شيخ الخطاطين المعاصرين محمود إبراهيم: كيفَ تستقيمُ اللغةُ والخطُّ أَعوج؟

 شيخ الخطاطين المعاصرين محمود إبراهيم:  كيفَ تستقيمُ اللغةُ والخطُّ أَعوج؟

تحدث عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين عن اللغة العربية قائلاً «إن اللغة لن تتطور ما لم يتطور أصحابها أنفسهم، ولن تكون لغة حية إلا إذا ارتفع أصحابها إلى مستوى العصر ثقافة وسلوكاً وفهماً، أخذاً وعطاءً». وقديماً ذكر ابن خلدون في مقدمته الشهيرة «أن الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية، فهو ضرورة اجتماعية اصطنعها الإنسان ورمز بها للكلمات المسموعة... والكتابة تأتي في المرتبة الثانية من مراتب الدلالة اللغوية التابعة في نموها وتطورها لتقدم العمران والمدنية، لهذا فهي تكتسب بالتحضر».

 عن فن الخط العربي... نشأته وتطوره وازدهاره كأحد أهم فنون الحضارة الإسلامية قديماً، وعن أوضاعه الآن من ترد وانحدار تحاورنا مع شيخ الخطاطين المعاصرين، آخر جيل رواد الخط العربي الفنان محمود إبراهيم سلامة لتسليط الضوء على هذه القضايا المهمة المتعلقة بفنون الخط وانعكاساتها على حال اللغة العربية.
< هل لنا أن نتعرف على البدايات الأولى لنشأة الكتابة وفن الخط العربي قبل الإسلام؟
- كانت بلدتا «الحيرة والأنبار» في العراق قبل الإسلام المركزين الرئيسين اللذين انبعث منهما تعليم الكتابة الخطية للجزيرة العربية، وتم ذلك عن طريق مدن في شمال الحجاز ومنطقة نجد، أي إن الخط العربي نشأ في شمال جزيرة العرب بتأثير من الخطوط التي كانت في العراق، ثم انتقل إلى مكة والطائف ومدن أخرى متقدمة حضاريّاً بشبه الجزيرة العربية حققت اتصالاً تجاريّاً منتظماً بين اليمن وجنوب الشام، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم برحلتي الشتاء والصيف. وكانت قريش تقوم بهما بقصد التجارة والكسب في الجاهلية، فأفادت منهما شيئاً غير يسير من أسباب الحضارة ومظاهر التقدم.
وكان العرب قبل الإسلام يهتمون نسبياً بالكتابة، واستعملوها في شؤون الحياة كتدوين العقود والمواثيق والاتفاقات السياسية والتجارية، كما استعملوها في فنون الأدب والشعر كالمعلقات السبع، والشعر موهبة اختص بها الله العرب منذ القدم.
< كيف ذلك  مع أنه يشاع عن العرب في الجاهلية أنهم قوم أميون؟
- الأمية لم تكن بمعنى الجهل بالقراءة والكتابة، ولكن الأمية التي قصدها القرآن الكريم كون العرب أمة من دون كتاب سماوي، لذا فإن القرآن الكريم بالعمق الفكري والأسلوب البليغ يعني أن هناك أمة لديها القدرة على فهم القرآن الكريم وحمل رسالته للبشريه كافة.
< هل كان لبزوغ شمس الحضارة العربية الإسلامية مع انتشار الإسلام دور مؤثر في تطور الفنون الإسلامية، وبالأخص فن الخط العربي؟
- مما لا شك فيه أن الخط العربي صحب نمو الحضارة العربية والإسلامية، ومضى يتطور مع تطورها، وقام بدور مهم فيها، لا كوسيلة للتوثيق ونقل الأفكار فحسب، وإنما أيضاً كعمل فني له كل خصائص الفنون المعبرة عن حضارة الشعوب وقيمتها الجمالية الرفيعة ولا يوجد على مر التاريخ عنصر فني تشكيلي أو معماري تطور بهذا الفارق الكبير بين بداياته وما وصل إليه من قمة الازدهار في أواخر عهد السلاطين العثمانيين مثل فن الخط العربي.
