاريخية ولّت، وهذه الظواهر تترافق مع انتشار العولمة الاقتصادية والمالية، هو في الأرجح من نتاجها.

في فهم تناقضات ومفارقات القرن الواحد والعشرين، يُعاد اليوم إحياء الذاكرات التاريخية، إلا أن التاريخ يكتسب وبشكل متزايد صيغة ملحمية ووظيفة الإشراف على التصرفات والعقائد السياسية، وعلى سبيل المثال أصبحنا نقبل - بحماس - بظاهرة عودة الدين، إلا أن الفكر اللاهوتي وما يجب أن يتفرع عنه من تقدم في الأخلاقيات يبقى جامداً بل متشدداً ومتزمتاً في كثير من الأحيان، مبنياً على القراءة الحرفية والسياسية للنصوص الدينية الكبرى، على غرار ما تفعله الصهيونية بدلاً من القراءة الروحية والأخلاقية والرمزية، فتصبح ظاهرة عودة الدين هي في الحقيقة عودة التشدد والراديكالية لسد الفراغ في إنسانوية عامة فقدت بريقها من جهة أخرى، (جورج قرم، المسألة الدينية في القرن الواحد والعشرين، دار الفارابي، 2007).
نُثني علانية على مزايا الليبرالية، إلا أننا أمام تفشي مظاهر الإفقار والإقصاء، وتزايد تجمع الثروات في أيدي قلة قليلة، وانتشار الفساد وسوء استخدام الممتلكات الجماعية في الحياة الاقتصادية. نُهنئ أنفسنا بالانتشار التدريجي للديمقراطية أو الانتقال إليها في الدول الاستبدادية تقليدياً، إلا أن الصراعات العرقية والدينية والمذهبية تتضاعف، وهذه حالة العالم العربي بشكل خاص، كما يسود العلاقة بين الشرق والغرب جو صراع الحضارات، وبشكل خاص بين العالم الغربي، أي أوربا والولايات المتحدة وإسرائيل، وهو عالم يسمى في الأدبيات الإسلامية بالعالم اليهودي - المسيحي من جهة، والعالم العربي - الإسلامي من جهة أخرى، ما يجعلنا نتساءل عما إذا كان العقل ودولة القانون وحماية الفرد ونشدان القواعد العادلة في العلاقات بين الأمم مازالت أهدافاً واقعية؟ هل بوسعنا أن نبقى «فارابيا» (نسبة إلى الفيلسوف المسلم الفارابي الذي كتب المؤلَّف الشهير المدينة الفاضلة) أو «كانطياً» (نسبة إلى إيمانويل كانط) وأمميا في عالمنا المخيف هذا؟ وهل لايزال بإمكاننا أن نؤمن بقيم المواطنة والدولة المدنية دون أن نبقى ملتزمين بقيم العلمانية المؤسسة لمبدأ المواطنة، في حين أنها موضع جدال عنيف، لا بل كره لدى بعض الأوساط المتدينة اليهودية والمسيحية والإسلامية؟

العلمانية والدنيوية ... مفهومان مختلفان
يُخيم ارتباك فكري واضح على المفردات التي تهدف إلى تحديد نموذج إدارة المجتمع وعلاقاته بالنصوص المقدسة، فالدنيوية مفهوم أنجلوسكسوني وألماني مستوحى، بصورة عامة، من قيم الكنائس البروتستانتية المختلفة. يظهر هذا النموذج، في الرأي الشائع، على أنه أكثر مرونة ومراعاة للدين من نموذج العلمانية المستلهم أساساً من فرنسا. يُفترض أن الدنيوية قد حققت توازناً أفضل بين إجلال الإيمان الديني من جهة والحرية الفردية من جهة أخرى، وذلك على خلاف العلمانية الفرنسية المصدر، فهذه الأخيرة لم تتوصل في الواقع إلى التخلص من تهمة معاداة رجال الدين وعدم احترام القيم والمعتقدات الدينية.
