محمود درويش... سيد المنابر وعابر الريح

محمود درويش...  سيد المنابر وعابر الريح

في الكتابة عن محمود درويش يشتبك الأسطوريُّ بالواقِعيِّ، والرَّمزِي بما هو أبعد من الرمز، لم يكُن شاعراً استثنائياً فحسب في التاريخ العربي، وإنما شخصية استثنائية بالكامِل استطاعت التحليق فوق الواقع العربي المتشابك بكل ما فيه من تناقضات التاريخ والسياسة، طارحاً سؤال الهوية والإنسانية ومُفلِتَاً بحقيقةِ الشعر من بين كل إرباكات الواقع المتداعي التي واجهته، طفلاً مُهجَّراً من قريته «البروة» في الجليل مع أسرته أثناء نكبة (1948)، ثم متسللاً إليها عام (1949) ليتعايش مع الواقع الجديد.

 عاش درويش شاباً معتقلاً في السجون الإسرائيلية في الستينيات، ثم مهاجراً إلى الاتحاد السوفييتي للدراسة في السبعينيات، ولاجئاً في القاهرة في العقدِ نفسه، حيث شكَّلَت منعطفاً مهماً في تجربته الشعرية، قبل أن يخرُج إلى بيروت، التي أمرَضتهُ بالحنين، فصار اسماً ملازماً لها لديه، ربما لم تؤثِّر مدينةٌ في شاعرٍ كما فعلت بيروت في درويش، الذي عاش فيها عقداً كاملاً (1973-1982) في المرحلة التي وُسِمَت في تاريخه بقصيدته الأشهر «مديح الظل العالي» التي كتبها أثناء حصار بيروت وتحت قصفها، والتي دان فيها الواقع العربي المريض بكل هشاشته، وفضَح فيها هذا الواقع، متشبثاً ببيروت التي رأى فيها نجمة الخلاص «بيروتُ دمعتُنا.. بيروتُ قلعتُنا». وبعدما خرجت المقاومة الفلسطينية من بيروت بعد الحصار  حاول درويش البقاء فيها، غير أن اسمه الموضوع على قوائم الاغتيال الإسرائيلية دفع به إلى التحليق مجدداً، بين باريس وتونس وقبرص والقاهرة، هارباً من ذاكرةٍ مشتعلةٍ لا تنطفئ.. أرَّخَ لها في كتابه «ذاكرةٌ للنسيان». 
أخيراً تم إنتاج فيلم عن محمود درويش، بعنوان «سجِّل أنا عربي»، للمخرجة ابتسام مراعنة، أثار الكثير من الجدل، وطرح الأسئلة حول حياته الخاصة، وحبيبته «ريتا»، اليهودية التي عرفها في صِبَاه وكان اسمها أيقونياً في قصائده، وإلى اليوم يثير الفيلم الكثير من الجدل حول مصادر تمويله، والهدف منه، وما الرسالة التي حاول أن يوصِلها من خِلال التقصِّي في حياة درويش إلى ما وراء القصيدة، والتوقف عند محطات في حياته تبرز فيها أسئلة الهوية والانتماء الحزبي والخروج من فلسطين، وعلاقته بريتا، التي قال عنها محمود درويش متسائلاً باستنكار «ريتا هو اسمٌ اخترته... ولطالما كانت ريتَّا في قصائدي امرأة يهودية.. هل هذا سر؟»
لا نحاول في هذه القراءة البحث في حقيقة الحياة التي عاشها درويش، فالشاعر هو مُنجزُه الإبداعي، وسيرة حياته لا تعني سوى التاريخ، ولمحمود درويش حياةٌ لم تشبه سوى الوطن الذي خرج منه، حيث قال: «الشرخ الذي حدث في حياتي الشخصية... حدث أيضاً لوطني... سُلِبَت مني الطفولة في الوقت الذي سُلِبَ فيه بيتي، في الوقت الذي سُلبت فيه أرضي..» هذا التماهي بين الذات والوطن قلَّما نجده في سيرة حياةِ شاعرٍ آخر. كان قابضاً على جمر الهوية الفلسطينية بينما يعيش في الداخل الإسرائيلي، وقد عمَّق هذا التوتر في قصيدته سؤال الهوية والآخر والوجود والأنا والذات والموت. كان يقول للآخرين الذين يحاولون ضمه في إطار تاريخٍ ما أو حدثٍ يضعونه في قلبهِ «لا تلزموني بروايتكم، ولا يجب أن ألزمكم بروايتي»، وعندما يُسأل: «من عليك أن تُمثِّل؟» يجيب: «لا أحب التمثيل... إنني بالكاد أمثِّلُ نفسي»!
من حصارٍ إلى آخر سارت حياة درويش، بدءاً من حصار قريته، ثم حصار بيروت، وأخيراً حصاره الأشهر في رام الله عام 2002، حيث استمرَّ يكتُب يوميات الحصار تحت قصف الدبابات الإسرائيلية، خارجاً منه إلى ولادةٍ أخرى جديدة، مصرِّحاً.. «لايزال حلمي أن نحرث أرضنا ببقايا أجنحة الطائرات الإسرائيلية»، مؤكِّدَاً أن «الحَمَام حيٌّ ومُواصِلٌ مسيرةَ السَّمَاء.. والطائرةُ مَشهدٌ مُــــؤقَّتٌ ومُصطَنَعٌ وسَينتَهِي.. تماماً كالدبابة». في هذا الحصار تحديداً زاره وفدٌ من شعراء العالم، وول سونيكا وجوزيه ساراماغو، وبرايتنباخ وغويتسولو، متحدِّينَ الحِصارَ، ومنحازين إلى القيمة والحق والجمال ورمزها الذي جَسَّدَهُ. 
لم يقتصر المنجز الشعري له على تألُّقه في الشِّعرِ الوَطَنِي، المتناول النضال الفلسطيني فحسب، إنما اتَّسعَ هذا المنجز وتعدَّى الموضوع إلى الشكل، إلى تطوير القصيدة العربية، وإدخال البُعد الرمزي فيها، استناداً إلى الميثولوجيا حيناً، ودمجها بالواقع في أكثر الأحيان، هذا الواقع الذي كان مَعينَ قصائِدِه، وبرغم أن التداخل والتماهي بين رموز الحبيبة والوطن والمرأة والأرض كان واضحاً في أعمالِهِ، فإن كل هذه العناصر كانت تلتقي في تناغمٍ، راسمةً مشهداً حياً وحيوياً فاضت به القصيدة بزهائهِا واعتمادها على الموسيقى والتشكيل، وهو ما جعل من الصعب تصنيف درويش في إطار موضوعةٍ معينة، أو خانةٍ وحيدةٍ يندرجُ تحت بندِها باعتباره شاعر الوطن «فقط»، أو شاعر القضية فقط... أو شاعر المرأة... أو الحياة... إلخ. 

