حضارات سادت ثم بادت ... «المهابهاراتا» أو الهند العظمى

حضارات سادت ثم بادت ... «المهابهاراتا» أو الهند العظمى

لم تَبِدْ حضارة الهند، بل تلونت فتطورت ثم تغيرت، وقد نفضت عن ردائها الكثير من الرؤى التي كانت تُعدُّ أصولاً إيمانية لتبقى عند الهنود في ما بعد موروثات شعبية وأناشيد تراثية، تحكي قصص الماضي. إنما نوردها هنا لأجل ما أسقطته تلك الحضارة من فكر وتأثير في حضارات العالم الأخرى، ونُعرّفها من خلال مرورنا على النصوص الدينية المتوارثة عبر العصور، من ألفي سنة قبل الميلاد إلى يومنا هذا. 


«بهاراتا» هو الاسم الذي عُرِفَت به الهند عند أهلها قديمًا، ومنه جاءت تسمية «البُهار»، وهو مجموع الأعشاب العطرية التي تُستعمل لشفاء الأبدان والنفوس العليلة، التي قد تكون – في الوقت نفسه – سمومًا ومخدرًا يفتك بالعقول والأبدان. اعتنى الهنود منذ الأزل بمعرفة أثر الأعشاب في جسم الإنسان، حتى توصلوا إلى «خلطات» عشبية ظنوا أنها علاجات لكثير من الأمراض، فمن آثار المرض على الإنسان فقده لشهية أكل الطعام، لذا دلتهم تجاربهم إلى استخدام النباتات العطرية التي ما إن تُضاف إلى الطعام أو الشراب الساخن حتى تفوح رائحتها القوية ليستنشقها المريض قسرًا، فتنشط الغدد اللعابية التي تعطي إشارات لعقل المريض بالشعور بالجوع وتَقبل الطعام.  لقد أسست الفلسفة الهندية على أنّ جسم الإنسان ليس إلا «عالم صغير» يعكس صورة لعالم أكبر، وهو عالم الأرض! فجلد الإنسان ولحمه ودمه الذي يجري في عروقه وشعره، كل ذلك وغيره، ما هو إلا صورة مصغرة عن سطح الأرض والجبال والأنهار والأشجار، وما تراه على سطح الأرض أقل جدًا مما لا تراه تحت سطحها أو في جوفها... وهكذا... فكان عالم الأرض هو العالم الأوسط الذي يُمثل بدوره «العالم الكبير»، الذي هو الكون الواسع الفسيح. لقد تخيّل فلاسفة الهند أنّ الكون ليس إلا شكلاً كبيرًا جدًا وضخمًا لجسم الإنسان، يحكمه عقل مدبّر عظيم غير مرئي ولا ملموس، ولكنه محسوس من خلال الأدلة الكونية والآلهة «الملائكة» التي تتنزل باسمه من السماء لإرشاد البشر إلى السعادة الأبدية. وقد عجزت النصوص الهندية القديمة عن وصف الإله أو تسميته، فأطلقوا عليه «كا» بمعنى «هو»، واكتفوا بذلك. إلا أن هذا الإله له اسم وشكل لا يعرفه إلا من ارتقى إلى مرتبة عالية من الحكمة والمعرفة، إنه حافظ كلمة السر وحافظ «البراهمانا» التي تعني «الصفة»، فكأنّ الكاهن الأعظم الذي أُلهِم باسم «الإله الأعظم»، ليحمل مفتاح المعرفة الروحية والحكمة العقلية. ويُمثل الإله الأعظم آلهة متعددة، كلٌّ له شأنه واختصاصه، وهم المكلفون بالنزول من السماء إلى الأرض لهداية الإنسان. وقد تخيّل الفنان الهندي ورسم أشكال تلك الآلهة ولوَّنها باللون الأزرق دليلاً على سمائياتها، أو انتمائها إلى السماء. لقد كانت للألوان رموز ارتبط أكثرها بالزمن عند قدماء الهنود، فقد قسموا الزمن إلى عصور، وفق ما أشارت إليه الأساطير في أدبياتهم التي أصبح كثير منها في ما بعد نصوصًا «مُقدّسة». تشير النصوص المقدسة لدى الهنود إلى أنّ زمن الخَلْق (كالبا) قد حوى أربعة عصور: عصر الكمال (كريتا): وهو عصر الكمال والبراءة، وتحكمه طبقة الآلهة (الملائكة)، ورمزه اللوني هو الأبيض الذي يُمثل النقاء. ويليه عصر الثلاثة أرباع (التريتاكا): وهو عصر ممتد، وهدفه المعرفة، يسوده الخير في معظم زمانه إلا ربعه الذي يتمثل فيه الشر متقطعا بين حين إلى حين، ورمزه اللوني هو اللون البرتقالي، لذا كانت أغطية كهان الهندوسية تصطبغ بهذا اللون. وعصر التكاثر (دفابارا): وهو عصر يتساوى فيه الخير والشر، ورمزه اللوني هو الأخضر الذي يرمز إلى الحرث والزراعة والإنبات. أما العصر الأخير فهو عصر الظلام (كالي) الذي يغلب فيه الشر ويختفي فيه اللون. وهنا نلاحظ أنّ عَلَم الهند اليوم يجمع الألوان البرتقالي في أعلاه والأخضر في الأسفل، وتأتي في المنتصف وفي وسط اللون الأبيض دائرة الأفلاك الزرقاء التي تمثل لون الآلهة.
