مؤامرة شهرزاد

مؤامرة شهرزاد

هي. الساحرة الماكرة الماهرة الباهرة. الزاهرة الظافرة السافرة النافرة. حكاياتها السحر الحلال ومواطن العبرة في مواضع الانحلال. والمثل العليا الفاخرة في أجواء برجوازية. لأي سبب استحقت الملكة المملوكة صاحبة الحواديت مجدها الأسطوري؟

 هل هو الأصل المجهول أم التمرد على كل التقاليد في إطار محافظ، أم الالتزام بأدق أساسيات السرد في قوالب مبتكرة، أم لأنها تتحدى المذاهب كافة بأن تحتويها جميعها؟ إنها ليست «نهلستية» عدمية تريد الهدم للهدم والتحرر من أجل التحرر، ولا روايتها الطويلة الجميلة ميتافيزيقية بالكامل تريد الفن للفن، وليست مشاهدها الماجنة بمعزل عن سياق النص في برج «أبيقوري» يبغي المتعة للمتعة. لقد أرادت للإنسان أن يحقق إرادته في الانفصال لكي يجد حريته في الاختيار، وخلقت للزاهدين طريق الاتصال ليتعانق الإيمان واليقين خلف الستار، وأنشأت لجموع الكادحين مملكة موازية تحت الأرض وفي الأوكار وتحت حُجب الظلام الغازية. بمهارة غير مسبوقة تحكي قصتها بأروع حيلة سردية على الإطلاق: أن تنفصل عن الراوي ليصبح خيالاً يختفي في ظلال الشخصيات الأصلية للأبطال الذين يتمتعون بمنتهى الصلابة والصدق. إن جوهر شهرزاد كراوية هو تمردها ورغبتها في تغيير المجتمع والإنسان، ولا يقف تمردها على التقاليد المحافظة في السياسة ولا الأنماط المثالية البرجوازية في المجتمع ولا الأحكام السلفية في الدين ولا الأفكار الأخلاقية المسلّم بها ولا قضايا الفن والعلم الجاهزة، وعندما كان أسلافنا يعتقدون أنهم جزء من نظام يتجاوزهم، ظهرت حكايات شهرزاد بنظامها الكوني الخاص المكوّن من سلسلة كبرى من الكائنات، نظام يعطي لكل فرد مكانه في المجتمع، كما يجعل الخلق الإلهي مكاناً لكل فرد، وحتى المخلوقات الخرافية حبيسة الأساطير والعقول في المجتمع والوعي الإنساني، ويبرره ويعطيه دوره ومكانته والمعنى الذي عليه أن يمنحه لحياته، بدءاً من تحدّي قدرات الجن الخارقة ومروراً بدسائس بني البشر، وحتى البحث عن الخلاص في الحياة الأخرى، بينما انتهت حريات العصر الحديث إلى تقليل اعتبار هذه الترتيبات. 

مبادئ القصّ
وبينما تبحث حكاياتها عن شكل حياة خاص بها، تلاحظ النتائج التي أفرزها زوال المقدّس في إطار الحياة الإنسانية ومعناها وانقطاع الفرد عن الآفاق الاجتماعية والكونية الرحبة التي كانت تنظم حياته، فالملك الملول الذي تجرّع كأس الخيانة، وينتظر لحظة يتثاءب فيها ضجراً ليقطع رقبة الراوية الحسناء المنمّقة لا يزمع قضاء سهرته في قصة حياة عادية هي بالنسبة للأخلاقيات القتالية للفارس أو الأخلاقيات التأملية الأرسطية تعد حياة خسيسة وجديرة بالاحتقار، فجاء تضمينها تأكيد الحياة العادية بالنسبة للبعض؛ فقدان كل بُعد سامٍ ورفيع في الوجود، وتثمين (الشهوات الصغيرة والسوقية) كما كان يقول «طوكفيل». وإذ ترسي «المُعلّمة» شهرزاد مبادئ القص تفترض أنه ليس للوجود الإنساني أي معنى خارج طابعه الحواري الأصلي والأساسي، أي خارج الرابط الذي يوحّد الفاعل بالغير، ونصبح أنا وأنت عاملين إنسانيين كاملين قادرين على فهم بعضنا البعض، وبالنتيجة