المخطوطات... رحلة في طريق الحرير

المخطوطات... رحلة في طريق الحرير

الحديث عن المخطوطات والوثائق يشتم منه الباحث والمراقب عبق تراث السنين لحضارات زاهرة، ساهمت مدنها بدور فاعل في شتى العلوم الإنسانية. إن عبور القوافل التجارية جيئة وذهاباً عن طريق الحرير وتشعباته التي تكاد تغطي القارة الآسيوية بأكملها وأجزاء كبيرة من قارات أخر، جعله معبراً لتداول كل حاصلات الشرق والغرب، وكانت المخطوطات تنقل معها.

إذا كان الحرير السلعة الرائجة في طريقها هذه، فإن المخطوطات والوثائق لا تقل رواجاً عن الحرير، فلا تكاد تخلو مدينة من مدن ما وراء النهر كطشقند، وسمرقند، وفرغانة، وبخارى، وترمذ، ومرو، وبلخ، وهراة، ونيسابور، وجرجانية من خزائن تحتوي على نفائس المخطوطات وأقدمها، ولايزال الشرق والغرب يستفيد منها، ويبدو هذا جلياً للمتخصص في تاريخ تلك المنطقة، وما قامت عليها من حضارات.
إن تلك المناطق التي احتوت نفائس المخطوطات، غدت اليوم - بعد انفصال أغلبها عن الاتحاد السوفييتي السابق - تحتل المرتبة الرابعة من حيث أعداد المخطوطات بعد تركيا ومصر وإيران.
وحتى الاجتياح المغولي - رغم همجيته - لم يستطع الإجهاز على كل ذلك الموروث الإسلامي، بل ساهم في كثير من الأحيان في نقله إلى جهات أكثر أمناً تحت عناية خانات المغول الكبار، وتحت نظر كبار العلماء الذين ساقهم المغول إلى منغوليا.
ما نود أن نلفت النظر إليه، أن طريق الحرير كانت جسراً للتواصل الحضاري بين شعوب المناطق التي سارت عبرها، ووصلت إليها، وكانت المخطوطات التي ألفت في شتى العلوم أحد جسور التواصل الثقافي قديماً وحديثاً.
وإذا كان للحرير ملمس ناعم أذهل النفوس والألباب، وتداعت له ذائقة الناس جمالاً وعشقاً، فصنعوا منه أثواباً قشيبة، رصعوها بالجواهر واللآلئ والدرر، فإن هذا النفيس قد جلب معه نفائس المخطوطات والوثائق التي أضاءت سماء طريق الحرير ومحطاته بالثقافة والفنون والآداب في شتى صنوف المعرفة، حتى غدت نزهة الناظرين، وقبلة القاصدين.
ولعل الحديث عن المخطوطات والوثائق يستجذب الكثير من الناس، خاصة المتخصصين منهم، نظراً لما يحمله ذكرها من حنين لتراث أهل الفكر والنظر الذين أبدعوا في عصورهم في مختلف العلوم والفنون.
بيد أن الحديث عن المخطوطات قد يأخذ بعداً محزناً، وترحاً بعد فرح، إذا ما تجولنا في المراكز المقتنية له، خاصة تلك التي لم تواكب تقنيات الحفاظ عليه روحاً ومعنى.
إنك إن تحمل نتاج غيرك، وتعمل ساهراً جاهداً على اقتنائه والحفاظ عليه ونشره بالصورة اللائقة، فإنها لمهمة جليلة، رفيعة القدر، والمخطوطات والوثائق مثال هذا صورة ومعنى، فليس من سعى إليها بمعزل عن الكدر الذي قد يلازمه أبد عمره، وهو يرى الكثير من هذا الإرث الثقافي بأيدٍ غير متقنة لأساسيات الحفظ، وهو أمر يقود إلى الإضرار به وتلفه، وأخرى غير آبهة لمن يؤول شراءً واتجاراً، وثالثة تسيء إلى مؤلفه وتخرجه محققاً دون التزام بأصول التحقيق في لوازمه ولواحقه.
وخلال تجوالي بكثير من المدن الشهيرة بالمخطوطات، شاهدت هذا التقصير في الجهات المقتنية للمخطوطات بصفة عامة، وفي مكتبات الأشخاص بصفة خاصة وما تحتويه من كنوز دفينة، بحاجة إلى سرعة إنقاذ، وحسن تدبير، أعني تنظيفها، وتعقيمها، وترميمها، وحفظها بصورة مثلى، والأمر المحزن حقاً جهود الأفراد من المنكوبين - كحالي - في عدم الرضا، والسخط على عموم الحال، لأن الإنقاذ يتطلب جهود دول تملك المال الذي يستخدم في هذا الباب.
إن نسبة المخطوطات غير المحققة، والوثائق غير المستخدمة، التي تسهم في إثراء العلوم كثيرة جداً، ويتطلب تحقيقها تضافر جهود الجهات العلمية ذات الاختصاص، وهو أمر غير حاصل في الوقت الحالي، ولعل قادم الأيام يسفر عن خطة طموحة بهذا الصدد.
لقد سارت بعض الجامعات العربية، وحتى الأوربية، سيراً حثيثاً في دراسة وتحقيق المخطوطات، وذلك من خلال اعتمادها كموضوعات في أطروحات الماجستير، وأحياناً في أطروحات الدكتوراه، وهو أمر لافت يجدر الإشادة به، خاصة أن من يقوم بالدراسة والتحقيق هو من المتخصصين، فضلاً عن لجان المناقشة التي لا تدع شاردة ولا ورادة إلا وقد استدركتها في رسالة الباحث.
