مظاهرُ الحياة عندَ بدو الصَّحراء ... طقوسٌ واحتفالياتٌ اجتماعية

مظاهرُ الحياة عندَ بدو الصَّحراء ... طقوسٌ واحتفالياتٌ اجتماعية

 يتعلَّق موضوع هذ الاستطلاع بالبيضان، وهم بِيضُ البشرة الناطقون بالعربية (اللهجة الحسَّانية)، الذين يعيشون داخل مجال جغرافي واسع يُسَمَّى «تْرَابْ البِيظَانْ»، يمتد من وادي نون إلى نهر السنغال جنوبًا ومن المحيط الأطلسي غربًا إلى مالي شرقًا. والفرنسيون هم من أطلقوا تعبير «دول المور» Etats maures المحاذية للنَّهر في حديثهم عن الوجه البحري للبلاد الموريتانية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.  
تعني المور أيضًا السواد عند الإسبان، لاسيما في حديثهم عن الفن الموريسكي في إشارة إلى العرب السُّمر الذين كانوا يوجدون ببلاد الأندلس. كما استعمل ابن بطوطة المصطلح نفسه (البيضان) في مدوَّناته الرِّحْلِية، والجاحظ عندما أَلَّفَ رسالة بعنوان: «فضلُ السودان على البيضان».

كان مصطلح البيضان شائعاً في كتب الجغرافيين العرب منذ القرن الرابع الهجري لوصف صنهاجة الصحراء في مقابل شعب السودان الواقع جنوباً، ثم أصبح يطلق على الناطقين بالحسَّانية منذ القرن الحادي عشر الميلادي، لكنَّه كان مقصوراً على النُّبلاء من العرب (المحاربين) والزوايا (أهل الخطط الدينية)، وكان اسم «الكحلانْ» يُطلق على الفئات الأخرى «الحدَّادون» و«الزفَّانون» Les Griots (أرباب الموسيقى)، ثم تطوَّر لفظ البيضان ليُطلق على كلِّ متحدَّثٍ بـ «الحسَّانية» بغض النَّظر عن لونه ومهنته.