تحديد هوية بواسطة علاقة مع الآخر، والحقيقة أننا نتّحد ونتحدّد دائماً وأبداً عبر الحوار، بتعارض أحياناً وبهوية أحياناً أخرى، مع آخرين مُعتبرين. وحتى عندما نستمر كأجيال، يتواصل فينا الحوار الذي نجريه مع الآباء بكل إباء لبناء الأبناء مهما طالت حياتنا. وحتى في عدم وجود قيم كبرى للقصة في بعض مواضعها تستطيع الوصول إليها بعلاقة مع الشخص الذي أحب، مع الشخص الذي يوشك على فقدان رأسه، مع الشخص الذي سيفقد دينه، إن هذا الشخص يصبح جزءاً من هويتك الداخلية ويقول منك وعنك هذا التكتيك الذي يجعل الخطابات التي تنادي بالأصالة وبازدهار الذات مستقلة عن علاقتنا بالآخر، هي خطابات غير مثمرة، وهي تدمّر شروط الأصالة ذاتها، وهي لا تفصل نفسها بالكامل عن أبطال حكايتها ومسار حياتهم ليس فقط لأغراض أدبية ولإضفاء مصداقية على شخوصهم وإنما إيماناً منها- هذا الإيمان الذي تخفيه أيضاً في حبكة بارعة بإنكار شامل للمعلق على الأحداث، وبدسِّ الحكاية في حكاية وتلبيس الأيديولوجية في أخرى- بأن المُثل العليا للأصالة وكشف المذاهب المحرّكة للوجود الإنساني لا تجد معناها إلا في تأكيد الذات وفي استقلالية «سارترية» خاصة، وكما يبتعد الخالق البديع عن تفاصيل الحياة اليومية لمخلوقاته وهو كلي المعارف شامل الوجود، فكانت شهرزاد كالجوهرة نفيسة القلب، متعددة الأوجه والمرايا لا تنتهي انعكاسات خطتها لغرض الشخصية الأنثوية على الكون، بدءاً من الأميرة نزهة الزمان وحتى الجارية تَوَدُّر، والأولى أميرة حرة تحفظ القرآن الكريم وتعلمت الطب والحكمة وشرح أبقراط لجالينوس الحكيم، قرأت «التذكرة» و«البرهان» ومفردات ابن البيطار، وتكلمت عن قانون ابن سينا، حلَّت الرموز ووضعت الأشكال وفسَّرت الهندسة وأتقنت حكمة الأبدان، وطالعت كتب الشافعية، وتعلمت الفقه والنحو، وناظرت العلماء، وكتبت في الفلسفة والمنطق والبيان والحساب، وجادلت في الميقات والروحاني، وتضع الشعر والنثر. أما الثانية فكانت من الجواري، مملوكة، ست الحسن والجمال، لا نظير لها في البهاء والكمال، ولا مثيل لها في القد والاعتدال، فنونها آداب، وعلومها تستطاب، نبغت في العلم والشعر وحفظت القرآن الكريم وقرأته بالسبع والعشر والأربع عشرة، تجيد الجبر بصبر، مدرسة في الهندسة، تتقن المنطق، وتبرع في المعاني والبيان وتعرف مواضع النغم على أوتار العود. بين هذه وتلك، ومروراً بسيدة مشايخ بغداد، تورث شهرزاد كنزها الثمين لبنات جنسها، بعد أن أعطت لكل أديب درساً في المسؤولية والشجاعة عندما راهنت على حكاياتها لتخليص العباد: «إمّا أنني أتسببُ في خلاص الخلق، وإما أنني أموت وأهلك. ولي أسوة بمن مات وهلك». حين ينتصر العقل على الغريزة، وتهزم الحكمة البطش ويكسر القلم السيف، وتتحرر حواء من التراتب البطريركي القمعي لمجتمع ذكوري عنيف إلى فضاء –قصصي الآن- تجمّعت فيه عصارة العلم والعمل والألم والأمل والخوف والتصوّف والحب واليقين والبحث والضمير والمصير والخطأ الإنساني كله. التفاصيل مليئة بندى الشعر العذب، كمقاطع مزامير داود في تعبيرها الخالد عن همومها وجروحها وآلامها ومناجاتها الصوفية للكون والحياة.

