رائد التجريب.. صاحب النزعة الإنسانية

رائد التجريب.. صاحب النزعة الإنسانية

يوصف‭ ‬إسماعيل‭ ‬فهد‭ ‬إسماعيل‭ ‬بأنه‭ ‬الأب‭ ‬الروحي‭ ‬للأدب‭ ‬الكويتي،‭ ‬وهذا‭ ‬صحيح،‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬إنتاجه‭ ‬الأدبي‭ ‬أولا،‭ ‬وعلى‭ ‬المستوى‭ ‬الإنساني‭ ‬تاليا‭. ‬فمسيرة‭ ‬إسماعيل‭ ‬فهد‭ ‬الأدبية‭ ‬الكبيرة‭ ‬بدأت‭ ‬مع‭ ‬منتصف‭ ‬ستينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬وفي‭ ‬تقديري‭ ‬أنها‭ ‬بدأت‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬انتهى‭ ‬الآخرون‭. ‬فقد‭ ‬تجلى‭ ‬منذ‭ ‬أول‭ ‬نصوصه‭ ‬المنشورة‭ ‬‮«‬كانت‭ ‬السماء‭ ‬زرقاء‮»‬‭ ‬انحيازه‭ ‬للمغامرة‭ ‬الأدبية‭ ‬وللتجريب،‭ ‬وحرصه‭ ‬على‭ ‬تأسيس‭ ‬لغة‭ ‬وأسلوب‭ ‬يخصانه‭ ‬وحده‭. ‬وكلما‭ ‬تقدم‭ ‬في‭ ‬مسيرته‭ ‬بدا‭ ‬هذا‭ ‬الصوت‭ ‬أكثر‭ ‬خصوصية‭. ‬

أما‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الإنساني‭ ‬فهو‭ ‬بالتأكيد‭ ‬الأب‭ ‬الروحي‭ ‬للأدب‭ ‬الكويتي،‭ ‬تجمعه‭ ‬علاقات‭ ‬المودة‭ ‬والإنسانية‭ ‬مع‭ ‬الجميع،‭ ‬من‭ ‬الأجيال‭ ‬والتيارات‭ ‬الأدبية‭ ‬في‭ ‬الكويت‭ ‬كافة‭. ‬ولا‭ ‬يمر‭ ‬يوم‭ ‬إلا‭ ‬وتجده‭ ‬حاضرا‭ ‬لأمسية‭ ‬أدبية‭ ‬أو‭ ‬مناقشة‭ ‬لكاتب‭ ‬شاب،‭ ‬أو‭ ‬شاعرة‭ ‬من‭ ‬الأجيال‭ ‬الجديدة،‭ ‬وفي‭ ‬مكتبه‭ ‬حيث‭ ‬يتفرغ‭ ‬للعمل‭ ‬الأدبي‭ ‬والكتابة‭ ‬منذ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عقدين،‭ ‬تجد‭ ‬بابه‭ ‬مفتوحا‭ ‬لمن‭ ‬يرغب‭ ‬من‭ ‬أصدقائه‭ ‬الكتاب‭ ‬والشباب،‭ ‬يمنحونه‭ ‬مخطوطات‭ ‬أعمالهم‭ ‬الأدبية،‭ ‬أو‭ ‬نسخا‭ ‬من‭ ‬أعمال‭ ‬جديدة،‭ ‬ولا‭ ‬تجده‭ ‬إلا‭ ‬مهتما،‭ ‬يقرأ‭ ‬ويمنح‭ ‬من‭ ‬وقته،‭ ‬ويعطي‭ ‬ملاحظاته‭ ‬وانطباعاته‭. ‬

وأعتقد‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬السمت‭ ‬الإنساني‭ ‬يتجلى‭ ‬بشكل‭ ‬ساطع‭ ‬في‭ ‬نصوصه‭ ‬الأدبية،‭ ‬ربما‭ ‬بما‭ ‬يفوق‭ ‬أي‭ ‬كاتب‭ ‬عربي‭ ‬آخر،‭ ‬وأقصد‭ ‬بالإنسانية‭ ‬هنا،‭ ‬أن‭ ‬اهتمامه‭ ‬كأديب،‭ ‬بعد‭ ‬الأولوية‭ ‬الأولى‭ ‬المكرسة‭ ‬للتجريب‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬أساليب‭ ‬سردية‭ ‬خاصة،‭ ‬لا‭ ‬يتوقف‭ ‬على‭ ‬المجتمع‭ ‬الكويتي‭ ‬وهمومه،‭ ‬بل‭ ‬يتعدى‭ ‬ذلك‭ ‬لقضايا‭ ‬الإنسانية‭ ‬أيا‭ ‬كان‭ ‬موطنها‭.‬

