«في حضرة العنقاء».. تمثيل الواقع أسطوريًا
«في حضرة العنقاء والخل الوفي» هي الرواية الخامسة والعشرون في سجل الروائي المبدع إسماعيل فهد إسماعيل، الذي واكب تحولات الذات في عمق أزماتها الروحية والوجودية، واستشرف إشكالات الحياة والمصير والغربة، عبر شخصيات إشكالية تحمل جنسيات عربية وأجنبية، وفي روايته الجديدة هذه، وابتداء من عنوانها، نلحظ عمق وشمولية وجهة نظر الروائي إسماعيل فهد إسماعيل الذي يتخطى القوانين الوضعية الظالمة باتجاه القيم الإنسانية التي تنظر للإنسان نظرة كونية بعيدا عن العرق والدين والوضع الطبقي، وهو يؤكد نظرته هذه في معظم رواياته التي كان الهاجس الأساس فيها أسئلة هذا الإنسان المصيرية حول ذاته بالعلاقة مع الآخرين. وقد اتضح ذلك منذ روايته الأولى، «كانت السماء زرقاء» التي حملت تداعيات الذات وهي تواجه غربة مزدوجة حياتية ووجودية، وفي هذه الرواية يستكمل غربة مواطن كويتي يصر على هويته ومواطنته ويدافع عنها، ولكنه يجبر على غربة أبدية تضعه على هامش الحياة مهددا في أي لحظة بالطرد من وطنه.
يحفز العنوان «في حضرة العنقاء والخل الوفي» على تأويلات شتى أساسها هذا الثلاثي العجيب وغير المتجانس «الغول» و«العنقاء» و«الخل الوفي» وهي من المستحيلات في التراث الشعري العربي وقد تمثل في البيت الشعري الشهير:
أَيْقَنْتُ أَنَّ الْمُسْتَحِيلَ ثَلاَثَةٌ
الْغُولُ وَالْعَنْقَاءُ وَالْخِلُّ الْوَفِي
وإذا كان البيت الشعري، يؤكد يقينية شاعر مجرب استحالة وجود الغول والعنقاء والخل الوفي مجتمعين مع بعضهم البعض، فإن رواية إسماعيل فهد إسماعيل الأخيرة، تعدل من تشاؤم ذلك الشاعر، وتسرد على مسامع الجيل الجديد من المتلقين فصولا طويلة وممتعة عن حياة العنقاء المتمثلة في شخصية «المنسي بن أبيه» السارد والشخصية الرئيسة في الرواية، والمتحكم الوحيد في ظهور الأصوات الواقعية والمتخيلة في فضاء الرواية، وعبر سرد فصولها الطويلة، في حين يتمثل الخل الوفي في الأسماء اللامعة في سماء الكويت المعاصرة: المخرج المسرحي صقر الرشود، القاضي صلاح الفهد، المسرحي عبدالعزيز السريع، الفنان سليمان الياسين، مبارك سويد، رسام الكاريكاتير ناجي العلي والروائي إسماعيل نفسه. هذه الأسماء الواقعية، سعت إلى خوض نضال يومي عسير في غمار حياة شاقة، لإلغاء قانون جائر مكتوب على الورق منذ بداية تاريخ الكويت المعاصر، يهمش حياة الآلاف من الكويتيين بالولادة والانتماء والمعاناة، ويضعهم في الهامش المنسي، هم وعوائلهم، ومما يزيد من مرارة هذه الحياة أنها تعصف بالجيل الجديد من الشباب والشابات من فئة (البدون) بالتهميش والإلغاء وضياع الفرص، والرواية تتوجه إلى هذا الجيل بتجسيد معاناة آبائهم واعتذاراتهم، لأنهم لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئا لهم، وأن جريرتهم الكبرى أنهم أتوا بهم إلى حياة شاقة يعرفون مرارتها ولكن..
