الرواية العربية استفادت من هامش الحريات في الواقع
عن الإسكندرية؛ المدينة الكوزموبوليتان المتوسطية المتجانسة.. عن البحر والسينما ورواة العشوائيات، وعن الكتابة الجديدة المصرية والعربية ومستقبله، وكيف أثرت الثورات العربية في السرد الروائي، وماهية الجوائز وتفسير الجيل الكتابي، والمجايلة، يدور اللقاء مع الروائي المصري إبراهيم عبدالمجيد. وكان معه هذا الحوار.. هو ابن الإسكندرية، ولد فيها في الثاني من ديسمبر 1946. حاصل على ليسانس الآداب قسم الفلسفة من جامعة الإسكندرية، وبدأ عمله الوظيفي كأخصائي ثقافي بالثقافة الجماهيرية من العام 1976 - 1982، ثم عمل في إدارة المسرح بالثقافة الجماهيرية من 1982 - 1985 وتدرج في المناصب متولياً إدارة النشر بالهيئة العامة للكتاب حتى عام 1990 ثم مدير إدارة الثقافة العامة بالثقافة الجماهيرية حتى العام 1999 فرئيس سلسلة «كتابات جديدة» بالهيئة العامة للكتاب من العام 1999 وحتى2000. حصل على جائزة نجيب محفوظ عن روايته «البلدة الأخرى» عام 1996 من الجامعة الأمريكية. وجائزة أحسن رواية «لا أحد ينام في الإسكندرية» من معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1996، وجائزة الدولة للتفوق عام 2006. وجائزة الدولة التقديرية عام 2009. قدم له التلفزيون المصري مسلسل «لا أحد ينام في الإسكندرية» من بطولة ماجد المصري وسيناريو وحوار يسر السيوي، وهي الرواية التي اختيرت في إحدى قوائم أهم 100 رواية في القرن العشرين. يلتقيه الروائي حسين عبدالرحيم، وهو قاص وسينمائي مصري، من أعماله رواية «عربة تجرها خيول» (2000) و«المغيب قصص» (2002)، و«ساحل الرياح» رواية الهيئة العامة للكتاب (2004)، و«المستبقي» رواية عن دار ميريت (2007)، كما كتب سيناريو «قلب المدينة»، وهو فيلم وثائقي عن مدينة بورسعيد أخرجه مجدي فاروق.
-كيف استقبلت خبر اختيار روايتك «لا أحد ينام في الإسكندرية» ضمن أهم 100 رواية في القرن العشرين، وماذا يمثل ذلك لك من إضافات؟
- الرواية جاء اختيارها من قبل موقع w ww.list muse.com الأدبي العالمي، وقد استقبلت الخبر بسعادة بالغة، وتلقيت آلاف التهاني تلفونياً وإعلاميا من بعض الصحف والدوريات الأدبية العربية والعالمية المصرية، وكل نجاح يمثل لي إضافة في رحلتي الأدبية الإبداعية.
-عن الإسكندرية في إبداعات لورانس داريل وأم «فوستر» وقسطنتين كفافيس، كيف يرى الروائي إبراهيم عبدالمجيد الإسكندرية في رواياتهم؟
- «لا أحد ينام في الإسكندرية» شيء آخر، كتابة مختلفة، الإسكندرية مدينة مثل «سمرقند» مدينة أسطورية تمتلك حسا تاريخيا، تشبه البلورة.
وداريل الإنجليزي رأى الإسكندرية بعين أخرى (صادقة وليست كاذبة). ولكنه وبحكم تكوينه الثقافي الاجتماعي والفكري والتاريخي كان إسهامه في الرباعية بتاريخيتها وأبطالها حتى المصريين منهم، أقرب إلى الأجانب من شعب وتفاصيل وأهل الإسكندرية، من الممكن أن تكون مصر (السكندرية) خارجة عن الحساب.
قسطنطين كفافيس يراها مدينة هللينية مازجاً ما بين الثقافة اليونانية والفرعونية، استدعى إسكندرية القديمة كرؤية، وبما كتبه صنع طفرة في الشعر اليوناني لدى كل نقاد العالم واليونان.
- رواياتك عن الإسكندرية مختلفة ؟!
- أنا كاتب مصري سكندري شاهد الإسكندرية العالمية في طفولته كمدينة تسامح، والإسكندرية التي فقدت هذه الروح، وهي روح مصرية وعالمية عندما كانت مصر ضمن المنظومة المتوسطية منذ القرون الأولى وحتى محمد علي، ولكنها تغيرت في عصر السادات. المدينة في ثلاثة مسارات كما ترصدها روايتي، «لا أحد ينام في الإسكندرية»، حيث تتعايش فيها كل الأديان والأجناس رغم الحرب، والتي كانت بالنسبة لها نقطة فارقة في التاريخ، وبعدها لم ينتصر هتلر ولم ينهزم الحلفاء، كانت معركة «العلمين» قمة الانتصارات وتمت هزيمة ألمانيا في النهاية.
