أسبقية النثر في الأدب العربي القديم

أسبقية النثر في الأدب العربي القديم

لم يلتفت القدماء إلى البحث في نشأة المرويات النثرية العربية، ولا اهتمّ أحد بحفظها إلا ما ندر، فلا نعثر إلا على شذرات عابرة حولها وردت في سياق لا يمكن التحقق من واقعه التاريخي. وهي شذرات تقدم وجهة نظر أكثر مما تسعى لإقرار حقيقة مؤكدة، وإن كان مؤداها يطابق النظر العقلي، ويتفق مع التصور الواقعي لتشكل الأنواع الأدبية القديمة. وفي البحث عن جذور المرويات النثرية لا نجد نظيراً لأبي عمرو بن العلاء، والأصمعي، وابن سلام الجمحي، والجاحظ، هؤلاء وسواهم بحثوا في قدم الشعر، أما النثر فسكتوا عن الخوض في أمره، إذ كان خارج مجال التفكير الأدبي في الثقافة العربية القديمة.

يعزو الجاحظ (255هـ- 868م) إلى الفضل الرقاشي، القاص والسجّاع، وأشهر قصاص البصرة في القرن الثاني الهجري، قوله بغزارة النثر القديم «ما تكلّمت به العرب من جيد المنثور أكثر مما تكلمت به من جيد الموزون، فلم يحفظ من المنثور عُشره، ولا ضاع من الموزون عشره». لا يؤكد الرقاشي قدم المرويات النثرية وغزارتها فحسب، بل يؤكد حقيقة ضياع تسعة أعشارها. هذه نسبة تقديرية، ويستحيل التحقق منها، وبالمقابل جرت رواية تسعة أعشار المرويات الشعرية، حفظ الشعر، وتلاشت المرويات النثرية، وتبخّرت في ذلك الفضاء الشفوي الواسع، فلم يتعهد أمرها أحد، ولم يعرف عموم الناس رواة النثر الكبار كما عرفوا رواة الشعر. استبعد معظم المرويات النثرية عن مجال التداول العام، لأنها حوامل لعقائد الجاهليين الوثنية، ولقصور الوسائل الكتابية، وسيادة التقاليد الشفوية.
في حوالي منتصف القرن الخامس الهجري، أثار ابن رشيق القيرواني (164هـ- 1069م) السؤال حول أسبقية النثر، فقال «اجتمع الناس على أن المنثور في كلامهم أكثر، وأقل جيداً محفوظاً، وأن الشعر أقل، وأكثر جيداً محفوظاً، لأن في أدناه من زينة الوزن والقافية ما يقارب به جيد المنثور. وكان الكلام كله منثوراً فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها، وطيب أعراقها، وذكر أيامها الصالحة، وأوطانها النازحة، وفرسانها الأمجاد، وسمحائها الأجواد، لتهز أنفسها إلى الكرم، وتدل أبناءها على حسن الشيم، فتوهموا أعاريض جعلوها موازين الكلام، فلما تمّ لهم وزنه سموه شعراً، لأنهم شعروا به، أي: فطنوا».
يوافق تأكيد ابن رشيق الرؤية التاريخية لتطور الأدب، فقد قصّد المهلهل بن ربيعة القصيد، أي جعله رقيقاً بالإيقاع الشعري، حينما شطر الكلام النثري إلى قسمين متكافئين في الوزن، فيكون الشعر قد انبثق من صلب الكلام المنثور. برهن ابن رشيق في سياق تفسيره لنشأة الأعاريض الشعرية على قِدَم النثر، وأسبقيته. ظهر النثر في وقت أسبق بكثير من التاريخ الذي شغل فيه العرب بـ «توهّم الأعاريض».
وعرف لديهم قبل أن يفكرا في التغني بمكارمهم، ووقائعهم. جرى تحويل في إيقاع نثرهم لكي يفي بتلك الحاجات، فظهر الشعر. إذا كان مؤرخو الشعر يرجعون ذلك إلى القرون الثلاثة أو الأربعة التي سبقت ظهور الإسلام، يكون النثر عرف قبل ذلك بكثير.
