أيوب حسين... أرّخ للكويت بلُغة عالمية مستخدماً الريشة واللون

أيوب حسين...  أرّخ للكويت بلُغة عالمية  مستخدماً الريشة واللون

جُبل البشر على الابتكار والبحث والإبداع والتجديد في كل مستلزمات حياتهم اليومية، وكانت حاجتهم إلى العيش المدخل الرئيسي الذي دفعهم لبناء الحضارات والمدن والدول.
ولكن هذه الأمور التي كان الناس يطوّرونها جيلاً بعد جيل خارجة من منبع فطري له علاقة لصيقة بالذاتية البشرية، لأن القدرات الفردية متفاوتة ومختلفة وفق قدرات كل فرد منهم.

 

تعتمد الفطرة أيضاً على لزوميات الحياة، فالإنسان في سيبيريا لا يشغل فكره بابتكار فطري لوسيلة تبريد لعدم حاجته لها والعكس في إفريقيا التي تمتاز بحرارة جوّها، فمسألة التدفئة تبقى من الثانويات في لزوميات الحياة هناك، وسكان الدول والمناطق البحرية مستمرون بفطرتهم اللزومية للبحث خلف أسرع طرق المواصلات ووسائل النقل البحري، ابتداء من الشراع وأنواعه إلى المحركات وزيادة سرعتها وقوّة تحمّلها ومستلزمات الصيد والغوص، وكذلك أهل الصحراء لهم اهتماماتهم.
وفي الكويت وخلال فترة ثلاثينيات القرن الماضي، كان التوثيق المرئي من النوادر التي لو توافرت في حينها لما وصل الأستاذ الفنان أيوب حسين إلى ما هو عليه من روعة واقتدار وتفرُّد فني وثقافي وتوثيقي. هذه الفترة من حياة الكويت والكويتيين كانت تفتقر إلى عدسات الكاميرات وآلات التصوير المختلفة، وكان الناس يعتمدون على وصف مشاهداتهم بالتعبير اللفظي وبالأبيات الشعرية التي كانت تفتح خيال كل واحد من المتلقين منفرداً ليتخيل ويتصور ويعيش الحلم مع ما يسمع من وصف لما ترويه الروايات أو تصفه الأبيات، فكان من الضروري جداً إيجاد وسيلة ابتكار وطريقة تصوير ذاتية لأحد أفراد هذه البيئة الفقيرة لتكنولوجيا التصوير، فظهر على الساحة مجموعة من المبدعين الكويتيين اتخذوا من فن الرسم التصويري وسيلة للتعبير والتوثيق لإيصال الخبر، ومن هؤلاء الأستاذ معجب العامر والفنان الرائد عجب الدوسري والفنان عبدالله الفرج، وقد يكون هناك غيرهم ممن لم تصلنا أخبارهم وسيرهم الموثقة لتاريخهم.
إن الذين ذكرتهم من الروّاد المبدعين فنياً هم الجيل الذي سبق الأستاذ أيوب حسين، ومنهم مَن عاصره الفنان وعرفه، إلا أن الفنان أيوب حسين يظل هو قائد المسيرة الذي أطال الله سبحانه وتعالى في عمره ليعيش بين القرنين، قرن مضى كانت به الكويت قديمة وأهلها يعيشون بدايات الحضارة المدنية، وقرن التكنولوجيا والكمبيوتر والرفاهية.
هذه المرحلة مهمة جداً لنا لكي نضع الفنان الراحل أيوب حسين ونحن نستذكر ذكراه العطرة بعد عام من رحيله عن عالمنا كوثيقة تاريخية للأجيال وما تحتاج إليه من معلومات عن فنان أعجز عن وصف دوره  المهم في حياة الكويتيين قديماً وحديثاً، وقد لا أبالغ إن قلت ومستقبلاً.
