أيوب حسين ... شاهد من العصر الجميل

أيوب حسين ... شاهد من العصر الجميل

  «لم أرتق لدرجة فنان، الفنان مرتبة عظيمة، أنا هاوٍ لا أعتبر نفسي فناناً، أعمالي أعملها ببساطة وعفوية ولم أصل إلى القمة... الناس أوصلوني إلى أكثر مما أستحق، فلايزال عندي قصور كبير في التمكن من اللوحة، ولوحاتي على قدي»... هكذا يرى الفنان أيوب حسين نفسه بتواضع، وهكذا ينظر إليه محبوه وعشّاق فنه بكل صدق، وتمر علينا ذكرى مرور عام على رحيله للحياة الأخرى، وما خلَّفه من غياب مؤلم عن الساحة التشكيلية، بعدما قدم لها سبعمائة لوحة أو يزيد عبر مسيرة فنية تجاوزت الخمسين عاماً، أقام خلالها ثمانية معارض شخصية، ومعرضين مشتركين، ومشاركة في معارض جماعية عدة.  أيوب حسين... الذي لم تعرف الحركة التشكيلية في الكويت فناناً مثله ارتبط برسم البيئة وتعلَّق بها وجداناً وروحاً وجسداً.

 منذ بداياته الأولى بمعرض «البطولة العربية» الذي أقيم بمناسبة مؤتمر الأدباء عام 1958م، وحتى معرضه الشخصي الأخير عام 2008م، ومشاركته في المعارض الجماعية قبل رحيله، كان مخلصاً في أن يسخِّر ألوانه وفرشاته في إبراز معالم البيئة الكويتية، تلك التي عاشها في صباه، ولعب في أحيائها، وتنقَّل بين منازلها، مختاراً بذلك الأسلوب التسجيلي الواقعي في التعبير من خلال رسم المواضيع التي تتناول البيئة الكويتية ومفرداتها المتعددة، مصوراً بذلك الحياة الاجتماعية بكل تنوعها ومظاهرها، ويعود سبب اختياره للأسلوب التسجيلي الواقعي إلى قناعة ذاتية خالصة أشار إليها صراحة في معارضه الأولى بالقول: «لقد علقت بذهني منذ الصغر نتيجة لمشاهدتي لها، ما دفعني إلى إخراجها بهذه التسجيلية، ولن أنحرف عنها إلى المدارس الأخرى». 

البدايات الأولى
  والأسلوب التسجيلي أو الواقعي كان هو السائد في بدايات الفن التشكيلي في الكويت الذي يعود إلى نهاية منتصف عام 1939م، وقبل أن يبدأ به الفنان أيوب حسين، وذلك عندما احتضنت مدرسة المباركية موهبة أول فنان عرفته الكويت هو أحمد محبوب العامر، ورعته بتكليف من ناظر المدرسة آنذاك أحمد شهاب الدين في رسم أول لوحة جدارية في تاريخ الكويت لتعلَّق على الجدران، وهي جدارية مسرحية «فتح مصر»، التي يظهر بها رسم لرجل وجمل في صحراء، وتبدو الأهرام وأشجار النخيل في خلفية المشهد، ومن بعده برز الفنان معجب الدوسري الذي اشترك في أول معرض تشكيلي بمعنى الكلمة مع عروض حرفية أقيم عام 1944م بمدرسة المباركية، وكما ينسب له رسم جدارية لمسرحية أخرى في المباركية، وإثر موهبته البارزة آنذاك بعث في دراسة للفن بمصر عام 1945م، ومن ثم استكمل دراسة الفن بمعهد في لندن عام 1952م، ولكن مرضه المفاجئ عجّل من عودته لوطنه للتدريس بثانوية الشويخ كأول مدرس كويتي يتخصص في الفن.