‭ ‬

أدب‭ ‬إنساني‭ ‬النزعة

على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬ستجد‭ ‬أن‭ ‬عمله‭ ‬المتفرد‭ ‬‮«‬النيل‭ ‬الطعم‭ ‬والرائحة‮»‬،‭ ‬والذي‭ ‬صدر‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1987‭ ‬يتبنى‭ ‬قصة‭ ‬حب‭ ‬بين‭ ‬البطل‭ ‬وهو‭ ‬فلسطيني‭ ‬الجنسية‭ ‬وبين‭ ‬بطلة‭ ‬العمل‭ ‬المصرية‭. ‬رواية‭ ‬طويلة‭ ‬بينما‭ ‬زمن‭ ‬الحدث‭ ‬الرئيس‭ ‬فيها‭ ‬لا‭ ‬يتجاوز‭ ‬ليلتين‭ ‬يذهب‭ ‬فيهما‭ ‬الراوي‭ ‬سليمان‭ ‬الحلبي،‭ ‬الفدائي‭ ‬الفلسطيني،‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة،‭ ‬لتنفيذ‭ ‬عملية‭ ‬اغتيال‭ ‬لأحد‭ ‬رموز‭ ‬التطبيع‭ ‬وخيانة‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬فيقع‭ ‬في‭ ‬غرام‭ ‬نادلة‭ ‬مقهى‭ ‬الفندق،‭ ‬فندق‭ ‬شبرد،‭ ‬شيرين،‭ ‬وتتوالى‭ ‬تداعيات‭ ‬الذاكرة‭ ‬وقصة‭ ‬حياة‭ ‬الفتاة‭ ‬ناسجة‭ ‬نصا‭ ‬سرديا‭ ‬بديعا‭. ‬يتناول‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأفكار‭ ‬عن‭ ‬الحب‭ ‬والعمل‭ ‬الثوري‭ ‬والخيانة‭ ‬ومعنى‭ ‬العمل‭ ‬الفدائي‭ ‬والخوف‭ ‬والشجاعة‭. ‬

وقد‭ ‬حصل‭ ‬إسماعيل‭ ‬فهد‭ ‬إسماعيل‭ ‬على‭ ‬الجائزة‭ ‬التشجيعية‭ ‬في‭ ‬الكويت‭ ‬في‭ ‬ثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬العلامة‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬الشياح‮»‬‭ ‬فيتناول‭ ‬تعقيدات‭ ‬الحالة‭ ‬اللبنانية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تفاصيل‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬في‭ ‬بيروت‭ ‬منتصف‭ ‬السبعينيات،‭ ‬محاولا‭ ‬أن‭ ‬يلقي‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬تفاصيل‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬بالغ‭ ‬التعقيد‭ ‬للتركيبة‭ ‬الطائفية‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬وانعكاسها‭ ‬على‭ ‬المواطن‭ ‬اللبناني،‭ ‬محاولا‭ ‬أن‭ ‬يفك‭ ‬شفرة‭ ‬التعقيد‭ ‬الطائفي‭ ‬في‭ ‬التركيبة‭ ‬السكانية‭ ‬اللبنانية‭ ‬وانعكاسها‭ ‬على‭ ‬الذهنية‭ ‬اللبنانية‭ ‬وسلوكياتها،‭ ‬كما‭ ‬يتأمل‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته‭ ‬فكرة‭ ‬الطائفية‭ ‬نفسها‭ ‬حين‭ ‬تتحول‭ ‬من‭ ‬جوهر‭ ‬قضيتها‭ ‬الرئيس‭ ‬المتعلق‭ ‬بالعقيدة‭ ‬والأخلاق،‭ ‬إلى‭ ‬مجرد‭ ‬وسيلة‭ ‬للاقتتال‭ ‬الطائفي،‭ ‬ومحاولة‭ ‬ضرب‭ ‬المشروع‭ ‬التعددي‭ ‬اللبناني‭. ‬وقبل‭ ‬هذا‭ ‬كله‭ ‬يكتب‭ ‬عملا‭ ‬روائيا‭ ‬فريدا‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬النيل‭ ‬يجري‭ ‬شمالا‮»‬‭ ‬يتناول‭ ‬بشكل‭ ‬درامي‭ ‬تعقيدات‭ ‬حياة‭ ‬فتاتين‭ ‬مصريتين‭ ‬تعيشان‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬تدعى‭ ‬‮«‬كفر‭ ‬عسل‮»‬،‭ ‬قريبا‭ ‬من‭ ‬منطقة‭ ‬الجيزة،‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬تاريخية‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬عهد‭ ‬المماليك،‭ ‬مسلطا‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬فكرة‭ ‬القهر‭ ‬والعبودية‭ ‬بين‭ ‬الإقطاع‭ ‬والسلطة‭ ‬وبين‭ ‬الشعب‭ ‬الفقير‭. ‬وهو‭ ‬بالمناسبة‭ ‬ربما‭ ‬العمل‭ ‬الوحيد‭ ‬بين‭ ‬أعمال‭ ‬إسماعيل‭ ‬فهد‭ ‬جميعا،‭ ‬تقريبا،‭ ‬الذي‭ ‬تخلى‭ ‬فيه‭ ‬عن‭ ‬نزعته‭ ‬للتكثيف‭ ‬واستخدام‭ ‬الجمل‭ ‬المبتورة‭ ‬والحيل‭ ‬السردية‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬التقطيع‭ ‬بطريقة‭ ‬المونتاج‭ ‬السينمائي‭ ‬التي‭ ‬ميزت‭ ‬أعمالا‭ ‬أخرى‭ ‬عديدة‭ ‬من‭ ‬أعماله‭ ‬الروائية‭. ‬فقد‭ ‬التزم‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النص،‭ ‬نبرة‭ ‬سردية‭ ‬تناسب‭ ‬الطابع‭ ‬التاريخي‭ ‬للرواية،‭ ‬ومنح‭ ‬السرد‭ ‬نفسا‭ ‬طويلا‭ ‬وأعطى‭ ‬للجملة‭ ‬السردية‭ ‬حقها‭ ‬كاملا‭.‬

 

