فريد الأطرش ... السينما صندوق الأغنيات والذكريات

فريد الأطرش ... السينما صندوق الأغنيات والذكريات

عاشت السينما، فهي التي منحت الحياة لهذا الجيل المتتابع من المطربين الذين وضعوا أعينهم على هذا الفن الوليد, الذي ما إن نطق حتى انطلق يغني, وكان هذا بمنزلة رحلة لم تعرف التوقف حتى الآن من الغناء السينمائي.
 قرأ المطرب الشاب القادم إلى القاهرة من جبال الدروز الخريطة بشكل جيد جداً، فقرر أن يدخل إليها على وجه السرعة مع أخته, التي اتخذت لنفسها اسماً فنياً هو أسمهان وظهرا على الناس في يوم 24 مارس من عام 1941 في فيلم «انتصار الشباب» من إخراج أحمد بدرخان الذي اقترن ببطلة فيلمه فترة قصيرة.

كان على عدد أكبر من الناس أن يستمعوا إلى الصوتين القادمين من لبنان تفوح منهما روائح الأَرز وليغنيا معاً أو فرادى عشر أغنيات, يا له من رقم، فلو أن كل أغنية استمرت خمس دقائق فإن هذا يعني أن المشاهد سيراهما طوال قرابة ساعة على الشاشة التي تكبِّر الوجوه بشكل ملحوظ. وهكذا تمت ولادة نجمين جديدين في عالم الغناء والسينما والنجومية، حيث هناك عدة أسباب لها النجاح، فالأخوان الأطرش قاما بتمثيل قصة أقرب إلى سيرة حياتهما حول شقيقين يبحثان عن مكانة لهما في عالم الغناء، ولم يكن الأمر سهلاً، حيث انتقلا من الفقر والحاجة إلى عالم الشهرة والنجاح.

أحلام الشباب
يحب الناس رؤية هذه القصص بأبطالها الحقيقيين، وعرف الأطرش طعم النجاح وهو في سن السادسة والعشرين من العمر, وحاول استقطاب النجاح بعد أشهر قليلة من عرض فيلمه الأول، لا يمكن أن نقول إنه وراء هذا النجاح، لكنه بالتأكيد كان أداة لإنتاج الفيلم الثاني الذي يحمل عنواناً مشابهاً هو «أحلام الشباب» الذي عرض عام 1942 من إخراج كمال سليم، مخرج فيلم «العزيمة» وجاءوا له بممثلة جديدة تماماً هي مديحة يسري ليغني لها تسع أغنيات لم نعد نسمع منها أغنية واحدة إلا في النادر منها: «ليه يا روحي الأسية»، و«مدام تعاندني».
هناك فارق ملحوظ بين الفيلمين، ففي الفيلم الأول كان هناك ثنائي يغني معاً، وله سحره، وقد بقيت أغلب أغنيات الفيلم الأول حتي اليوم مثل: «يا بدع الورد» - «إيدي في إيدك» - «وحياتك تقوليلي الحق». والحقيقة أن هناك أسباباً أخرى منها الفرق الملحوظ بين بدرخان وكمال سليم، فالأول محترف في عمل الأفلام الغنائية والاستعراضية، وهو الذي أخرج للسينما معظم أفلام أم كلثوم، كما أنه أخرج لفريد في ما بعد ثمانية أفلام استعراضية يفخر صنَّاعها بها مثل «آخر كدبة» و«عايزة اتجوز», و«شهر العسل»، وهو الفيلم الثالث في مسيرة المطرب الذي صار ينافس كل المطربين في تلك الآونة، وصار نموذحاً للوحدة العربية، وخصوصاً بعد تأسيس جامعة الدول العربية، وبدا ذلك واضحاً في أوبريت «بساط الريح» عام 1950، وهو في فيلم «آخر كدبة» لبدرخان.

