عروبةُ ابن حَزْم

عروبةُ ابن حَزْم

منذ سنوات بعيدة لا يخمد الجدل بين الباحثين الإسبان حول «هوية» الأندلس حتى يندلع من جديد. وينصبُّ الجدل في العادة على السؤال الآتي: هل الأندلس جزء من التاريخ العربي الإسلامي، أم هي جزء من تاريخ إسبانيا حتى ولو كانت إسبانيا في تلك الحقبة مسلمة بوجه عام؟ وتتفرع من هذا السؤال أسئلة أخرى تتصل «بهوية» رموز تلك الأندلس. فعلى سبيل المثال هل الفقيه الأندلسي ابن حزم صاحب كتاب «طوق الحمامة في الألفة والأُلاّف»، وهو من أشهر كتب الحب في القرون الوسطى، عربي أم إسباني؟

الأسئلة قد تبدو غريبة بالنسبة للعربي، ذلك أن الأندلس في اعتقاده جزء من الغرب الإسلامي، وفيها أنشأ العرب دولاً وأنتجوا حضارة باذخة استمرت تشع على أوربا وعلى العالم القديم أكثر من ثمانمائة سنة. ولكن لعل أغرب هذه الأسئلة عند العربي هو السؤال المتصل
بـ «عروبة» ابن حزم الأندلسي الظاهري صاحب العدد الوفير من المؤلفات التي تدور حول الفقه والشريعة الإسلامية. فانتسابه إلى العرب وتراثهم لا يثير بالنسبة للعربي، أو لسواه، أدنى ريبة. ولكن للباحثين الإسبان وجهة نظر أخرى. فبنتيجة «فحصهم لدمه» تبين لهم أنه من المولدين أو من أصول إسبانية قبل أن يشرفه الله بالإسلام. وتتأكد إسبانيته بنظرهم أكثر، استنتاجاً إلى الروح الرومانسية العذرية التي تفيض من إحدى الحكايات التي يرويها في «طوق الحمامة» وبسبب كل ذلك، انتزعه هؤلاء العلماء الإسبان من سياقه العربي وأعطوه على الفور الجنسية الإسبانية.
وتفصيل ذلك أن المستشرق الهولندي دوزي الذي كان أول من اكتشف مخطوطة «طوق الحمامة» عام 1841، لفتته حكاية عاطفية رومانسية رواها ابن حزم في كتابه تتصل بحبه لجارية في منزله اسمها نُعم، استنتج منها أن هذا الحب غير مألوف عند العرب وغريب عن طباعهم. وقبل أن نورد وجهة نظر دوزي في تفسيره لحكاية ابن حزم وجاريته، نورد بعضاً من هذه الحكاية بلغة ابن حزم نفسه فهو يقول:
«كنت أشد الناس كلفاً وأعظمهم حباً بجارية لي كان في ما خلا، اسمها نُعم، وكانت أمنية المتمني وغاية الحسن خَلقاً وخُلقاً وموافقة لي، وكنت
أبا عذرها، وكنا قد تكافأنا المودة، ففجعتني بها الأقدار واخترمتها الليالي ومرّ النهار، وصارت ثالثة التراب والأحجار، وسنّي حين وفاتها دون عشرين سنة، وكانت هي دوني في السن. فقد أقمت بعدها سبعة أشهر لا أتجرد عن ثيابي ولا تفتر لي دمعة على جمود عيني وقلة إسعادها. وعلى ذلك فوالله ما سلوت حتى الآن، ولو قبل فداء لفديتها بكل ما أملك من تالد وطارف، وببعض أعضاء جسمي العزيزة عليّ مسارعاً طائعاً، وما طاب لي عيش بعدها، ولا نسيتُ ذكرها، ولا أنستُ بسواها. ولقد عفا حبي لها على كل ما قبله، وحرم ما كان بعده».
توقف دوزي، المتخصص أصلاً بالدراسات الأندلسية وصاحب كتاب «تاريخ مسلمي الأندلس»، عند هذه الحكاية وعلق عليها قائلاً:
«يلاحظ دونما شك في هذه القصة ملامح عاطفية رقيقة غير شائعة بين العرب الذين يفضلون بصفة عامة الجمال المثير والعيون الفاتنة والابتسامة الآسرة. والحب الذي كان يحلم به ابن حزم يختلط، دون ريب، بما هو حسّي جذاب.
