زيف إشكالية «الأصالة والمعاصرة» في الفكر العربي

زيف إشكالية «الأصالة والمعاصرة» في الفكر العربي

إن لكل أمة تريد التقدم في المستقبل طريقاً يحدده في البداية قادة الفكر فيها, سواء كانوا من الفلاسفة أو العلماء أو حتى من الأدباء أصحاب الرؤى النقدية والنبوءات التي تستطلع المستقبل.

 

قدم بتاح حوتب وايبوور وأخناتون وأمينموبي في بردياتهم أورجانون التقدم (الأورجانون لفظة لاتينية تعني الآلة  أو الأداة)  للأمة المصرية في عهد الفراعنة، وقدم كونفشيوس أورجانون التقدم للأمة الصينية منذ فجر تاريخها وربما حتى الآن، وقد كانت الكتب المقدسة ولاتزال تمثل أورجانون نهضة لمن آمنوا بها، وإن كانت الأمة الإسلامية قد تميزت بالقرآن الكريم الذي سيظل متحدياً قدرات البشر وسابقاً لتصوراتهم وملهماً لإبداعاتهم ما بقيت الحياة على ظهر الأرض. فهو الكتاب المنزل الذي بدت معجزته في تحديه للعقل الإنساني ولقدراته المبدعة عبر العصور ما مضى منها وما سيأتي! ومع أن المسلمين قد نجحوا في استلهامه وبناء واحدة من أعظم الحضارات الإنسانية, إلا أنهم الآن أصبحوا عبئاً ثقيلاً على قرآنهم ودينهم بتخلفهم الحضاري وتحجرهم الفكري! والإسلام في صحيحه ومصادره الأصلية بريء من كل ذلك.
واستلهم الغربيون في بداية نهضتهم صورة التقدم كما حققها المسلمون في العلوم والفلسفة وفي السياسة والاقتصاد، لكن هذا لم يمنعهم من أن يكون لهم الأورجانون الخاص بهم؛ وقد تكفل بهذا «الأورجانون» الجديد لفرنسيس بيكون الذي قدم فيه المنهج الجديد للبحث العلمي بجانبيه السلبي النقدي لصورة الفكر في عصره من خلال كشفه للأوهام التي كانت تعوق النهضة العلمية المنشودة، والجانب الإيجابي الذي تمثل في وضع خطوات محددة للبحث العلمي تبدأ بالملاحظة وتنتهي بالوصول إلى القانون العلمي المفسر للظاهرة موضوع الدراسة، كما شاركه في ذلك الاتجاه ديكارت بكتابه «مقال عن المنهج» الذي قدم فيه المنهج الفلسفي الجديد الذي يبدأ بالشك وينتهي باليقين، ولا يسلم فيه الإنسان بأي فكرة إلا إذا كانت واضحة بذاتها أمام عقله الواعي، وبحيث لا تقبل الشك فيها، وعبر هذه الأفكار المنهجية الجديدة في مجال العلم (الأورجانون الجديد)، وفي مجال الفلسفة (المقال عن المنهج) بدأ عصر جديد في أوربا والغرب لايزال يتجدد ويتطور عبر إبداعات العلماء والفلاسفة حتى الآن. إن أورجانونهم لم ينضب معينه بعد لأنهم يزودون منابعه بكل جديد ويطورون مصبّه، مستغلين كل قطرة إبداع فيه، وعاقدين العزم على ألا يقصروا في تجديد الدماء في شرايينه حتى الرمق الأخير. 
ولعل السؤال الآن: إذا كانت هذه حالهم التي لم ولن تتوقف عن الإبداع والتطور ومداومة التحديث في مغالبة وتحد جعلا العالم كله يلهث وراءهم! فما بالنا نحن! ألم يحن الوقت بعد لبزوغ فجر نهضة جديدة وحقيقية رغم أننا نحاول البحث عنها منذ أكثر من مائتي عام، منذ الصدام الحضاري مع الغزو الغربي لبلادنا العربية. والسؤال الحائر هو: كيف نواجه هذا التقدم الغربي؟! وكيف نستجيب لتحدياته ونتغلب عليها؟!

