في حضرة العنقاء والخل الوفي.. رواية تخلق حلمها الخاص
بدأ إسماعيل روايته «بحلم» وكلّ عمل جيد يأخذ - غالباً - جودته من جودة البداية. والقوة التي امتلكتها بداية الرواية، حدّدت مسار العمل بأكمله. وقد أتت هذه القوة من خلال «بناء متماسك، دقة في التعبير، دلالة الكلمات وكفايتها الفكرية، ترابط نسيجها، الطاقة الإيمائية فيها، والمقدرة على إحالات محددة إلى أحداث ستترى أثناء السرد. يضاف إليه المشهدية التي يتمتع إسماعيل برسمها بدقة برسمها المتقن مقتصداً في لغته الخاصة حدّ خلق جملة لم يسبقه إليها أحد، ويعدّ إسماعيل متفرداً فيها.
لا أبالغ إذا قلت إنّ السبب الثاني هو أنّ هذه الرواية أخذت من إسماعيل عمراً، فهي خلاصة تجربته الروائية من حيث أسلوبها وتقنية كتابتها، وهي عملٌ عاشه قبل أن يكتبه. ليس غريباً أبداً أن يشعر المرء بعد قراءة هذه الرواية بأنّ إسماعيل فهد كان «بدون» أكثر من كونه كويتياً!
الحلم - كما عرّفه علماء النفس - نشاطٌ فكريٌ يحدث استجابة لمنبه أو دافع ما، يأتي على شكل صور وانفعالات وأحداث تتمثل لعقل الإنسان أثناء النوم. يرى عالم النفس ألفريد إدلر أنّ للحلم وظيفة توقعية، أي أنّ النائم يتنبأ من خلال الحلم بما يمكن أن يواجهه في المستقبل. أمّا كارل يونغ، فيرى أنّ الحلم ليس فقط استباقاً لما قد يحدث في المستقبل، ولكنّه ناتج عن نشاطات اللاوعي، وهو يرى أنّ الأحلام تقدم حلولا لمشكلات الإنسان في محاولة لإعادة التوازن إليه.
وقد تساءل بعض الباحثين عن إمكان وجود أنماط حلمية عامة على مستوى الشعوب، وعبر مراحل ثقافية معينة، بما يجعلنا نتساءل: إلى أيّ مدى يمكننا أن نحدد انتماء حلم إلى شعب من الشعوب بدراسة ثقافته وبيئته وطبيعة شعبه وأساطيره حتى؟
في رواية «في حضرة العنقاء والخل الوفي»، يحدّثنا المنسي بن أبيه عن حلم رآه، وعلى عكس المتوقع، فإن حلم المنسي لم يؤسس لما سيأتي من أحداث، بمعنى أنّه لم يمتلك تلك المقدرة التنبؤية التي تحدّث عنها إدلر، على الرغم من مجيئه في الصفحات الأولى من الرواية. فقد بدأ الحدث الروائي من النهاية مسترجعاً أحداثاً سبق ووقعت للمنسي. وبهذا نقض الروائي نظريات الحلم المتعارف عليها بأن بنى لنفسه رؤيا خاصة لخّصت الأحداث التي مرّت في حياته بحلم!