لكن النهشلي (403هـ- 1013م) وهو أحد شيوخ ابن رشيق، كان توسّع في ذلك التفسير قبل خلفه، وطرح قضية النثر القديم بطريقة أكثر عمقاً وبراعة، ثم فسر ضياعه، فقال على لسان بعض علماء «العربية»: إن «أصل الكلام منثور، ثم تعقبت العرب ذلك، واحتاجت إلى الغناء بأفعالها، وذكر سابقيها ووقائعها، وتضمين مآثرها، إذ كان المنطق عندهم هو المؤدي عن عقولهم، وألسنتهم خدم أفئدتهم، والمُبينة لحكمهم والمخبرة عن آدابهم. ولما رأت العرب المنثور يندّ عليهم، وينفلت من أيديهم، ولم يكن لهم كتاب يتضمن أفعالهم، تدبروا الأوزان والأعاريض، فأخرجوا الكلام أحسن مخرج، بأساليب الغناء، فجاءهم مستوياً، ورأوه باقياً على مر الأيام، فألفوا ذلك، وسموه شعراً. وختم فكرته حول دور الشعر في تعيين الأحداث، قائلاً: إنهم «كانوا لا يكتبون فجعلوا روايته مقام الكتاب».

انبثاق الأعاريض
كان المنثور القديم يندّ وينفلت، ولذلك ظهرت الحاجة إلى الأوزان لتقييد المنثور العصيّ على الحفظ. قدّم النهشلي تفسيراً أدبياً، ففي غياب كتاب جامع لنثريات العرب انبثقت الحاجة إلى وسيلة حفظ، تحدث عن الكلام المنثور الذي جاء مستوياً بظهور الأوزان الحافظة له، فألِفته العرب وأسمته شعراً. لم يظهر الشعر بمعزل عن النثر إنما انبثق من رحمه. ظهرت الأوزان والأعاريض من أجل حفظ الكلام، فهي ذاكرة رديفة تقيّد القول الأدبي بالتقفية، فلا يتناثر نُبذاً بمرور الزمن.
واستأثرت وظيفة الأعاريض الحافظة للكلام باهتمام علي بن محمد الهمذاني (414هـ- 1023م) الكاتب بديوان بني بويه في بغداد، فقال إن العرب قد «جرّدت ألفاظها المصفّاة المخزونة في كلماتها المقفاة الموزونة، ومالت إلى المنظوم أكثر من ميلها إلى المنثور، لأنه أمدّ صوتاً، وأشد صوناً، وألذّ لحناً، وأخف وزناً، وأشد بالحفظ علاقة، وأقرب إلى القلب مسافة، ودعاهم إلى فضل التأنق فيه، والتصنع له، تصورهم أن مآثرهم تخلّد به، ومفاخرهم تدّخر فيه، فحرسوها بالتقفية كما حرست الفرس أحسابها بالأبنية، وخلّف أولئك أشعاراً تروى وهؤلاء آثاراً ترى، فللعربي بيت وديوان، وللفارسي قصر وإيوان، وكلاهما قد جد في تأثيل مجده بحسب إرادته وقصده». قصد العرب تأصيل أمجادهم بالكلام الموزون والمقفّى، فلولا الأعاريض لتلاشى كل شيء في طيات الماضي.
قرر النهشلي، والهمذاني، وابن رشيق أن الكلام العربي في أول أمره كان منثوراً، وأن سببين اثنين دفعا أهله لتحويل بعضه إلى شعر، أولهما: حاجتهم إلى التغني بمكارمهم، وذلك لا يكون إلا بأقوال موقّعة تنتظم في أعاريض تمنح تلك الأقوال تأثيراً في أثناء الإنشاد. وثانيهما: أنه كان يفلت منهم، ويندّ عليهم، ويضيع من بين أيديهم، فلا تحفظه ذاكرة ولم يكونوا قادرين على كتابته لعدم توافر إمكانات الكتابة، الأمر الذي دفعهم إلى تدبّر نظُم إيقاعية تيسّر لهم حفظ الكلام، فاجترحوا الأوزان والأعاريض التي تقوم في الشعر مقام الكتابة في النثر، فتؤدي وظيفة خزن الكلام، لأنه سيكون منظوماً في أوزان تسهّل إذا روعيت في الإلقاء استدعاء الكلام.
وهذا يوافق مأثور القول الذي أورده أبوحيان التوحيدي في «الإمتاع والمؤانسة» من أن «صورة المنظوم محفوظة، وصورة المنثور ضائعة». وقد روي عن ابن سيرين قوله: «الشعر كلام معقود بالقوافي».
بظهور الأعاريض تحول ضرب من الكلام من النثر إلى الشعر، وهو تحوّل في الدرجة وليس في النوع. يصعب القول إن تلك الأعاريض ظهرت فجأة بوصفها لحظة انتقالية حاسمة في تاريخ القول الأدبي، إذ لابد أن تكون قد تطوّرت عن نظم إيقاعية أقل انضباطاً، وصقلت بالممارسة والتجريب إلى أن اتسقت في ما يعرف بالأوزان الشعرية، فإذا عرضنا الأدب العربي لوجهة النظر هذه، وعالجنا الأمر برؤية تاريخية، فالصيغة الأسلوبية التي تطورت عنها الأعاريض لا يمكن إلا أن تكون السجع.