أكتب كمصري وسكندري مولود فيها وليس وافداً عليها، وبهذا اختلفت عن الآخرين من دون أن أقصد أن تختلف طبيعة التكوين، وإن كان هناك قصد ما فهو في شكل الرواية، وأعتقد أن هذه إحدى المميزات التي أعطتها قيمة كبيرة.
وقد أردت أن أكتب عن مرحلة لم أعشها بعد الحرب العالمية الثانية، فكان عليَّ أن أذهب إلى هناك وهذا استدعى مني ست سنوات دراسة للمرحلة والمشاهدة والكتابة.
- وماذا عن «طيور العنبر»؟
- كانت عن الإسكندرية التي فقدت الجاليات الأجنبية تحت دعوى التمصير، لكن - مع الأسف - أن مصر كلها وفيها الإسكندرية بدأت تفقد القيم الثقافية للبحر المتوسط، غير أن هذا القصد ظهر بشكل حاسم وكان في مرحلة السبعينيات.
أما في «الإسكندرية في غيمة» فهنا بدأت الإسكندرية تفقد - وبشكل واضح - الروح العالمية (الكزموبوليتانية والمصرية معاً)، وظهرت حينها دعوات «الرجعية» التي تأخذ من الدين ستاراً بجعلنا قبيلة وعشيرة. وليست أمة تقع على البحر المتوسط ولها تاريخ من الاستقرار حول النيل.
- كيف ترصد مسارات الرواية العربية الجديدة؟
- الرواية العربية الآن أصبحت رافداً أساسيا في الرواية العالمية، ويمكن جدا للنقاد أن يجدوا فيها مذاهب واتجاهات للكتابة, كما وجدوا ورصدوا النقاد الأجانب في الرواية العالمية على طول التاريخ.
- كيف ترى تأثير الثورات العربية في الكتابة آنيها ومستقبلها؟
- هناك ملاحظة بسيطة، هذه الثورات قامت في دول تحكمها نظم عسكرية، سواء كان رئيس الجمهورية عسكرياً أو غير عسكري، وهذه النظم - مع الأسف - كانت تخفي - تحت الأرض وبالقمع - كل الاتجاهات الأخرى التي كان أقواها تنظيماً جماعة الإخوان المسلمين مثالا، (مصر) وهذا ما يدعو للسخرية - أن الجماعة التي كانت تسمى (محظورة ؟!) كان يسمح لها النظام منذ عهد السادات بأن تتحرك كيفما تشاء، خاصة في (الأحياء الفقيرة) وما أكثرها في مصر، المهم ألا تفكر في الحكم؟! فإذا فكرت فيه يتم القبض على قياداتها. لكن يظل كل شيء في الشارع كما هو، بل أكثر من ذلك أنه استخدم هذه الجماعة «فزاعة»، بحجتها صادر كل الاتجاهات الأخرى، ولذلك عندما ظهر جيل الشباب وهو خارج عن هذه الحسابات، وأقصد جيل الحداثة وما بعدها ومن الفضاء الافتراضي، فالعالم كله بشبابه وكتابه على «اللابتوب» وفي يده «الموبايل» قامت الثورات ونجحت حتى الآن باستثناء سورية، في أن تكشف الغطاء عن هذا المجتمع بعزل رؤساء الجمهوريات، فظهر ما تحته، والجماعات التي كانت أكثر تنظيما هي «الإخوان»، والجماعات المرئية هي الأضعف، وأقصد الأحزاب القديمة تحديدا، فوصل الإخوان إلى الحكم، فتم كشفهم بسرعة لأنهم يكذبون «فـــي سبــيل الله»، وإنهم لا ولاء عندهم للوطن ولا يعرفون معنى الوطن.
-عن الأجيال في الكتابة، من هو الجيل الذي أثَّر في رؤية إبراهيم عبدالمجيد وكتابته وتكوينه ومساره الروائي والإبداعي؟
- أنا معروف عني - وكتبت في ذلك كثيرا - أنا غير مقتنع بأن هناك جيلاً كل عشر سنوات، الأجيال في الأدب والفن لا تقاس بالعمر، ولكن تقاس بالإنجاز الجمالي للأعمال الفنية، كذلك ترتبط التغيرات الفنية والإبداعية بالتحولات الكبرى في المجتمعات، ففي مصر مثلاً لا يمكن أن تعتبر أن هناك مراحل للكتابة، أو عدم الكتابة مثلاً، فعصر «إسماعيل» مرحلة، فيه أصبحت مصر بلداً متوسطياً مفتوحا على أوربا، فتم التجديد في كل شيء، من أول العمارة مروراً بحريَّة المرأة والصحافة إلى الشعر. فمحمود سامي البارودي - مثالا - الذي تخلَّص من ركاكة العصر المملوكي، ثم أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، دفعوا الشعر للأمام دفعة عظيمة، وغيرهم.