لا أستطيع أن أمنحه لقباً معيناً، أشعر أن أي كلمة مهما كانت جميلة أو متميّزة ستكون قليلة عليه، فهو يستحق أن أصفه بعدسة التصوير الكويتية التاريخية، ويستحق أن أعتبره مؤرخ الكويت الأول، ويستحق ويستحق، فكل ما نقوله في هذا الفنان الراحل الذي أثرى مكتباتنا ومتاحفنا بكل جميل من فكره وشعره وفنه التشكيلي قليل، ولا ندرك مداه الذي يستحقه.
أيوب حسين فنان فطري متواضع دمث الخلق، حلو الحديث والمعشر، كريم اليد، ولا يبخل على غيره بأي معلومة فنية أو تاريخية أو لغوية، لأنه من أساتذة اللغة والمبحرين فيها يطارحه الحديث زميله وصديقه الشيخ القارئ الأستاذ علي حسين الحسيني - رحمه الله - صاحب المرجعية اللغوية الفذة، حيث كنت كثيراً ما أسامرهما في حوارهما ونقاشهما حول أهمية الهمزة في تلك الوضعية أو ذاك الموقع.
كان أيوب حسين قليل الحديث، ولكن قليل كلامه كان غنياً، عبق الأريج جميل الوصف، سهل الاستيعاب بأسلوب المعلم المتمرّس في عمله التعليمي، فكانت المعلومة لديه تنقل لمريدها بسلاسة ورحابة تلتصق بمتلقيها، فترسخ المعلومة في ذاته دون عناء.
هكذا هو أيوب حسين الأب والأخ والصديق الذي لم أسمع أبداً عنه ما يدل على تذمّر أي إنسان منه طيلة الأربعين عاماً التي عرفته فيها.
 أيوب حسين، هو الأستاذ المربي الفاضل الذي فقدناه يستحق منا في ذكراه السنوية أن نترحّم عليه وندعو له بالثبات والفوز مع الأبرار والصالحين.
بعد هذا الجزء الذي أحسّه ناقصاً في حق «أبو الفن» التشكيلي الفطري والقيمة الشامخة التشكيلية، سأعطي نفسي حقاً وأنا ابنه وتلميذه وأخوه الصغير أن أتحدث عن فنه وشرح أسلوبه شرحاً أكاديمياً، عسى أن أوفق في إيصال المعلومة اللازمة عنه للأجيال القادمة، ومن يقرأ هذه الصفحات.
والتحليل أو الشرح الأكاديمي لا يرقى إلى مستوى أعمال الفنان أيوب حسين، وليس العكس، لأن الأسلوب الذي انتهجه الفنان انفرد بجمالية ودقة لا مثيل لهما، فكسر كل القواعد والأسس الفنية الأكاديمية المعروفة، واضعاً لنفسه مدرسة جديدة لها مقاييسها وأركانها، حيث ينطلق الناقد والباحث في أعمال الفنان أيوب حسين من مدرسة ونظرة أيوب حسين الخاصة.
تجاوز المدرسة أو الأسلوب الفطري، وامتزجت ريشته بألوان الحقيقة والواقع، فأصبح العمل عبارة عن واقعية تأثيرية يتغلب فيها الحدث التوثيقي على كل شيء سواه من معايير وأسس، وصارت أعماله نقلاً من الحاضر إلى الماضي، بمعنى أن يقف المشاهد أمام لوحة أيوب حسين في عام 2014، وهو يستحضر عام 1935م، وعندما تشاهد عملاً أو تاريخاً كأنك تشاهد فيلماً قديماً بالأبيض والأسود، فلا تحتاج في رؤيتك كمشاهد إلى اللون لتتمتع، ولكنك تستمتع بالحدث وحده ودقة الشرح، لتصبح اللوحة شعراً ورواية تحكي وتسمع بالمشاعر لا بالحواس الخمس الأخرى.
أيوب حسين صوّر الماضي بريشته الملوّنة، بألوانها الزاهية فاكتسب ثقة الجمهور الذي وثّق إعجابه برسوماته كأنه نفق للزمن ينقل المعاصرين ليعيشوا لحظة جميلة مع الماضي ويجدوا الذكريات والأيام التي كانت - وفق ما يقوله الجميع - أياماً جميلة ليتها تعود.
