نصارى ديار الجزيرة الفراتية والحضارة العربية

نصارى ديار الجزيرة الفراتية  والحضارة العربية

عُرفت النصرانية في بلاد الجزيرة الفراتية (دجلة والفرات) منذ ما قبل الإسلام، حيث شملت العـــرب والآرامييــــن الــذين سكنــوا تلك المنطقة. وكـــان انتشــار النصرانية قد بدأ أولاً في المــدن، ليمتد في ما بعد نحو الريف، وكان للرهبان دور كبير في نــشـــر النصرانيـــة، حتى تحولت سورية في القرن السادس الميلادي إليها. 

أما أول انتشار للنصرانية في ديار الجزيرة، فيعود على ما تذكر المراجع إلى «أداي الرسول»، وهو داعية من فلسطين أسس أول كنيسة في مدينة الرها في منتصف القرن الثاني للميلاد».
وكان أداي هذا قد وصل إلى الرها، وأخذ يعظ ملكها حينها «أبجر»، فأثر به وبأفراد حاشيته «وأعطى أبجر أوامره بأن يعلن بواسطة مناد في جميع أنحاء المدينة (الرها) أنه على كل فرد أن يحضر... ليستمعوا إلى تعاليم أداي الرسول... واجتمع الناس، ومنهم غرباء من نصيبين وحران، ودخلت الناس المسيحية، حيث هدمت الهياكل الوثنية.
وفي ذلك ينقل أن ملك الرُّها، أبجر الخامس (أوكاما)، عندما وصلته أخبار العجائب التي ظهرت من السيد المسيح (عليه السلام) في فلسطين، أحب أن يتوجه إليه، إلا أن الخلاف بينه وبين الرومان منعه من ذلك، فبعث بأحد رجاله إلى السيد المسيح  (عليه السلام) يطلب منه المجيء إلى الرها وشفاءه من داء ألمَّ به، إلا أن السيد المسيح (عليه السلام)، بعث إليه بأنه سيعهد إلى أحد رسله بالتوجه نحو الرُّها ليشفي الملك، ولكن بعد صعوده إلى السماء، كان أداي هذا الرسول الذي شفى الملك من دائه.
هكذا دخلت المسيحية ديار الجزيرة الفراتية من باب الرُّها، حيث تحولت الرُّها إلى مركز مسيحي يقصده التجار من نصيبين وحران للاستماع إلى وعظ أداي الرسول.

أم الكنائس الأممية
كما انتشرت المسيحية في مدينة حران ومنطقتها.
 وكانت أبرشيتها تخضع لمطرانية الرُّها، حيث كان مطرانية الرُّها يعين أسقفاً على حران من قبله، وخضعت مطرانية الرها وأبريشية حران إلى البطريركية الأنطاكية، فكان بطريرك أنطاكية يشرف على المطرانيات والأبرشيات في سائر المنطقة.
والسبب في ذلك - كما ينقل د. أسد رستم الذي أطلق على أنطاكية لقب «أم الكنائس الأممية»، - أن أهالي أنطاكية من يونان ووثنيين قد أقبلوا على النصرانية وكثر عددهم، فأصبحت مركز الرسالة العالمي ونقطة الانطلاق للتبشير بين الأمم، حيث كان في أنطاكية أنبياء ومعلمون منهم برنابا وسمعان.
ومع دخول النصرانية إلى بلاد الجزيرة الفراتية، ظهرت الأديرة، التي كانت في الأساس أمكنة لتجمع الرهبان بهدف تعليم المسيحية وتدريبهم على الرهبنة، وعلى نشر التعاليم المسيحية.
وقد انتشرت هذه الأديرة على ضفاف نهر الفرات وروافده، وذلك لوجود هذه المناطق على أطراف البوادي، وبسبب الماء، ولوجود المدن الكبيرة ولخصوبة الأرض، حيث يوجد العدد الأوفر من السكان.
وقد لعبت هذه الأديرة دوراً مهماً وأساسياً في الحياة العلمية التي عرفها المشرق، فاشتهرت المدارس النصرانية منذ ما قبل الإسلام وبعده، ومن خلال هذه الأديرة في كل من الرُّها وحران ونصيبين والرقة ورأس العين وقرقيسيا وغيرها.
ويفصّل لنا بعض المؤرخين، طريقة التعليم التي كانت متبعة داخل هذه الأديرة، التي كان يرسل إليها الأولاد لقراءة الكتب، وتعلُّم السلوك الديني الحسن، وتعلم الأدبين اليوناني والسرياني، ومعرفة الكتابة والنحو العربي (مع دخول العرب المسلمين)، والموسيقى وعلوم الفلك والرياضيات والفلسفة، كما علّمت هذه المدارس مبادئ الترجمة من اللغتين اليونانية والسريانية إلى اللغة العربية. أما أعلى مراتب التعليم في هذه الأديرة، فكانت تعليم الفلسفة والطب والرياضيات، ونسخ الكتب وتجليدها، وكتابة الرسائل العلمية الصغيرة، وبعد انتهاء الطالب من دراسته كان عليه أن يقوم بجولة على المدارس التابعة للأديرة.
ومع الفتح العربي الإسلامي لديار الجزيرة الفراتية، شهدت الحياة الفكرية تطورا بارزا، وبدأت حركة علمية بتأثير نماذج الأفكار وتزاوجها، وأقبل سكان العراق على دراسة اللغة العربية وآدابها، والقرآن الكريم والحديث وشرحهما، فظهرت مدارس جديدة، وبرز العديد من العلماء في مختلف العلوم. 