جهد‭ ‬بحثي‭ ‬روائي

وفي‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬النصوص‭ ‬يمكن‭ ‬للقارئ‭ ‬أن‭ ‬يستشعر‭ ‬مستوى‭ ‬الجهد‭ ‬البحثي‭ ‬المبذول‭ ‬من‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬تقمص‭ ‬روح‭ ‬البيئات‭ ‬التي‭ ‬يتحدث‭ ‬عنها،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬المشاهدة‭ ‬والتتبع‭ ‬الجغرافي‭ ‬ووصف‭ ‬الأماكن‭ ‬والطرقات‭ ‬والبشر،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬التقصي‭ ‬التاريخي‭ ‬للأحداث‭ ‬المعاصرة‭ ‬والتاريخية،‭ ‬إضافة‭ ‬للإقناع‭ ‬في‭ ‬تقمص‭ ‬الشخصيات‭ ‬والهوية‭ ‬التي‭ ‬يمثلها‭ ‬كل‭ ‬منها‭.‬

لكن‭ ‬في‭ ‬نصوص‭ ‬أخرى‭ ‬نجده‭ ‬يتخذ‭ ‬مسرحا‭ ‬عالميا‭ ‬أو‭ ‬عولميا‭ ‬للأحداث،‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬الكويت‭ ‬أو‭ ‬العراق‭ ‬أو‭ ‬مصر‭ ‬أو‭ ‬الشام،‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬تأثير‭ ‬البيئة‭ ‬المحلية‭ ‬على‭ ‬الشخوص‭ ‬هو‭ ‬هم‭ ‬الراوي‭ ‬هنا،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬الهم‭ ‬الإنساني‭ ‬العام‭ ‬هو‭ ‬موضع‭ ‬الرسالة‭ ‬الفنية‭ ‬والأدبية،‭ ‬وعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬ففي‭ ‬روايته‭ ‬القصيرة،‭ ‬أو‭ ‬بالأحرى‭ ‬‮«‬النوفيلا‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬الحبل‮»‬‭ ‬يتتبع‭ ‬النص‭ ‬‮«‬حالة‮»‬‭ ‬شخص‭ ‬يبدو‭ ‬شديد‭ ‬التعلق‭ ‬بحبل‭ ‬الغسيل،‭ ‬ويبدو‭ ‬له‭ ‬هذا‭ ‬الحبل‭ ‬مثل‭ ‬هاجس‭ ‬ذهني،‭ ‬يقوم‭ ‬الكاتب‭ ‬باللعب‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مستوى،‭ ‬فهو‭ ‬حبل‭ ‬الغسيل‭ ‬الذي‭ ‬يحمل‭ ‬ثياب‭ ‬زوجته،‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬تال‭ ‬حبل‭ ‬الغسيل‭ ‬المستهدف‭ ‬بالسرقة‭ ‬لأجل‭ ‬أن‭ ‬يحضر‭ ‬ما‭ ‬يستقر‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬ثياب‭ ‬لها‭. ‬وهو‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬ثالث‭ ‬وسيلته،‭ ‬كلص‭ ‬محترف‭ ‬في‭ ‬التسلق‭ ‬إلى‭ ‬نوافذ‭ ‬الشقق‭ ‬التي‭ ‬يرغب‭ ‬في‭ ‬سرقتها،‭ ‬ثم‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬آخر‭ ‬هو‭ ‬الحبل‭ ‬الذي‭ ‬أدمى‭ ‬كفيه‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬طفلا‭ ‬صغيرا،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬دخل‭ ‬السينما‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬ليشاهد‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬طرزان‮»‬،‭ ‬وحين‭ ‬حاول‭ ‬أن‭ ‬يقلد‭ ‬طرزان‭ ‬وكاد‭ ‬يسقط‭ ‬تشبث‭ ‬بالحبل‭ ‬حتى‭ ‬احترقت‭ ‬يداه‭ ‬بالتمزق‭ ‬والألم‭ ‬وسقط‭ ‬بهما‭ ‬داميتين‭. ‬

والحبل،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬هو‭ ‬غاية‭ ‬بطل‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬محاولته‭ ‬لكي‭ ‬يستعيد‭ ‬حقه‭ ‬المسلوب‭ ‬من‭ ‬السلطة‭. ‬السلطة‭ ‬التي‭ ‬منعته‭ ‬من‭ ‬السفر‭ ‬من‭ ‬العراق‭ ‬إلى‭ ‬الكويت‭ ‬لكي‭ ‬يجد‭ ‬فرصة‭ ‬للقضاء‭ ‬على‭ ‬الفقر،‭ ‬وفي‭ ‬الساعات‭ ‬القليلة‭ ‬التي‭ ‬قضاها‭ ‬هناك‭ ‬وحصل‭ ‬على‭ ‬مبلغ‭ ‬عشرين‭ ‬دينارا‭ ‬كان‭ ‬سعيدا‭ ‬أنه‭ ‬سيعود‭ ‬بها‭ ‬لزوجته،‭ ‬صودرت‭ ‬منه،‭ ‬وظل‭ ‬بعدها‭ ‬لا‭ ‬يفكر‭ ‬سوى‭ ‬في‭ ‬الثأر‭ ‬من‭ ‬مغتصبي‭ ‬العشرين‭ ‬دينارا،‭ ‬وهكذا‭ ‬قرر‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬لصا،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬ولن‭ ‬يسرق‭ ‬سوى‭ ‬رجال‭ ‬السلطة،‭ ‬وبالتحديد‭ ‬رجال‭ ‬الشرطة‭. ‬إنه‭ ‬روبين‭ ‬هود‭ ‬عربي،‭ ‬صوره‭ ‬إسماعيل‭ ‬فهد‭ ‬بأسلوبه‭ ‬الخاص،‭ ‬ليبدو‭ ‬لنا‭ ‬روحا‭ ‬ملتهبة‭ ‬بالقهر‭ ‬والألم‭ ‬والغبن‭ ‬والإحباط‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬لا‭ ‬يحترم‭ ‬الفقراء‭ ‬ولا‭ ‬يساعدهم‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يتجاوزوا‭ ‬فقرهم،‭ ‬مجتمع‭ ‬لا‭ ‬يجد‭ ‬فيه‭ ‬الفقير‭ ‬من‭ ‬ينصره،‭ ‬فيضطره‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬حقه‭ ‬بنفسه‭ ‬وأخذ‭ ‬ثأره‭ ‬بيديه‭ ‬من‭ ‬مغتصبي‭ ‬حقه‭.‬