والجدير بالملاحظة ما يحصل حالياً من تفكيك المجتمعات إلى كيانات طوائفية متفرقة يشجعها النموذج الإمبريالي الأميركي، السياسي والثقافي، حيث تعرِّف الأمة الأمريكية ذاتها بأنها «أمة مؤمنين»، وقد وضعت قيد التنفيذ مبادئ الدنيوية المدنية، ليس إيماناً بها، وإنما حرصا على حرية المعتقد. ومع هذا، كما سنرى، عززت مبادئ الدنيوية التجمعات الطائفية على حساب حياة المواطنة في المجتمع. لهذا، فإن انتشار الثقافة الأنجلوسكسونية المعاصرة فتح الباب أمام كل أشكال تطييف المجتمعات التي تمارس وتشجع على نطاق واسع من قبل الولايات المتحدة وحلفائها داخل أوربا وخارجها بما فيه العالم العربي، لأنها تُسهل الإدارة الإمبريالية للعالم بالقضاء على القوميات التقليدية التي كانت تؤمِّن سيادة وتماسك الدول أمام الأطماع الاستعمارية الغربية.
إن هذا النموذج يتعارض مع نموذج العلمانية، ذي النظام المبني على فكرة المواطنة والدولة المدنية، والذي ينتسب إلى «الأممية» (Cosmopolitisme) بأسمى معاني المصطلح، أي المعنى الذي أعطته الفلسفة «الكانطية» للعلاقات الدولية الهادفة إلى إرساء السلام الدائم بين الأمم أو الدول. لذلك من الضروري شرح هذا التعارض بين النموذجين لكي ندرك الرهانات العظمى لمعركة الأفكار والسلوكيات الدائرة أمام ناظرينا بطريقة معقدة ومشوشة إلى حد ما على مستوى المفهوم. ولعل في هذا التوضيح ما يفيد حل مشكلاتنا العربية وإيقاف تعميم حالات العنف والحروب الأهلية التي تأخذ الشكل المذهبي في ما بين المسلمين العرب أنفسهم.
هذان النموذجان وليدا الحروب الدينية الطويلة التي مزّقت أوربا قرابة مائة وخمسين عاما. لقد حطمت الثورات البروتستانتية المتتالية احتكار الكنيسة الرومانية لفرض المعتقدات الدينية بحذافيرها على المجتمع. لكن «الإصلاح» البروتستانتي أدى إلى تجزؤ المجتمعات المسيحية إلى كنائس مختلفة ومتنافسة في ما بينها. فبعد أن رفضت العقيدة البروتستانتية سيادة البابوية، وأنكرت عليها أي حق في تحديد عقيدة الكنيسة، لم يعد بمقدور منطق الثورة البروتستانتية إلا أن يُفضي إلى تجزئة المسيحية إلى كنائس مختلفة مستقلة ومتزاحمة في ما بينها.
لكن للمفارقة، بدلاً من أن يُفضي هذا التشرذم إلى إضعاف توظيف الدين في الحياة السياسية والاجتماعية، فإنه آل إلى تكثيفه. فالكاثوليكية الرومانية كانت قد فصلت سلك رجال الدين عن بقية أفراد المجتمع، وصاغت لنفسها مجتمعاً دينياً، مميزاً ومستقلاً عن سائر فئات المجتمع بقواعده الخاصة به ومؤسساته الاقتصادية والاجتماعية وتسلسله الهرمي، بل وحتى عن طبقة نبلائه (تستخدم اللغة الفرنسية كلمة «علمانيون» (laiques) للدلالة على عامة الشعب غير المنضم داخل سلك الكهنة).
ألغت البروتستانتية هذا الفرز، ابتداء بإزالة الطابع القدسي عن ممتلكات الكنيسة الرومانية التي استولت عليها طبقة النبلاء المدنية التي كانت تحكم آنذاك مختلف الأقاليم الأوربية. في الأصل إذن، تفيد كلمة «إزالة الطابع القدسي» 
أو الدخول في «الدنيوية» (Secularisation) عملية نقل ثروة الكنيسة إلى السلطات السياسية القائمة وإلى المجتمع المسمى «مدنياً». أفضى هذا التطور، بشكل منطقي جدا، إلى دمج المجتمع الديني في المجتمع المدني، اجتماعياً واقتصادياً.