  وخلال عملي مديراً لإدارة المخطوطات ونائباً للرئيس في إحدى لجان التراث، ومقرراً لأخرى، ومدرساً لمـــقرر الـــوثــائــق والمخطوطات لطلبة الدراسات العليا، وجدت أن رسائل الماجستير والدكتوراه التي تـــتــــناول موضوعاتها دراسة وتحقيق المخطوطات أغلب أصحابها لم يقوموا بطباعتها ونشرها تجارياً، وذلك لعدم مقدرتهم المالية، أو لأنهم يظنون أن الأمر لم تعد له أهمية، ماداموا قد منحوا الدرجة العلمية، لذا فإن المهمة هنا موكلة بالجهات الداعمة لنشر التراث، باعتبار أن تلك الرسائل جاهزة للنشر، والمطلوب تحديداً جهة تتكفل بالطباعة والنشر، مع مراعاة حقوق من قاموا بدراستها وتحقيقها.
والأمر الذي لا يقل أهمية عن تحقيق ونشر المخطوطات، هو عمل فهارس وصفية لمخطوطات الجهات المقتنية لها، لاسيما المكتبات الخاصة التي تفتقر غالباً لذلك، ولا ريب أن في إصدار تلك الفهارس يكفل حفظاً لملكية تلك الجهات لمجموعات المخطوطات التي بحوزتها، وضماناً لحقها مستقبلاً في تبيان جهودها. إن المخطوطات والوثائق مازالت تمثل مصدراً مهماً في تأصيل البحوث في شتى العلوم، لذا يجب استنهاض الهمم في سبيل العناية بها، حفظاً وتحقيقاً ونشراً لأهميتها من جهة، ووفاء لأصحابها من جهة ثانية.
إن ما جمعته من وثائق ومخطوطات مصورة أعتقد يعد مهماً في بابه، ذلك أن التركيز في الوثائق كان عندي له أولويات، فإيماناً مني بالمسؤولية التاريخية إزاء مدينة القدس التي
لا تزال ترزح تحت اليهود، فقد شمرت عن ساعد الجد في جمع وثائقها التاريخية، وخاصة التي تتعلق بالمسجد الأقصى، ومسجد قبة الصخرة، ومن تولى الإمامة والخطابة والأذان، وحتى من تولى الخدمة فيها من البوابين والخدام وغيرهم، وما أحاط بتلك المنطقة من مؤسسات دينية وتعليمية كالزوايا والربط والخانقاوات والمدارس وغيرها، فضلاً عن استملاكات أهلها من بيوت ومزارع ومحال، كما تحتوي على بعض السجلات المتعلقة بأسماء الأسر التي سكنت القدس، على النحو الذي كان في العصر العثماني وقبل احتلالها من قبل اليهود، وأجدُ ذلك مهماً في إثبات حق المطالبة حال تحريرها مستقبلاً، فضلاً عن أهمية هذه الوثائق تاريخياً كوثائق متعلقة بهذه المدينة العريقة، وقد ركزت في استخراج هذه الوثائق على المحفوظ في الأرشيف العثماني، باعتباره المستودع الأكبر لها، ولأن مدينة القدس تدخل ضمن ولايات الدولة العثمانية التي نالت عناية فائقة من السلاطين العثمانيين قاطبة.
إن بين يدي عن مدينة القدس بصفة عامة وعن المسجد الأقصى وقبة الصخرة واستملاكات الفلسطينيين أكثر من اثنين وعشرين ألف وثيقة، وأرى أن هذه الوثائق ركيزة لعمل أبحاث تاريخية تصب في مصلحة تأصيل الدور التاريخي لهذه المدينة ومن سكنها.
إن سجلات ودفاتر أُعطيات السلاطين السنوية التي صورتها تحتوي على معلومات تفصيلية عن أسماء من تقلد المناصب والمراتب، وتسفر بما لا يدع مجالاً للشك عن جهود أولئك السلاطين في تثبيت الواقع الإسلامي والصبغة الإسلامية على مدينة القدس.
والأولوية الثانية عندي في جمع الوثائق هي التركيز على وثائق بلدي الكويت، وقد جمعتها كذلك من خلال الأرشيف العثماني تحديداً، ومن الأراشيف الأخرى عدا الأرشيف البريطاني، ليس تقليلاً لشأن هذا الأرشيف، وإنما يقيني أن الأرشيف البريطاني أضحى متاحاً لكل باحث في سهولة ويسر، وقد عودنا أن يفرج عن كثير من الوثائق المختلفة سنوياً.
إن ما جمعته حالياً من الوثائق المتعلقة ببلدي الكويت يزيد على عشرة آلاف وخمسمائة وثيقة في مختلف الموضوعات التاريخية منذ النشأة حتى عصر الشيخ مبارك الصباح، ومازال الجمع مستمراً.
والأولوية الثالثة هي جمع وثائق دول الخليج العربي الأخرى، بدءاً بالشقيقة الكبرى المملكة العربية السعودية، نحو سبعة آلاف وثيقة، ومملكة البحرين، نحو خمسة آلاف، ودولة قطر نحو ثلاثة آلاف، وسلطنة عمان العدد نفسه تقريباً، واليمن نحو أربعة آلاف، ومازال الجمع مستمراً.
أما عن المخطوطات التي جمعتها فهي تزيد على عشرين ألف مخطوط مصور في موضوعات شتى، وعلوم شتى، وهي صيد ثمين لمن رام الدراسة والتحقيق، وسلك طريق المحققين.
عشق التراث بما يحمله من عبق الماضي التليد، و ما قام به الغير من بديع صنائعهم، ونفائس أفكارهم، يجعل الأفئدة تخفق فرحاً به، والآذان تطرب لسماع أخباره، وتتبع ما يخرج منه محققاً وفق أثوابه المزدانة بأبهى الحلل ■