< هذا عن تطور الخط العربي... ماذا عن دوره كفن من الفنون التي ازدهرت أيام الفتوحات الإسلامية؟ وهل أثّرت اللغة العربية في خدمة الإسلام؟
- ازدهار الخط العربي بدأ أول ما بدأ في العراق والشام ثم مصر زمن المماليك، حيث فرغ العرب إلى تجويده والابتداع فيه بعد أن فتح الله عليهم كثيراً من البلاد، وغدت لهم عمارة وفنون.
وينسب إلى بلدة الكوفة في العراق اختراع أقلام الكتابة القديمة، وعنها شاع «الخط الكوفي» وقد كتبت به المصاحف زهاء أربعة قرون. وفي هذا الخط يتجلى جلال القرآن، وكذلك بقيت للحروف المكتوبة بالخط الكوفي الأفضلية في كتابة المصاحف حتى حل محلها خط آخر جميل وهو «خط النسخ» وينسب إلى «الأتابكة» في الموصل وشمال الشام. لقد أدرك خليفة المسلمين عثمان بن عفان  ما لتدوين القرآن من أثر في حفظه وضبطه وذيوعه، فجمعه مخطوطاً في مصحف فريد عرف بالمصحف «الإمام»، وهو المصحف الذي أمر بنسخه وإشاعته في الأمصار الإسلامية.
حقيقة لقد خدمت اللغة العربية الإسلام خدمة لا يضارعها شيء آخر، ذلك أنها كانت بالنسبة له خيراً من السيف، وقد كان النبي  يدرك قيمتها ويفهم أهميتها الخاصة مع اتساع رقعة الدولة الإسلامية فكان تبادل المكاتبات بالعربية مع الأقطار الأخرى في شؤون الدين والدنيا. 
< ماذا عن تأثير الحرف العربي في لغات الأمم الأخرى التي تم فتحها وانتشر بين أفرادها إلاسلام، خاصة أن الدولة الإسلامية أضحت مترامية الأطراف؟
كانت الكتابة العربية في انتشارها بالبلاد التي تم فتحها قوية التأثير على القوميات الأخرى... ففي إيران حلّت الحروف العربية محل الحروف «البهلوية» في اللغة الفارسية، كما استخدمها الأفغانيون في كتابة لهجاتهم «الباميرية». وفي الهند حلّت الحروف العربية محل الحروف الأوردية، كما تعدت الحروف العربية حدود الهند شرقاً وجنوباً فاتخذها أهل «الملايو» من المسلمين لكتابة لغتهم «الملقية»، ورسم بها أهل «جاوة» والفلبين لغتهم الخاصة، كما انتشرت الكتابة العربية حتى أدركت مسلمي الصين، وانتقلت من الأمة التركية إلى الأمم التترية والتركمانية حتى وصلت حروفها إلى مسلمي روسيا بتأثير من مسلمي التركستان وما حولها.
< وماذا عن الدول الإفريقية التي دخلها الإسلام، كيف انتشر الحرف العربي بها، وما ومدى تأثيره في حروف اللهجات المحلية بتلك المناطق؟
- انتشار اللغة العربية بحروفها في معظم بلدان القارة الإفريقية واستخدام الحرف العربي في اللهجات المحلية يرجعان إلى فتح العرب لمصر في خلافة عمر بن الخطاب ، فمنذ ذلك التاريخ امتد فن الخط العربي إلى شمال إفريقيا مع فتوحات بلدانها وتطور تطوراً كبيراً، خاصة في بلاد المغرب والأندلس، وأصبحت له خصائصه المغايرة لجميع أنواع الخطوط العربية الأخرى. 
< هل كان للدولة الإسلامية في الأندلس دور في نشر الحرف العربي بالمناطق الأوربية التي وصل إليها جند الإسلام؟