هكذا، أضحى الدين في المجتمعات البروتستانتية جزءاً لا يتجزأ من حياة المجتمع، ولم يعد مفصولاً عنها كما كانت الحال في البلدان الكاثوليكية. وأصبح القساوسة البروتستانت يعيشون داخل المجتمع وليس خارجه، كما هي حال كهنة الكاثوليك، وذلك على غرار وضع المجتمعات المسلمة، حيث الفقهاء ورجال الدين لا يعيشون منفصلين عن سائر فئات المجتمع. أما السلطة الروحية التي كانت تمسك بزمام السلطة الزمنية فقد تلاشت في البلاد البروتستانتية، ووجدت السلطة الزمنية نفسها مجبرة على أن تضمن للدين موقعاً مركزياً في الحياة الاجتماعية، كما هي أيضا الحال في الدول الإسلامية. وأصبحت النماذج السياسية المفروض اتباعها تُنهل من التوراة.
علاوة على ذلك، لم تتمكن قط القومية الإنجليزية أو الأمريكية من التحرر من الفكرة الدينية القائمة على اصطفاء الله لهذين الشعبين وقدرهما في الترقي الحضاري والفتح والهيمنة على سائر مناطق العالم، شعور انبعث من القراءة المكثفة والحرفية في أغلب الأحيان لنص التوراة.
في الولايات المتحدة الأمريكية، وبسبب تعددية انتماءات المستوطنين لكنائس بروتستانتية مختلفة، متنافسة في ما بينها في أغلب الأحيان، كرست حكمة الآباء المؤسسين حرية الضمير والمعتقد الديني، ورفضت أن يكون للدولة دين ومرجعية كنسية تجنباً لإثارة حروب لا نهاية لها بين الكنائس المختلفة ومفاهيمها المغايرة للعقيدة المسيحية. بهذا ضمنت السلطات التأسيسية السلم الاجتماعي والديني في فترة كانت لا تزال فيها كل كنيسة بروتستانتية في مرحلة النضال والتنازع، والتي حافظت عليها بعض الكنائس إلى يومنا هذا في الولايات المتحدة الأمريكية.
أما البلاد التي بقيت كاثوليكية فقد تطورت بطريقة مختلفة بالكامل، واستمر فيها لمدة طويلة التنافس بين السلطتين الزمنية والدينية بلا هوادة، بعد أن بدأت الثورة الفرنسية في الحد من النفوذ الكبير لرجال الأكليروس في حياة المجتمع. وطوال القرن التاسع عشر كانت هناك  حركة مد وجزر في هذه المعركة لتحييد الدين والمشاعر الدينية في الساحة السياسية. وقد بدأ النموذج العلماني الفرنسي يستقر تدريجياً، إذ استطاعت الدولة في عام 1875 أن تفرض تعليماً علمانياً مبنياً على مفهوم الاشتراك المتعادل في المواطنة والولاء للقيم الديمقراطية الأساسية من مساواة بين المواطنين من أديان ومذاهب وأعراق مختلفة, واعتماد مبدأ تداول السلطة بين القوى السياسية الاجتماعية المختلفة.

العلمانية في العالم الإسلامي
أما في البلدان المسلمة، فقد اكتسبت العلمانية في غضون العقود الأخيرة سمعة سيئة جدا، وخاصة أن إحياء تقاليد الفكر المعادي لعصر الأنوار الذي يتسم به الفكر الغربي المحافظ الجديد (Neo-conservative) جعل مصطلح العلمانية مرادفاً لنظام سياسي يكن العداء للدين ويضطهد رجاله ويخضعهم لرقابة الدولة ويحاول الحد من إيمان المواطنين بقيم دينية متعالية، كما حصل في الاتحاد السوفييتي. بل أخطر من هذا، حيث يتم النظر إليها كعنصر من عناصر الاستبدادية والفكر الطوباوي التقدمي، مصدر مأساة العالم. وتتفق إجمالاً الأحزاب الإسلامية السياسية في هذه النظرة السلبية إلى العلمانية التي تعتبر شكلاً من أشكال الإلحاد الضار الذي تجب مكافحته، وتعتبر أيضاً أن تبني العلمانية عملية تشويه واغتراب للشخصية الإسلامية، إذ تفقدها هويتها وخصوصيتها. وقد كان د. عبدالوهاب المسيري قد تصدى للعلمانية في كتابات مختلفة وغزيرة، (د. عبدالوهاب المسيري بالاشتراك مع د. عزيز العظمة، «العلمانية تحت المجهر»، دار الفكر، دمشق، 2000)، وبشكل معاكس قام د. العظمة في كتاب مميز بعنوان «العلمانية من منظور مختلف» بالدفاع عنها، 
(د. عزيز العظمة، العلمانية من منظور مختلف، دار الطليعة، بيروت، 1992).