فعل إسماعيل فهد ذلك من موقع الراوي المدرك لمادته الفنية التي بين يديه، وهذا الإدراك هو ما صنع تفاصيل الحلم أيضاً. فمن الواضح أنّ الرابط بين قصة الراعية الحسناء «إيزيس» والحمار وقصة الحلم الذي رآه المنسي، رابطٌ خفي لم يتناسل منه الحدث وكأنّه تتمة أو استئناف، بل جاء بحبكة درامية عبر تفكيك ممنهج لتفكير الشخصية الحلمية. على الرغم من إمكان رؤية الراوي لذلك الحلم،يتكشف لنا أثناء الحدث الدرامي لحياة المنسي أنه يفكّر بهذه الطريقة، لكن لماذا جعله الكاتب يرى الحلم بعد انتهاء الحدث الحياتي وبداية الزمن الروائي؟
في الحلم يشعر المنسي بأنّ المرأة التي تركب الدراجة خلفه في طريق مبهم وليل مهيب، هي امرأة فاتنة، يعرف ذلك من طريقة ملامستها له، واحتضانها، وطراوة ذراعيها. ويتملّكه يقين أنّها عنود زوجته! عبرا سينما السيارات، ثمّ ترك لها القيادة على أن يتابعها مشياً.. ترجّل، وقادت الدراجة.. ثمّ ضاعت منه. كان يسمع صوتها الباكي يؤكد أنّها تستغيث به، لكنّه لا يراها. انتابه حزن مختلف، عبّر عنه بقوله:
«الحزن في سياق الأحلام يختلف عن حزن نعانيه في حالات الصحو، حزن الأحلام يجيء مقطرا ينتاب الجسد كلّه، يتشرّبه كلّه، يبقى هناك بطعم حنظلة ناجي العلي!».
لماذا كان الحزن هنا مرتبطاً بشخصية حنظلة وليس بأمر آخر قد يكون ألصق بالبيئة وأشدّ شبهاً بالمنسي؟ ذلك لأنّ الراوي كان يرى ذلك الشبه بين الشخصيتين إلى حدّ جعله يطلق اسم «حنظلة الكويتي» على المنسي ابن أبيه، الذي تابع بحثه في الحلم عن زوجته التي ضاعت منه.
هذا المشهد الحلمي ابن البيئة التي عاش فيها المنسي ولم يغادرها سوى مرّة واحدة. ويبدو منبثقاً عن نظرية الأحلام كما رآها علماء النفس. لم يكتفِ الراوي بسرد تفاصيل حلمه، بل حمّل ذلك الحلم كلّ ما يمكن أن ينتابه من أسئلة في حال الصحو. فهو وسط غابة الحور وأصوات الجنادب التي غطّت عليها أصوات العويل، يذهب يميناً ويساراً ولا يجد طريقاً إليها فيتساءل: «من الذي ضلّل الآخر أنا أم الطريق؟».
المفاجئ في الحلم أنّ المرأة التي اعتقد أنّها زوجته تكشفت بعد بحث طويل عن ابنته زينب التي لم يرها بعد. صحيح أنّ الحلم لم يسعفه برؤية وجهها أيضاً، لكنّه كان على يقين أنّها أجمل من أمّها. ثمّ صحا ليجد نفسه وقد حزّ الصندوق - صندوق زينب الذي سيترك لها فيه هذه الرواية عن حياته - وجهه وترك أثراً عميقاً، ومنعه في الوقت نفسه من متابعة الحديث مع زينب ليرهقه السؤال «لماذا تنبتر الأحلام ما قبل ذروة الانكشاف؟».
هنا يجب أن ينتهي الحلم ليبدأ القص الواقعي، لكنّ الراوي آثر أن يوضّح للقارئ رؤيته الخاصة عن الحلم بقوله: «الأحلام كما أراها انعكاس غرائبي لما هو مكبوت، لتجيء أحياناً تعويضاً لحرمان، توليفًا مغايراً لأمر يبدو مستحيلا واقعيا، تتضمن إشارات مأخوذة عن تفاصيل تخصنا. حلمي إياه حوى إشارات عديدة، ورود ملمح من رواية الحمار الذهبي، سينما السيارات، أمّك بتوقها لبلوغ القصد، ذكر خالك سعود من غير تحقق لوجود فعلي من جانبه، أنتِ بحضورك الطاغي دون أن تتوافر لي سانحة رؤية وجهك، الرائحة الزنخة واللون الفيروزي الشبيه بلون النفط الخام، المرتفع الصخري، المغارة والصخرة التي كنت جالسة عندها، غابة أشجار الحور، علماً بأنّ الحور أشجار لا تعطي ثمراً يؤكل، عدا ذلك الكويت خالية منها، أجزم بأنّ رؤيتي لها في المنام ترتبت بدورها عن سبب يتصل بامتهاني كتابات نقدية ذات علاقة بالشأن المسرحي في الساحة المحلية».