السجع والرجز
السجع صيغة قولية شبه موزونة استأثرت بالتعبير النثري في العصر الجاهلي، واعتمدها القرآن الكريم بوصفها أكثر صيغ الإيقاع تواتراً فيه، وهيمنتها في الخطاب القرآني دليل على اطّرادها في ضروب التعبير النثري الأخرى. وعن الصيغة السجعية ظهرت الأعاريض البسيطة التي يعد «الرجز» أكثرها وضوحاً، فالرجز نظام إيقاعي يرتفع قليلاً عن مستوى إيقاع السجع، وفيه تتكرّر تفعيلة واحدة على نحو بسيط يخلو من التركيب الإيقاعي المعقد.
يتنزل الرجز في المسافة الفاصلة بين السجع والبحور الصافية التي تطورت، في ما بعد، إلى بحور متنوعة، حيث تختلف التفعيلات في ما بينها ضمن الشطر الشعري الواحد. علاقة السجع بالرجز وثيقة، فهذا ألصق بحور الشعر بالكلام العادي، وأقربها إليه، فاعتماده  تفعيلة واحدة مكررة، وكثرة الزحافات التي تطرأ عليه في العروض والضرب، وإمكانية الارتجال فيه، وسمة القصر التي عرفت في المقطوعات الشعرية التي جاءت فيه، والتزامه وحدة الحرف أو الحرفين أو الثلاثة الأخيرة، وخاصية الاضطراب فيه لكونه يأتي مشطوراً أو منهوكاً أو مجزوءاً... كل ذلك جعل الرجز مرحلة من مراحل تطوّر السجع، ومقدمة لبحور الشعر الصافية، ولطالما فرّق العرب بين الرجز والقصيد، وبين الراجز والشاعر، فالرجز ما كان مشطوراً أو منهوكاً من الكلام، أما القصيد فما «طالت أبياته، وليس كذلك»، كأن الشاعر قصد إلى ذلك قصداً، فانتقل بالكلام من مستوى الرجز، وهو مقاطع انفعالية، خاطفة، ومتماثلة الإيقاع، إلى مستوى الشعر الذي قصد فيه اعتماد موضوع شعريّ متكامل، وبإيقاع متنوع، يختلف عما يقوله الراجز. الرجز نوع من السجع الذي تخلص من العثرات العادية المتوطنة في الكلام المنثور، وارتفع إلى صيغة أكثر انضباطاً من غيرها من صيغ النثر. يشد الرجز القول الأدبي إلى إيقاع مهجّن من النثر والشعر، ويرتسم التعسّف في الأراجيز التي تتردد هويتها بين إيقاع «شعري» ومقاصد «نثرية».
كان «بروكلمان» قد أكد أن أقدم القوالب الفنية العربية هو السجع، أي النثر المقفّى المجرّد من الوزن، وقد ترقّت تلك القوالب إلى الرجز، ومنه نشأت بحور الشعر العربي. وفي إشارة منه إلى اقتران السجع بالنثر الديني، قال: إن السجع هو القالب الذي كان العرافون والكهنة يصوغون فيه كلامهم وأقوالهم. ويدعم هذا الرأي ما قاله «غولدزيهر» من أن السجع كان أسبق شكل من أشكال التعبير، وهو يسبق الأراجيز والقصائد، وأن الرجز تطوير له، وقد شاع استعماله في الخطابة، والعبارات ذات المحتوى الديني الميتافيزيقي.
تطور الشعر العربي عن صيغ نثرية مسجوعة، تطورت هي الأخرى عن الكلام العادي، وذلك يخالف القول الشائع بين الدارسين حول أولية الشعر، وهو الرأي الذي أشاعه في أوساط الدارسين العرب المستشرق نالينو، وجاراه فيه طه حسين. والأصل الذي بُني عليه هذا الرأي قول أرسطو: «إن الأولين إنما كانوا يقرّرون الاعتقادات في النفوس بالتخييل الشعري، ثم نبغت الخطابة بعد ذلك، فزاولوا تقرير الاعتقادات في النفوس بالاقتناع». انصب كلام أرسطو حول «تقرير الاعتقادات» وليس تقرير «الأسبقيات». تحدث أرسطو عن تقرير بالتخيل وتقرير بالاقتناع. وارتباط السجع بالنثر القديم يقودنا إلى متابعة الحقيقة المتراجعة إلى الوراء، فلا مناص من ضبطها، وهي الصلة بين المرويات النثرية، والسجع، والعقائد الجاهلية، فتلك المرويات المسجعة لازمت الديانات الجاهلية، وقامت بتمثيلها.