ومع هذا، خلافاً لنظام سياسي يقوم على الدنيوية (Secularism)، ما من نظام أوضح من النظام العلماني. لكن يتعين، كما أشرنا، توضيح بعض مبادئه بشكل صحيح لإدراك الدور البنَّاء الذي يمكن أن تلعبه العلمانية في الحد من أشكال الاستبداد الجديد ومن استخدام الدين لأغراض سياسية سلطوية في حياة المجتمعات.

مزايا النظام العلماني
نرى مزايا جوهرية مهمة في النظام العلماني ينبغي التأكيد عليها، حيث إنها تميز العلمانية عن نظام الدنيوية. إن أولى هذه المزايا التأكيد على الإنسانية كمبدأ ينظم المجتمعات ومصدر للأخلاقيات والسلوكيات. بموجب هذا المبدأ، تحرم كل رؤية تراتبية للحضارات والأعراق والثقافات والأديان ومذاهبها المختلفة، فخلف كل خصوصية من هذه الخصوصيات رجال يتساوون في إنسانيتهم، انطلاقاً إذن من هذا المبدأ واعتماداً على نموذج التفكير الفلسفي المؤمن دينياً، على غرار الفلاسفة المسلمين القدماء أو على غرار الفيلسوف الألماني الكبير «كانط» (kant)، يمكننا تأسيس نظام أخلاقي وسلوكي مستقل، وإقامة نظام المواطنة، والسلم الاجتماعي داخل كل مجتمع وكذلك في علاقات المجتمعات بعضها مع بعض.
الميزة الثانية هي إنشاء فضاء عام مستقل عن الفضاء الخاص يسمح بنشر المواطنة، أي حالة المساواة والعمل التي يجب أن تسود بين البشر بغضِّ النظر عن هويتهم الدينية والمذهبية أو العرقية. إن الفصل بين الفضاءين ضروري لازدهار المواطنة، ففي الفضاء الخاص، يستطيع المواطن ممارسة كل الخصوصيات التي يرغب فيها. في المقابل، في الفضاء العام، يجب أن يضع المواطن جانباً معتقداته وتقاليده الخاصة، حيث إنه مواطن ذو سلوكية تنشأ عن تربية مدنية اكتسبها من اخلاقية الصالح العام في المجتمع وعلاقاته مع محيطه الطبيعي، بما فيها الاحترام الكامل للمؤمنين وعقيدتهم الدينية وخصوصيتهم المذهبية.
ينبغي بالطبع أن نفهم اليوم الفضاء العام على أنه ليس فقط المدرسة العامة والخدمات العامة وأجهزة الدولة، بل فضاء الإعلام على اختلاف أنواعه. فإذا كان الإعلام ينقل قيما ذات طبيعة خاصة أو دينية أو عرقية، فهذا يعني أنه يستخدم الفضاء العام كوسيلة لتوثيق الروابط العرقية أو الدينية أو للترويج لهذه الروابط على حساب الشعور بالمواطنة.
وهناك ميزة ثالثة للنظام العلماني هي، أخيرا، السعي الدؤوب وراء الصالح العام داخل المجتمعات وبين المجتمعات، ففي الفضاء العام تناقش شؤون المجتمع، وتعد فيه قواعد الأخلاق العامة التي نستقي منها القوانين والأنظمة الواجب تطبيقها، وكذلك السياسات التي يجب تنفيذها للتوصل إلى ما يُعرف بالصالح العام، أي الهدف المنشود لتحسين حياة المواطنين وتأمين رفاهيتهم النفسية والمادية وحماية التضامن الوطني في وجه التحديات الخارجية.
