دور الشباب في توليد ثقافة عربية من منظور مختلف

دور  الشباب في توليد ثقافة عربية من منظور مختلف

اقتبس العرب مقولات أوربية جاهزة، وحاولوا توظيفها لبناء النهضة العربية الأولى في تربة غير ملائمة، فأنتجت المزيد من التبعية والتغريب، اللذين مازالت تعانيهما الشعوب العربية. وبعد قرنين على ولادتها تبدو مسألة تجديد مقولات النهضة العربية اليوم مجرد حلم صعب المنال على المدى المنظور، ما لم يستخلص المثقفون العرب الدروس اللازمة من تجربة النهضة الأولى التي أجهضها الغرب نفسه. وقد نبّه المتنورون العرب من مخاطر الاقتباس السهل وتقليد العرب للثقافة الغربية، لأنه لا ينتج سوى «تشبه المغلوب بالغالب» وفق مقولة ابن خلدون المعروفة جيداً من جانب المثقفين العرب.

تركّز هذه الدراسة، وبصورة مكثّفة جداً، على نقطتين أساسيتين:
الأولى: موجبات تجديد البحث النظري في مقولات النهضة العربية في عصر العولمة.
والثانية: اختبار قدرة الشباب العربي على توليد مقولات ثقافية جديدة تتجاوز الاقتباس السهل عن تجارب الشعوب الأخرى. وذلك بهدف إطلاق نهضة عربية جديدة، بمقولات عربية، وأقلام عربية، ولأهداف عربية ذات أبعاد إنسانية تعيد للعرب دورهم الفاعل في الثقافة الكونية.

تجديد مقولات النهضة العربية من منظور مختلف
مازال سؤال الأمير شكيب أرسلان: «لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟» يستعاد باستمرار، ثم تفرّعت عنه أسئلة جديدة في عصر العولمة منها: هل التأخر ناجم عن أسباب خارجية، نظراً لوقوع العالم العربي على مقربة من المركزية الإمبريالية الغربية؟ أم أنه ناجم أيضاً عن أسباب داخلية نظراً للتواطؤ العلني بين مشاريع الاستعمار الغربي والحركة الصهيونية وما نجم عنها من مشكلات معقدة وصعبة الحل، وفي طليعتها مأساة شعب فلسطين والشعوب العربية المجاورة لها؟ وهل انتهت مقولات النهضة العربية الأولى إلى فشل بنيوي عبّر عنه المفكر المصري سمير منصور في كتابه «خروج العرب من التاريخ»؟
في مرحلة الاستقلال السياسي التي شهدها العالم العربي في القرن العشرين، لم تتبدّل البنى الذهنية المسيطرة في الدول العربية بصورة جذرية، لأن غالبية حكّامه تمسكوا بتقاليد الموروث العثماني القديم، وأضافوا إليه موروث الاستعمار الغربي الجديد. ويلاحظ في هذا المجال أن نسبة كبيرة من المقولات الثقافية السائدة اليوم على الساحة الثقافية العربية هي دون المقولات الإصلاحية التي ناضل من أجلها بصلابة مثقفو عصر النهضة. لذا تبدو بعض مقولاتها أكثر علمية من غالبية المقولات الثقافية العربية الراهنة، وتبدو مواقف بعض مثقفي عصر النهضة من الغرب أكثر جرأة وجذرية من مثقفي المرحلة الاستقلالية. لذا كتب المفكر المغربي عبدالله العروي بحق: «نحن بحاجة إلى استعادة روح رجال النهضة العربية، وما تميّزوا به من جرأة وصدق وتفاؤل». وهو الرد العقلاني لمواجهة حالة الاغتراب الثقافي السائدة اليوم في المجتمعات العربية، فواقع التجزئة العربية حاضر بقوة فيها، ويزداد سوءاً لدرجة يصعب معها تصوّر تغيير الواقع العربي بشكل شمولي ما لم يتم تجاوز المقولات الثقافية السائدة. 
مردُّ ذلك إلى بروز نزاعات كبيرة، سياسية ودينية وعرقية وثقافية، منتشرة على نطاق واسع في جميع الدول العربية. وهناك تيارات متناقضة، تتناقض الشعوب العربية بين النزوع إلى الوحدة العربية  الشاملة أو الانكفاء إلى هويات محلية قاتلة في حال فضّلت الانتماء إلى الجماعة الطائفية أو العرقية أو القبلية بديلاً من الانتماء إلى العروبة الثقافية الجامعة.