بلبل أفندي
اختيار المخرج الذي يخرج الفيلم هو الأمر الأهم دوماً، وقد ظل الأطرش متنقلاً فقط طوال حياته الفنية بين بدرخان وهنري بركات، وهما من أفضل من يقدم السينما الغنائية والاستعراضية في العالم العربي، بالإضافة إلى حسين فوزي الذي جرَّب الأطرش حظه معه في فيلم «بلبل أفندي» عام 1949، والحقيقة أن هذا الاسم المتميز كان بإمكانه أن يكون المنافس الثالث في المسيرة الفنية للمطرب، لولا ظهور نعيمة عاكف في حياته فتفرغ لها، وتزوجها وأخرج لها أغلب أفلامها في ما يشبه الاحتكار.
الآن يمكن أن ننظر إلى هذه التجربة الطويلة التي بلغ عددها 32  فيلماً، باعتبار أننا أمام صندوق كنزي يمكن أن نستمع فيه إلى أجمل ما غنى فريد الأطرش من أغنيات عاطفية، بالإضافة إلى الأوبريتات الاستعراضية، وهي الأشهر في تاريخ هذه السينما، وقد سار على النهج نفسه، لكن ليس بالقوة نفسها كل من محمد فوزي ونعيمة عاكف، وقد توقفت هذه الظاهرة بالألق نفسه بعد أن صار الأطرش غير قادر على عملها بحكم السن، فصار يكتفي بالغناء فقط في نهايات الأفلام مثلما غنى في «لحن الخلود»، وفي «من أجل حبي» و«يوم بلا غد»، و«شاطئ الحب»، وغيرها.
نعم هي مسيرة لا مثيل لها في السينما العربية وحتى عندما ظهر عبدالحليم حافظ الذي اكتفى فقط بالغناء, أما فريد فكانت قصص أفلامه تعتمد على قصة فنان ناشئ يبحث عن فرصة في عالم الفن والشهرة، وقد رأينا ذلك في «لحن حبي»، و«ما ليش غيرك» و«رسالة غرام» و«عاوزة اتجوز»، وغيرها.

 أفلام مقتبسة 
سمعتهم يقولون تعقيباً على ظاهرة الأغنيات الكثيرة في أفلام فريد الأطرش إنه كان يعد الأغنيات قبل الفيلم، ولذلك تشابهت القصص، وظل فريد الأطرش يعمل في أفلام مقتبسة عن روايات ومسرحيات عالمية مع المخرج نفسه، وهو بركات، وفي بعض الأحيان حلمي رفلة، وقد اعتمد كتَّاب أفلامه على أفلام ومسرحيات عالمية وخصوصاً أبوالسعود الإبياري. لقد اهتمت هذه الأفلام بالأغنيات على حساب القصص، وكم سمعنا من أغنيات يرددها لحبيباته، حيث بدا لفريد، الذي صار منتجاً لأفلامه أن يختار بطلاته بعناية، ويكرر التعاون معهن من فيلم لآخر, فبعد النجاح المذهل أمام سامية جمال في «ستة أيام»، صار عليه أن يختار نور الهدى مرتين وهي مطربة مثله، ووقفت أمامه مريم فخر الدين أربع مرات، ووقفت أمامه أكثر من مرة فاتن حمامة، وشادية, وصباح.
والحقيقة أن هناك فرقاً واضحاً بين الروح المليئة بالحيوية التي كانت تمثلها سامية جمال وجميع البطلات اللائي وقفن أمامه، وهي راقصة رشيقة جيدة الأداء، ترقص بخفة ملحوظة ودون ابتذال، وهي مصنوعة على النمط الأوربي للجمال، وتختلف عن تحية كاريوكا التي تركت نفسها لعوامل الزمن.
كما قيل إن قصة حب حقيقية ربطت بين الطرفين، وفي الصحف القديمة الكثير من التفاصيل، وهذا شيء مطلوب في الروايات العاطفية, لذا كان ظهور الاثنين بمنزلة الروح والروح, روح الغناء وشفافية الرقص، ولذلك فإن المطرب في هذه الأفلام لا يمكنه أن يتألق إلا إذا كانت إلى جواره مطربة من طراز سامية جمال، وهي في أحسن حالاتها في «حبيب العمر» و«أحبك انت», وعفريته هانم» و«آخر كدبة» و«تعالى سلِّم»، و«ما تقولش لحد».
ومن الأمور المدهشة أنني كنت أسجل حلقة حول هذه الأفلام فأبدت المذيعة دهشتها من أن الأفلام التي جمعت الثنائي كانت هذا العدد فقط من شدة حضورها في حياتنا. 