البداوة والترحال
 التّرحال في أصله خصيصة ثقافية وضرورة معاشية لطلب المرعى والماء... وله في الصحراء طقوس خاصَّة، ذلك أنَّه يتمُّ بعث مُنَقِّب عن المكان (الْمَنْزَلْ) يُعْرَفُ باسم «البَوَّاهْ»، وهو شخص صادق يركب جملاً ويذهب للبحث عن مكان يُوجد به الكلأ للحيوانات (تْرَاب ناعم)، وقد يستمرُّ البحث لعدَّة أيام. وبعد أن يعود البَوَّاهْ، يخبر بموقع العشب والماء، ويستعد البدو للرحيل، حيث تُجَهَّزُ الإبل وتُكَرَّسُ الخيام وتُطوى وتُربط الأمتعة. وخلال الفجر تُحمل الأمتعة والحوائج فوق الإبل وتُجَهَّزُ الهوادج لركوب النسوة والأطفال الصغار.
 يَشُدُّ بدو الصحراء رواحلهم على «آزْوَازِيل»، مفردها «أَزُوزَالْ» وهو الجمل المخصي، ثم الصيادح، مفردها صَيْدَحْ وهي النَّاقة التي تُشَدُّ عليها الرَّاحلة. وتُثَبَّتُ الرَّاحلة على ظهر الجمل ويوضع تحتها فراش جلدي ناعم يسمُّونه «ارْفَدْ» مصنوع من الجلد النَّاعم يُغَطِّي منطقة محدَّدة من ظهر الجمل تسمَّى «الْغَارَبْ» (ما بين السنام والكتفين)، إلى جانب فراش آخر رقيق يكون بالتحت أيضاً يُسمَّى «اللَّبْذَة».
 يقول أحد الشعراء الشعبيين بكثير من الجناس واصفاً الترحال في الصحراء:
لاَهِ تَمْـــــشِ رَاحْـــــــلَ   
مْنْ فْـــــــرِيكِ مَشْـــــــدُودَ
يَحَــــــرِّ مَنْـــــها رَاحْلَ  
لاَهِ تَمْـــــــشِ مَشُــــــــدُودَ
 في الصحراء، هناك بدو رُحَّل يرعون الإبل والأغنام على مستويات معيشية مختلفة ترتبط برصيد القبيلة الاقتصادي الذي تمارِس بواسطته سلطتها وقوَّتها. في ضوء ذلك، يبرز التقسيم التالي داخل البنية الاجتماعية لبدو الصحراء:
  أ- العشائر الجمَّالة، أو «أهل لْبَلْ» (الإبل): البدو الأقحاح ذوو النجعة البعيدة. فهم يتَّخذون الخيل لركوبهم والإبل لمعاشهم (حمل الأحمال، الرحيل، التغذية..).
 ب - العشائر الغنَّامة، أهل الغنم: نصف رحل وذوو نجعة محدودة، ويعتاشون من رعي الأغنام والماعز.
 ج - عشائر مستقرة: أهل المَدر يعيشون بشكل مستقر.
 من أنواع ترحالهم:
 - التّرحال العادي (اختياري).
 - التّرحال الاضطراري/ تفرضه ظروف طارئة.
 - التَّرحال الموسمي/ تبعا لأحوال فصول السنة وتقلباتها.
 إن بدو الصحراء هم أصحاب النّجعة وارتياد الكلأ وتتبُّع مصادر المِزن. في هذا السياق، سمَّت الباحثة صوفي كاراتيني Sophie Caratini قبائل الصحراء بأبناء المِزن Les enfants des nuages. وكما هو معلوم في ثقافة الصحراء، يوجد اتصال متين بين القبيلة والتَّرحال، وكلما زادت قدرة القبيلة على التَّرحال تضاعفت قبائليتُها وتقوَّت، وكلما جنحت إلى نوع من الاستقرار تقلَّصت بداوتُها.
 في ثقافة الصحراء أيضاً، ثمة علاقة وطيدة بين التُّراث الشعري والتّرحال، بحيث إن البدو أدركوا قيمة التّرحال واعتبروه قوَّة ذاتية تحميهم من الخضوع والخنوع، فهم كلما ترحَّلوا حملوا معهم ثقافتهم الشفهية في ذاكرتهم وصدورهم.
 ضمن هذه العلاقة، ازدهر الخطاب الشعري ومأثورات القول الحسَّاني عموماً، ومن خلال ذلك، تحدَّث الشعراءُ والأدباءُ عن مشاهداتهم ووصفوا الفضاءات والأمكنة التي مكثوا بها أو مرُّوا بها. كما أسهموا بذلك في نقل العديد من الصُّور الجميلة والمعلومات المفيدة التي أمست تمثل اليوم مضامين ثقافية تتناقلها وتتوارثها الأجيال، كما في قول الشاعر الحساني:
عَاكِبْ تَسْـــدَارِي فَالــدْيَـــارْ 
مَــــــــــــاهِ نَــــــــــــــــــــــارْ اعْــــــــــــــــــــــــــلَ جِـــــــــــــــــــــــيهَ
يَـــــــــــيْــــــــــوكّـــــــــــــــــــــــي زَادْ أَلاَّ الــــــــــــــــنَّـــــــــــــــــارْ
وَالفَعْـــــــــــلْ اللِّـي اوَدِّيــــــــهَ
 من ثم، لعب الخطاب الشعري الحسَّاني دوراً تعبيرياً وجمالياً في آن؛ يبدأ بالأشعار والوقوف على أطلال المحبوبة، ليمتدَّ إلى عُبور الأرض أو الصحراء.