 لعل أبرز ما تركه الفنان معجب الدوسري من تأثير في تاريخ الفن التشكيلي في الكويت قبل رحيله الفاجع في عام 1956م، هو تبنيه لأول جماعة للرسم عام 1954م، وقيامه بتدريب الطلاب على الرسم بالألوان الزيتية، وتوفيره الكتب الفنية، وإقامته أول معرض تشكيلي شخصي مع مجموعة من الطلبة في ثانوية الشويخ، الذي مهد لاكتشاف موهبة الفنانين طارق سيد رجب والدكتور عبدالله تقي اللذين درسا الفن دراسة أكاديمية في المملكة المتحدة، حيث برع طارق في الرسم الواقعي، وتميز الدكتور عبدالله في مجال التعليم والتدريس بناء على أحدث النظريات التعليمية والتربوية آنذاك.
  في ظل المحيط التعليمي المستجد من أنشطة ثقافية متعددة من مسرحيات ومعارض فنية، التي كانت تقام بمدرسة المباركية طيلة فترة الأربعينيات وبداية الخمسينيات، يمكن القول إن هذا الزخم من النشاط الثقافي مهَّد لتأسيس اللبنة الأولى للفن التشكيلي في الكويت، ما انعكس على ارتياد الطلبة لدراسة الفن وفي تزايد أعداد الطلبة الهواة، ومن ثم قبول المجتمع له. وقد كان الفنان أيوب حسين قريباً جداً من هذا البناء، ومساهماً فاعلاً في التأسيس، حيث كان شاهداً لجداريات المسرح الأولى في المباركية، ومشاركاً في معرض المباركية الأول عام 1943، وشكل ذلك أحد مكونات نشأته الفنية عندما التحق لدراسة التربية الفنية في معهد المعلمين عند تأسيسه في عام 1947، وقد مهدت هذه المعطيات السابقة لتكوينه وصقله في مسار خاص له في الرسم، وإن كانت ممارسته للرسم بدأت معه في البدء «هواية» كللت بمشاركته الأولى في معرض البطولة العربية عام 1958 في ثانوية الشويخ، ومن ثم مشاركته في معارض الربيع بعد ذلك، وانضمامه للمرسم الحر عام 1961م لفترة قصيرة من الزمن، فإن استمراره في الرسم طوال سنوات حياته كان مثالاً حياً «للاحتراف» والإيمان العميق بالفن التشكيلي كرسالة له في الحياة.

الريادة
  لذا يعد الفنان أيوب حسين رائداً من رواد جيل الحركة التشكيلية في الكويت، فمن تحت عباءته خرج كثير من الفنانين الشباب، وخصوصاً الهواة منهم، الذين تأثروا به تأثراً كبيراً في الرسم التسجيلي ونقلوا عن أسلوبه، وفي أحيان أخرى قلدوه!! وهذا أمر طبيعي، نظراً لأن قطار التمدّن وجرار التحديث، الذي رافق بناء الكويت الحديثة بعد ظهور النفط، قد أزال معالم الماضي الجميل، ليبقى ما صوّره الفنان أيوب حسين أصدق ما نقلته عين الفنان للتاريخ والأجيال. 
  وقد اختار الفنان أيوب حسين الطريقة التسجيلية في الرسم، وفي تصويره لمشاهداته التي علقت في ذهنه منذ الصغر، وخلد بذلك البيئة الكويتية بكل جوانبها، وعمل على نـقل معالمها التاريخية، وحفظه لعمارة منازلها ومساجدها التي أصبحت مجرد ذكرى وطلال طوتها السنون.
  وإذا جاز تحديد أسلوب الفنان أيوب حسين والمدرسة الفنية التي ينتمي إليها، نجده قريباً جداً من الأسلوب الفطري في بداياته الأولى، فمسيرته التشكيلية كانت تلقائية، وممارسته لها بدأت مجرد هواية، فهو لم يتلق دراسة أكاديمية، بخلاف دراسة طرق ومناهج التدريس بمعهد المعلمين، إلى جانب ما تلقاه من رعاية زملائه المدرسين العرب أثناء مزاولته التدريس، ومن بعد التحاقه بالمرسم الحر، معتمداً بذلك على قدراته الذاتية في تطوير أدواته الفنية، وفي اجتهاده وبحثه المتأني في إيجاد لغة تشكيلية خاصة وتفرّده بها، وذلك التي اكتسبها من خلال ممارسته المستمرة في الرسم، وعبر المشاركة في المعارض الجماعية وإقامة المعارض الشخصية التي تجاوزت ثمانية معارض. 