ابنة المدينة
هذه الأنثى المتعلمة المثقفة هي الانتصار الحقيقي على مجتمع الرجل البدائي الجلف، العائش يخرّب الخلف بخرافات السلف. «شهرزاد» تعني بالفارسية «ابنة المدينة»، بنت الحضارة ووليدة عصر العلم، تتحدى مسلّمات الرجل الظالمة التي جعلت «خير الشعر أكرمه رجالاً» وأن يكون كُتّاب القاضي ذكوراً وألا يعلِّموا النساء الكتابة وأن يستعينوا عليهن بـ «لا»،  فإن «نعم» تضريهن في المسألة، وأن التي تتعلم الكتابة هي أفعى تسقي سماً، وأن المرأة تلقَّن الشر من المرأة! لكن أميرتنا الحسناء ابتكرت طرائق جديدة تدمر بها ثقافة النقل والاتَّباع، فألهمت الكثيرين بأجوائها الساحرة؛ «روبرت لويس ستيفنسن» في «الليالي العربية الجديدة» والأجواء العثمانية الدسمة في «قناع الموت الأحمر» وقصص أخرى لأمير شعراء أمريكا «إدجار آلان بو»، الذي بدا بأسلوبه الخاص من الليلة الثانية بعد الألف، وكذلك فعل الشاعر المرهف جوته، كما استوحاها أديبنا العظيم «نجيب محفوظ» في قصته الخاصة عن مدينة النحاس  وفي روايته «ليالي ألف ليلة»، حيث بدأها بالليلة الأولى بعد تمام الألف وكان شهريار قد تاب وأصلح، لكن علينا أن نواجه فساد المدينة بالكامل نتاج أعوام وأعوام من الظلم والدم والعدوان وصناعة الفتن والمحن. رحلات جاليفر وجزيرة كروزو وحكايات جول فيرن، كلها بشكل ما خرجت من رحلات السندباد، وبشكل غير مباشر كان لها الفضل في أكثر من تكنيك أدبي؛ من ذلك حبكة «القصة في القصة» عندما يعيد «هاملت» تمثيل أحداث اغتيال والده الملك، فتتجسد الخواطر وتنطق في مسرحية شكسبير الأشهر. مفارقات لعبة الموت والانتحار في «روميو وجوليت». وعن شهرزاد وحدها كتب طه حسين الأحلام، وعن أسرارها كتب باكثير رواية كاملة. ومن عوالمها المعقدة العطرة خرج باليه شهرزاد وأوبريت «معروف الإسكافي» وباليه «ثورة الحريم»! التباس الأرواح واستلاب الأفراد وتبادل الأدوار لتقديم أنماط موازية في «حلم ليلة صيف». قصص الأطفال كلها خرجت من جعبة حواديت الحيوان والجن في الليالي الألف، وتعتبر قصة التفاحات الثلاث هي أول لغز بوليسي في التاريخ! وتتناول أخبار البنات والأخوات والأمهات والزوجات، والنساء الماكرات وبائعات الحظ، والمحتالات والنصابات، والنساء العالمات الحاكمات الساحرات والمتاجرات بالدلال والجمال، والعواقر وسارقات السراقين، وأخبار السباع والضباع والأسود والفيلة والدببة والنمور والفهود والحشرات العجيبة، الطيور والحيات والأسماك، الخيل والبغال والحمير، الكلاب والهررة، والقمل والنمل والبراغيث، وأخبار البحار والأنهار والليل والنهار، الممالك والمسالك والمهالك والإمارات، الجبال والوديان، السهول والحقول، الجن والمجانين والجنائن والآجام والأدغال والغابات، الجزائر والخلجان وحب الحبهان والخلنجان، المغاور والأنفاق والدهاليز والممرات السرية، الأجواء وقعور البحار والقرى والمدائن والقصور والبيوت والأكواخ، الحوانيت والحمامات والخانات والمضارب والخيم، منازل الأشراف والعائلات والضيوف، وتتناول أخبار الكنوز المرصودة والجواهر الفريدة والطلاسم والقماقم، السحر والأفيون والخمر والمنزول، عجائب الأمور وغرائب المخلوقات، الصناديق المقفلة على حوريات، والبنات المغلقة على أسرار والأسرار المغلقة على أفكار، والأفكار المغلقة على مبادئ والمبادئ المغلقة على حريات، والحريات المغلقة على استبداد، والقناني المختوم فيها على مردة بطلاسم وشفرات وزفرات، الصيد والقنص والرحلات، الشُّرب والعربدة والمجون والجنون، الصداقة والحب والخيانة والدم، المعلومات التضاريسية والحضرية والإشارات التاريخية واللهجوية، الحكايات المتداخلة الغنية المتنوعة بقصص الحب والمغامرة والنوادر الشعبية والمقطوعات الفلسفية والدروس الأخلاقية، التفنن في الحيل الماكرة في مباهاة سياسية غير مسبوقة، التقمص والتحول والاغتراب والاستلاب، التحجير والتبنيج والتشميع والتحنيط والربط والحل، الحب المتهته والجمال المضل والجلد الناعم المسموم وجدل النعيم الموسوم، التحاسد والتباغض والغيرة والشفقة والعناد، التزاحم والسعايات والدسائس والفتن والوساوس والمحن، التشهير والدس والمس والجس والحس، الحبائل والحيل والأخاديع، الأتراح والأفراح، الأسرار والأشياء المريبة الغامضة وما لا اسم له، التجريب والرهيب والترغيب والتعجيز والإعجاز، الفراق واللقاء، الزواج والهجر والطلاق، الإشارات والإيماءات والأحلام، الخطف والعصيان، التبريج والتبصير، السرقة والنصب والاحتيال والفحش والهوى، والجور والضلال، الحكام والأحكام، المعايشة والمنادمة والطرب، الغدر والقتل والسجن والإعدام، الفقر المدقع والثروات الضخمة، ونشيد الحرية لثورات أضخم.