استبد السجع بالتعبير النثري الجاهلي، وقد فرضت هذه الصيغة الأسلوبية على المتكلم تقطيعاً متتالياً لمضمون كلامه، يتناسب والفقرات اللفظية المسجوعة التي غالباً ما تكون قصيرة، ومسبوكة في قوالب إيقاعية متناظرة حادة النهايات لا يسمح للمعنى أن يفيض خارجها، الأمر الذي يستدعي تقسيم محتوى الخطاب على تلك القوالب بما يضمن نوعاً من التوزيع المتناسب للفكرة بينها. وقد أخذ الكهنة، والعرّافون، والمتنبئون، بالصيغة السجعية، مغذين كلامهم النثري بالروح الديني الغامض ذي التموجات الدلالية المؤثرة، التي تنشّط الاحتمالات في المستمع نفسه، فيسهل التأثير فيه.
وسرعان ما أصبح السجع أحد أهم التقاليد الأسلوبية التي فرضت حضورها في كلام يجد نفسه قد ترفّع عن الكلام العادي، إلا أنه لا يريد أن يبلغ منزلة الشعر، فالشعر يوظف لإثارة النفس، وهو لا يتقصد إثبات أفكار مباشرة، إنما يترك للإيحاءات أن تمارس أثرها في نفس المتلقي بالاندماج مع حالة الإنشاد، أي إنه يخاطب جانباً من نفس الإنسان على سبيل الإيحاء والتغني بالذات والمشاركة في الأحاسيس، في حين كان السجع يؤدي وظيفة خاصة بالنثر، فهو أسلوب يراد منه إضفاء حالة من الخشوع والتأمل والاستعداد لتلقي فكرة مقدسة، أو وصية، أو عبرة، تقتضي الإيجاز والتكثيف، وهذا يناسب التقاليد الدينية المبكّرة التي كانت تعاليمها تقتضي اقتصاداً تعبيرياً مؤثراً يستعين بالمثل مرة، وبالترغيب مرة، وبالترهيب إذا لزم الأمر.
أكد أبوهلال العسكري (395هـ- 1239م) أنه «لا يحسن منثور الكلام، ولا يحلو، حتى يكون مزدوجاً، ولا تكاد تجد لبليغ كلاماً يخلو من الازدواج». وأضاف «أعجب العرب بالسجع حتى استعملوه في منظوم كلامهم، وصار ذلك الجنس من الكلام منظوماً في منظوم، وسجعاً في سجع». وحاول القلقشندي (821هـ - 1418م) تقنين الأعراف التي تنبغي مراعاتها عند قراءة أو إنشاد نصّ نثري مسجع، وهي إشارة تكشف الوظيفة التي يؤديها السجع «إن حكم السجع أن تكون كلمات الأسجاع ساكنة الإعجاز، موقوفاً عليها بالسكون في حالتي الوقف والدرج، لأن الغرض منها المناسبة بين القرائن، أو المزاوجة بين الفقر، وذلك لا يتم إلا بالوقف».

البنية الإيقاعية للسجع
افترضت البنية الإيقاعية للسجع درجة من التوازن بين الألفاظ، وهو أمر يطّرد في تقفية الكلام النثري، ففيما توجب بعض أقسام السجع المطابقة في الوزن والقافية بين الألفاظ، بحيث تكون متعادلة في ذلك، لا يزيد أحدهما على الآخر، بما في ذلك اتفاق السجعات على حرف بعينه، فإن أقساماً أخرى تتحرّر من هذا الشرط، فلا توجب التعادل في كل ذلك، وعلى هذا فثمة قسمان، أولهما: يقتضي أن تكون الألفاظ متفقة في حرف الرويّ، وله مراتب متدرجة في الجودة تبدأ من كون الألفاظ مستوية الأوزان، ومتعادلة الأجزاء، وهو التصريع الذي يعد أحسن أنواع السجع، مروراً بالتوازن بين الكلمتين الأخيرتين فقط، دون ما عداهما من سائر الألفاظ، وصولاً إلى وقوع الاتفاق في حرف الرويّ، دون الأخذ بالحسبان أمر التوازن في باقي أجزاء الفقرة. وثانيهما: وفيه اختلاف في حرف الروي في آخر الفقرتين، وهو ضربان، يقع أولهما في النثر، وهو ما يكون الوزن قد روعي في جميع الألفاظ، أو أكثرها مع مقابلة الكلمة بما يعادلها وزناً، وهو أحسن أنواع السجع في مجال النثر، أو ألا يراعى التوازن إلا في الكلمتين الأخيرتين فقط، ويقع ثانيهما في الشعر ويسمى «التصريع». ذلك ما يمكن استخلاصه من أبي هلال العسكري والقلقشندي، وجلّ المشتغلين بالموضوع.
