مسجد الصخرة المقدّسة وكنيسة القيامة ... إضاءة تاريخية

مسجد الصخرة المقدّسة  وكنيسة القيامة ...  إضاءة تاريخية

كما كان للنصارى كنائس يُعظّمونها ويتعبّدون فيها، فقد كان للمسلمين مساجد ذات تاريخ عريق. ويحسن بنا قبل الكلام عن أهم كنيسة عند النصارى في بيت المقدس، أن نلقي نظرة سريعة على أهم المساجد في الديار المقدّسة، لنتبين من خلالها أهمية دور العبادة عند أصحاب الديانات السماوية. إن الله - سبحانه وتعالى - فضّل في الأرض بقاعًا اختصها بتشريفه وجعلها مواطن لعبادته يضاعف فيها الثواب وينمي بها الأجور، وحسبما ثبت في كتب الصحاح فإن المساجد الثلاثة هي أفضل بقاع الأرض، وهي في مكة المكرّمة والمدينة المنورة وبيت المقدس.

 

أما البيت الحرام الذي بمكة فهو بيت إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - أمره الله ببنائه وأن يؤذن في الناس بالحج إليه {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (سورة الحج / 27) فبناه هو وابنه إسماعيل  كما نص القرآن الكريم {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }(سورة البقرة / 127)، وقام بما أمره الله فيه وسكن إسماعيل مع أمه هاجر ومَن نزل معهما من جُرهم إلى أن قبضهما الله ودُفنا بالحجر منه.
ومسجد البيت المقدّس بناه داود وسليمان  أمرهما الله ببناء مسجده ونصب هياكله ودُفن كثير من الأنبياء من ولد إسحاق  حواليه. والمدينة مهجر نبينا محمد  أمره الله تعالى بالهجرة إليها، وإقامة دين الإسلام بها فبنى مسجده الحرام بها، وكان ملحده الشريف في تربتها. فهذه المساجد الثلاثة قرّة عين المسلمين ومهوى أفئدتهم وعظمة دينهم.
والأقرب من بين تلك المساجد إلى «كنيسة القيامة» هو مسجد بيت المقدس المعروف بمسجد الصخرة المقدّسة، لأنه متصل تاريخياً بتلك الكنيسة التي يشرّفها النصارى لأهميتها التاريخية والدينية، ولقربها من بيت لحم، وهو البيت الذي وُلد فيه السيد المسيح .
ذكرت المصادر أن «مسجد الصخرة المقدّسة» كان أول أمره أيام الصابئة (عبدة النجوم) هيكلاً لكوكب الزُّهرة، وكانوا يقرّبون إليه الزيت في ما يقرّبونه ويصبّونه على الصخرة التي هناك، ومع مرور الزمن دُثر ذلك الهيكل، وحين ملك بنو إسرائيل بيت المقدس، اتخذوا تلك الصخرة قبلة لصلاتهم، وذلك أن موسى  لما خرج ببني إسرائيل من مصر لتمليكهم بيت المقدس وأقاموا بأرض التيه (المفازة يتاه فيها) أمره الله تعالى باتخاذ قبة من خشب السنط، وأن يضع فيها تابوت العهد، وهو التابوت الذي فيه الألواح المنزلة بالكلمات العشر، ونصب تلك القبة بين خيامهم في التيه يُصَلون إليها، ولما ملك بنو إسرائيل الشام بقيت تلك القبلة قبلتهم ووضعوها على الصخرة ببيت المقدس، وأراد داود  بناء مسجده على الصخرة مكان القبة، فلم يتم له ذلك، وعهد به إلى ابنه سليمان، فبناه لأربع سنين من ملكه ولخمسمائة سنة من وفاة موسى .