وعندما يكون الحبيب المنشود اليوم غيره بالأمس، يصبح الإحساس أقل قسوة، لكن فيه أيضاً ميل إلى ما هو أخلاقي، من رقة بالغة واحترام وحماسة، وما يأسره جمال رائق وديع فياض بالكرامة الحلوة. لكن يجب ألا ننسى أن كل هذا الشاعر الأكثر عفة، وأكاد أقول الأكثر مسيحية، من الشعراء المسلمين، ليس عربياً خالص النسب، وإنما هو حفيد إسباني مسيحي، لم يفقد كليةً طريقة التفكير والشعور الذاتية لجنسه. هؤلاء الإسبان المتعرّبون يستطيعون أن يهجروا دينهم، وأن يبتهلوا بمحمد (صلى الله عليه وسلم) بدل المسيح، وأن يلاحقوا بالسخرية إخوانهم القدامى في الدين والوطن, ولكن يبقى دائماً في أعماق أرواحهم شيء صاف رهيف وروحي غير عربي».
تلقف الباحثون الإسبان ما كتبه دوزي عن «إسبانية» ابن حزم بسعادة بالغة وأضافوا إليه الكثير, مما يؤكد هذه الإسبانية بنظرهم. فقد اعتبروا أن الملامح النفسية التي ينسبها إلى ابن حزم كتّاب سيرته، وكذلك الصفحات التي خط عليها ابن حزم جانباً من سيرته، تؤكد «إسبانيته» في عمق: الشموخ والعاطفة والعنف وطلاقة اللسان واستقامة الكلمة والوفاء وتحليق الروح نحو الله والقسوة في نقد الوطن وحب الحقيقة والحماسة التي تبلغ حد التضحية بالحياة دفاعاً عن أفكاره وشرفه وكراهية النفاق والصلابة في الشدائد... «كلها صفات إسبانية عريقة تؤكد في وضوح صدق ما قاله ابن حيان وابن سعيد عن أصوله الإسبانية وعن جدوده المسيحيين».
وهذا يعني أن الباحثين الإسبان يستدلّون على إسبانية ابن حزم من صفات إنسانية شائعة عند جميع الشعوب، وقد اشتهر بها العرب على وجه الخصوص.
ويتابع هؤلاء الباحثون الاستدلال على إسبانيته بقولهم إنه كان إسبانياً في أخفى طيّات أعماق رورحه (كذا) ومن العدل أن نضعه بين أسمى قمم الفكر الإسباني على امتداد كل العصور، لأن حجم وتعقّد ونفاذ إنتاجه الأدبي والفلسفي والفقهي والعقائدي يعطي له هذا الحق». بل إن الإسبان أسهموا عبر ابن حزم وسواه من المفكرين والأدباء والشعراء في بناء الحضارة العربية «بما هو إسباني في أمزجتهم وأكملوا رسالة جوهرية من الحفاظ على الحياة الفكرية وتنميتها في عالم حوض البحر الأبيض المتوسط».
وتوقف هؤلاء الباحثون ملياً عند حب ابن حزم الرومانسي أو العذري لجاريته نُعم، فاعتبروا أن هذا الحب، وكذلك جبلة ابن حزم العاطفية، لا يمكن تفسيرهما إلا على ضوء وراثته النفسية، وارتداده لخصائص جنسه المسيحي والإسباني.
ولكن باحثاً إسبانياً آخر هو ميغيل أسين بلاثيوس، وكان أسقفاً في الوقت نفسه على إحدى المدن الإسبانية، وقف هذا التوجه اللاعلمي لزملائه. فقد قال، بداية، إن دوزي جعلنا نتخيل أن حب ابن حزم لنُعم كان الحب الوحيد في حياته، وهذا غير صحيح لأن من يقرأ «طوق الحمامة» يجد أن ابن حزم لم يصبر طويلاً وهو يمثّل الدور الرومانسي لعاشق يائس، إذ سرعان ما جفف دموعه لينسى، في حب آخر، أكثر سهولة، أحزان حبه الأول.
إذن، لم يخفق قلب ابن حزم في حبه مرة واحدة بل مرات، وفي هذه المرات كان ابن حزم إنساناً لا مثالية ولا أفلاطونية ولا عذرية فيه. أي أنه لم يكن «إسبانياً» على النحو الذي رسمه باحثوه الإسبان، كما لا يمكن حشره في جماعة العذريين العرب مثل المجنون أو جميل... إنه عاشق كأي عاشق آخر فلا سبيل إذن لاستدعاء إسبانيته أو مسيحيته القديمة (إن صحّ أنه كان مسيحياً قبل اعتناق أجداده للإسلام) لتفسير عفة لم يثبت أنها راسخة في ذاته، بل ثبت أنها كانت عارضة لا أكثر ولا أقل.