ساحة حرب فكرية
 وقد يقول القائل هنا: لقد استجبنا لهذه التحديات ولدينا منذ ذلك التاريخ وحتى الآن عشرات المشاريع الفكرية منذ رفاعة الطهطاوي، مروراً بمحمد عبده وجمال الدين الأفغاني وسلامة موسى ووصولاً إلى زكي نجيب محمود وحسن حنفي وغيرهم وغيرهم كثير. ولهذا القائل أقول: إن استجابة كل هؤلاء وغيرهم من أصحاب المشاريع الفكرية الداعية إلى نهضة الأمة وإقالتها من عثرتها تلخصت وتحصنت في ثلاث جبهات، كل جبهة منها تقدم حلاً وتدافع عنه، وكأننا في ساحة حرب فكرية كل جهة تتمترس حول رأيها وأخذت تطلق الانتقادات إلى الجبهتين الأخريين؛ فأصحاب الجبهة الأولى تمترسوا حول العودة إلى التراث، معتبرين أن العودة إلى آراء وحياة السلف الصالح هي الحل لمواجهة هذا التقدم الغربي، واعتبروا أن «الإسلام هو الحل» ولكن بأي صورة وعلى أي شكل؟! لقد تفرقوا شيعاً وبقي الشعار واحدا وهو أن الإسلام بصورته النقية الأولى هو أساس المواجهة، بل هو أساس التقدم المعاصر كما كان أساس التقدم في الماضي. وتناسى هؤلاء أنهم ليسوا في فهمهم لصحيح الإسلام كالسلف الصالح، وليسوا في درجة علمهم ولا في درجة جرأتهم ولا حتى في أدنى درجة من درجات وعيهم! لقد تناسوا أن الإسلام ذاته - بعيداً عن مبادئ العقيدة - قابل للتطور وحاضٌّ عليه فلسفياً وعلمياً واقتصادياً وسياسياً. فأين هم من هذا التطور وهذه القابلية للتجديد والاجتهاد في الإسلام الصحيح؟!

ضرب من الجنون
أما أصحاب الجبهة الثانية فقد اعتبروا أن الانسلاخ من العصر والعودة إلى الماضي والتمسك بالتراث إنما هو ضرب من الجنون، ولذا رأوا الرأي النقيض؛ إذ وجدوا أن الحل هو في الأخذ بكل أساليب العصر التقدمية في صورتها الغربية الحديثة وقطع الصلة تماماً بالتراث، وتناسوا أن مجرد الأخذ بالأساليب الغربية والتشكل بمظاهرها الحضارية لن يكون أبداً هو طريق التقدم، فلكل أمة هوية لابد من الحفاظ عليها وتطويرها بقبول الآخر وصور تقدمه، وليس في الانخلاع عن الهوية الحضارية وتركها ميزة سنمتاز بها، بل ربما تكون عائقاً من عوائق التقدم، لأن التقدم لا يصنعه بضعة أفراد تشكّلوا بزي ومناهج حياة وأخذ نواتج علوم حضارة أخرى، بل التقدم يصنعه الشعب العامل كما تصنعه الصفوة، فضلاً عن أن من رأى هذا الرأي القائل بالارتماء في أحضان الحضارة الغربية وقطع العلائق بالتراث بكل ما فيه إنما هم نخبة لم تنجح في التأثير على عموم الناس، ومن ثم بقيت رؤيتهم حبيسة كتبهم ومشاريعهم الفكرية.
بينما رأت البقية الباقية من النخبة أن الصراع بين الجبهتين لن يؤدي إلى نتيجة، حيث إن كليهما يدعو إلى حل غير واقعي وغير منطقي وغير عقلاني، ومن ثم فقد رأوا أن الحل العقلاني والمنطقي لهذه الإشكالية هو في التوفيق بين دعاة الأصالة (التراث) وبين دعاة المعاصرة (الأخذ بالثقافة والعلوم الغربية). على أن يقوم هذا التوفيق على أساس أنه لا مانع يمنع من أن نأخذ من التراث الإسلامي كل ما يحض على العقل والعلم وصحيح الدين بالطبع، وأن نقيم المقاربة على أساس ذلك مع حضارة العصر التي أساسها أيضاً العقل والعلم. فلنأخذ إذن من تراثنا الديني ما يتوافق مع قيم العصر، ولنأخذ من قيم العصر ما لا يتعارض مع هويتنا الدينية والحضارية. وتصوروا أن في هذه الثنائية (ثنائية الأصالة والمعاصرة - التراث والتجديد) الحل الأمثل، إذ لا مانع يمنع من أن نعيش العصر ونتفاعل مع آليات تقدمه في الوقت الذي لا نضحي فيه بقيمنا الأصيلة وتراثنا الديني العظيم.