حاضر مرير ومستقبل غائم
الشخصية الرئيسة فيه تشعر شعورا عميقا بالهوية، وتشتغل في فضائها، غير أن ما يحيط بها يشعرها بالغربة المريرة والهوان الذي يحيط بها ويبدد كل أمل في تغيير حياتها نحو الأفضل أي نحو الانتماء، ومن المفارقات الأخرى التي تجسدها شخصية المنسي بن أبيه أنه «كويتي بالولادة» وأنه «غالبا ما يغفلون اسمي وينادونني ابن أبيه»، لا غضاضة في أن يصير «منسي» منسيًا فعلا: الغضاضة في الدلالة.. فدلالة «ابن أبيه» تعني أنه لقيط (كتب التاريخ تؤكد ذلك)، لكن ذلك يمثل - وفق قانون الجنسية المعمول به - كسبا وليس عارا، فـ(اللقيط.. أي لقيط مولود هنا يتمتع بحق اكتساب الجنسية الكويتية إذا بلغ الثامنة عشرة)، ولهذا فهو يرى نفسه (أنا كما أراني لست مؤهلا لأن، ولا حاجة بي أن... اكتفيت أراقب عبر مسافة أمان كافية).
المنسي بن أبيه وفق تصنيف «الخل الوفي» كويتي بالولادة، أو كويتي بالريحة، وفي كلا الأمرين فهو وفق القانون الكويتي لا يتساوى حتى مع اللقيط الذي يعطيه القانون حق اكتساب الجنسية عند بلوغه الثامنة عشرة.
يسرد المنسي بن أبيه فصول حياته المريرة إلى ابنته التي لم ولن يراها، ابتداء من ماض مسور بالفقر والتهميش، وحتى الفصل الثاني الذي سماه الروائي «فصل أخير»، حيث يبلغ الكلام منتهاه بما يسمى «القول الفصل، هذا الفصل لا حول ولا قول له...».
وفي هذه الرواية يعمد الروائي إسماعيل فهد إسماعيل إلى تعرية كل الحجج التي تجعل من مواطنين يحملون صفة الأهلية الكاملة للمواطنة الحقة في صف (البدون)، وهي صفة جائرة ومشبعة بعقلية العرق الصافي في مجتمع هجين، تفرضها عقليات متخلفة عن دينها وإنسانيتها وتجعل منها قوانين ساكنة ومتحكمة بحركة حياة متجددة ومتخطية لكثير من الأعراف والقوانين.
تمثيل الواقع أسطوريًا
والعنوان باعتباره عتبة مهمة في العمل الروائي، يكتسب هنا أهمية استثنائية عندما يرفع رتبة الشخصية الواقعية التي تحمل اسم المنسي بن أبيه إلى مصاف الأسطورة، مستفيدا من أسطورة طائر العنقاء في التراث العالمي والعربي، فهو طائر وحيد، لا ينقرض أو يموت، بل يجدد نفسه بنفسه حين يحترق ومن رماده ينبثق عنقاء جديد، فائق الشبه بالقديم يعود من فوره لمكانه الأصلي في بلد الشرق البعيد.
ويسميه العرب، عنقاء مغرب، أي صار غريبا.
والمنسي بن أبيه يشبه هذا الطائر الأسطوري في غرابة وجوده ووحدته القاسية، وقابليته على البقاء والتجدد، وبهذا المعنى يتماهى الروائي إسماعيل فهد إسماعيل ببطله إلى منزلة الأسطورة، على الرغم من أن هذا التماهي عصيٌّ على الفهم، لكنه مجسد في الواقع المعيش، وخلال ذلك يبدو المنسي بن أبيه إنسانا مؤسطرا لاستحالة أن نجد مكانا في حاضر الأمكنة الإنسانية المعاصرة، يتنكر لأبنائه بعدم منحهم ورقة صغيرة تثبت الانتماء إليه، في حين يستطيع هذا الكائن أن يحصل على وثيقة انتماء في أي مكان من هذا العالم المتمدن.