 ويلتقي مع الفنان أيوب حسين في البدايات الأولى في الرسم بصبغة الأسلوب الفطري كل من الفنانين خليفة القطان وعيسى محمود بوشهري وعبدالأمير عبدالرضا، اللذين لم يلتحقا بالدراسة الأكاديمية ولم يتأثرا بالمدارس الفنية في بداياتهما، ما صبغ تجربتهما التشكيلية الأولى بملامح الفن الفطري أو ما يعرف بـ«الساذج».
  وقد أدرك الأستاذ محمود سويلم (مفتش أول التربية الفنية بوزارة التربية) أهمية تجربة الفنان أيوب حسين وقدم له النصيحة في تقديمه للمعرض المشترك الأول مع الفنان عبدالأمير عبدالرضا عام 1966م، وقال عنهما: «يهتمان بالكليات ولا يحفلان كثيراً بالتحليل والدراسة وإبراز التفاصيل (...) ولست أدعوهما إلى التغيير وإلا حملتهما على لبس قناع ربما لا يتلاءم واتجاههما الفني... ومن الأفضل أن يبقيا على سجيتهما مع الانطلاق ومتابعة التطور في مجال الفن وفن التصوير خاصة». 
ومن ثم ساهم بقاء الفنان أيوب على سجيته في الرسم، في تكوين شخصيته التشكيلية التي ميّزته عن بقية الفنانين، ويتمثل ذلك في التبسيط وعدم التكلّف والصدق في التعبير، وكلّل ذلك في اختياره للبيئة الكويتية بكل مفرداتها الاجتماعية موضوعاً لا يحيد عنه، ما وضع أسلوبه في محيط قالب تشكيلي فني مميز تطورت أدواته ومهاراته بداخله عبر الزمن خلال الممارسة والمشاركة في المعارض.
  عندما ننظر لأعمال الفنان أيوب حسين نكتشف أن البيئة الكويتية كانت هاجساً كبيراً لديه، ولعلّ حبّه للفن كان وسيلته للحفاظ على تاريخ وطنه، ولهذا عندما يتحدث دائماً يتنازل عن صفة الفنان لمصلحة الباحث في التراث، وكما نجد عناوين لوحاته أحياناً ألعاباً شعبية مثل: «كاسيروه دله» و«لعبة الصفروك» و«سحيب وسحيب»، وهي ألعاب لم يعد يلعبها الأطفال في عصرنا الحاضر، كما يطلق أسماء لوحاته بمفردة من اللهجة المحلية مثل «ياخور الشاوي» و«عزيمة» و«طوب رمضان»، وغيرها الكثير، فكأن الفنان أيوب حسين عندما يرسم يسير في سياق معادلة توافقية ما بين الفن والتراث، حيث إن حبّه للتراث جعل منه فناناً متواصلاً في عطائه، وفي المقابل فإن تعلقه بهوايته خدمه في التعبير عن عشقه للتراث.
  وتتميز فرادة مواضيع الفنان أيوب حسين عن بقية الفنانين في صياغته لها، حيث يقدمها مثل قصة قصيرة أو حكاية لمشهد به حدث وعناصر مجتمعة يقتضيها الموضوع بلا تصنّع، ومن ثم هي ليست لوحة صامتة وإنما هي لوحة بها مشاعر فيّاضة صادرة من مخزون إنساني، فكل عنصر وضعه الفنان في اللوحة جاء ضمن سياق الموضوع، فتترابط العناصر مع بعضها بعضاً، وتتكامل لتقدم المشهد البيئي أو الاجتماعي الذي نستدل به من خلال العنوان الذي وضعه للوحة.
  وكما يهتم حسين كثيراً بتوثيق الأحداث، فيأتي أسلوبه تسجيلياً في كثير من المواضيع، سواء في تصويره للمواقع من أسواق ومدارس أو في رسمه للعادات الاجتماعية، مثل ليلة الدزة (يوم الزواج)، «ليلة الكريكعان»، «النون»... وغيرها التي اختفى بعضها مع التطور الاجتماعي الذي صاحب المجتمع الكويتي بفعل الحضارة الحديثة.