توفيق... تلفيق
وقد تناسى هؤلاء كذلك أن في التوفيق يكمن التلفيق الذي تظل معه الإشكالية قائمة! فالمسألة ليست خانات ثلاثاً: خانة التراث وخانة العصرانية وبضمهما نخرج بالخانة الثالثة، خانة التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، إذ إن هذه الدعوة أكدت في الواقع الثنائية رغم أنها دعت لتجاوزها، وتبنت دعائم الصراع بين أن أكون تراثياً محافظاً على هويتي وبين أن أكون معاصراً أعيش قيم العصر؛ ففي قيم العصر ما يتعارض حتماً مع قيم التراث، وفي قيم التراث ما يرفض الكثير من قيم العصر، والخلاصة أن الصراع سيظل رغم الدعوة إلى التوفيق بين ثنائية الأصالة والمعاصرة.
 إذن في اعتقادي، لقد ضاعت هذه السنوات الطويلة في صراع فكري بين أنصار هذه الجبهات الثلاث دون طائل، وسقطت مائتا عام من تاريخ الأمة الفكري والحياتي نتيجة هذه الإشكالية التي أراها مصطنعة وزائفة؛ إذن ما الداعي لهذه الثنائية المتطرفة للصراع بين السلفيين (دعاة التراث) والعصرانيين (دعاة المعاصرة)؟ وما الداعي كذلك لهذا التيار الثالث الذي حاول التوفيق بينهما دون أن يدرك حقيقة جدلية الصراع وتشبث كل جهة من جبهتيه بموقفها وعدم رغبة أصحابها في التزحزح عن هذا الموقف؟!
إن زيف هذا الصراع الناتج عن هذه الإشكالية يبدو حينما يسأل كل منا نفسه أيا كانت الجبهة التي يتمترس فيها: ألست من مواطني هذا القرن وأعيش زمانه وأستخدم كل أدواته وآلياته أيا كان مصدرها، ثم ألست أنا ابناً لتراث عربي - إسلامي مختلف عن التراث الغربى أحمل جيناته وتربيت على مبادئه وغرست في ذاتي قيمه؟ إذن فأنا كشخص أحيا حياتي المعاصرة حاملاً قيمي ومبادئ تراثي ولا داعي لإذكاء الصراع بين جانبي هذه الحقيقة الجلية! فالمسألة إذن ليست هل أنا ميال إلى التراث أم ميال إلى المعاصرة، أو كيف يمكنني التوفيق بينهما، لأنني ببساطة أحمل هويتي وأعيش عصري. ومن ثم عليّ مواجهة كل تحديات هذا العصر والمشاركة فيه والتفاعل مع كل تطوراته، ولا شك في أن هذا التفاعل سيتم دون أن أضحي بهويتي أو بعقيدتي، لأن الهوية تجري مجرى الدم في عروق أي منتم لحضارة مختلفة عن الحضارة الغربية دون حاجة إلى أن يحمل رايتها، رافعاً شعارها في وجه العصر الذي يحياه والقيم الجديدة للتطور والتقدم التي يتفاعل معها متلقياً ومشاركاً!
 والسؤال الآن: إذا كانت تلك الإشكالية التي صنعها مفكرونا وتصارعوا حولها وأقحموها علينا وجعلونا نعيش فيها متمترسين خلف إحدى جبهاتها إشكالية زائفة وأضاعت من عمر الأمة كل هذه السنوات، فماذا نحن فاعلون الآن لنتجاوز تحديات الحاضر ناظرين بثقة إلى المستقبل دون الالتفات إلى هذا التمترس التقليدي؟! أعتقد أننا بحاجة إلى ما يشبه الأورجانون، أي الآلة أو الأداة التي ترسم لنا خارطة طريق للتفاعل مع تحديات الحاضر وإيجابياته، وتوجهنا إلى الكيفية التي نعمل بها لتحقيق المستقبل الأفضل، وهذه الخريطة تبدأ بلا شك من إدراكنا لزيف هذه الإشكالية ومن ثم الخروج من شرنقة السؤال: كيف لنا أن نكون معاصرين وفي الوقت ذاته نحافظ على هويتنا الحضارية المستقلة؟! ثم علينا بعدئذ العمل بكل جدية للحاق بالعصر متسلحين بأدواته، ومدركين لمشكلاتنا الحقيقية، والتماس كل السبل لإيجاد الحلول المناسبة لها بما يتناسب مع قدراتنا وإمكاناتنا، وبما لا يتعارض مع هويتنا الحضارية والثقافية والدينية ■