الجيل الآخر أو المرحلة الثانية كان بعد ثورة 1919، بدأت تظهر المسارح، ونصوص مسرحية، ووجدنا التجديد في الرواية والقصة والقصيدة، وظهرت مدارس شعرية جديدة مثل مدرسة «الديوان» و«أبولو»، كل هذا بعد ثورة 1919، وظل التجديد في الأشكال الأدبية طريقاً، فظهرت حقبة الأربعينيات، علي أحمد باكثير في الشعر الحر، وظهر في العالم العربي أيضاً في حقبة الخمسينيات.. وكل هذا حدث في إطار القفزة التي جاءت بعد ثورة 1919. حتى عندما جاءت ثورة 1952، كان كل المجددين في مصر أبناء المرحلة الليبرالية بعد ثورة 1919 تعلموا فيها، يوسف إدريس على سبيل المثال، أما الستينيات - حقيقة - فكانت مرحلة جديدة لكنها ارتبطت بهزيمة يونيو (حزيران) 1967، وارتبطت أيضا بالحركات الشبابية في العالم، وبالذات ثورات الطلاب في فرنسا، السبعينيات لا تنفصل عن الستينيات، هي موجة أخرى في طريقة التجديد نفسها. ولذلك الفصل بينها «ساذج» يراد به سهـــولة الدراســــات الأدبية أكثر من أي شيء آخر، وإلا أين الثمانينيات؟!
مسألة التقسيم أراها مدرسية، فكل الروايات التي صدرت عن الشباب حتى الآن شأنها شأن الستينيات والسبعينيات رافضة للمواضعات الأدبية والنقدية مثل الستينيات. والفارق - وأنا أتحدث هنا عن الأعمال الجيدة وليس العادية - هو كثافة عدد الكتَّاب. فنحن عندما يتم عمل ملحق خاص عنا نجد سبعة أو ثمانية كتَّاب، أما الآن ففي كل مقهى عشرة كتاب مثلاً، يقال إن الكتابة الجديدة كتبت عن المهمشمين، وأنا لا أختلف في ذلك، ولكن هل نحن لم نكتب عن المهمشين، عن المقابـــر مثلا؟ فرواية جميل عطية إبراهيم «البحر ليس بملآن» من أهم الروايات التي تناولت عالم المقابر. وكتبت أنا «المسافات»، «الصياد واليمام»، «ليلة العشق والدم» أما خيري شلبي فحدِّث ولا حرج عما كتبه، فلم يكتب إلا عنهم - المهمشين أقصد.
البعض يقول إن هناك كسراً للتابوهات، هذا الموضوع كان موجودًا في الستينيات وما قبلها، ولكنه قليل. وأصبح ظاهرة وقتها، ثم أصبح ظاهرة كبرى، الآن التحول الكبير الآخر بعد هزيمة 1967، لأننا ورغم نصر أكتوبر ظلت الروح رافضة لسبب بسيط، هو أن مكاسب الحرب لم تعد للناس العاديين، بل عادت على تجار الخردة والسماسرة في ما سمي «الانفتاح الاقتصادي» أو على رأي العظيم أحمد بهاءالدين «سداح مداح»، وأوجد مشكلات فظيعة في مصر، لأنه لا علاقة له بالرأسمالية الحقيقية. لكنها رأسمالية طفيلية ليست ذات جذور بشكل عام، ممكن أن تستثني أعدادا قليلة من رجال الأعمال، كما أن مفهوم النظام الحاكم كان يدعو إلى حرية الاقتصاد وتسيطر الدولة الأمنية على كل شيء، ومن ثم كان نظاماً شمولياً في الباطن مدعياً للحريات.
- هل هناك تحول آخر يصنع جيلاً مختلفاً بعد هذا التحول الذي ذكرت؟
- أجل.. هناك تحول ثورة 25 يناير التي سوف تظهر جيلا جديدا شكلا وموضوعا بدأ في تبلور خريطته، وهنا أقول شيئاً، إن الأجيال لا تنفي بعضها إلا في بلد بيروقراطي مثل مصر، فلـيس في الفنون نفي، ولكن هناك ثمة نسخ مثلاً، بمعنى أن لكل جيل شيئا يختلف في أشياء مع الجيل السابق.