وثيقة إعلان الاستقلال
في كتابته وثيقة إعلان الاستقلال الفلسطيني، أكبرُ ردٍّ أمام التاريخ على من شككوا في وطنيته، وأنه كان «مُرغَماً» على حمل الهوية الإسرائيلية باعتباره من فلسطينيي الداخل، كانت كتابته لوثيقة الاستقلال خطوةً أخرى في مساره الوطني الذي بدأ مع ديوانه الأول «عصافير بلا أجنحة» ثم «عاشق من فلسطين» و«سجِّل أنا عربي»، و«العصافير تموت في الجليل» و«حصار لمدائِحِ البحر»... وغيرها مسيرةٌ طويلةٌ من التَّرسيخِ للوَطَنيَّة، والإخلاص للإبداع والقضية معاً، كان نتيجته أعمالاً مترعةً بالقيمة. 
القصائد المغناة التي لحّنها صديق عمره مارسيل خليفة بقيت عميقاً وطويلاً في وجدان المتلقي العربي، مضيفةً بعداً مَحسُوسَاً لقصائِد درويش، كانت علاقتهما أبعد من علاقة مثقف بآخر، أو شاعرٍ بملحن، كانا شِبهَ متوحديْنِ، على حد قول مارسيل «لم نتوحد في الكون أنا ومحمود.. بل توحَّد الكونُ فينا». إن ثلاثة عقود من الصداقة أنتجت الكثير بين الملحن اللبناني المبدع، الذي ارتبطت أغنياته الأهم بدرويش: «غنائية أحمد الزعتر»، «بين ريتّا وعيوني بندقية»، و«وعودٌ من العاصفة» و«سقوط القمر» والقصيدة الأهم التي رسخت في الوجدان الشعبي العربي «أحنُّ إلى خُبزِ أمي» وغيرها. 
هل يُمكِن الكتابة عن محمود درويش دون الإشارة إلى من اكتشفه؟ كان الشاعر اللبناني روبير غانم، المشرف على الملحق الثقافي لجريدة الأنوار، هو من اكتشف درويش، من هناك... من لبنان، خرج اسم الشاعر إلى العالم للمرة الأولى (1966-1967) (تماماً كما خرج  الشاعر نفسه مع المقاومة الفلسطينية من لبنان ساخطاً على العالم بعد ذلك بنحو عِقدَيْن). 
تحمَّس روبير غانم بشدّة لهذا الشاعر الشاب، الذي كان يُرسلُ له قصائِده، وينتظر نشرها بلهفة على صفحات الملحق، تماماً كما اكتشف معه رفيقيه سميح القاسم وتوفيق زياد، بالإضافة إلى حنا أبوحنا. لم يكن درويش يعلم آنذاك أن قصائده كانت تثير الأسئلة والإعجاب معاً في الرسائل التي كانت ترِدُ إلى روبير غانم، مُتسائِلَةً عن هذا الشاعر... ومن يكون، وأنهم ينتظرون المزيد من أعماله. 