يقول المنسي بن أبيه «أنا كويتي نسبة لأمي، لكن هذا وحده لا يكفي، أراقب صبية كويتيين يماثلونني سنا، هل يصح لي ضمان مستقبلي أسوة بهم (....) الأمر أشبه باقتراب من نقطة الصفر، حيث ضياع الفرصة إلى الأبد»، وهذا الهاجس سيبقى ملازما له، حين يبقى مراوحا في نقطة الصفر حتى نهاية الرواية، الأمر الذي يرفع رتبته إلى مصاف أسطورة العنقاء التي لا نجد مثيلا لها في جنس الطيور الواقعية والأسطورية، فطائر العنقاء «صفر» بالنسبة لعالم الطيور، ويزداد الأمر غرابة واستحالة حين يغيب الخل الوفي المجسد في الشخصيات الثقافية الكويتية، لتكتمل الدائرة المغلقة التي بشَّر بها الشاعر العربي باستحالة وجود العنقاء والخل الوفي.
تقنية صندوق الذاكرة
يقترح المنسي بن أبيه على نفسه صنع صندوق «يسع أوراق فولسكاب» ينقش عليه اسم ابنته زينب التي لم يرها وهو ينوي توريثه إياها بعد أن «أدون ما يساعدك زينب على معرفة أبيك لدرجة الحضور الفعلي، سواء كنت في الغياب أو في حكمه»، ومن خلال هذه التقنية التي يبتكرها إسماعيل، يتسنى لشخصية المنسي أن يستدعي تفاصيل متنوعة من حياته وفق زمن مفتوح، وحرية مطلقة بالاختصار أو الاستطراد، متخذا من النداء بصيغة «يا زينب» لازمة تضبط إيقاع سيرته الذاتية. ومن مزايا صندوق الذاكرة قدرته على التلقي في أي وقت أو أي معلومة، وهو بصمته الأزلي، يعطي السارد الشخصية إمكان البوح بكل ما يريد لغياب الرقيب، الأمر الذي يسمح للسارد بأن ينسى أو يحذف ما يشاء منها، ويبدو من سرد الأحداث أن السارد يقف في منطقة الحياد، لا يتخذ الموقف الذي يناسب رد فعله على الأحداث.
وفي الحلم تمحى الحدود في السرد، ويتداخل الحديث المباشر بغير المباشر، الحوار بالتعليق على الحدث، الزمن الماضي بالزمن الحاضر، كل في صياغة جديدة حتى على لغة الروائي نفسه الذي يخرج عن مألوف كتابته بشكل مفارق:
«سمعتها تسألني: متى نصل؟ لو صدقتها الرد لقلت لها لا أعرف بديل ذلك، طمنتها: قريبا. اشتدت حركة الرياح في الجوار. هل أتعبك الركوب؟ أتعبني الصمت. للأحلام آلية خاصة بها، (...) «لا تجزعي ها أنا قادم إليك. أركض. لا غابة، لا أصوات جنادب، لا أثر لسينما السيارات، من الذي ضلل الآخر أنا أم الطريق (...) أنا إزاء جدار أسود يميل إلى اخضرار فيروزي يضاهي لون النفط الخام، تراني حدست سبب انبعاث الرائحة المدوخة. أين أنت؟ استغاثتها الملتاعة تكرس شعوري بالفجيعة. أنا هنا في الجوار، أسفل هذا الجدار، تحريته باحثا عن موقع يسمح بالصعود.. لم أسائلني..
في هذا المقطع الطويل نسبيا نحاول فيه التعريف بهذه القدرة الكبيرة للروائي إسماعيل فهد إسماعيل على إدامة حلم تتداخل فيه الرغبة في اللقاء مع الحبيبة أو الزوجة وكوابيس الأحلام، وهي تنأى عن مسارها الأليف لتدخل في منعطفات مكانية وزمانية، لا حدود لها ولاضفاف، وخلال ذلك يبدو سرد الحلم متآلفا مع لغته المتشظية، في هذه الصفحات، حين تمحى الفواصل بين الحوار وبين الإجابة عن الأسئلة وبين تفاصيل الحلم والخروج منه، والتعليق عليه ثم العودة إليه في الوقت نفسه.