وهذا سر أن تقرأ باستمتاع رواية واقعية لتشارلز ديكنز ورواية رومانتيكية لتوماس هاردي ورواية تيار الشعور حداثية، مثل رواية «عوليس» أو رواية عجائبية لماركيز بعد مائة سنة من الروايات السابقة.
رائع أن تقرأ رواية مثل «دون كخوتة» فتستمتع. ورواية لاستروياس فتستمتع، هذا ما يجب أن نفهمه. أنه ليس بين الأجيال حروب، ولكنه تطوير في الأشكال وجماليات العمل الفني، فعن طريقه تأتي مشكلة «التسميات»، أنك تجمع كتّابًا مختلفين في الطريقة شكلاً وموضوعاً وتضعهم في سلة واحدة، بينما فيهم الضعيف والقوي، ولكن إذا ربطت الجيل بالشكل والموضوع ، فسوف نعرف الكتاب من غير الكتاب.
- بعيدا عن الكتابة والرواية والإبداع، كيف حلمت أن ترى نفسك؟
- لم أحلم بشيء إلا أن أكون كاتباً، كنت تلميذاً في «إعدادي» و«ثانوي»، وكنت «شاطرا» في الرياضيات وأحصل على الدرجات النهائية في التفاضل والتكامل والجبر، وأحصل على ثلثي الدرجة في اللغة العربية، كنت أقرأ وأنا في «الثانوي» في فلسفة العلوم كما أقرأ كتبا أدبية، ولكنني من سن 12 سنة أحببت الأدب، وفي سن الـ 15 كتبت أول رواية ساذجة فرحت بها وضاعت، وقررت من هذه السن أن أكون كاتباً ودعوت الله أن يساعدني في هذا، ورغم أن طرق الكليات العملية كانت مفتوحة لو أردت، فإن الموهبة كانت ضاغطة على روحي، وحبي للأدب جعلني مدمناً للسينما عاشقا للموسيقى.
وقضيت فترة مهمة أطوف على المعارض الفنية التشكيلية. باختصار كل ما هو يصب في نهر الإبداع.
- إذًا حدثني عن السينما ودلالة الصورة ودراميتها في أعمالك الروائية ومسارك الإبداعي.
- السينما كانت رافداً كبيراً جداً للأدب، لأنني منذ سنواتي الخمس الأولى، وفترة الإعدادية، كنت أدخل الفيلم الأجنبي مشاهداً إياه، لأخرج باحثاً عن رواية الفيلم لأقرأها، وولدت عندي الصورة في الكتابة، وهذا واضح في أعمالي «طيور العنبر» و«لا أحد ينام في الإسكندرية» و«عتبات البهجة».
- وماذا عن الجوائز عربية ومصرية؟
- الجوائز قيمتـها المعنوية عظيمة، لأنها تعطي الكاتب دفعة للأمام وقيمتها المادية تنفع الكاتب في هذا العالم الصعب، وفي النهاية «قسمة ونصيب»، المشكلة أننا عندنا في مصر كتَّاب كُثر، وجوائز كثيرة عربية، مثل جائزة العويس أو الشيخ زايد، وجائزة ساويرس مثلاً، وهي جائزة واحدة لرجل أعمال، صحيح أنها تمنح في أربعة فروع، ولكن أتمنى أن تكون الجوائز في عالمنا العربي وواقعنا المصري مثلها مثل أمريكا وأوربا، أن يكون للمؤسسات الاقتصادية أو الرأسمالية العملاقة مثل «روكفلر, وفورد» نشاط ثقافي، فالعالم العربي ومصر في احتياج إلى أن تكون للمؤسسات الصناعية روافد ثقافية، ولكن ربما هذا التطور يلحق بمصر والعالم العربي فتكون مثل رأسمالية ما قبل ثورة يوليو 1952.
- عن «ساق البامبو» للكويتي سعود السنعوسي «ولا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» للسوري خالد خليفة، كيف ترى مستقبل الرواية العربية؟
- بالتأكيد الرواية العربية كلها في أي قطر عربي استفادت وستستفيد من هامش الحريات في الواقع العربي، وذلك لتعاطيها مع اللغات العصرية في ما يخص هموم العالم، والأقليات، وصراع الهويات والاغتراب، وكل ذلك بفضل انفتاح العالم ككل بكتَّابه ومثقفيه ومفكريه ومبدعيه وفنانيه، وكل يروي - وفق موهبته - وحشة الإنسان مع كينونته في أي بقعة من العالم, فكل البشر تحكمهم وتتحكم فيهم قيود واحدة أبدية ومادية ملموسة، سواء كان غربيا أو شرقيا أو أي إنسان آخر على ظهر البسيطة، ولذا كان من الطبيعي أن نجد كل تلك الطفرات في الروايات العربية، سواءً في الكويت أو مصر أو سورية أو أي دولة عربية .