- نعم لقد توغل الخط العربي في شبه جزيرة البلقان وجنوب فرنسا، وذلك مع فتوحات العرب لأقاليم تلك المنطقة من القارة الأوربية، ومنذ ذلك التاريخ قدر للعربية وكنوزها الفنية والعلمية أن تبلغ الذروة انتشاراً بين الراغبين في العلم من الأوربيين ممن كانوا يفدون إلى ديار الأندلس، فتعلم الأوربيون من راغبي العلم لغة العرب وكتاباتهم... وأثر ذلك مازال واضحاً في لغة أهل إسبانيا وصقلية وجنوب إيطاليا بشكل عام، كما تأثرت فنونهم بفن الخط الإسلامي وزخارفه إلى يومنا هذا في تزيين المباني والعملات القديمة.
< ماذا عن أهم أسباب تراجع مكانة الخط العربي كفن من فنون الحضارة الإسلامية بعد أن كانت له الريادة على مستوى الحضارة الإنسانية؟
- تراجعت مكانة الخط العربي كغيره من فنون اللغة العربية، بعد أن قل اهتمام الدول العربية بتعليمه للنشء وبات اللسان العربي يلحن، واليد عرجاء!... فلا نطق سليماً ولا خط مقروءاً، يتساوى في ذلك الكبير والصغير! بل الأدهى من ذلك أن تمسكت القوميات الأخرى من تُرك وفُرس بالحفاظ على فنون الخط، حتى وهم لا يتحدثون «العربية» كلغة أولى، وتراجعنا نحن العرب إلى الصفوف الخلفية!
وإني أهيب بالمسؤولين العرب من وزراء أوقاف وثقافة وفنون وتربية لتدارك الموقف والعودة للاهتمام باللغة العربية نطقاً وكتابة حتى لا ينقرض هذا الفن الإسلامي الجميل الذي أبدعت أنامل وعيون الفنان المسلم لوحاته الجميلة، والذي برزت فيه نخبة من الخطاطين العرب المسلمين، ولا تزال المتاحف والمساجد تزدان بروائعه وآثاره، ويتجلى الإبداع والجمال في ما خطوه لنا من لوحات شاهدة على براعة الخطاط العربي المسلم وتفوقه.
إن اهتمامنا باللغة العربية سوف ينعكس بطبيعة الحال على حسن الخط الذي يجب أن يتعلمه الطفل المسلم مع أولى بدايات تعلُّمه الحرف العربي قراءة وكتابة، وكذلك يجب عودة كرّاسة الخط لمراحل التعليم المختلفة، وأن يقوم بدور المعلم الأستاذ المتمكّن، كما يجب على المسؤولين نشر معاهد الخط لتعليم فنونه لمحبيه وموهوبيه، وإقامة المعارض ورصد الجوائز، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون!
< أليس هناك في هذه الصورة القاتمة بريق أمل ينم عن تفاؤل قريب؟ وشاعر النيل حافظ إبراهيم يتغنى بلغتنا الجميلة فيقول:
وسعت كتاب الله لفظاً وغاية
وما ضقت عن آي به وعظات 
أنا البحر في أحشائه الدر كامن
فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتى؟ 
- حقيقة الأمر هناك اهتمام بدأت بوادره منذ بضع سنين في منطقة الخليج بفنون الخط العربي، فلقد أقامت المملكة العربية السعودية الشقيقة لأول مرة عام 2011م ملتقى المدينة المنورة لكتبة المصحف الشريف، أيضاً يقام في إمارة الشارقة ملتقى لفناني الخط العربي يعقد كل عامين، كذلك يعقد في الكويت مؤتمر سنوي لفنون الخط العربي، يرعاه مركز الفنون الإسلامية، ويجد كل الاهتمام والرعاية من محبي هذا الفن ومريديه، وهم كُثُر والحمد لله... هذا ما لمسته عن قرب وعشته عند دعوتي إلى هذه الفعاليات العربية الخليجية ومشاركتي في أنشطتها كعارض أو محكم أو ضيف شرف، باعتباري أكبر الخطاطين سنّاً والأكثر عطاءً، فمازلت أكتب إلى اليوم وقد تخطّيت الخامسة والتسعين... وتم تكريمي من دول عربية وإسلامية، وبالطبع أكثر من مرة من بلدي مصر، غير أن الأمر لن ينصلح في مجال الخط إلا بصلاح حال اللغة العربية... وأقول لمن يعنيه الأمر: كيف تستقيم اللغة والخط أعوج؟ ■

 

نموذج من أعمال الخطاط محمود إبراهيم