مسكن بدو الصحراء
 مسكن الإنسان البدوي الصحراوي هو الخيمة... والخيمة بيت من بيوت الأعراب مستدير يُبنى من عيدان الشجر، وقيل هي ثلاثة أعواد أو أربعة، يُلقى عليه نبات الثَّمام ويستظل بها في الحر، وهي عند العرب البيت والمنزل، وسميت خيمة لأن صاحبها يتَّخذها كالمنزل الأصلي، وأصل التخييم الإقامة. تُعَدُّ الخيمة برأي الباحثة الفرنسية أوديت دي بيجودو
O.de Puigaudeau:
 «أفضل فضاء للتعبير عن الضيافة لدى البدو البيضان، القيمة الأصلية لساكنة الصحراء، إنها الحمى الذي لا ينتهك، ملاذ الغريب وملجأ عابر السبيل».
 والخيمة هي المسكن الرئيس لإنسان الصحراء ومصدر ظلِّه وراحته، فهي عبارة عن بيت متنقل (يسهل ترحيله) يلازمه في كل رحلاته وتنقلاته التي يعود السبب في كثرتها إلى بحثه المستمر عن الماء ومواقع الكلأ.
 فهي - الخيمة - تتسم بكون وحداتها ومكوِّناتها الأساسية تُصنع من «لْفَلْجَ»، (جمع افْلِيجْ)، أي حواشي أو أشرطة مطوَّلة، من شعر الماعز الأسود (وقد يضاف إليه صوف النعاج الأسود، أو وبر الإبل الأسود والأحمر).
 تنقسم الخيمة عند بدو الصحراء إلى قسمين أساسيين، هما: القسم الأول يمثل الجهة الأمامية المكوَّنة من ثلاثة فَلْجَ ومطنبة، ويطلقون عليها اسم «فَلْجْ السْمَا»، ثم القسم الثاني المكوَّن أيضاً من ثلاثة فَلْجَ ومطنبة، ويُسَمُّون ذلك «فَلْجْ لَرْظْ» (الأرض). وعدد أوتاد الخيمة الصحراوية ثمانية وعلى جوانبها يُوجد ما يُعرف بـ«لَگْفَ».
ووفقاً لطقوس الكرم لدى المجتمع البيضاني، يأتي الضيف و«يدخل الخيمة بدون استئذان معتبرين عبارة (السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ) هي الإذن بالدخول فيفرَّش له الفُرش، وتوضع له الوسائد ويذبح له الحيوان، وتتقدَّم الأسرة جميعها للإحاطة به ومؤانسته: الأب والأم والبنات يرحِّبون به، ويؤانسونه ويحضِّرون له الشاي، وعادة ما تكون المرأة هي التي تحضِّره، ويقدِّمون له الطعام فتتحلَّق الأسرة كلُّها معه تؤاكله وترغبه في الأكل.
بعد الطعام، يُعيدون الشاي وتسمر الأسرة والجيران معه. يسمعونه الحَكايا والشعر والنوادر حتى ينطلق في الحديث على سجيته ويحسُّ أنه أحد أفراد هذه الأسرة كان غائباً عنها ورجع.
وقد اشتهرت المرأة الصحراوية بالجود والكرم حتى في غيبة الرجل، إذ تقوم مقامه في حالة سفره وغيابه، فهي تفعل ما يفعله كما لو كان حاضراً ويعاب عليها التَّقصير في معاملة الضيوف وإكرامهم. ويفتخر الرجل الصحراوي إذا أحسنت زوجته ذلك وسدَّت مسده في غيبته، ويعبِّرون عن ذلك بقولهم الشعبي: «لَمْرَ آلْمَ تَعْرَظْ، مَ تَفْرَظْ»، وأيضاً: «دْبَشْ المَعْلُومَ مَا يْطِيحْ»...إلخ.

اللبن واللحم غذاء البيضان
 يَلْعَبُ الطعام في عُرْفِ وثقافة البيضان دوراً رئيساً في نسج وتطوير العلاقات الاجتماعية، يظهر ذلك جلياً من خلال الولائم (لْعَرْظَاتْ) التي تقام أساساً بمناسبة العديد من الاحتفاليات الاجتماعية والدينية وغيرها.
 اهتم بدو الصحراء كثيراً بثقافة المطبخ وصنعوا العديد من الأكلات والوجبات (اظْوَاگْ) التي تلاءمت مع ظروف ونمط عيشهم البدوي ومناخات الحياة بالبوادي الخاضعة لسلطة الطبيعة ولحجم الموجودات، اعتماداً على العلاقة بالبيئة والفهم الجيِّد لخصوصياتها والقدرة على استغلال خاماتها وجني ثمارها. وتتشكَّل أطعمة مجتمع البيضان عموماً من أغذية نباتية وأخرى حيوانية ماشية (أهلية أليفة وبرية متوحشة) وطائرة (أو مجنَّحة) وسابحة.
 إن مطبخ البيضان يتميَّز بالبساطة وعدم التعقيد بالنظر إلى الظروف البيئية الصحراوية الموسومة بقساوة المناخ والشُّح والندرة في العيش، لكن ذلك لم يمنع من تفرُّد طرق الطبخ وثراء المائدة الصحراوية المكوَّنة أساساً من الألبان واللحوم ودقيق الشعير، إلى جانب استعمال أوانٍ وأدوات مطبخية مناسبة لنمط العيش في بادية الصحراء.
 وبإلقاء نظرة وجيزة حول حياة إنسان الصحراء، سنلحظ أن له طبيخاً ووجبات رئيسية خاصة تمثل برنامجه الغذائي شبه اليومي، وهي وجبات يشكِّل فيها الخبز ولحم ولبن الإبل والماعز والشعير والشاي، المواد الاستهلاكية الأساسية له. ومن طعامهم أيضاً العيش، أو العصيدة - التي اعتبرها الحسن الوزَّان طعاماً خشناً - وهي من الأطعمة التي كانت منذ العصر القديم، وأكثرها انتشاراً وحضوراً في البوادي عصيدة الشعير، طعام الفقراء، وبعض أهل الزُّهد والتصوُّف.
في الصحراء، ووفقاً للعادات الغذائية الشائعة، تتبارى الطاهيات في مهارة مع احترام كامل للتقاليد البيضانية: الكسكس الخماسي، بأنواع دقيق حبوبه الخمسة والمرشوش بالدهن والعسل. مارو، الطبق القائم على الأرز والسمك الذي تحتفظ بسرِّ إعداده قلة من الخبيرات. أما تحت الخيام، فيجري ارتشاف كؤوس الشاي الساخن والمعطر بأعشاب الصحراء في جرعات مدوية.