يلاحظ أن التوازن في الألفاظ النثرية ينطوي على حرية، بأن يكون متعادلاً مرة في نوع ولا يكون في آخر، وكذلك التقفية، سواء أكانت تقفية داخلية تحدث داخل العبارة أو في نهايتها. ووفق رأي «بلاشير» فالوحدات السجعية التي تتكون من مجموعة متجانسة من العبارات المسجوعة لا يشترط فيها التساوي، كما لا يشترط تساوي عدد عباراتها، فالعنصر المهم هو «السجعة» التي هي بمنزلة «القافية»، ولهذا يرى أن السجع نثر موزون مقفى. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فالتماثل بين العبارات المسجوعة في النثر والأبيات الشعرية، في الشعر قائم. أما «أدونيس» فذهب إلى أن التطوّر الإيقاعي في الشعر الجاهلي اكتمل حينما حل شطران متوازيان، وموزونان، محل سجعتين متوازنتين.
تكتنز الصيغ المسجوعة التي تتلاحق فيها الأفكار المبثوثة بانتظام في قوالب نثرية مرتبة، إمكانية تأثير كبيرة في المتلقي الذي جاء في الأساس لتلقي أفكار محددة، كما أنها مؤثرة بالدرجة نفسها في أولئك الذين يدفعهم الفضول إلى معرفة أمر جديد. وبالإجمال، فالسجع أكثر الوسائل النثرية تأثيراً في وضع المتلقي تحت طائلة منظومة من المعاني التي تتدافع فيها الأفكار بين الوضوح والمباشرة من جهة، والغموض والإيحاءات المتنوعة من جهة ثانية، وجرى توظيف هذه الصيغة لنشر التعاليم الدينية، والتنبؤات التعبدية، والوصايا، والحكم. ولعل أكثر النصوص التي استثمرت الإمكانات التأثيرية للأسلوب المسجوع هي النصوص الدينية، والحواشي الخاصة بها، وهذا يرجّح اقتران السجع بتلك النصوص، فالحاجة إلى إثارة الاهتمام بها فرضت ضرباً من الصيغ المعبّرة والمؤثرة. يؤكد ذلك هيمنة شبه مطلقة لهذا الأسلوب في القرآن الكريم، فقد توصل ديفين ستيوارت في دراسة إحصائية مجهزة بالبيانات، إلى أن النسبة المئوية للآيات المسجوعة في القرآن الكريم تبلغ 85.9 في المائة من مجموع آياته.
اختار القرآن الكريم الأسلوب النثري المسجوع الذي تتكثف فيه الرؤى بأسلوب موقع، تتشابك فيه الصيغ المسجوعة كلها في سياق يتميز بالرفعة اللغوية، والسمو اللفظي، والمناخ السردي الذي تتقاطع فيه الحكايات، والأوصاف، والأحكام، وتتصاعد من وسطه وعود، ونُذُر، وعِبَر، تنتهي بفواصل قاطعة، ثم استعادات سردية خاطفة لأخبار الأوائل، وذلك قبل أن ينفتح الأسلوب القرآني في المرحلة المدنية على المشاهد الملحمية الشاملة في التمثيل السردي لخلفيات المجتمع الجاهلي، فصارت الجملة المسجوعة طويلة، وخالية من التوتر الخاطف، والتدفق اللفظي السريع، الذي يثبت لدى المتلقي إحساساً مزدوجاً بالترهيب والترغيب، كما كان الأمر في الحقبة المكية.
عد السجع سمة إيقاعية أساسية من سمات النثر العربي القديم، وقوالب موزونة ملازمة له، أفرزتها البنية الثقافية للعصر الجاهلي، وبها كان يعرّف. وقد تطوّرت تلك القوالب إلى الأوزان الشعرية. يتطور شكل إيقاعي إلى شكل آخر تبعاً لحاجات التعبير وحاجات التلقي. لا يوجد شكل جاهز، ولا وجود للأشكال البدئية في الأدب، فالشكل النثري هو الأقدم، ومنه تطوّر الشكل الشعري ■