ولعل في التطور والتغير والتبدل الذي حصل في الثقافة الهندية منذ القدم إلى وقت قريب، إشارات إلى أن النصوص الدينية، في أغلب الديانات، قابلة لأن تحمل تفسيرات وشروحات تتوافق وروح المتغيرات في كل عصر. حتى الخرافات والأساطير، قد تكون أصلاً لبعض القيم والسلوكيات التي تعكس أخلاق المجتمعات في عصور مختلفة. وعلى الرغم من أن العلم، الذي وصل عبر الفرضيات والنظريات إلى مرتبة الحقيقة واليقين، قد نقض بأدلته النهائية الكثير من الموروثات الخرافية والأسطورية للشعوب، فإنه لايزال الكثير من الناس، وباسم الدين، يرفض الحقيقة العلمية متمسكًا بالخرافة، لاعتقاده بأنّها أسٌّ من أسس الإيمان، حتى أصبحت الخرافات هي سُلّم النجاة من الجحيم الأبدي. وبينما انتهت بعض الخرافات من الحضارة الهندية، ظلت بعض الأفكار والممارسات تنتقل عبر الزمان والمكان، لتجد قبولاً غريبًا عند شعوب أخرى. مثل ذلك «اليوغا» وهي طريقة ترويضية للتلازم الإيجابي بين النفس والجسد، يستطيع الإنسان المتدرب عليها التحكم في أعضاء جسده التي تعمل بشكل إرادي أو تلك التي تعمل بشكل غير إرادي، كالقلب والكبد والمعدة والكلية وغير ذلك. وقد زخرت الديانات الهندية بمفاهيم نراها تنتقل بشكل واضح إلى الديانات الأخرى، فتقديس «البقرة» على أنها «آلهة»، تحوّل إلى «تقدير واحترام»، فالبقرة مخلوق ذو مرتبة سامية لكونه يُغيّر طبيعة الأشياء، فما تأكله من الأرض يتحول إلى غذاء للإنسان. حتى أن المهاتما غاندي صرّح ذات مرة بأنّ البقرة بالنسبة له أفضل من أمه التي أرضعته لفترة محددة، في حين أنّ البقرة قد أمدته بغذائه طوال حياته! تلك الفكرة، تقديس البقرة، انتقلت إلى الفكر اليهودي وشوهت بعض معتقداته في حادثتين ذُكرتا كقصتين معروفتين في بعض من آيات القرآن الكريم: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } (سورة البقرة /67) و{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ } (سورة الأعراف / 152). والمبالغة في شأن البقرة بأن يكون الاعتقاد بأنّ بولها شاف من كل الأمراض، حتى أنّه يُستخدم في المعابد الهندية لهذا الغرض، انتقلت مع الأسف إلى قطاع كبير من المسلمين اليوم من الذين يؤمنون بمعجزة أنّ بول الإبل يُشفي من الأمراض السرطانية المختلفة، متجاهلين نجاسة البول وشروط الطهارة في العبادات. ويؤمن الهنود بأنّ «الروح» لا تفنى، وهذا اعتقاد سائد في جميع الديانات، إلا أنهم يعتقدون أن لا جنة ولا نارًا، إنما النعيم بعودة الروح إلى مقام أو جسد ذي حياة أفضل من السابق، وأنّ الجحيم الحقيقي في سكن هذه الروح عندما تعود إلى جسد أدنى، ذلك ما يُسمّى بتناسخ الروح أو «التقمص» recarnation. أما «النسخ» فتسكن الروح فيه بجسد إنسان آخر، خيرًا في ذلك كان أم شرًا، سَعْدًا كان أو نحسًا، كل حسب عمله. وقد تنتقل الروح إلى كائن أو مخلوق مختلف في الطبيعة والخَلْق، وهو ما يُسَمّى بـ«الفَسْخ»، وهو كذلك قد يكون خيرًا أو شرًا، وحين تنتقل الروح إلى محارة أو شجرة، فإنه خير لها من أن تسكن قذارة أو صخرة. أما المرتبة الثالثة لعودة الروح فهي «المسخ» الذي دائمًا ما يكون إلى الأدنى من الحياة السابقة، وفيه ينتقل إلى كائن أدنى من الإنسان، كالحيوانات أو الحشرات. ولكي لا تعود الروح إلى جسدها الأول فإن «حرق» الجسد وتحويله إلى رماد هو أفضل طريقة لاستقرار الروح في نظرهم. وكانوا يحرقون معه كل ممتلكاته، حتى زوجته، التي تُسقى كأسًا ممزوجًا بمخدر فاعل، فلا تحس بالحرقة أو الحريق. وعندما وصل دعاة الفاطميين في عهد الحاكم بأمر الله إلى الهند لنشر دعوتهم هناك، تأثروا كثيرًا بهذه الفكرة حتى نراها قد انتقلت معهم لتصبح واحدة من أهم عقائد «الموحدين الدروز»، الذين انفصلوا عن الدولة الفاطمية بعد مقتل الحاكم بأمر الله عام 411هـ/1021م ■