ألف خرافة
اسمها «هزار أفسان» معناه «ألف خرافة»، لكنها لم تكن مثل حكايات أيسوب وبيدبا وكليلة ودمنة البديهية، أحادية المعارف، سريعة الأحكام، ولا مثل قصص سوكا سابتاتي الهندية التي تحكيها ببغاء ذكية تحول بين زوجة لعوب وبين خيانتها لزوجها المسافر بشغلها بسرد القصص وتختمها دائماً: سأقص بقية القصة غداً إذا بقيت في البيت، لكن الصورة الوهم هنا ستار خفيف لا يقف أمامه العقل المنتبه، فيكشف بسرعة ما وراءه من مناقشات شديدة الأهمية، عرفناها في ما بعد في محاورات التوحيدي المستترة ومذهب العقلانية لكارل بوبر: «أنا عقلاني. أسمِّي عقلانياً كل من يرغب في فهم العالم والتعلم بتبادل حجج مع الآخرين». أفهم بالضبط من «تبادل حجج مع الآخرين» النقد، إثارة النقد والعمل على استخلاص دروس منه. فن المحاججة هو صورة خاصة نوعاً ما من فن القتال الذي تأخذ فيه الكلمة مكان السيف، ومُحركه هو الاهتمام بالحقيقة والرغبة في الاقتراب منها أكثر فأكثر. وكما اخترع اليونانيون القدماء المواجهة الفكرية بديلاً للعنف البدني، ابتكرت ملكة الليالي أسلوب قص خاص بها يهضم المواجهات الفكرية كافة في كل شامل لا هو أفلاطوني، ولا هو ديكاميروني، ولا هو فوضوي جدلي فلسفي، ولا هو رومانتيكي شمولي ماركسي. إنه كل هؤلاء في ثوب ممايز له شخصية تسهّل مهمته وتجعل الدواء المر له طعم العسل والحكمة العزيزة المنال إلى الروح أقرب، وتخفي دفوع التمرد في جواد طروادي أنيق مسالم دون إمعان في غموض الهدف، بوعي تام لا ينكص عن مسؤولية الراوي في كشف المسكوت عنه، مصدقة ما كتبه «كاجان» في «حدود الأخلاق»؛ أن الأذى الذي لا نمنعه يُسند لنا مبدئياً بالقدر نفسه الذي يسند إلينا فيه الأذى الذي نقوم به نحن، وعدم تقديم العون لشخص مجروح (دون أن نكون المتسببين في ذلك) يجعلنا مسؤولين عن موته كما لو كنا نحن الذين جرحناه قصداً أو عن إهمال خطير.