دور الشباب العربي في توليد ثقافة جديدة لمواجهة تحديات العولمة
ليس من شك في أن الرد على التشاؤم المفرط للعقل العربي المستقيل في المرحلة الراهنة يستوجب الإرادة الصلبة في التغيير وفق مقولة غرامشي عن تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة. وذلك يتطلب انخراط المتنورين العرب في الحوار الثقافي الداخلي بفاعلية لتغليب الأمل على اليأس، والتصدي لمشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يعيد تفكيك الدول العربية بما يخدم المشروع الصهيوني لإقامة إسرائيل الكبرى بين الفرات والنيل.
على جانب آخر، الأجيال العربية الشابة مدعوّة للمشاركة في بناء نهضة عربية جديدة لحماية حاضر العرب ومستقبلهم قبل الحديث العاطفي عن حماية تاريخهم وتراثهم، وثقافتهم. فقد انتفضت الجماهير العربية التي تعاني الفقر والبطالة والجهل والتهميش، بقوة عام 2011، رافعة شعار: «الشعب يريد إسقاط النظام»، و«رغيف الخبز مع الكرام»، فقدمت تضحيات كبيرة، وأسقطت أنظمة استبدادية عربية، وهزت ركائز أنظمة أخرى، إلا أنها لم تحقق حتى الآن أيّا من أهدافها المعلنة. ويتحمل المتنورون العرب مسؤولية أساسية في تنمية بذور النهضة والإصلاح على طريق التجدد الدائم للمجتمعات العربية، على جميع المستويات.
فنجاح الرد الحضاري رهن بانخراط الشباب العربي في حمل قضاياه بنفسه. وهنا تكمن أهمية سؤال «ما العمل؟» من حيث هو توجُّه عقلاني لكسب الأجيال العربية الشابّة إلى معركة الدفاع عن مستقبلهم أولاً ومستقبل شعوبهم وثقافتهم، بيد أن انخراط الشباب العربي اليوم للاستجابة إلى التحدي الحضاري يفترض الإجابة أولاً عن سؤال: «هل ثمة من أمل في الاستجابة إلى ذلك التحدي حين تكون الطاقات الشبابية العربية مفقَّرة، ومجهلة، وعاطلة عن العمل، ومهجّرة إلى الخارج؟ وهل أعطت الأنظمة العربية المتسلطة دوراً للشباب العربي الذي انتفض بكثافة عام 2011 دون أن يفسح له مجال المشاركة السياسية والاقتصادية والثقافية لإنضاج عملية الرد الحضاري والمشاركة الفاعلة فيها؟ فلدى العرب طاقات شبابية كبيرة جداً إذا ما أحسنوا الاستفادة منها وتوظيفها في مشروع نهضوي جديد ينقل العالم العربي بخطى واثقة وتدريجية من حال التخلف والتبعية إلى المجابهة الحضارية. ويقع النموذج العربي المرتجى في مجال النهوض الثقافي العربي الأرقى في المستقبل، وعبثاً البحث عنه في الماضي الذهبي. كما أن المستقبل المشرق هو ثمرة العلوم العصرية والتكنولوجيا المتطورة التي توضع في خدمة المجتمعات العربية وتسرِّع من وتيرة التنمية البشرية والاقتصادية المستدامة فيها.
ولا ينجز التقدم من عقم ثقافي قاد إلى تحجّر في الذهنية العربية السائدة التي أوصلت العرب إلى نزاعات دموية أدت إلى تهجير جماعات بأكملها من مناطق سكنها. ونتيجة لتلك الذهنية الإقصائية المدمّرة زادت هوّة التخلف داخل المجتمعات العربية المعاصرة وبينها وبين المجتمعات المتطورة. وبات المثقف التنويري العربي في عصر العولمة مطالباً اليوم بفتح السجال النظري بجرأة نادرة لزعزعة المقولات الأيديولوجية السائدة، وبخاصة المقولات الأيديولوجية الارتجاعية التي تحاول إحياء الماضي في الحاضر. وفي ظل هذا المد التراجعي الذي يشهده الوطن العربي، لابد من التنبّه إلى خطورة المرحلة الراهنة التي أطلقتها الانتفاضات العربية الراهنة لعام 2011 وما رافقها من تغيير سريع هزّ ركائز المجتمعات التقليدية العربية بقوة. وتكمن الخطورة في غياب المقولات الثقافية العربية ذات الأبعاد التنويرية والإنسانية في تلك الانتفاضات.
ختاماً، رغم اللوحة السوداوية التي تحيط بالعالم العربي في المرحلة الراهنة، يبقى الأمل بالتغيير وبالغد الأفضل رهناً بتفعيل دور الشباب الواعي، وبتنشيط مؤسسات المجتمع المدني، وتجديد نظام القيم الإنسانية التي يتربى عليها المواطن العربي، وإحداث نقلة نوعية في التعليم الجامعي، والتعامل مع العولمة من موقع الفاعل فيها وليس الخاضع لسلبياتها، والاستفادة من ثورات العلوم والتواصل لبناء جيل عربي جديد قادر على مواجهة تحديات العولمة. 
فالثقافة الكونية ذات طابع إنساني وشمولي، ولا يمكن أن تصنّف بأنها غربية أو شرقية، وليست حكراً على أي شعب من شعوب العالم. وثقافة العولمة ليست واحدة بل متنوعة، غنية ومتناقضة. وليس بالإمكان رفضها أو قبولها بالمطلق، بل رفض كل أشكال الاستعلاء الثقافي أو محاولة فرض ثقافة العولمة على جميع الشعوب بهدف طمس هويتها الثقافية وإفراغ الدول النامية من طاقاتها الإبداعية. ومواجهة ثقافة العولمة غير ممكنة إلا بثقافة إبداعية تعتمد على امتلاك الشباب العربي العلوم العصرية، والتكنولوجيا المتطورة، ومشاركته في الإنتاج العلمي المتطور. فهل يبادر المتنورون العرب إلى توليد مشروع نهضوي جديد من منظور مختلف لمواجهة ثقافة العولمة وتحدياتها؟ وهل يستجيب الشباب العربي للتحدي الحضاري فيشارك بفاعلية في ترسيخ قيم العروبة الثقافية الجامعة التي تعيد للعرب دورهم الفاعل في الثقافة الإنسانية؟ ■