ملامح مسيرته
 وتنقسم المسيرة الفنية للفنان أيوب حسين، إلى ثلاث مراحل:
 المرحلة الأولى، وهي الأعمال التي قدمها خلال الفترة الزمنية من بداياته حتى معرضه الشخصي الثاني 1978م، ويبرز فيها اهتمامه بتناول المشاهد الحية، التي تعج بالحركة كألعاب الأطفال الشعبية المتعددة، وتزدحم بالناس مثل تجمُّع المصلين في المساجد، ومظاهر الاحتفال بالأعياد وغيرها من مظاهر الحياة الاجتماعية التي كانت سائدة في الماضي، حيث نلاحظ أن مجمل المواضيع التي تناولها في تلك المرحلة، مفعمة بالحياة، وتكاد تشعر بها تنبض، ولكن غلبت عليها صفة المباشرة في النقل، وله في ذلك ما يبرره في سعـيه لرصد مشاهداته التي عاصرها في صباه، كي لا تركن تلك الذكريات العالقـة، في ذهنـه في دائرة النسيان.
  وقد شبّه أستاذ التربية الفنية حامد حميدة في عام 1961م عمل الفنان حسين في ميدان الفن التشكيلي «كعمل الشاعر الشعبي في عالم الشعر والأدب»، هذا الوصف دقيق إلى حد كبير في البدايات المبكرة جداً للفنان الراحل.
 والمرحلة الثانية، وتبدأ مع معرضه الفني الثالث الذي أقيم عام 1985م حتى معرضه الخامس 1996م، ويبرز بها اعتناؤه بالمشهد الثابت للموضوع، مثل رسم السكة وواجهات المساجد، وتصويره لأركان البيت القديم، مع الابتعاد عن رسم ملامح الأشخاص بشكل ملحوظ، وأحياناً يلجأ إلى إخفائها، كما تميّزت ألوانه في تلك المرحلة بالعمق، إثر الخبرات التي اكتسبـها الفنان، ونلاحظ أيضاً اهتـمامه الواضح بعنصـريّ الظـل والضوء، وما يكسبه المشهد من تأثيرات لونية غنية، وحرصـه على إيجاد التوازن الفني في رسمه للمنظور، وإبرازه للبُعد الثالث في الشكل.
 المرحله الثالثة، وهي المرحلة التي بدأها بمعرضه السادس 1996م وامتدت مع معرضه الأخير السابع عام 2004م، والتي أعاد بها رسم البيئة من جديد مع إضافة شخوص بشكل موارى ضمن سياق الموضوع، ونتلمس في أسلوبه تطوراً كبيراً في التلوين وكذلك اهتمامه بالتفاصيل، ولا يكاد يترك شاردة إلا وقد أبرزها، كما أصبح العمق في التكوين أكثر وضوحاً، ولعله بسبب التأني الذي يبذله الفنان المبدع بعد أن أعياه الكبر في آخر سنوات حياته، ما انعكس على النضج اللوني للوحاته.
  إن ما قدّمه الفنان أيوب حسين خلال رحلته الفنية الطويلة من خلال إنتاجه الغزير، وإخلاصـه وتفانيه في الرسم، الذي بدأ معه كهواية، ولازمه عبر السنين الطويلة كاحتـراف، استطاع أن يخلّد فترة تاريخية مهمة من تاريخ وطنه، أبرز بها البيئة ومعالمها، وصور عادات وتقاليد شعبه في أجمل الصور، لتكون مرجعاً للجيل الحاضر والأجيال القادمة، بل تعتبر وثائق فنية تاريخية، حية وناطقة، لها دلالتها المهمة، شأنها شأن الأعمال التي قدمها المستشرقون في القرن الماضي، حين عملوا على نقل ورسم عمارة المساجد والمنازل والأسواق وطبيعة الحياة، وذلك قبل اختراع آلة التصوير، ليقدموا برسومهم الواقعية، خدمة لكتّاب التاريخ ودارسي الفنون والعمارة والباحثين >
 لقد كان فن أيوب حسين شاهداً من العصر الجميل الذي عشقه ولم يرض بالابتعاد عنه طوال حياته، وبقي بيننا بعد رحيله في لوحاته الخالدة.■