نرى من خلال هذه المبادئ الثلاثة الفرق الفاصل بين نظام إدخال الدين في الدنيوية المدنية (Secularism) وبين نظام علماني (Laicite). ففي النظام الأول تكون الهوية والقيم الدينية في قلب الحياة العامة، حيث يمكن توظيف الدين والأصول العرقية مباشرة في المجادلات أو المنافسات السياسية. أما في النظام العلماني، فالدين والأصول العرقية تبقى قيد الفضاء الخاص. في الحالة الأولى، تُشجع الطائفية بجميع أنواعها وتُشجع كذلك جماعات الضغط الخاصة بها للإدلاء بآرائها في الفضاء العام وتوظيفه في المعترك السياسي. أما في الحالة الثانية، فهي تُشكل عقبة خطيرة أمام تنمية الشعور بالمواطنة ووحدة المجتمع.

ثقل التقاليد الاستعمارية في الأنظمة الطائفية
لعبت فرنسا الاستعمارية ورقة الطائفية والمذهبية والمناطقية والعشائرية في بلدان البحر الأبيض المتوسط، وأثارتها حيث لم تكن موجودة. هكذا مثلا في المغرب، لعبت ورقة الفوارق بين العرب والبربر، وأنشئت دوائر انتخابية منفصلة بين المستوطنين و«السكان الأصليين»، ولم تعط حق ممارسة المواطنة الكاملة، بموجب مرسوم أدولف كريميوه (Adolphe Cremieux) الشهير،  إلا لأبناء الجالية اليهودية منهم. وفي المشرق العربي، وخاصة في سورية ولبنان، نصَّبت فرنسا نفسها حامية «مسيحيي الشرق»، باعتبارها ابنة الكنيسة البكر، ومالقت الموارنة لتجعل منهم دعائم نفوذها في المنطقة، ثم عملت مع إنجلترا على تقسيم جبل لبنان إلى مقاطعة «مارونية» ومقاطعة «درزية» (بين عامي 1840 و1860)، قبل أن تكفل تأسيس مجلس تمثيلي طائفي إلى جانب الحاكم العثماني بعد أن اشترطت على السلطنة العثمانية أن يكون الحاكم من الطائفة المسيحية حصراً (1861)، وأخيرا خلال انتدابها على سورية ولبنان (1919 - 1943)، جهدت في «بلقنة» سورية إلى دولة درزية ودولة علوية ودولتين سنيتين، أما في لبنان، فقد جعلت من النظام الطائفي الذي ساهمت إلى حد كبير في تشكيله، قاعدة لكل نظام عام لبناني حديث، نظام لم يعد يستطيع البلد التخلص منه إلى الآن.
والحقيقة أنه في الزمن الحاضر وتحت تأثير النظريات السياسية الأنجلوسكسونية تحول حق المساواة في المواطنة إلى حق الاختلاف بين المجموعات الدينية والمذهبية والعرقية ضمن إطار إدارة التنوع والمجتمع التعددي، كما نظر له العديد من أساتذة العلوم السياسية في الغرب (ومنهم بشكل خاص شارل تايلور (charles  Taylor, أرنت  ليجبرت  (Arendt Lijphart). وبهذا التطور فقد الفضاء العام في الأنظمة الديمقراطية تماسكه ليتحول إلى فضاء مواجهة بين شتى الخصوصيات، الثقافية أو العرقية 
أو الدينية، وبين مصالح اقتصادية ومصالح مادية خاصة، بين قوى ضغط «لوبي» يعمل لمصلحة دول أجنبية أو لمصلحة قوى جيوسياسية أو لمجموعات أسستها الدولة واعترفت بها ولم تعد تخفي ارتباطها بمثل هذه المصالح.
لنذكّر هنا بتأثير الديمقراطية الأمريكية الهائل في أوربا، وقد انتظمت تبعاً لألوان الكنائس البروتستانتية المختلفة التي أسست في القارة الجديدة بفعل موجات الهجرة المتتالية، ثم تطورت اعتماداً على الولاءات العرقية (السود والبيض) أو العرقية - الوطنية (الإسبان والألمان والأيرلنديون والإيطاليون ... إلخ) أو الولاءات الدينية لمهاجرين آخرين (اليهود والمسلمون والهندوس والبوذيون ... إلخ). إن الحرية في الولايات المتحدة الأمريكية هي قبل كل شيء حرية التجمع العرقي أو الديني الذي يصوغ عادات الأفراد وطرق عيشهم.