هكذا ألقى الروائي بمفاتيح الحلم كاملة بين يدي قارئه، تاركاً له باب التأويل مفتوحاً ليبحث عنه في المتن الروائي! كما تركه مشرعاً للبحث عن الغول «المستحيل الثالث» الذي اختفى من عنوان الرواية ليجثم على صدر المنسي طوال زمن الحدث الروائي والحياتي!
الغول
في الصفحة 48، يبدأ المنسي بن أبيه بالحديث عن صراعه مع الغول «المستحيل الثالث». والغول كلمة رائجة في المجتمع العربي لوصف وحش خيالي، أو فوبيا أسطورية لشيء مفترس. عادة ما يستخدم هذا المصطلح في القصص الشعبية، أو لوصف كائن مجهول مخيف اعتادت الأمّهات والجدّات أن يُخفن به الأطفال ليخلدوا للنوم مبكراً. عرّف سيبويه الكلمة بأنّها «كلّ ما اغتال الإِنسانَ فأَهلكه فهو غُول. وتَغَوَّلتهم الغُول: تُوِّهوا».
كانت العرب تزعم أنّ الغول في الفلاة تتراءى للناس فتتغول تغولاً، أي تتلوّن تلوناً في صور شتى، وتغولهم، أي تضلهم عن الطريق وتهلكهم. وهكذا منذ وعى المنسي على الدنيا من حوله، أدرك أنّه يصارع غولاً غير مرئي ولكنّه معروف بالإدراك والحسّ. يصارعه محاولاً التخلص منه، لكنّه يتغلّب عليه في أوّل جولة، سالباً إياه «حق المواطنة» ويتركه منهكاً يائساً.
والدة المنسي السيدة البسيطة لم تكن تحلم في حياتها سوى بأن ترى أولاده:
«اعتادت أمّي أن تجمع كفّيها عند صدرها، ترفع عينيها نحو السقف: ربّي تبلّغني بعيال منسي! التبليغ يعني زواجاً مسبقاً، يعني صنف تمنٍ عالٍيًا، والتمني لدى البدون أمثالنا سقف منخفض جداً». لكن من أعطاها الحقّ في الحلم والغول يقف وراء الباب الذي ترفع يديها خلفه؟ حتّى في الموت يرفض مساواته بغيره من البشر!
«باقتراب عام 88 من نهايته خلتني أشيخ فجأة، هناك نوع متفرّد لشيخوخة تصيب البدون دون غيرهم، تتسرّب إليهم على حين غفلة، تتشرّب دواخلهم قبل أن تؤكد حضورها ممثلة بخطوط الفم أو على الجبهة». في المنام لا يرى المنسي إلا كوابيس ترهق روحه.. «الأحلام نوعان منام ويقظة، الناس على شاكلتنا نحن البدون لا يحلمون يقظة، في حين يتواتر نومهم بالكوابيس». بعد تسجيل دقيق قام به المنسي لكلّ التفاصيل التي يحاربه الغول من خلالها، بدأ بتسجيل صراعه الشخصي مع الغول. كانت الضربة القاضية بالنسبة له، ظهور الغول على هيئة الغدر مجسداً في أشخاص من المفترض أن يكونوا له سنداً بحكم القرابة المفترضة! على رأسهم سعود شقيق عهود زوجة المنسي، رجع من سفره وجن جنونه حين علم بزواجها، وحاول أن يجبر المنسي على طلاق أخته. «سعود من غير أن يمهل نفسه فرصة معرفتي شخصياً، بدأ حربه عليّ، عزّز مجيئه باصطحابه محاميه، أمامي خياران لا ثالث لهما، أفكّ فوراً، وإلا ساحة القضاء». في المحكمة أجّل القاضي الدعوى لحضور عهود، فتملّك المنسي شعور بالارتياح رغم نظرات التشفي المشوبة بالاحتقار التي وجّهها سعود إليه.