متنبي العصر الحديث
كان اللقب الأكثر التصاقاً بدرويش هو «متنبي العصر الحديث»، وهي تسميةٌ تعكس بين ظلالها القيمة المتفرِّدة التي أسبغها عليه التاريخ، وهو لم يكن يقلُّ عن المتنبي- وفق شروط عصره واختلاف طبيعة كل من الزمنين ومعطياتهما- جسارةً شعريةً وتجديداً وتفرُّداً، وحتى غموضاً وحنكة في التعامل مع اللغة. 
عاشَ طريدَ العواصم، من باريس التي أنكرته أبوابها عام 1968، عندما لم يجدوا في خانة الجنسية بجواز السفر الذي يحمله جنسيةً محددة! فأعادوه إلى فلسطين، ومنها اتجه إلى موسكو التي مثّلت له أول عاصمةٍ يسافر إليها خارج بلاده، وأول احتكاك بالعالم الخارجي، هناك- على عكس ما توقَّع- لم يُعمَّق إيمانه بالمثالية الاشتراكية، فقد وجد واقعاً مختلفاً، عادياً، رغم ضخامة التاريخ... المتاحف والفنون والأنهار والكاتدرائيات والمكتبات. ومن موسكو إلى القاهرة، التي التحمَ بواقعها الثقافي بعدما استكتبه هيكل في الأهرام، وكان يلتقي يوسف إدريس والحكيم ونجيب محفوظ، وأمل دنقل وعبدالمعطي حجازي، وتوثقت علاقته بهم جميعاً، كانت القاهرة نافذة الوعي الجديد بالنسبة إليه، وهي التي وجّهت بوصلته الجديدة في علاقته بالمنفى وقراره الخروج من فلسطين، وتصوره صعوبة العودة إليها. 
من القاهرة إلى بيروت، فترة التوهُّج الشعري لدى درويش، في المدينة التي كانت مختبراً للتجارب الأدبية، وبها الكثير من التيارات الفكرية والأنساق الثقافية المشتبكة، غير أن الحرب الأهلية اللبنانية هناك أوقفت تجربته المستمرة بها، فخرج منها منهكاً وحزيناً، إلى تونس، حيث انتقل ياسر عرفات ومنظمة فتح، وهناك رأى الثورة الفلسطينية تقيم في فندقٍ قصيٍّ على ساحل المتوسط، فغادرها  إلى باريس، وهناك حاول التخلُّص من ثِقل حُب بيروت، وتأثيرها في كتاباته في هذه المرحلة التي عاشها بها. عشر سنوات أخرى اقتطعتها باريس من عمره، في محاولته التحرُّر من أثر بيروت، كتب درويش أجمل وأنضج أعماله في مدينة الغرباء والمنفيين: «هي أغنية» و«وردٌ أقل» و«أحد عشر كوكباً»...  باريس كانت مدينة محرِّضة جمالياً لـ «لاعب النرد» المبتعد في زهر اللوز، (درويش كان لاعبَ نردٍ ماهراً بالمناسبة ويجيد اللعبة حقيقةً كما أسمى قصيدته). 
إن من يتابع درويش وهو يلقي قصيدته على المنصة أمام الجمهور يدرك أنه أبعد من شاعرٍ وأكثر من حالةٍ، حتى لا تكاد تفصل الشاعر عن قصيدته، في تمازجهما الصوفي، كان سيدَ المنابر بحقٍّ... وفي المرتين اللتين التقيتهما فيه في مصر، بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، وفي الأوبرا، وتبادلنا حديثاً قصيراً عابراً عن الشعر والحياة.. غادرني وفي يدي منه أثر غيمةٍ.. أندمُ الآن طويلاً على أنني لم أعطِ نفسي الوقت الكافي للبقاء تحت ظلِّها ■