من خلال هذا التطور الخطير أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية تفرز في آن معا، ثقافة الانتشار الإمبراطوري وثقافة الطائفية، ما قضى على فضاء عام حقيقي يجمع الأمريكيين حول قيم المواطنة. أليست نسبة مشاركة المواطنين المنخفضة جداً في الانتخابات في الولايات المتحدة الأمريكية خير دليل على هذا الفراغ الهائل الذي يرهق الديمقراطية الأمريكية؟ إن هيمنة المال على انتخاب رأس الدولة السياسية وأداء الحزبين اللذين يسيطران على الحياة السياسية هو عيب آخر من عيوب النظام الأمريكي، عيب بدأ يجتاح أوربا ويُتلف الديمقراطية في بلدان عديدة من دول العالم الثالث وفيها دول عربية.

توظيف الدين في السياسة 
في الشرق الأوسط، قد يتحدد مستقبلاً مصير قيم المواطنة ومصير دعامتها الرئيسة، العلمانية، بداية، لأن الصراعات المتكررة التي تمزق هذه المنطقة من العالم تُفسر من خلال شبكة إدراكية تمزج بشكل صارخ استدعاء القيم الدينية والمذهبية في عرض المعطيات وتحليلها. وهذا من شأنه أن يشمل الحس النقدي لدى المواطن في ما يخص السياسة التي تقودها حكومته، غربية كانت أم شرقية، في هذه المنطقة المضطربة من العالم. من الحروب الصليبية إلى «قضية الشرق» في القرن التاسع عشر ومفهوم «حرب الحضارات» الرائج جداً اليوم، هو المزج نفسه بين السياسة والدين، مزج يشمل الفكر النقدي والتفكير المواطني ويحول دون إرساء الفكر المدني الدنيوي في المجتمعات التوحيدية الأوربية والأمريكية والشرقية المسلمة.
ولنتذكر هنا كم كانت حركة القومية العربية تناضل من أجل استقلال البلاد العربية التي كانت ترزح جميعها تحت نير الاستعمار الفرنسي أو البريطاني وتوحيدها في كيان واحد، وكان هذا النضال خالياً كلياً من أي صبغة دينية. والحال نفسها في ما يتعلق بحركة عدم الانحياز التي أسست عام 1955 في مدينة بان دونج في إندونيسيا المستقلة حديثاً حينها، إذ كانت تحتضن كل دول العالم الثالث المستقلة حديثاً. ولم تكن خطاباتها الادعائية ضد الدول الصناعية التي كانت سابقاً قوى استعمارية، بما فيها خطابات أهم أقطابها، مثل الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، تشير بطريقة أو بأخرى إلى دين أو قيم دينية. ولم تكن تُفسر الاستعمار أو النضال من أجل التحرير الوطني من باب القضايا الحضارية أو القيم الثقافية والدينية.
بل على العكس، كان خطاب حركة عدم الانحياز وممثلي الدول الأعضاء مبنيا على مبادئ الثورة الفرنسية وفلسفة الأنوار الكبرى، علمانياً في جوهره، كان الخطاب يتمحور حول قضايا التوزيع العادل للثروات بين الدول الصناعية والدول النامية، وحق سيادة الدول على ثرواتها الطبيعية، والثمن العادل للمواد الخام، وحول مواضيع دنيوية أخرى لا تستدعي سوى مبادئ العدالة العالمية التي أرستها الأنوار والثورة الفرنسية والفكر الكانطي.
هذه المساهمة المهمة في انتشار الفكر الدنيوي في العالم، تم التصدي لها من خلال سلسلة من العوامل المناوئة التي حفزت إعادة إرساء استخدام القيم الدينية في الجيوسياسية الدولية. وقد تم استخدام الديانات التوحيدية الثلاث في الحرب الباردة للقضاء على الاتحاد السوفييتي، وازداد عدد الدول ذات الأسس الدينية العابرة للأوطان وتم إنشاء منظمة دولية تقوم على الرابط الديني.
أدت هذه الدينامية في الضفة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، بوابة الشرق، إلى تفكك يوغوسلافيا عام 1992، وهي كارثة لم نسبر بعد كل عواقبها، حيث أنها تمت على أسس واعتبارات دينية محضة بغية فصل الصرب الأرثوذكس عن الكرواتيين والسلوفانيين الكاثوليك، وكذلك فصل مسلمي البوسنة وكوسوفو، وفي جو من العنف النادر الذي شجعه دون أدنى شك سكوت بعض دول الاتحاد الأوربي والنشاط العسكري والسياسي لبلدان أخرى لمصلحة هذا الطلاق الدامي.