واتخذ عمده من النحاس وجعل به صرح الزّجاج، وغشى أبوابه وحيطانه بالذهب، وصاغ هياكله وتماثيله وأوعيته ومنارته ومفتاحه من الذهب، وجعل في ظهره قبراً ليضع فيه تابوت العهد الذي فيه الألواح، وجاء به من صهيون بلد أبيه داود تحمله الأسباط والكهنة حتى وضعه في القبر، وبقي المسجد إلى أن خربه «بخت نصر» بعد ثمانمائة سنة من بنائه وأحرق التوراة وعصا موسى وصاغ الهياكل ونثر الأحجار، ثم لما أعادهم ملوك الفرس بناه عزير نبي بني إسرائيل لعهده بإعانة بهمن ملك الفرس وحدّ لهم في بنائه حدوداً دون بناء سليمان بن داود (عليهما السلام)، ثم تداولتهم ملوك اليونان والفرس والروم.
ولما حكم هيرودس بيت المقدس بنى المسجد على بناء سليمان ، وتأنق فيه حتى أكمله في ست سنين، وبقي المسجد على حاله إلى أن جاء طيطش ملك الروم وغلب بني إسرائيل وملك أمرهم، فخرب بيت المقدس ومسجدها وأمر بأن يُزرع مكانه، ثم أخذ الروم بدين المسيح ، ثم اختلف حال ملوك الروم في الأخذ بدين النصارى تارة، وتركه أخرى إلى أن جاء قسطنطين وتنصّرت أمه «هيلانة» وارتحلت إلى القدس في طلب الخشبة التي صُلب عليها السيد المسيح . فأخبرها القساوسة بأنه رمي بخشبته على الأرض وألقي عليها القمامة. فاستُخرجت الخشبة وبنت مكان تلك القمامة «كنيسة القيامة» كأنها على قبر عيسى  وخرّبت ما وجدت من عمارة البيت، وأمرت بطرح الزبل والقمامات على الصخرة حتى غطتها وخفي مكانها جزاء لما فعلوه بقبر المسيح ، ثم بنوا بإزاء القمامة بيت لحم، وهو البيت الذي وُلد فيه عيسى بن مريم  وبقي الأمر كذلك إلى أن جاء الإسلام وحضر الخليفة عمر بن الخطاب لتسلم مفاتيح بيت المقدس سنة 17هـ/638م. وسأل عن الصخرة فأُري مكانها وقد علاها الزبل والتراب، فكشف عنها وبنى عليها مسجدًا على طريق البداوة، فعُرف باسمه، وفق الواقدي في «فتوح الشام».

روايات مختلفة
وفي عهد بني مروان اختلفت الروايات في نسبة تشييد العمائر الدينية في بيت المقدس إلى عهد عبدالملك بن مروان أو إلى ابنه الوليد، كما اختلفت بين مسجد قبة الصخرة والمسجد الأقصى المتجاورين، ولكن أقوال بعض المؤرخين ترجح بناء مسجد قبة الصخرة إلى عبدالملك، والمسجد الأقصى إلى الوليد. فقد بنى عبدالملك مسجده على الصخرة المقدّسة التي مسّتها أقدام رسول الله  ليلة الإسراء. أما المسجد الأقصى، الذي أخذ اسمه من سورة الإسراء - (آية 1)، فينسب بناؤه إلى الوليد في ساحة مسجد قبة الصخرة، وهو عبارة عن بناء ضخم يشتمل على أروقة ومزوق بالفسيفساء. وقد غيّر الصليبيون من معالمه حينما احتلوا بيت المقدس. كما بنوا على الصخرة المقدسة كنيسة كانوا يعظّمونها ويفتخرون ببنائها.
وبقي الأمر كذلك إلى أن استقل صلاح الدين بن أيوب بملك مصر والشام، وزحف إلى الشام وحارب من كان بها من الفرنجة حتى غلبهم على بيت المقدس، وذلك لنحو 580هـ/1184م، وهدم تلك الكنيسة وأظهر الصخرة، وبنى المسجد.