 

أول‭ ‬نص

بينما‭ ‬نشر‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1972‭ ‬لأول‭ ‬مرة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬إسماعيل‭ ‬فهد‭ ‬إسماعيل‭ ‬أوضح‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬قد‭ ‬كتب‭ ‬قبل‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬كانت‭ ‬السماء‭ ‬زرقاء‮»‬،‭ ‬وبالتحديد‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1961‭. ‬والمعروف‭ ‬أن‭ ‬أول‭ ‬نص‭ ‬نشر‭ ‬لإسماعيل‭ ‬فهد،‭ ‬بدعم‭ ‬من‭ ‬صلاح‭ ‬عبدالصبور‭ ‬وعبدالرحمن‭ ‬الأبنودي‭ ‬هو‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬كانت‭ ‬السماء‭ ‬زرقاء‮»‬‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1970،‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬انتهى‭ ‬من‭ ‬كتابتها‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1965،‭ ‬لكنها‭ ‬منعت‭ ‬من‭ ‬النشر‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬وفي‭ ‬سورية،‭ ‬ولم‭ ‬يتم‭ ‬نشرها‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬أخيرا‭ ‬في‭ ‬1970‭. ‬وقد‭ ‬كتب‭ ‬عبدالصبور‭ ‬في‭ ‬تقديمه‭ ‬للرواية‭:‬

‭ ‬‮«‬كانت‭ ‬الرواية‭ ‬مفاجأة‭ ‬كبيرة‭ ‬لي،‭ ‬فهذه‭ ‬الرواية‭ ‬جديدة‭ ‬كما‭ ‬أتصور‭. ‬رواية‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭. ‬قادمة‭ ‬من‭ ‬أقصى‭ ‬المشرق‭ ‬العربي،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬تقاليد‭ ‬لفن‭ ‬الرواية،‭ ‬وحيث‭ ‬مازالت‭ ‬الحياة‭ ‬تحتفظ‭ ‬للشعر‭ ‬بأكبر‭ ‬مكان‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬سر‭ ‬دهشتي‭ ‬هو‭ ‬ذلك‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬لعل‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يدهشني‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أدهشتني‭ ‬الرواية‭ ‬ذاتها‭ ‬ببنائها‭ ‬الفني‭ ‬المعاصر‭ ‬المحكم،‭ ‬وبمقدار‭ ‬اللوعة‭ ‬والحب‭ ‬والعنف‭ ‬والقسوة‭ ‬والفكر‭ ‬المتغلغل‭ ‬كله‭ ‬في‭ ‬ثناياها‮»‬‭.‬

 

نقد‭ ‬اجتماعي

في‭ ‬مرحلة‭ ‬متقدمة‭ ‬من‭ ‬مشروعه‭ ‬الفني‭ ‬سنجد‭ ‬أن‭ ‬إسماعيل‭ ‬فهد‭ ‬لا‭ ‬يفلت‭ ‬مشروعه‭ ‬الأدبي‭ ‬الإنساني‭ ‬العالمي‭ ‬حتى‭ ‬وهو‭ ‬يقارب‭ ‬بعض‭ ‬المشكلات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬في‭ ‬الكويت‭. ‬ففي‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬بعيدا‭ ‬إلى‭ ‬هنا‮»‬‭ ‬يتناول‭ ‬مجتمع‭ ‬الوفرة‭ ‬الكويتي‭ ‬بعد‭ ‬النفط،‭ ‬وما‭ ‬أصابه‭ ‬نتيجة‭ ‬هذه‭ ‬الوفرة‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬السلوكيات‭ ‬السلبية‭ ‬وفي‭ ‬قلبها‭ ‬قضية‭ ‬تربية‭ ‬الأطفال،‭ ‬حيث‭ ‬سادت‭ ‬ظاهرة‭ ‬استعانة‭ ‬الأزواج‭ ‬بالخادمات‭ ‬للعناية‭ ‬بالأطفال‭. ‬