المكان ذاكرة ممحوة
تتجسد غربة الشخصية الرئيسة في الرواية، من شبحية الأمكنة العامة، على الرغم من أن حياة المنسي امتدت فترة طويلة، لكن ذاكرته التدوينية لم تسجل سوى عينات محدودة من الأمكنة التي عاش فيها، وأغلبها أمكنة مغلقة محدودة الفضاء والشخصيات، ما يؤشر على غياب الألفة مع المكان، وعندما يقع فضاء الوطن في قبضة الاحتلال، تنشط شخصية المنسي بن أبيه في التحرك والانتقال وسط مظاهر الخوف والرهبة من قبل جنود الاحتلال، لكنه يمارس حياته بعبثية واضحة ضد هذا الوجود، مؤكدا شعورا داخليا بأنه يعيش على أرض وطنه إزاء هؤلاء القادمين من خارجه، كما أن مواقفه السلبية السابقة قد اتخذت أفقا آخر، بانخراطه في قافلة المدافعين عن وطنه، فيقوم بأفعال كثيرة يمكن أن تؤدي به إلى الموت، وفي مثل هذه الأجواء الخطيرة يجد المنسي نفسه مواطنا، «شملتني حيرتي، هنا ناسي, بلدي يحتاجني.. المصيبة معدن الرجال (...) متى نبدأ العمل؟..». ويجد نفسه وهو يحمل هويته الجديدة الموقعة من القاضي صلاح الفهد، أي بلسان المقاومة «هنا أنا طوال خمس وثلاثين سنة عمر الواحد في كنف دولة مستقلة ذات كيان معترف به بقيت محروما من أي وثيقة انتماء رسمية، مع مصادرة الدولة كلها مع غياب سلطتها يولد كيان ثان من رحم الكارثة، المقاومة الكويتية (.....) وسط هذه الفوضى العارمة (...) تخصص المقاومة فسحة محبة ترعى ناسها دون النظر للوائح معتمدة منظمة رجل القانون صلاح الفهد سماني كويتيا».
في هذا المقطع تبلغ الرواية ذروتها بهذه المزاوجة الحية بين الواقعي ممثلا بشخصية القاضي صلاح الفهد، والتي لعبت أدوارا مؤثرة في مسيرة إقرار العدالة في الكويت الحديثة وبمواقفه ضد الاحتلال العراقي بالتعاضد مع مجموعة مثقفين متعالين على كل أشكال العسف والتهميش والإذلال أمثال صقر الرشود وسليمان الياسين وغيرهما وبين الخيالي الذي يمثِّل هذا النسيج الروائي البديع الذي يديم تواصله الروائي إسماعيل فهد إسماعيل، بلغته وتقنياته المبتكرة وخبرته الطويلة في معالجة إشكالات الحياة العربية المعاصرة.
سيبقى المتلقي لهذه الرواية الكبيرة، معلقا بين تفوهات المنسي بن أبيه وهو يحيا بفرح غامر حلم المساواة مع إخوانه في الوطن بالهوية التي منحته إياها المقاومة الكويتية رمزا على دفن الماضي الأليم وفتح صفحة جديدة للمواطنة والانتماء، وبين حاضر السرد الذي تكرسه نهاية الرواية حين يجد المنسي بن أبيه نفسه ساكتا (أبدا) تحت سماء لا أثر فيها للغيوم بالمرة، وهي نهاية متشائمة لم يرد مثلها في كل روايات إسماعيل العديدة، فنهايات كل رواياته مفتوحة أبدا على فضاء جديد، ما يثير سؤالا بحاجة إلى إجابة: هل يمكن أن تكون رواية العنقاء والخل الوفي تاريخا وماضيا لواقعة اجتماعية ذ إنسانية أصبحت ضمن سجلات التاريخ لمحنة فئة البدون في الكويت بشكل خاص؟!