وهي أيضا هذه الدينامية التي أدت إلى تطبيق متباين للقانون الدولي تبعاً للانتماء العرقي والديني للدول المعنية. إن الشرق الأوسط يتخبط اليوم في جو ديني متزمت وغيبي. في هذا السياق، وقعت أحداث 11 سبتمبر 2001 الإرهابية، التي سمحت لفرضية صموئيل هانتنجتون عن صراع الحضارات أن تكتسب شعبية غير متوقعة وتدخل في التحليل الجاري لصراعات الشرق الأوسط. وينبغي ألا ننسى أن وراء هذا السياق والقيم الدينية التي يستنجد بها تجري معارك طاحنة ودنيوية محضة من أجل السيطرة على منطقة الشرق الأوسط التي تحتوي على أكبر مخزون للطاقة في العالم، وكذلك على مفترق الطرق الجغرافي الاستراتيجي بين القارات الثلاث، أوربا وآسيا وإفريقيا.

إيقاف تفتيت العالم  إلى طوائف
نحن اليوم أمام منعطف ينبغي علينا أن نحافظ فيه على قيم المواطنة المتساوية وإنقاذها من التجزئة التي تستولي على العالم منذ 
عقود عدة من خلال النهج الأعمى الذي تسير عليه العولمة الاقتصادية بالتكاتف مع تثبيت الأحادية السياسية الأمريكية الآخذة في سيلها الاتحاد الأوربي. ينبغي كذلك أن نحافظ على المبادئ الأخلاقية الإنسانوية التي تم إرساؤها بعد الحرب العالمية الثانية، قبل أن يتم توظيف الدين في محاربة الاتحاد السوفييتي وانتشار العقيدة الشيوعية في العالم الثالث. علينا أيضا أن نحافظ على نموذج المجتمع التعددي القائم على المواطنة ونحميه من غزو نموذج المجتمع المتعدد الثقافات على الطريقة الأنجلوسكسونية، التي في أغلب الأحيان ليست سوى عبارة عن تكتلات معزولة (جيتو) منغلقة على نفسها.
بالطبع، إن النموذج الأنجلوسكسوني الحالي يفضل شرذمة المنطقة الجغرافية الواقعة تحت هيمنته على قاعدة طائفية أو عرقية أو دينية، وكذلك العديد من النماذج الإمبراطورية في التاريخ. هذا من شأنه أن يُسهل الحفاظ عليها، بل تعزيز الهيمنة والسيطرة على الطوائف التي تدور في فلكه، في حين أن المجتمعات القائمة على رباط المواطنة القوي والقومية المتماسكة توفر مقاومة أقوى بكثير ضد هذا النوع من الهيمنة الذي يستخدم العولمة الاقتصادية المتوحشة لتعزيز وجودها.
لنعترف هنا بأن للهيمنة الأنجلوسكسونية مغبات ثقافية لا يستهان بها، لأنها تقوض في الواقع كل مفاهيم العلمانية، ولأن فكرة الإدمان والتماثل، جوهر مسألة المواطنة، اكتسبت، في يومنا هذا، سمعة سيئة. وعلى هذا الأساس نرى اليوم بلداننا العربية في حالات فتن فتاكة في ما بين مجموعات تتشارك في اللغة  والدين والعادات الاجتماعية الرئيسة، ومع ذلك أصبح النفور سيد الموقف بين تلك المجموعات في أكثر من بلد عربي، وخاصة بعد موجة الانتفاضات الشعبية التي عمت بعض دول العالم العربي عام 2011, وهي كانت انتفاضات عظيمة، ركزت شعاراتها على قضايا دنيوية الطابع لها صفة مطالب اقتصادية واجتماعية محضة، وليست صفة مطالب فئوية. 
فهي في الحقيقة كانت موجة ثورية رائعة تهدف إلى إرساء دولة المواطنة والعدل وليست دولة الطوائف والمذاهب العشائرية والإقليمية... فهل يتمكن العرب من إنقاذ أنفــــــسهم دون مزيد من إراقة الدماء والـفوضى الفتاكة والفتــن المذهبية؟.