يتوزع‭ ‬السرد‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬بين‭ ‬ضمير‭ ‬الغائب‭ ‬حين‭ ‬يصف‭ ‬وقائع‭ ‬اكتشاف‭ ‬الزوجة‭ ‬فقدانها‭ ‬لعقد‭ ‬ماسي‭ ‬ببضعة‭ ‬آلاف‭ ‬من‭ ‬الدينارات،‭ ‬أصرت‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يشتريه‭ ‬لها‭ ‬زوجها‭ ‬رغم‭ ‬معارضته‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إرضاء‭ ‬نزعة‭ ‬استهلاكية‭ ‬أصابت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬سيدات‭ ‬المجتمع‭ ‬الكويتي‭ ‬آنذاك،‭ ‬واتهامها‭ ‬للخادمة‭ ‬السيلانية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬رعاية‭ ‬ابن‭ ‬العائلة‭ ‬الكويتية‭ ‬بضمير‭ ‬أمومي‭ ‬تام،‭ ‬حتى‭ ‬تعلق‭ ‬بها‭ ‬الطفل‭ ‬تعلق‭ ‬الابن‭ ‬بأمه،‭ ‬ثم‭ ‬يأتي‭ ‬ضمير‭ ‬المتكلم‭ ‬ليعبر‭ ‬عن‭ ‬مونولوج‭ ‬داخلي‭ ‬للفتاة‭ ‬السيلانية‭ ‬‮«‬كومار‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬وجدت‭ ‬نفسها‭ ‬بين‭ ‬ليلة‭ ‬وضحاها‭ ‬في‭ ‬المخفر‭ ‬متهمة‭ ‬بجريمة‭ ‬لم‭ ‬ترتكبها،‭ ‬مصابة‭ ‬بالرعب‭ ‬والألم،‭ ‬بينما‭ ‬تتوزع‭ ‬مشاعرها‭ ‬المشتتة‭ ‬بين‭ ‬الطفل‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬تتخل‭ ‬عنه‭ ‬لحظة‭ ‬واحدة‭ ‬منذ‭ ‬وطأت‭ ‬قدماها‭ ‬أرض‭ ‬الكويت،‭ ‬وبين‭ ‬الكوارث‭ ‬التي‭ ‬تركتها‭ ‬خلفها‭ ‬في‭ ‬بلادها،‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬كولومبو،‭ ‬أب‭ ‬مريض‭ ‬بالسرطان‭ ‬بعد‭ ‬وفاة‭ ‬الأم،‭ ‬وحبيب‭ ‬ينتظر‭ ‬عودتها‭ ‬لكي‭ ‬يعيش‭ ‬معها‭ ‬حياتها‭ ‬المؤجلة،‭ ‬وتفاصيل‭ ‬الواقع‭ ‬المأساوي‭ ‬الفقير‭. ‬

 

مراحل‭ ‬سردية

أجدني‭ ‬هنا‭ ‬مضطرا‭ ‬للتوقف‭ ‬أمام‭ ‬ظاهرة‭ ‬خاصة‭ ‬بنقلة‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬السرد‭ ‬الإسماعيلي‭. ‬وأظن‭ ‬أنني،‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬ما‭ ‬قرأت‭ ‬من‭ ‬أعمال‭ ‬إسماعيل،‭ ‬وقد‭ ‬قرأت‭ ‬نصف‭ ‬أعماله‭ ‬تقريبا‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬25‭ ‬رواية‭ ‬وقصة‭. ‬يمكنني‭ ‬أن‭ ‬أجد‭ ‬أن‭ ‬السرد‭ ‬لديه‭ ‬مر‭ ‬بأربع‭ ‬مراحل‭ ‬تقريبا‭. ‬

المرحلة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬تبدأ‭ ‬مع‭ ‬أول‭ ‬نصوصه‭ ‬وحتى‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬النيل‭ ‬الطعم‭ ‬والرائحة‮»‬‭ ‬الصادرة‭ ‬عام‭ ‬1989‭. ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬انحيازه‭ ‬فيها‭ ‬جميعا‭ ‬للتجريب‭ ‬واضحا،‭ ‬لكنه‭ ‬حافظ‭ ‬على‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التوازن‭ ‬المقبول‭ ‬بين‭ ‬الاختزال‭ ‬والتكثيف‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يتعارض‭ ‬مع‭ ‬سيولة‭ ‬السرد‭ ‬والجملة‭ ‬السردية‭. ‬

ثم‭ ‬جاءت‭ ‬فترة‭ ‬الغزو،‭ ‬وبقي‭ ‬إسماعيل‭ ‬فهد‭ ‬بين‭ ‬من‭ ‬قرروا‭ ‬البقاء‭ ‬في‭ ‬الكويت،‭ ‬بل‭ ‬وانخرط‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬المقاومة‭ ‬الوطنية،‭ ‬سواء‭ ‬المدنية‭ ‬أو‭ ‬المسلحة‭. ‬وبعد‭ ‬التحرير،‭ ‬سافر‭ ‬إلى‭ ‬الفلبين‭,‬‭ ‬وهناك‭ ‬أنجز‭ ‬سباعيته‭ ‬الشهيرة‭ ‬‮«‬إحداثيات‭  ‬زمن‭ ‬العزلة‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬قدم‭ ‬فيها‭ ‬ملحمة‭ ‬سردية‭ ‬لقصة‭ ‬غزو‭ ‬الكويت‭ ‬وتحريرها‭ ‬من‭ ‬الاجتياح‭ ‬الصدامي‭ ‬الغاشم،‭ ‬وانعكاس‭ ‬تلك‭ ‬الوقائع‭ ‬على‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬لمواطني‭ ‬الداخل‭ ‬الكويتي،‭ ‬ومن‭ ‬بقي‭ ‬معهم‭ ‬من‭ ‬الوافدين‭. ‬وهذه‭ ‬هي‭ ‬المرحلة‭ ‬السردية‭ ‬الثانية‭ ‬في‭ ‬مشوار‭ ‬إسماعيل‭ ‬فهد‭.‬