بهذه الطريقة السهلة البسيطة استحضر الفنان صور الماضي بعدسته الخاصة، فلم يترك أي جزء في الماضي إلا ووثّقه، كأن هذه العدسة البشرية من تلك الأجهزة الحديثة التي تصوّر بالأبعاد الثلاثية، أو كما يقال حديثاً «الديجيتال».
أيوب حسين لا يحتاج إلى ناقد أكاديمي ليقيّمه ويقدر مكانته الفنية، فالجميع دون استثناء كبيراً كان أو صغيراً، رئيساً أو مرءوساً، رجلاً أو سيدة من سيدات الكويت لا يختلفون على جمالية أعماله ودقتها وقدرته الفائقة على تصوير الحسّ والشعور، لا بالخط والأبعاد والحدود والمنظور - مع أن هذه الأسس الأكاديمية متوافرة في جميع أو أغلب أعماله - ولكنها بتوقيع الأستاذ أيوب حسين الفنان التشكيلي الذي ترك للكويت والكويتيين إرثاً فنياً يستحق عليه الشكر والثناء والتقدير.
ترك للأجيال قصصاً وصوراً سيتحدثون عنها كثيراً، واصفين الماضي، وسوف يكون أيوب حسين إلى ما شاء الله المثل الذي تضربه الأجيال بعد الأجيال عندما يتحدثون عن الكويت القديمة. 
وأعتقد بأن المسؤولين في الدولة، وخصوصاً في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب لا يختلفون على أن الأستاذ أيوب حسين حاز درجة المؤرخ الفوتوغرافي الأول، والدليل الاهتمام الجاد من قبلهم بلوحاته، وتخصيص مقر دائم لها، لتكون دليلاً شاهداً على ما قدمه الأستاذ المرحوم خلال مسيرته الفنية التي خصصها فقط للتوثيق، ولم يهتم بأي شيء بقدر ما كان يصب اهتمامه في الشؤون البيئية الكويتية وتصوير مفرداتها وسرد حكاياتها الشعبية واليومية التي يعيشها الإنسان الكويتي، بداية من شواطئ البحر وانتهاء بالصحراء والأجزاء الخاصة بالبيئة الصحراوية أو ما شابه ذلك من صور كانت مخزّنة في ذاكرته حيث عاشها وعاصرها، فرسخت في ذاته القوية، ليخرجها إخلاصه الدائم لوطنه ومواطنيه عبر لوحات زيتية أصبحت مزاراً للمريدين في متحفه الخاص بمنطقة النقرة، وبالتحديد في «بيت العثمان».
 وهناك سيجد الباحث عن حقيقة أيوب حسين ضالته، ويستطيع أن يكوّن بذاته الصورة الواضحة والمتميزة لفنان عاش الزمانين، زمان الرخاء والبترول، وقبل ذلك عاش زمان الغوص والكويت القديمة، فجال في نفسه حب الكويت وعبيرها ظهر للعيان بأن قدّم العديد من الأعمال الفنية الرائعة تتذكّر الماضي، وتحكي للحاضر زمناً من تاريخ الكويت، لولا أيوب حسين ما عرفته الأجيال، من أبنائنا وأحفادنا ممن سيأتون بعدنا، فتكون عندهم المادة جاهزة لإعداد صور وأفلام تاريخية عن كويت الجميع، كويت الخير والحب والعطاء.
وفي الختام أدعو الله عز وجل أن يتغمّد أستاذنا الراحل برحمة واسعة، وأن يسكنه فسيح جنانه، إنه قريب مجيب الدعاء.
كما أقدم اعتذاري إلى هذه القامة الفنية الكبيرة، راجياً المعذرة إن كنت قد قصرت في حقه الذي هو دَين علينا تجاه أستاذ فنان أديب لغوي مؤرخ، قدّم الكثير، فنال الشكر والتقدير من الجميع دون استثناء ■