وبالعودة إلى «كنيسة القيامة» في عهد الفاطميين، وبالتحديد زمن الخليفة الحاكم بأمر الله، فيذكر الذهبي في «دول الإسلام» وأكّده ابن كثير في «البداية والنهاية» أن كنيسة القيامة هُدمت بأمر من الخليفة الحاكم بأمر الله، بعد أن أصدر في سنة 398هـ/1007م، «أخطر سجل في حياته السياسية، واعتبر ذلك حادثاً جليلاً في تاريخ الكنيسة». ولقد صيغ هذا السجل بعبارة موجزة: «خرج أمر الإمامة بهدم قمامة، فاجعل سماءها أرضًا وطولها عرفاً»، وأُرسل السجل إلى يارختكين وإلى الرملة آنذاك، فقام بالتنفيذ وهدمها في سنة 400هـ/1009م، وأصبحت الكنيسة أثراً بعد عين بشهادة يحيى بن سعيد الأنطاكي في تاريخه.
وذكر ابن الجوزي في «المنتظم» وعبدالرحمن العليمي في «الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل»، أن سبب هدم الكنيسة يعود إلى أن النصارى كانوا يبالغون في إظهار شعائرهم ويقومون بالمنكر بحضور المسلمين، ويخدعون الناس بأن نور السماء يهبط إلى الكنيسة. ولقد وقف المؤرخون إزاء هذا الحدث البالغ الأهمية، وقاموا بتحليله بجدية واهتمام. ولكن كل مؤرخ نظر إليه من زاويته الخاصة به من دون التعرّض إلى أهدافه البعيدة، والتي كشف عنها بأمانة «بارتولد» في كتابه «دراسات في تاريخ فلسطين في العصور الوسطى».
وأما إدوارد فاندك في كتابه «تاريخ العرب وآدابهم» فقد حمَّل الحاكم بأمر الله مسؤولية كبرى وأيّده في ذلك توفيق مفرج في كتابه «على ضفاف النيل» وهاجمه بقوله: «وهدم الحاكم بأمر الله الكنائس ومنها كنيسة القيامة في القدس الشريف، مما كان السبب الأكبر لاستفزاز أوربا للحروب الصليبية».
وبالعودة إلى محمد كرد علي صاحب «خطط الشام» نجده قد وقف إلى جانب المفرج بن الجراح، مؤسس إمارة بني الجراح في الرملة، فقال: «لم يخل زمن من ظهور حكام استعملوا العدل في تلك الأمصار مع أبناء ذمتهم، فقد ذكروا أن المفرج بن الجراح لما تغلب على أرجاء فلسطين ألزم النصارى ببناء كنيسة القيامة في بيت المقدس».
ولو تركنا هذه المواقف جانباً وعدنا إلى بارتولد الذي نظر إلى هذا الحدث بواقعية وعالجه بجديّة المؤرخ الحيادي، مستنداً في عمله إلى المصادر الموثوقة حتى خرج بنتيجة بعيدة عن التحيّز والتجنّي، فلقد أشاد بارتولد بحياة الازدهار والهدوء التي عمّت القاهرة عاصمة الخلافة الفاطمية إذا ما قيست ببغداد عاصمة الخلافة العباسية، كما أشاد بروح التسامح الذي خيّم على سياسة الخلافة الفاطمية، فقد كانت الأماكن المسيحية المقدّسة تقبل الهدايا من الملوك والأمراء الأجانب، وأن هذا كان يحدث دون الحصول على إذن مسبق من الحكومة الفاطمية، وأن مسيحيي أورشليم كانوا يتسلمون المساعدات من أي مسيحي بكل حرية.

تسامح الفاطميين مع النصارى
غير أن هذا التسامح الفاطمي مع نصارى فلسطين اعتبره البعض بمنزلة حماية الإفرنج على بلاد فلسطين، وإذا كان الأمر كذلك، فالسؤال المطروح: إلى متى استمرت حماية الفرنجة على فلسطين؟
يجيب بارتولد عن هذا السؤال نقلاً عن «بريهر» المؤرخ الكنسي الفرنسي الأصل بقوله: «إن نهاية هذه الحماية كانت هدم كنيسة القيامة سنة 400هـ/1009م بناء على أمر الحاكم الخليفة الفاطمي». وأضاف بارتولد: «واعتُبرت إعادة بناء المعبد (الكنيسة) على نفقة الإمبراطور البيزنطي بداية الحماية البيزنطية بدلاً من الحماية الإفرنجية».