وثالثا‭ ‬بدأت‭ ‬مرحلة‭ ‬أدبية‭ ‬أخرى‭ ‬منذ‭ ‬نهاية‭ ‬التسعينيات،‭ ‬بينها‭ ‬نص‭ ‬‮«‬بعيدا‭ ‬إلى‭ ‬هناك‮»‬،‭ ‬وفيها‭ ‬بدأ‭ ‬ينحاز‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬إلى‭ ‬التكثيف‭ ‬والإيجاز‭ ‬بشكل‭ ‬مبالغ‭ ‬فيه،‭ ‬وبالحوار‭ ‬الذي‭ ‬يشغل‭ ‬جانبا‭ ‬كبيرا‭ ‬من‭ ‬متن‭ ‬تلك‭ ‬الأعمال‭. ‬وربما‭ ‬يعود‭ ‬ذلك‭ ‬إما‭ ‬إلى‭ ‬تأثره‭ ‬بكتابة‭ ‬السيناريو‭ ‬للدراما،‭ ‬وإما‭ ‬لانحيازه‭ ‬لقيم‭ ‬التكثيف‭ ‬بشكل‭ ‬أكبر‭. ‬وربما‭ ‬أيضا‭ ‬لتأكيد‭ ‬شكل‭ ‬سردي‭ ‬مميز،‭ ‬يذكرنا‭ ‬أحيانا‭ ‬بأعمال‭ ‬آلان‭ ‬ديلون‭ ‬في‭ ‬السينما،‭ ‬أو‭ ‬بالطريقة‭ ‬التي‭ ‬يتحدث‭ ‬بها‭ ‬أبطال‭ ‬أعمال‭ ‬الفنان‭ ‬المصري‭ ‬الراحل‭ ‬يوسف‭ ‬شاهين،‭ ‬حيث‭ ‬يبدون‭ ‬جميعا‭ ‬وكأنهم‭ ‬يتحدثون‭ ‬بطريقة‭ ‬المخرج‭. ‬وربما‭ ‬يعود‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬حلم‭ ‬إسماعيل‭ ‬فهد‭ ‬إسماعيل‭ ‬القديم‭ ‬بالكتابة‭ ‬للسينما‭.‬

وأخيرا‭ ‬المرحلة‭ ‬الرابعة‭ ‬مع‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬العنقاء‭ ‬والخل‭ ‬الوفي‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬استعاد‭ ‬فيها‭ ‬الحس‭ ‬السردي‭ ‬الملحمي،‭ ‬مع‭ ‬تقنيات‭ ‬سردية‭ ‬جديدة‭ ‬بدا‭ ‬فيها‭ ‬اهتمامه‭ ‬بالوصف‭ ‬والسرد‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الحوار،‭ ‬وببناء‭ ‬روائي‭ ‬له‭ ‬تكنيك‭ ‬شديد‭ ‬التركيز‭ ‬والتماسك‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬النفس‭ ‬الملحمي‭.‬

 

مسك‭ ‬وظاهرة‭ ‬‮«‬التقليلية‮»‬‭!‬

أظن‭ ‬أن‭ ‬روايته‭ ‬القصيرة،‭ ‬أو‭ ‬بالأحرى‭ ‬النوفيلا‭ ‬التي‭ ‬صدرت‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬مسك‮»‬‭ ‬كانت‭ ‬بمنزلة‭ ‬ذروة‭ ‬ما‭ ‬وصل‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬الاختزال‭ ‬والاقتضاب‭ ‬في‭ ‬أعماله‭ ‬الأدبية‭ ‬جميعا‭. ‬

فعندما‭ ‬انتهيت‭ ‬من‭ ‬قراءة‭ ‬نص‭ ‬‮«‬مسك‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬وفي‭ ‬أثناء‭ ‬القراءة،‭ ‬لاحظت‭ ‬تنبه‭ ‬حواسي‭ ‬للاختزال‭ ‬الشديد‭ ‬في‭ ‬النص،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬استدعى‭ ‬لديَّ‭ ‬ظاهرة‭ ‬فنية‭ ‬تجلت‭ ‬خلال‭ ‬ستينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬في‭ ‬مجالي‭ ‬الفن‭ ‬التشكيلي‭ ‬والموسيقى،‭ ‬تمثلت‭ ‬في‭ ‬تقليل‭ ‬عناصر‭ ‬اللوحة‭ ‬التشكيلية‭ ‬أو‭ ‬القطعة‭ ‬الموسيقية‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الآلات‭ ‬أو‭ ‬النوتة‭ ‬الخاصة‭ ‬بكل‭ ‬آلة،‭ ‬وتحولت‭ ‬إلى‭ ‬صرعة‭ ‬حداثية‭ ‬عرفت‭ ‬بالمينيماليزم،‭ ‬Minimalism،‭ ‬ظهرت‭ ‬لمناهضة‭ ‬بعض‭ ‬الاتجاهات‭ ‬العبثية‭ ‬في‭ ‬الفن‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬أصبحت‭ ‬جسرا‭ ‬بين‭ ‬الحداثة‭ ‬وما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة،‭ ‬وخصوصا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬انتقلت‭ ‬لاحقا‭ ‬إلى‭ ‬مجالات‭ ‬فنية‭ ‬أخرى‭ ‬مثل‭ ‬الفنون‭ ‬البصرية،‭ ‬ووصولا‭ ‬إلى‭ ‬التصميم‭ ‬الداخلي‭ ‬المستلهم‭ ‬من‭ ‬الفلسفة‭ ‬اليابانية،‭ ‬وخاصة‭ ‬من‭ ‬أسلوب‭ ‬‮«‬الفينج‭ ‬شوي‮»‬‭.‬