لباس بدو الصحراء
تُبْرِزُ المادة الإثنوغرافية أن موضوع اللباس التقليدي الصحراوي يكتسي طابعاً خاصّاً ومتميزاً، يتجلَّى عمقُه كثيراً في شعبيته والوظائف الكثيرة التي يؤديها على عدَّة مستويات وأبعاد. ولبدو الصحراء أرديتهم وأزياؤهم التقليدية الخاصة التي تجسِّد هويتهم الفردية والجماعية وتتصل ببيئة الصحراء الوَعْرَةِ وطبيعتها المناخية القاسية، حيث عالم الريح والرمل والمطر الشحيح، مثلما تعكس نمط التفكير والإبداع والعيش لدى المجتمع البيضاني البدوي والعشائري. تتعدَّد الأزياء والأردية التقليدية الصحراوية وتتنوَّع إن على مستوى طرزها وأشكالها الفضفاضة التي ترمز إلى البساطة والسِّعة والرحابة والإسبال والتوق إلى الحرية والاستقلال، أو على مستوى التطاريز والتوليفات الجمالية والألوان الكثيرة التي تسمها.
ورغم كل أشكال التمدُّن والعَصْرَنَةِ التي لحقت به، فقد حافظ مجتمع البيضان على وحدة لباسه التقليدي وجعله منسجماً مع تفكيره الفني ومخياله الجمالي، فضلاً عن ثوابته الدينية ومرتكزاته الحضارية والتاريخية الموغلة في العراقة والقِدم. 
فالنساء يرتدين الملحفة، ولهن طرقهن الخاصة في ارتدائها، بحيث إن الملاحف تخفي الكثير من جمال المرأة وتظهره في آن. وهي كثيرة ومتعدِّدة، منها العيِّنات القديمة التالية: سَاغَامْبُو، صَافَانَا، وَاخْ، النْمَيْرَاتْ (تتضمَّن كزخرفة أرقاماً مبعثرة)، ثم ملاحف النْعَامَة. ويضاف إلى ذلك، ملاحف النَّحِيفْ ودُومَاسْ ودَلاَسْ وكُوكَا والطَّلَبَة ولَمْبَيْرَدْ (متعدِّدة الألوان) وتُوبِيتْ ورَشْ تِيدَكْتْ ولَمْكَيْمَّشْ والجَوْ والسَّنْتُورْ.
غير أن تسمية الملاحف الحديثة أصبحت ترتبط (عفوياً أو رمزياً) ببعض المناسبات والأحداث كوسيلة للترويح عن النفس والتبضيع كملاحف غونزالو (بطل المسلسل المكسيكي «أَنْتَ أَوْ لاَ أَحَدْ»)، ملاحف سويسرا (وهي من أكثر الأنواع استهلاكاً بالصحراء)، ملاحف السكة الحديدية وملاحف الغيرة (تثير غيرة الآخرين فهي تتشكَّل من أشرطة مخيطة بكيفية متساوية يتعاقب فيها لونان داكنان هما الأسود والأزرق اللامع الضارب إلى السواد)، ملاحف الطَّرْفْ (خالية من الألوان والتزاويق عدا أحد الأطراف الجانبية التي تكوِّنها)، فضلاً عن ملاحف النَّصْ، رَاكِيلْ وملاحف الرَّقِيقْ، وهي النَّوعية الأكثر اقتناءً في الأسواق الصحراوية بفعل تزايد إقبال الصغيرات والشابات على شرائها، فهي رقيقة شفافة تُساهم كثيراً في الكشف عن مفاتن الجسد وإظهار أجزاءٍ مهمَّة من تضاريسه... وأيضاً ملاحف كْنَيْبَة وصْوَارِي الخاصة بالعرائس، وأعتقد أن التَّسمية ترجمة صوتية (اقتراض لغوي) للفظة Soirée، أي أمسية المرتبطة ببروز العروس وظهورها بعد انقضاء الليالي الأولى من الزَّفاف ضمن حفل شعبي يُسمَّى «أَبْرَازْ»، تضاف إلى ذلك ملاحف أخرى صنعتها أحداث متنوِّعة، كملاحف الفايسبوك، البارابول، الطريق نحو جنوب إفريقيا، زنگَة زنگَة، حريم السلطان، الأميرة، الملِكة...إلخ.
وإضافة إلى كل ذلك، يوجد نوعٌ آخر من الملاحف خضع لكثير من التطوُّر، هو ملاحف الشَّرْگْ/الشرق (أو ملاحف لَنْصَاصْ) التي يتم جلبها من موريتانيا في شكل أشرطة طويلة (بْنَايَگْ) - لا يتجاوز عرضها ثلاثة سنتيمترات - ملفوفة على القصب. ويُعتبر  هذا النوع من أغلى الملاحف ثمناً بالصحراء، حيث يتجاوز سعرُه ثلاثة آلاف درهم للقطعة الواحدة. وملاحف الشَّرْگْ تكون مصطبغة بالنِّيلة (نسبة إلى شجرة النِّيلة Indigotier)، وهي مادة زرقاء داكنة أقرب إلى السواد تُستعمل لغايات صحية وجمالية.
ثم هناك الدُّراعة، وهي لباس تقليدي فضفاض يتَّسم بالاتساع، حيث تتراوح مقاساته بين 10 أذرع و15 ذراعاً... ويرتبط ارتداؤها بوظائف نفعية واستعمالية كثيرة، فمثلاً، هناك دراعة «بَلْمَانْ»، أو دراعة مُجَيْبَة (مخاطة باليد)، وهي عينة لا يرتديها سوى عِلية القوم والميسورين خلال المناسبات والأفراح واللقاءات الرسمية، مما يعني أن ارتداءها له ارتباط بلحظات زمنية معيَّنة، في حين أن الإنسان الصحراوي عندما يريد رعي الإبل وعقالها وحلبها، فإنه لا يرتدي سوى دراعة عادية مخصَّصة للعمل اليومي، إضافة إلى نماذج وعيِّنات أخرى من ضمنها درَّاعة جيهتين (أي فيها لونان مختلفان) وتسمى بـ«دَرَّاعَة بَاخَة»، ثم دَرَّاعَة الشَگَّة، وهي دَرَّاعَة رقيقة تُلبس كثيراً إذا كان الجو حارّاً، ويمكن أن يُمارس بها الصحراوي أشغاله اليومية بشكل عادي.
وبعد أن ظلَّت لِرَدْحٍ طويل من الزمن تخاط باليد، ستشهد الدُّراعة الصحراوية تحوُّلاً نوعياً منذ مطلع الستينيات، كنوع من الاهتمام بالذات، خصوصاً بعد استقدام عيِّنة جديدة من الثوب (لْخَنْطْ)، تسمَّى بَازَانْ (ألمانية الصُّنع والإنتاج)، وأيضاً بعد استعمال آلة خياطة سنجر  Singer الصينية لفترة طويلة، قبل ظهور آلة خياطة أخرى متطوِّرة هي: برنينة Bernina، فضلاً عن «داوما» التي ذاع صيتها بالصحراء منذ بداية الثمانينيات.
 من الناحية التشكيلية والجمالية، تتميَّز الدُّراعة بلونين محبَّبين عند إنسان الصحراء، هما: لَخْظَرْ، أي الأزرق ثم لَبْيَظْ/ الأبيض، وفي حالات نادرة الأسود والألوان الداكنة المعادلة له. يُضاف إلى ذلك، توظيف العديد من التطاريز والتشكيلات الزخرفية المستعارة من الفن الإسلامي وبخاصة الزَّخرفة النباتية وفنون التَّوريق والأرابيسك.