الأفلام الغنائية فقط
وقد حدثت هزة ملحوظة في عالم أفلام فريد الأطرش الاستعراضية بعد انفصال الثنائي الباهر، فليست هناك من تعادل سامية جمال في فنها، حتى تحية كاريوكا بدت فاقدة الألق أمامه في فيلم «ما اقدرش» من إخراج بدرخان عام 1946، وسرعان ما اتجه إلى الأفلام الغنائية فقط، واستحضر كلاً من فاتن حمامة، ومريم فخر الدين، وإيمان كي تجلس الحبيبة في مكان ما ويمطرها بالغناء دون أن تكون هناك استجابة، فهي صامتة أثناء الغناء، مجرد وجه جميل عليه أن يستمع مثلنا نحن الجمهور، وفي الكثير من الأحيان كانت المريضة طريحة الفراش مثلما رأينا في: «لحن الخلود» و«يوم بلاغ»، و«من أجل حبي» وهو من إخراج كمال الشيخ.
 وقد أحس الأطرش بحاجته إلى راقصة فاستحضر ليلى الجزائرية من باريس، التي كانت تتلوى بدلاً من الرقص، رغم خفة ظلها لكن لا، إلا سامية جمال, ولذا فقد كانت صباح هي المعادل المقارب للفنانة التي افتقدها المطرب في أفلامه، صحيح أنها لا ترقص، لكنها صاحبة حضور طاغ وخفة ظل ملحوظة، بالإضافة إلى جمال الصوت, وهي صباح التي صنعت معه ثنائياً لطيفاً في «بلبل أفندي», سرعان ما تألق من جديد في «لحن حبي» (1954) و«إزاي أنساك» (1956)، وكلاهما من إخراج بدرخان الذي حاول استحضار أفلامه الناجحة مع فريد، وشاهدنا الموضوعات  نفسها على أن تحل أغنيات صباح بدلاً من رقصات سامية جمال، فمثلما رأينا المطرب في أشد الحاجة إلى راقصة لترقص في الاستعراض النهائي لفيلم «عفريته هانم» فإنه في حاجة إلى من تغني معه في الأوبريت النهائي في كلا الفيلمين، مرة لأداء استعراض «ساندريلا» في «لحن حبي»، ومرة للاستعراض الغنائي في «إزاي أنساك»، والحقيقة أن صباح ملأت الشاشة في الفيلم الثاني، وكان حضورها أكبر من حضور المطرب في مساحة الدور، وقد جسدت دور الفتاة اللعوب التي تتنكر لمن اكتشفها، والذي يقبل اعترافها بالخطأ، وجعلها تشارك في الأوبريت.
والحقيقة أن سامية جمال أمام شريكها المفضل لم تكن ترقص وحدها، إلا أن صباح غنت واحدة من أغنياتها الرائعة بمفردها، وهي «أحبك ياني». 
 وبهذا الفيلم تكون قد انتهت مرحلة أفلام البهجة والغناء والكوميديا في التاريخ الفني لفريد الأطرش، وتبدأ مرحلة الأفلام الغنائية فقط، بعضها مليء بالدموع والحزن من خلال أفلام: «قصة حبي» الذي غنى فيه أكثر من أغنية حزينة حول العاشق المتيم الذي فقد حبيبته التي ذهبت إلى رجل آخر، كما أن يوسف شاهين أسند إليه أغرب أدواره على الإطلاق في «ودعت حبك»، فهو المجند المريض الذي ينتظر الموت في أي لحظة في إحدى المؤسسات العسكرية، ويموت بالفعل.
كما أن المطرب افتقد مساعديه الذين كانوا يملأون أفلامه بهجة ومنهم إسماعيل يس الذي صار إلى بطولة الأفلام، ثم عبدالسلام النابلسي الذي كان آخر ظهور لهما معاً في الفيلمين اللذين أخرجهما يوسف شاهين، ومنهما «أنت حبيبي» من تأليف أبو السعود الإبياري الذي أعتبره شخصياً أكثر أفلامه متعة وجاذبية، وامتلأ الحوار بمعان رائعة مثل اللقاء الذي تم بين العاشقين وسط آثار الأقصر.