يتبين مما تقدم، واستناداً إلى آراء المؤرخين، أن ما قام به الحاكم بأمر الله ما هو إلا خدمة للخلافة الفاطمية لتبقى بعيدة عن كل وصاية أو تسلّط أجنبي، وهذه السياسة وبرأي أبناء عصره تنم عن شخصية رجل الدولة المتيقظ الذي يغار على مصلحة دولته وأمته، وليس في عمله أي تحيّز أو تعصّب بقدر ما هو قطع يد الاستعمار الذي يتغلغل بهذه السياسة الناعمة تحت ستار الدين، وبحجة حماية الأماكن المقدسة، وهي في الحقيقة بأمان ما دامت في ذمة الإسلام والمسلمين.
من جهة أخرى، كان الحاكم بأمر الله على استعداد تام لإزاحة أي قوة تقف إزاء قراراته ومواقفه السياسية، وبشهادة الأنطاكي وكرد علي فإنه لما هيأ المفرج بن الجراح الظروف المساعدة لإعادة «بناء كنيسة القيامة وإعادة مواضع بحسب إمكانه وقدرته» اعتبر الحاكم أن هذا العمل بمنزلة تحدٍ لقراراته، ورفض صريح لسجله الذي أصدره بشأن الكنيسة، كما يعني أيضاً تواطؤ المفرج في مسألة إعادة الحماية الأجنبية إلى فلسطين. هذه المواقف جعلت من الحاكم بأمر الله الخصم العنيد ضد وجود بني الجراح في الرملة، فهم بسياستهم تلك تقرّبوا إلى أعداء الدولة، وساهموا في إعادة الامتيازات الأجنبية إلى بلاد فلسطين.
حينئذ صمم الحاكم على إزاحة إمارة بني الجراح من الرملة بأي ثمن، ومهما كانت الظروف والمصاعب، لهذا عمد إلى إرسال حملة عسكرية إلى فلسطين بقيادة علي بن جعفر بن فلاح لقتال بني الجراح الطائيين، وفي الوقت نفسه عمل في الخفاء على قتل زعيم بني طيء المفرج بن الجراح بالسم، وقد تحقق له ما أراد في سنة 404هـ/1013م.
وبعد الحاكم حاول الروم، ووفق تاريخ الأنطاكي، إعادة بناء الكنيسة بشكل رسمي، وبتأييد ورضا بعض الخلفاء الفاطميين، وعلى هذا الأساس بدأت المفاوضات بين الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله الفاطمي، والملك البيزنطي رومانوس الثالث لعقد الصلح بين الدولتين على أساس إعادة بناء جميع الكنائس المخرّبة، والاعتراف بحق الملك في ترميم كنيسة القبر المقدس على نفقته الخاصة.
ويبدو أن هذه العلاقات استمرت على هذا النحو، وأكّد ذلك أسد رستم في كتابه «الروم وصلاتهم بالعرب» أنه في سنة 427هـ/1036م وقعت معاهدة على هذا الأساس بين ميخائيل الرابع والخليفة المستنظر بالله، وعادت الكنيسة إلى سابق عهدها، وذلك في سنة 429هـ/1037م. كما كان الرحالة ناصر خسرو شاهد عيان على هذا الحدث، فعندما زار بيت المقدس في سنة 439هـ/1047م رأى الكنيسة بأم عينه.
وبعودة الكنيسة إلى بيت المقدس بشكل رسمي ومعترف بها من قبل الخلفاء الفاطميين. أُعلنت الحماية البيزنطية على بلاد فلسطين بدلاً من الحماية الإفرنجية ■