طقوس الشاي
 يعْشِقُ بدو الصحراء الشاي أكثر من عشقهم للمرأة والإبل، فهو يحتل مكانة استثنائية داخل الوجدان الشعبي الصحراوي... فهو ليس مشروباً تقليدياً فحسب، بل سمة من سمات الكرم وعلامة من علامات الحفاوة والاستقبال، حيث إن البيضان الصحراويين ينادون ضيوفهم لشرب الشاي أكثر من تناول الأكل.
 الشاي الصحراوي مشروب شعبي اكتسب صبغة «القدسية»... وعادة غذائية يومية متجذرة في ذاكرة الرمال والخيام، بل احتفالية وطقوسية شعبية مشتركة تتجدَّد بلا نهاية في أحضان المطلق واللامتناهي. هناك بالصحراء كل شيء يتحرَّر على إيقاع رغوة الأتاي المتدفق داخل أكواب صغيرة، إلا الشمس وحدها التي تتقيد بالمواعيد. 
 ويستهلك بدو الصحراء ثلاثة أكواب (بْرَارِيدْ) متتالية من الشاي، وعادة ما تُحَضر كأس رابعة تخصص للأطفال (لِيشَاشْرَة) تكون فيها نسبة الثايِّين ضعيفة وغير مضرَّة بصغار السن، مثلما قد تحضر هذه الكأس لفائدة الضيوف حالة رغبة الجميع في إطالة حصة المجلس. ونظراً لأهميته الاستثنائية، فإنهم يشربون الشاي ثلاث مرات (على أقل تقدير) خلال اليوم الواحد. وأحسن المواعيد والفترات المحبَّبة لتناوله ما بين العاشرة والحادية عشرة صباحاً (اظْحَى) والرابعة مساءً، وهو المسمَّى بأَتَايْ العصر، أو «الأتاي الذهبي». في هذا يبرز مثلهم الشعبي «أتَايْ لْعَصَرْ فِيهْ النَّصَرْ».
 من طقوس الشاي عند بدو الصحراء أنه لا يصلح إلاَّ بتوافُر ثَلاَثْ جِيمَاتٍ:
 - أجْمَرْ: أي مادة الفحم الخشبي.
 - اجَّرْ: أي إطالة مدَّة إعداده. يسمِّيه البعض بـ«جَرْ لَبْرُودْ»، وهو التَّراخي في تحضير براريد وحالته الشاي، والمُراد به نصب الشاي على النار وجرِّه، وهو التمهُّل في إعداده وتحضيره.
 - اجْمَاعَ: أي جماعة من الناس الجالسين والمتحلِّقين حول الطبلة لشُرب الشاي، وتبادل الأحاديث والمشاركة في النقاش الذي يدور في مجلس الشاي ومائدته... هذا بالإضافة إلى شروط أخرى، منها توافُر المواد واللوازم الضرورية وطبيعة المجلس وشكله.