مستلهمون
استلهمها جي آي فلكر في مسرحيته «حسن» وقال: لا نجوب الأرض بقصد التجارة وحدها، فقلوبنا متلهفة توقدها الرياح الحارة، وتوقاً لمعرفة المحرمات في المعرفة، نختط الطريق الذهبية إلى سمرقند! وقال الناقد الإنجليزي المعروف جي كي شسترتون إن شهرزاد شاهد على الحياة وعلى الاستقلالية الذاتية للفن، فلم يحصل في كتاب آخر – كما يقول في مؤلفه بهارات الحياة- أن يقدم اعتراف كهذا بمفخرة الفن ومكنته الكلية. فمتسلط كشهريار قد تأتمر بإمرته الجيوش، ولكن لزم عليه أن يستمع إلى راوية: كان الفن وحده بديل الحياة. وأهدى توماس راسل قصيدته للمؤلف المجهول، اسم القصيدة هو «إلى مؤلف الليالي العربية»: مهما يكون الموضوع الذي يطربنا أكثر/ جبروت الملوك الأشداء المدهش/ أولئك الذين يسكنون في هياج البحر/ أو شدائد السندباد/ أو خدع الساحر الإفريقي وأحابيله القاسية/ أو أخرى أكثر عجباً/ تلهي وتطرب أسماعنا/ فنحن نستمع بانبهار لقصصك الخرافي/ فحتى الحقيقة لا تبتسم لنا بقوة جذبك العذب نفسها. وكتب ريتشارد بيرتون في المقالة الخاتمة التي رافقت المجلد العاشر من ترجمته لألف ليلة: الذي ضمن لليالي نجاحها المميز هو ذلك البهاء الخيالي، عجب الخوارق وعظمة وروعة المشاهد، وحيث إنها كانت خارجة على التقليد الأدبي وخالية من أي غاية وعظية أو تعليمية، أثارت جمهور القراء وأسرته! أما الترجمة الأولى فكانت مجهولة المترجم وانتشرت بين القراء بعنوان «الجاسوس الذهبي» ثم «ليالي السمر العربية»، واستقبلها الجمهور بحفاوة وشغف مع ترك أثر عميق في أوساط المثقفين، وهو تأثير قاد إلى سلسلة من المختصرات والأعمال المقلدة والمعدة خلال القرن كله. لقد أصبحت الحكايات الشرقية، على حد وصف لافكرافت- التي تحقق دخولها في الأدب الأوربي في مطلع القرن الثامن عشر من خلال ترجمة جالان لمعين الليالي العربية الذي لا ينضب - تقليداً سائداً، حيث استخدمت للتسلية والمجاز، وفكاهة القاص الخبيثة وهي تمتزج بالغرابة والسحر وفق الأسلوب الشرقي امتلكت جيلاً متعلماً، حتى أصبحت المفردات كدمشق وبغداد منتشرة بحريَّة في الأدب الشعبي، كما هو أمر الأسماء الإيطالية والفرنسية المفعمة بالحياة بعد حين. لكن الترجمة الأولى بطابعها الشرقي وصوتها الأنثوي كانت هي السبب في جذب القارئ كما ظهر عندما أحجم عنها الجمهور بعد اكتسابها الملمح الخشن والطابع الأوربي، واتجاه الأسلوب الفرنسي، فمراسيم مخاطبة خليفة بغداد وإمبراطور الصين هي نفسها المعتادة في البلاط الفرنسي البارد، وفقدت الحاكايات عنصر الاستمتاع إبان ظروف فاقت فيها نسبة النساء الموجودَ من الرجال في فرنسا وإنجلترا. وفي هذا الوقت كانت أوربا تحذف بحرص وتدقيق مشاهد شهوانية طويلة من ليالي ألف ليلة قبل أن يعرف كتَّابها أساسيات الأدب الإيروتيكي.
لكن الخرافة الأعجب هي حجب النص الصحيح الكامل لليالي الألف عن قارئ «العربية» بعد عام 2000 في الوقت الذي يستلهم حتى رسامو القصص المصورة في الغرب منها فنهم! فمن قال إذن إن عهد القماقم السليمانية قد ولّى؟
المجتمع الشهرياري إذن لا يختلف إلا في ديكوراته عن عالمنا المعاصر، ومن اليسير ملاحظة الأمية الثقافية والأحكام الأصولية والصلف الذكوري واستعمال المرأة كسلعة أو غرض. المرأة في الليالي الألف ذكية متحدية لا يقيدها خوف ولا يقمعها العفريت نفسه، وتقهر طغيان الرجل بلسان الفكر الذي يظن أنه يحتكره، تاركاً لها التعثر في الأثواب والزينة، على حد قول السلمي: «ما للنساء وللكتابة - وللعمالة والخطابة؟ وقول جرير الجائر عن الدجاجة في تشبهها بالديك. لكن الديك هو الذي ائتمر بأمر ست الحسن والحكايات، وصار منبهها الخاص وميقات فصولها العديدة التي أتقنتها حبكتها وجعلتها بحق تتحدى الملل! فكل فصل جديد يحل تعقيداً سابقاً ويفك عقدة لحظة توتر ختمت بها الليلة السابقة، في قصص أمتعت لما فيها من عمق مدروس، وأبدعت لما بها من قص مخلص قلب الموازين بحكمة وهدوء، ومن دون ثورات فاشلة دموية، فنصر العبد الذكي على الوزير المتصلّب، وأذاب الطبقات والأديان في قصة واحدة اشترك فيها مسلم ونصراني ويهودي ومجوسي في جريمة الإنسان في حق الإنسان على مدى الدهر؛ كل هذا من دون كلام كثير ومن دون تبرير ديني مكرر ومن دون شعارات جوفاء ومن دون فجوات شاعرية؛ جعلت الساحر يقهر السلطان، والمهرج يتلاعب بالممالك، والعبد الأسود يفوز بالأميرة ■