ويمجد بلاثيوس الحضارة العربية الأندلسية التي أبدعت صفحات خالدة، فيقول متحدثاً عن صفحات «طوق الحمامة» الزاخرة بالشعر والحب: «عندما نقرأ هذه الصفحات، نفهم نفسية تلك الحضارة القرطبية وهي تقدم لنا في قمة توهجها، الدلائل على رقيّها الثقافي والعاطفي، وهما دائماً طلائع أي انهيار.
لم يكن إذن حب ابن حزم الأفلاطوني وليد عدوى سلالية وحسب، أو أنه تلقاه من نفسية أسلافه المسيحيين، لأن من أبطال الغزل الرومانسي كثيرين جداً يتحدرون من أصول عربية خالصة، ولا يمكن أن تجري في دمائهم الخصائص الموروثة التي نفترض أنها عند ابن حزم».
ويسدّد بلاثيوس ضربة موجعة لهؤلاء الباحثين الإسبان الذين أعادوا عذرية ابن حزم في عشقه لنُعم إلى أصوله الإسبانية والمسيحية الكامنة في جيناته، عندما ذكّرهم بأن العذرية «صناعة عربية» إن جاز التعبير، فلماذا نبحث عنها في تراثنا الإسباني ولا نبحث عنها في تراثه هو، أي التراث العربي الذي أينعت فيه هذه النزعة ونمت وقدمت لتراث العشق الإنساني كله نماذج معروفة خالدة؟
يرى بلاثيوس أنه ومنذ العصر الجاهلي ظهر في الصحراء العربية لون من الغزل العاطفي، عنيف وروحي، لدى قبيلة بدوية عرفت كيف تسمو بفهمها إلى أدل ما يمكن أن يتصور من الحب البشري. فبنو عذرة، وهذا اسم القبيلة، يفضلون الحزن الحلو المستسلم المشوق في الحب الأفلاطوني على العواطف الحادة للغرائز الحيوانية البهجة، ويعرفون كيف يموتون من الحب قبل أن يدنّسوا بالشهوة الملول المشبعة عرس الأرواح العفيفة. لقد تغنّى أعظم شعرائهم إلهاماً في قصائد تفيض رومانسية، بالحلاوة المرّة، للرغبة الكظيمة إلى الأبد، وكان جميل، إلى جانب شعراء آخرين من بني هذيل، النموذج الكامل الذي تحقق فيه العفة المثالية. لقد مات من الحب دون أن يجرؤ يوماً على أن يمسّ بيده محبوبته بثينة.
على ضوء هذا الدفاع القوي الذي فسّر فيه بلاثيوس «عذرية» ابن حزم في عشقه لنُعم، انهارت نظرية «خصائص الجنس البعيد لابن حزم التي نسبه إليها المستشرق دوزي. لقد كان هذا المستشرق متأثراً بما كان شائعاً في أيامه من أن السمو في الحب وليد المسيحية، فطبّق هذا الاتجاه في دراسته لابن حزم وكتابه «طوق الحمامة».
ويعثر القارئ في كتاب «دراسات عن ابن حزم وكتابه طوق الحمامة»، وهي دراسات لعلماء ومستعربين إسبان، ترجمها وعلّق عليها الدكتور الطاهر أحمد مكي، على تفاصيل هذه المعركة التي دارت حول «عذرية» ابن حزم وأصولها وأسبابها، وكذلك على ألوان من العشق الإسباني والأوربي في القرون الوسطى بعيدة كل البعد عن العذرية المدعاة لهذا العشق، وعامرة بما لا يتصوره المرء من صور الغريزة والحسية التي تُنسب أحياناً للعرب. والمهم أن كل محاولات بعض المستشرقين الإسبان وغير الإسبان في انتزاع ابن حزم وبقية رفاقه علماء وأدباء الأندلس من عروبتهم وإلحاقهم عنوة بالتراث الإسباني في القرون الوسطى، ذهبت استناداً إلى ما تقدم أدراج الرياح.
لقد كان ما كتبوه فاقداً للعلمية لأكثر من سبب، وبخاصة لربطهم العذرية بدين من الأديان وحجبها عن أبناء دين آخر. ومع الإشارة إلى أن النزعة العذرية تؤلف في كتاب الغزل العربي فصلاً ذا شأن، عامراً بالشعراء وبالنتاج الشعري ذي النزعة العذرية، لدرجة الادعاء أن العذرية عربية الأصل وعن العرب أخذتها الشعوب الأخرى ■