في‭ ‬نص‭ ‬‮«‬ِمسكْ‮»‬‭ ‬يعتمد‭ ‬إسماعيل‭ ‬فهد‭ ‬إسماعيل‭ ‬هذه‭ ‬النظرية‭ ‬الفنية‭ ‬ببراعة،‭ ‬إذ‭ ‬إنه‭ ‬يعمد‭ ‬إلى‭ ‬تقليل‭ ‬عناصر‭ ‬الرواية‭ ‬إلى‭ ‬أقل‭ ‬حد‭ ‬ممكن،‭ ‬سواء‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الحيز‭ ‬المكاني‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يزيد‭ ‬عن‭ ‬مساحة‭ ‬طائرة‭ ‬ضيقة،‭ ‬ثم‭ ‬ردهة‭ ‬انتظار‭ ‬ضيقة‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬المطارات‭ ‬الأوربية،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الزمن؛‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يتجاوز‭ ‬زمن‭ ‬الرواية‭ ‬الأساسي‭ ‬مسافة‭ ‬الرحلة‭ ‬من‭ ‬الكويت‭ ‬إلى‭ ‬أثينا،‭ ‬ومنها‭ ‬إلى‭ ‬برلين،‭ ‬أو‭ ‬مستوى‭ ‬الشخصيات؛‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬نرى‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬سوى‭ ‬الراوي‭ ‬وثلاثة‭ ‬نماذج‭ ‬أخرى‭ ‬ممن‭ ‬تعرضوا‭ ‬للاشتباه‭ ‬في‭ ‬مطار‭ ‬أثينا‭ ‬من‭ ‬سلطات‭ ‬المطار‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬فوبيا‭ ‬الإسلام‭ ‬والعرب‭ ‬التي‭ ‬أصابت‭ ‬الغرب‭ ‬عقب‭ ‬أحداث‭ ‬الحادي‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬سبتمبر،‭ ‬التي‭ ‬مازالت‭ ‬آثارها‭ ‬ماثلة‭ ‬حولنا‭ ‬حتى‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭.‬

أما‭ ‬الزمن‭ ‬الاعتباري‭ ‬للرواية‭ ‬فيمتد‭ ‬إلى‭ ‬عشرين‭ ‬عاما‭ ‬تحملها‭ ‬ذاكرة‭ ‬الراوي‭ ‬وتختزلها‭ ‬في‭ ‬واقعة‭ ‬حضوره‭ ‬لليونان‭ ‬مع‭ ‬حبيبته‭ ‬وزوجته‭ ‬السابقة‭ ‬إيمان‭ ‬قبل‭ ‬عشرين‭ ‬عاما‭ ‬إلى‭ ‬أثينا‭ ‬لقضاء‭ ‬شهر‭ ‬العسل‭.‬

  ‬وتتقاطع‭ ‬وقائع‭ ‬قصة‭ ‬الحب‭ ‬ذ‭ ‬الزواج‭ - ‬الطلاق،‭ ‬مع‭ ‬قصة‭ ‬الرحلة‭ ‬التي‭ ‬يتعرض‭ ‬فيها‭ ‬الراوي؛‭ ‬الدبلوماسي‭ ‬الكويتي،‭ ‬للتحقيق‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬سلطات‭ ‬مذعورة،‭ ‬تشتبه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شخص؛‭ ‬لمجرد‭ ‬أنه‭ ‬عربي،‭ ‬وتخفق،‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬احتياطاتها،‭ ‬من‭ ‬تمرير‭ ‬شخصيات‭ ‬الإرهابيين‭ ‬إلى‭ ‬طائرة‭ ‬أخرى‭ ‬متجهة‭ ‬إلى‭ ‬برلين،‭ ‬تصادف‭ ‬كونها‭ ‬الطائرة‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬يتوجه‭ ‬فيها‭ ‬الراوي‭ ‬إلى‭ ‬جهة‭ ‬سفره‭.‬

‭ ‬وهكذا‭ ‬يضغط‭ ‬الكاتب‭ ‬المكان‭ ‬والزمن‭ ‬والحدث‭ ‬والشخصيات،‭ ‬ويستخدم‭ ‬لغة‭ ‬مكثفة‭ ‬مختزلة‭ ‬تتناسب‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬التقليل‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬عناصر‭ ‬السرد‭.‬

تلعب‭ ‬اللغة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬دورا‭ ‬بطوليا‭ ‬في‭ ‬تأكيد‭ ‬التناول‭ ‬الفني‭ ‬لظاهرة‭ ‬‮«‬المينيماليزم‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬‮«‬التقليلية‮»‬‭ ‬كما‭ ‬تترجمها‭ ‬بعض‭ ‬المعاجم،‭ ‬وصحيح‭ ‬أنها‭ ‬سمة‭ ‬عامة‭ ‬من‭ ‬سمات‭ ‬أعمال‭ ‬إسماعيل‭ ‬فهد،‭ ‬لكنها‭ ‬هنا‭ ‬تبدو‭ ‬مختزلة‭ ‬إلى‭ ‬أبعد‭ ‬حد‭ ‬ممكن،‭ ‬بحيث‭ ‬تبدو‭ ‬أحيانا‭ ‬كأنها‭ ‬مجرد‭ ‬دلالات‭ ‬مشفرة‭ ‬لمعاني‭ ‬قد‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الصفحات‭ ‬لوصفها‭.‬

‭ ‬ويأتي‭ ‬مسرح‭ ‬سرد‭ ‬وقائع‭ ‬تعرض‭ ‬الراوي‭ ‬للتحقيق،‭ ‬في‭ ‬أجواء‭ ‬الترقب‭ ‬والقلق‭ ‬والتوتر‭ ‬والخوف،‭ ‬ثم‭ ‬تعرض‭ ‬الطائرة‭ ‬التي‭ ‬تقله‭ ‬لاحقا‭ ‬إلى‭ ‬عمل‭ ‬إرهابي‭ ‬حقيقي،‭ ‬كمساحة‭ ‬مثالية‭ ‬للغة‭ ‬المتوترة‭ ‬التي‭ ‬تتناسب‭ ‬تماما‭ ‬مع‭ ‬هذه‭ ‬الأجواء‭.‬