«لَبْلُوحْ»، أو شعيرة التسمين

 كَلْمَتْ لَمْرَ گْدْ گْعْدَتْهَا...
 وفقاً للطقوس الأنتروبولوجية عند البيضان (بدو الصحراء)، تُعَدُّ فترة ما قبل الزواج في حياة الفتاة أساسية ومليئة بالعديد من الخصوصيات التي يحكمها نظام التربية وسلطة الأسرة ودور الأم في التوجيه وتعلُّم شؤون البيت، كما تحظى الفتاة - خلال الفترة نفسها - بعناية خاصة، بحيث يتم التفكير في إعدادها للزواج بتزيينها وتسمينها وفق طقس غذائي صارم يسمى «لَبْلُوحْ» تسهر على تنفيذه وصيفة (خادم)، إلى جانب توجيهها وشحنها بالنصائح وإخضاع كل تصرُّفاتها للمراقبة. تتزَّين الفتاة بأساليب تتلاءم مع عمرها، فيصفَّف شعرها بالزّكرار ولفريزي والگَصَّة المعروفة بـ«سَانَ مَانَ»، وهي ضفائر خاصة بالفتيات، لكن في الوقت نفسه يحظر عليها وضع الكَحْلَة والسِّوَاكْ (زينة العين والفم)، مثلما يمنع عليها التعطُّر بسبب الاعتقاد الشعبي الشائع بجلب الشياطين. ويسمح لها بوضع الحناء على اليدين فقط.