نقلوا حضارة وثقافة وعلوم اليونان
وأخذ العرب المسلمون من ثقافات البلاد المفتوحة، فكان للنصارى وأديرتهم الدور الأبرز في نقل حضارة وثقافة اليونان وعلومهم إلى العرب.
وحمل رجالات النصارى والصابئة لواء نقل هذه المعارف إلى المسلمين وترجمتها إلى اللغة العربية، ومع القرنين الثامن والتاسع للميلاد، بدأت الترجمة من اليونانية والسريانية وامتدت إلى القرن العاشر، حيث قام النصارى بنقل 90 في المائة من المؤلفات اليونانية المعروفة في ذلك الزمان في الطب والرياضيات.
كما أن التطور الذي رافق حركة النقل هذه، والتي انتقلت إلى الشروح، كان على أيدي مدارس الرهبان النصارى الذين «كانوا يملون على الطالب موجزا قصيرا من أحد المؤلفات الكبرى (الجوامع)، وكان المعلم يعلق على الموجزات، قارئا وشارحا.

المعلم الثاني
كما وصل تأثير النصارى إلى الفلسفة، فها هو الفارابي، الملقب بالمعلم الثاني، أو «أرسطو طاليس الثاني»، يتتلمذ على أيدي ثلاثة معلمين في الفلسفة من النصارى، هم: الطبيب والفيلسوف إبراهيم المروزي، ومعلم الفلسفة يحيى بن حيلان في مدينة حران الفراتية، وبعدهما المعلم أبو بشر متى بن يونس في بغداد.
لقد كان النصارى هم الرواد في التراث اليوناني الكلاسيكي ونقله، كما لعبوا دورا في دمج الألوف من الألفاظ والعبارات التقنية في اللغة العربية «التي ساعدتهم على الترجمة وعلى التعبير في مجال العلوم. ومن هؤلاء إلياس النصيبيني، الذي أظهر فقر اللغة العربية في ألفاظ الطب والأدوية.
هكذا، ترك لنا النصارى عشرات المقالات باللغة العربية، التي طورت ورفعت من مستوى الثقافة العربية، وساهموا مساهمة فعلية في مساعدة الخلفاء المسلمين على إنجاز مشاريعهم الحضارية، فتحولت الحضارة العربية إلى حضارة  غنية بالعلوم المعروفة في عصرها، والتي أخذ منها العلماء العرب والمسلمون، وطوروها وأضافوا إليها، لتعود من جديد إلى أوربا، من خلال جسور الحضارة في الأندلس وصقلية والشرق الأدنى، لتظهر أوربا عصر النهضة.
هذا الشرق، المتنوع ثقافيا وإثنيا، الخليط بأديانه ومذاهبه، هو ينبوع الحياة، كان وسيكون للعالم كله، ومن دون هذا التنوع الفسيفسائي لن يكون للمشرق معنى .