‭ ‬وهي‭ ‬لغة‭ ‬قريبة‭ ‬جدا‭ ‬من‭ ‬اللغة‭ ‬التي‭ ‬استعملها‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬بوغريب‭ ‬مع‭ ‬التحية‮»‬‭ ‬من‭ ‬مجموعة‭ ‬‮«‬ما‭ ‬لا‭ ‬يراه‭ ‬نائم‮»‬،‭ ‬ربما‭ ‬لأن‭ ‬لها‭ ‬أجواء‭ ‬قريبة‭ ‬الشبه‭ ‬من‭ ‬أجواء‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬بشكل‭ ‬أو‭ ‬بآخر‭.‬

ولعل‭ ‬إسماعيل‭ ‬فهد‭ ‬قد‭ ‬انتبه‭ ‬بالفعل‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬وقرر‭ ‬أن‭ ‬ينقل‭ ‬نقلة‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬سرده،‭ ‬حيث‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬تعليقا‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الملاحظة‭: ‬أعمالي‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬بالفعل،‭ ‬باستثناء‭ ‬أعمال‭ ‬قليلة‭ ‬جدا‭ ‬بينها‭ ‬‮«‬النيل‭ ‬يجري‭ ‬شمالا‮»‬،‭ ‬تتسم‭ ‬بهذه‭ ‬السمة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أسميه‭ ‬دراما‭ ‬اللغة،‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يقتضيه‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬اختزال‭ ‬وتكثيف‭ ‬واختصار‭. ‬لكني‭ ‬أشعر‭ ‬الآن‭ ‬وخلال‭ ‬العمل‭ ‬الذي‭ ‬اكتبه‭ ‬باحتياجي‭ ‬لاستعادة‭ ‬روح‭ ‬اللغة‭ ‬المسهبة‭ ‬المشـــبعة‭ ‬بما‭ ‬تقتضيه‭ ‬الشخصيات‭ ‬ونكهة‭ ‬المكان،‭ ‬وأريد‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬رواية‭ ‬بمعناها‭ ‬الحقيقي،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬ينعكس‭ ‬على‭ ‬إنجازي،‭ ‬حيث‭ ‬أكتب‭ ‬الآن‭ ‬يوميا‭ ‬نصف‭ ‬صفحة‭ ‬فقط،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬تفرغي،‭ ‬وهو‭ ‬معدل‭ ‬أقل‭ ‬كثيرا‭ ‬مما‭ ‬اعتدت‭ ‬عليه،‭ ‬لكي‭ ‬تأخذ‭ ‬اللغة‭ ‬حقها‭ ‬كما‭ ‬أريد‭.‬

إن‭ ‬مسيرة‭ ‬إسماعيل‭ ‬فهد‭ ‬إسماعيل‭ ‬الروائية‭ ‬والسردية‭ ‬عموما‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬التجارب‭ ‬الأدبية‭ ‬العربية‭ ‬الخصبة،‭ ‬والتي‭ ‬رغم‭ ‬أهميتها‭ ‬وما‭ ‬راكمته‭ ‬من‭ ‬منجز،‭ ‬ورغم‭ ‬ما‭ ‬حظيت‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬اهتمام‭ ‬نقدي‭ ‬أيضا،‭ ‬فإنها‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬لم‭ ‬تدرس‭ ‬بالشكل‭ ‬الكافي،‭ ‬ولم‭ ‬تحصل‭ ‬على‭ ‬حقها‭ ‬من‭ ‬التأمل‭ ‬والنقد‭ ‬الأكاديمي،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يأتي‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬إشكالات‭ ‬ضعف‭ ‬مستوى‭ ‬العلوم‭ ‬الإنسانية‭ ‬العربية‭ ‬والنقد‭ ‬في‭ ‬جوهرها‭. ‬

لكنها‭ ‬تظل‭ ‬تجربة‭ ‬استثنائية‭ ‬ألهمت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬أجيال‭ ‬الكتاب،‭ ‬ووجدت‭ ‬صداها‭ ‬عند‭ ‬مساحة‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬قراء‭ ‬الأدب‭ ‬العربي،‭ ‬وأظن‭ ‬أن‭ ‬الجيل‭ ‬الجديد‭ ‬في‭ ‬الكويت‭ ‬اليوم‭ ‬يقبل‭ ‬على‭ ‬قراءة‭ ‬أعمال‭ ‬إسماعيل‭ ‬فهد‭ ‬إسماعيل‭ ‬رغم‭ ‬حداثتها،‭ ‬ونزوعها‭ ‬للتجريب‭ ‬مما‭ ‬يؤكد‭ ‬تشكل‭ ‬ذائقة‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬لا‭ ‬أشك‭ ‬أنها‭ ‬ستتسع‭ ‬في‭ ‬المستقبل‭ ‬القريب‭. ‬

تبقى‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬إسماعيل‭ ‬فهد‭ ‬لعب‭ ‬دورا‭ ‬بارزا‭ ‬في‭ ‬تأريخ‭ ‬أجيال‭ ‬القصة‭ ‬في‭ ‬الكويت،‭ ‬وخصوصا‭ ‬أجيال‭ ‬الرواد،‭ ‬كما‭ ‬كتب‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬الكتاب‭ ‬من‭ ‬مجايليه‭ ‬وبينهم‭ ‬الشاعر‭ ‬علي‭ ‬السبتي،‭ ‬والكاتبة‭ ‬الرائدة‭ ‬ليلى‭ ‬العثمان،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الدراسات‭ ‬الأدبية‭ ‬والنقدية‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬والدراما‭ ‬والمسرح‭ ‬‭.