 شَايْلَة رَاسْ النْعَامَة
 كثيراً ما يرتبط هذا النوع من التزيُّن بمناسبات الأعياد والأعراس، وهو طقس شعبي يتمُّ في إطار جماعي يسمَّى «أبْرَازْ» يسوده التنافس لاختيار الفتاة الأجمل التي يطلق عليها البيضان الصحراويون تعبير «شَايْلَة رَاسْ النْعَامَة» الذي يدل على قمَّة الجمال.
 وتُعَدُّ السُّمنة بالصحراء تعبيراً عن الرّفاه وعن المكانة الاقتصادية للنساء، حيث يعبِّرون عن ذلك بقولهم الشعبي: «كَلْمَتْ لَمْرَ گَدْ گَعْدَتْهَا»، أي أن كلمة المرأة تظل مسموعة بقدر سمنتها. وأيضاً: «تَگْبَظْ مَنْ لَخْلاگْ آلْ تَگْبَظْ مَنْ لَفْرَاشْ»، وهو تقدير متلازم مع حجم بدنها، ثم: «اسْمِينَ كَلْمَتْهَ امْتِينَ» (سمينة وكلمتها متينة)، أي أن للمرأة البدينة والمكتنزة وزناً داخل المجتمع وكلامها مسموعٌ ومأخوذٌ به داخل العلاقات الاجتماعية. وقد عُرف عن بدو الصحراء حبّهم للغلظ والسُّمنة والامتلاء والثقل في أعضاء جسد المرأة... وكانوا ينظرون إلى نسائهم من خلال دنيا البعير والخيل تشبُّهاً واستعارةً. 
 يقترن السُّمن في عرفهم باللذة، والإنسان الصحراوي مثله مثل الإنسان العربي يستلذ كل سمين. يستلذ الناقة التي روَّعها الكلأ، والمرأة الرَّوعاء التي يروِّعها الطعام ويروِّعها بالسُّمن الذي يدلُّ على الخصب وسعة العيش.

حفلة الزواج
 الزواج لدى مجتمع البيضان شأنٌ اجتماعيٌ ترافقه مجموعة من الطقوس والعادات الشعبية التي تجعل منه مناسبة احتفالية محكومة بالعديد من الشروط الثقافية والأنتروبولوجية، بعضها مستمد من الدين الإسلامي الحنيف، والبعض الآخر متصل بالعادات والتقاليد والأعراف المحلية.
 يكون الزواج الصحراوي - غالباً - على الشرط بأن (لا سابقة ولا لاحقة) وإلاَّ فأمرها بيدها أو بِيَدِ وليِّها، وقد لا يلفظ بالشرط ويطبَّق عملياً. وتذهب العادات والتقاليد الشعبية البيضانية إلى أن الأب هو أساس الموافقة على خطوبة ابنته للشاب المتقدِّم لها. فبالرغم من المشاورات والمناقشات العائلية وكل أشكال التقصِّي التي تقوم بها الأم، فإن القرار الأخير يبقى بِيَدِ الأب، ولم يكن للبنت أي دور في هذا القرار.
 بعد انتهاء المراسم المتَّصلة بعقد القران، تُبنى خيمة الزَّفاف المعروفة باسم «خيمة الرَّگْ»، بعيداً نسبياً عن «لَفْرِيگْ» (حي الخيام وجمعه فَرْگَانْ) لتمتلئ بالضيوف والمدعوين، بعد تأثيثها وتجهيزها. وبداخل هذه الخيمة، ينطلق حفل غنائي شعبي سامر ينشطه مغنُّون «إيگَّاوَنْ» بإنشادهم لمجموعة من الأغاني الشعبية الحسَّانية الصاخبة والحماسية كالشُّورْ والنَّحْيَةٍ وغيرهما. بداخل هذه الخيمة المضروبة احتفالاً بالعرس، يحتشد المدعوُّون في مرحٍ، وتبدو النساء البيضانيات، على وقع «أَزَوَانْ» (الآلات الموسيقية)، أنيقات معطَّرات، يتبادلن التحيَّة وعبارات الترحيب الممزوجة بالابتسام.