ما لبث احتلال الكويت من قبل صدام حسين أن أظهره بحدة. «أين أمك؟ كنت أشبه بمن تنبه فجأة لشيء فاته، هي لم تقل أين خالتي، بما يحيلني إلى استنتاج مرير، عهود عزلت نفسها عنّا عفوا أو قصداً!» عهود أيقنت أنّ البدون يشمتون بالكويتيين.. والفلسطينيون يكرهونهم، وأنّها أصبحت داخل دائرة ملغومة بالكراهية، وانعكس ذلك على تصرفاتها تجاه المنسي. في الأسبوع الثالث للاحتلال، صارت تشعر أنّها فقدت كلّ شيء وهو لم يخسر شيئاً! صار عدواً حتّى بعد أن تحقّق حلمها بالحمل.. سلّمه سعود لسلطات الاحتلال بدعوى قيامه بنشاط مريب! تساءل: «من الرابح في معركة قوامها الغدر؟» ما حز في نفسه وزاد ألمه، أنّه لم يودع أمّه بكلمة! أمّه التي واجهت أبوتها في الطريق بعد أن أصبح ضابطا في جيش الاحتلال برتبة ملازم ثانٍ! لم تكن مفاجأة مؤلمة دفعته للانهيار والبكاء فقط.. بل كانت قاصمة الظهر، فقد أكمل الغول مهمة تهشيم عظامه في معركة غير متكافئة!
لم تنته مأساة المنسي هنا، إذ بقي الغول يلاحق ما تبقى منه حتّى اعتقله الأمن الكويتي بعد التحرير بتهمة الانضمام إلى الجيش الشعبي العراقي، وحكم بخمس سنوات سجنا.. أخرجه من تلك الورطة «الخل الوفي» متمثلاً بصديقيه سليمان الياسين ومبارك السويد والقاضي صلاح الفهد. وحتّى في تلك المحاكمة التي حبك الشَرك فيها جيداً لسعود، لم يتخل سعود عن نظرته الفوقية للمنسي في قاعة المحكمة وكأنّه يقول «أنت نكرة»، لكن حكم البراءة جعل سعود يلحق به إلى مكان إقامته في مقر مسرح الخليج ليعتذر منه، محمّلاً أخته عهود كلّ ما سبق! عهود لم تنتظر طويلاً جاءت لتساومه على الطلاق بحجة مصلحة زينب كي تستطيع الحصول على الجنسية في ما بعد!
الهزيمة الأخيرة للمنسي كانت منعه من رؤية ابنته. عهود وسعود تلاعبا به.. الفراق واقع مر.
عهود أخذت ابنتها وسافرت حيث لا يستطيع المنسي الخروج من القمقم الذي حشره الغول فيه. حتّى بارقة الأمل الوحيدة، حصوله على زواج سفر بمعية واسطة «الخل الوفي سليمان الياسين» تلاشت، لأنّ عليه قيد أمني!
وكما استهلّ إسماعيل فهد روايته بحلم بنى عليه عمارته الروائية، ختمها بأحجية صغيرة. على غير العادة عمد الروائي إلى جعل روايته في فصلين.. استغرق الفصل الأول 377 صفحة، والفصل الأخير 22 كلمة! ملخصه «هذا الفصل لا حول له ولا قول له». لقد وصل المنسي حافة السرد الروائي، وحافة الهاوية معاً. فعبارته لا تشبه من قريب ولا بعيد عبارة شهرزاد «وأدرك شهرزاد الصباح» إذ إن الصباح هنا لا يدرك البدون.. حتى لو أدرك السرد النهاية .