 أقل بريقًا وأكثر تكلفًا 
على المستوى العام فقدت السينما الاستعراضية كبار نجومها، الذين إما صاروا أكبر سناً وإما انفصلوا اجتماعياً، ومنهم نعيمة عاكف، ومحمد فوزي, بينما صعدت مكانة عبدالحليم حافظ الذي اكتفى فقط بالغناء وساعده بركات بقوة في بداياته، ولم يعد يهتم بتقديم أفلام لها الرونق نفسه لنجمه القديم، فهناك مساحة ملحوظة بين فيلمي «ما ليش غيرك» و«بنات اليوم»، الأول بدا فيه الأطرش أقل بريقاً وأكثر تكلفاً، والثاني بدا فيه عبدالحليم مليئاً بالعاطفية والرومانسية والقدرة على التضحية، رغم أن الفيلمين من إنتاج عام 1956، ما دفع المطرب إلى الاستعانة بمخرجين آخرين في أفلامه التالية، وأن يتوقف في مرحلة ما قبل الذهاب إلى لبنان ليعمل في أفلام ضعيفة. 
في المرحلة الأولى استعان بالمخرج كمال الشيخ ليخرج له الفيلم الغنائي «من أجل حبي» عام 1960 أمام ماجدة التي وقفت أمام عبدالحليم بكفاءة ملحوظة في «بنات اليوم», ثم استعان بسميرة أحمد لتعمل أمامه في «شاطئ الحب»، وقد قرر العودة إلى مخرجه المفضل بركات الذي عمل معه مجدداً في فيلم «يوم بلا غد» عام 1962, وفي هذين الفيلمين كانت هناك مشكلات عائلية في محيط أسرة الفتاة التي يحبها المطرب، ففي الفيلم الأول هناك الأم التي تعمل في «كباريه»، ما يلوث سمعة البنت التي لا تعرف، وفي الفيلم الثاني هناك الأب الذي يحب ابنة زوجته، لقد رحلت الأم وتركت له ابنتها التي تشبهها فأحبها ووقف ضد زواجها دوماً. وفي هذه الأفلام كلها وضع المطرب أجمل أغنياته وألحانه في ما يمكن تسميته صندوق الأفلام, سواء القصائد أو الأغنيات العادية، حيث حرص على أن يغني القصائد من فيلم لآخر، مثلما فعل مع الأخطل الصغير في «الخروج من الجنة» و«زمان يا حب». كما جرَّب التعاون مع مخرجين كبار ومنهم صلاح أبوسيف الذي قدم له رواية عالمية مشهورة هي «رسالة من امرأة مجهولة» لستيفان زفايج، حول حكاية الروائي الذي يستقبل رسالة من امرأة عرفها فقط ليلة واحدة، وصار في الفيلم المصري مطرباً مشهوراً يسكن في نفس شقة فريد الأطرش التي تطل على النيل، وهي الشقة نفسها التي دارت فيها أحداث فيلم «حكاية العمر كله» لحلمي حليم عام 1965، وقد عمل في هذه الفترة مع مخرجين لكل منهم فيلم واحد فقط, مثل محمود ذو الفقار في «الخروج من الجنة» عن مسرحية لتوفيق الحكيم، ثم عاطف سالم في «زمان يا حب» عام 1973. وقد مر الأطرش في هذه السنوات من حياته بما يسمى بالمرحلة اللبنانية، وهي الفترة التي هاجر فيها أغلب السينمائيين المصريين إلى لبنان لأسباب متعددة، وأقاموا سينما خاصة بهم. تدور الأحداث فوق أرض لبنان، لكن جميع العاملين في الأفلام من المصريين، وقد حدث هذا في أفلامه: «الحب الكبير» لبركات، و«زمان يا حب» لعاطف سالم، ثم فيلمه الأخير «نغم في حياتي» المأخوذ عن مسرحية فرنسية استلهمتها السينما المصرية كثيرًا هي «فاني» لمارسيل بانيول، ما يعكس أن المخرجين الذين تعاملوا مع المطرب كانوا يحرصون على العثور على قصة عالمية مضمونة يضع في كل منها المطرب الملحن خير عصارته من الأغنيات. 
 وعليه فإن الصندوق السينمائي الذي وضعه فريد الأطرش طوال حياته هو الصندوق الأكبر، سواء في السينما المصرية أو في تاريخ الأغنية، وذلك من حيث العدد والتنوع، وقد ظل يغني حتى أطلق النفس الأخير، بينما رأينا أغلب أقرانه قد تركوا السينما بلا عودة، مثل أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ وشادية وصباح والكثيرين ■