طقوس الطلاق
 بالصحراء، تحظى المرأة المطلَّقة، أو الطليقة La Divorcée في المجتمع التقليدي بعناية خاصَّة نكاية بالزوج، حيث تُستقبل ضمن حفل ترحيبي يسمَّى «التَّحْرَاشْ»، أو «التْعَرْگِيبْ»، كما يطلق عليه البعض «التَّعْرَاظْ». وفيه يتمُّ النَّقر على الطَّبل وتعمُّ الزَّغاريد والتَّصفيقات للرَّفع من معنويات المرأة المطلَّقة وتأييدها في قرار الانفصال عن الزوج، وهي عادة صحراوية قديمة تساعد المطلقة على تجاوز المحنة والانسجام مع محيطها العائلي وتبرير الانفصال للآخرين.
 تُنشد للمطلقة أغنية شعبية تحمل معاني العزاء والمواساة. من كلماتها:
ابْلَ بَاسْ اشْبَــــــابْ اتْـــــــخَلاَّتْ 
سَــالْـــــــمَ وَالرَّاجَــــــلْ مَا مَــــــاتْ
يَا الگَاعْــــــــــــدَاتْ يَـــــــــــــــا الــــــــــــــمَـــــشْــدُودَاتْ 
گُـــــــــــــــومُ افْـــــــــــــلاَنَة رَاهِ اتْــــــــــــــــــــــخَـــــلاَّتْ
وَلاَ بْـگَـــــــــــــــــاوْ كُـــــــــــــــــــــونْ الـمَــــــسْلُــوبَـاتْ 
اللَّــــــللَّيَّاتْ...اللَّــــــللَّيَّاتْ...اللَّـــــللَّيَّاتْ.
 وإذا ما طلَّق الرجل زوجته تُزَغْرِدُ، ويقام لها الفرح وتقرع الطُّبول وتصيح إحدى قريباتها ثلاث مرَّات في الحاضرات: «يَ لْگاعْدَاتْ، يَ لْمَشْدُودَاتْ: فْلاَنَة مَنْتْ فْلاَنْ تْخَلاَّتْ»، أي: «اسمعن يا جالسات ويا باقيات، فلانة طُلِّقت». ولمواساتها، تخاطب الأم بنتها المطلقة (أو إحدى قريباتها) بالقول: «نَخْتَيْرْ يْمَشِّينِي غَايْرَة، وْمَا يْمَشِّينِي دَايْرَة». فمن المطلقات من يقمن حفلاً أشبه بالعرس، ومنهن من يكتفين باستقبال الصديقات والقريبات. بينما الغالبية، ولاسيما الفقيرات، يحتفلن في وسط عائلي صغير. وتحرص بعضهن على أن يعلم الزوج السابق وعائلته باحتفالها بالطلاق ورغبتها في الزواج مجدَّداً.
 تجلس المرأة المطلَّقة للرجال، بعد أن ترتدي ثوبين أحدهما أبيض والآخر أسود مثل العروس، ويخصَّص لها حفلٌ بهيجٌ تُشارك فيه كل نساء الحي... وغالباً ما يقوم بهذا الحفل الرجل الذي يَوَدُّ الزَّواج من المرأة المطلَّقة لأول مرة يصفونه بكونه «امْحَرَّشْ لْهَا»، ويُرَجَّحُ أن يكون من أبناء عمومتها أو خؤولتها، حيث يبادر بنحر جمل أو ناقة أمام خيمة أهل المطلَّقة، وهو ما يُعرف في الأعراف الصحراوية بـ«اتْعَرْگِيبَة»، وإذا كان شاعراً أرسل قطعة من الشعر.
 في ختام هذا الحفل، تؤدِّي المرأة المطلَّقة رقصة الوداع إهداءً لكل الذين حضروا لمؤازرتها. آنذاك تتقدَّم مجموعة من الرجال لخطبتها وتبقى لها صلاحية الاختيار لبداية حياة زوجية جديدة ■

 

البداوة السمة المميِّزة للإنسان الصحراوي في حدود سَلِيقته وتلقائيته وعفويته.

 

إذا غاب الجمل استقر الرحل.

 

يكافئ البيضان الفتاة التي يليها أخوها الذكر بوضع ما يسمُّونه «الجْدَيْلَة» في مقدمة رأسها وهي صغيرة مزيَّنة بالكثير من العقيق والحلى الخاصَة.

 

إذا قَلَّ اللبن وضعوه في الشكوة (الوطاب)، لأن اللبن الرائب يستعمل ممزوجًا مع الماء وبالتالي تكون كمية اللبن أكثر. 

 

يُسمَّى الغناء والعزف على الآلات الموسيقية في الصحراء بالهَوْل (لاسيما الطبل) نظرًا لتأثيره على نفوس السَّامعين، فيتأوَّهُون على الأيام الخوالي والذكريات الفائتة التي قضوها ببادية الصحراء. 

 

أطفال المحضرة نموذج للتعليم التقليدي في الصحراء.