فريد الأطرش رسول النغم المشرقي إلى النغم المصري

فريد الأطرش   رسول النغم المشرقي إلى النغم المصري

كأنما كان قدر فريد الأطرش الموسيقي المرتبط بقدر شقيقته أسمهان (آمال الأطرش)، أن يولدا في بلاد الشام لأم ذات مواهب غنائية واضحة (علياء المنذر)، فيتشربا منها منذ الطفولة الأولى، كل ضروب الفلكلور المشرقي الفني، ذي النكهة الموسيقية التي تميزه عن الموروث الموسيقي الشعبي في سائر الأقاليم العربية الأخرى.

كذلك شاء القدر الموسيقي لفريد الأطرش، وشقيقته أسمهان، أن يرحلا إلى القاهرة في فترة مبكرة من عمرهما، في العام 1923، حيث استقرت بهم ظروف الحياة في القاهرة، في عصر هو الأغنى موسيقياً، في تاريخ الموسيقى العربية المعاصرة في القرن العشرين. ومع أن فريد كان يكبر شقيقته بعامين (ولد عام 1910، وهي في عام 1912)، فقد تأخر عنها قليلاً في لفت نظر وسمع كبار الموسيقيين الذين تنبّهوا باكراً إلى صوت أسمهان، لكن الأمر لم يَطُل حتى أعاد بعض هؤلاء اكتشاف المواهب الموسيقية المبكرة لدى الفتى فريد، حيث كانت موهبته الموسيقية أسبق إلى الظهور من موهبته الغنائية، وكذلك عزفه البارع على آلة العود، وخصوصاً بعد أن تتلمذ على عبقري العود اللبناني فريد غصن، الذي أقام فترة طويلة من شبابه في القاهرة، حتى وضع لحناً لأم كلثوم في مطلع الأربعينيات لم يعرف النجاح.
بعد ذلك سجل فريد الأطرش في الثلاثينيات، ومع ظهور إذاعة القاهرة في العام 1934، أولى إطلالاته الموسيقية والغنائية، بمجموعة خالدة من الأغنيات التي سرعان ما كانت تسجل على اسطوانات بيضافون، وتلاقي رواجاً جماهيرياً كبيراً. لكن هذه المجموعة من الأغنيات على وفرتها، وعلى ما تحمله من أسلوب موسيقي لافت للنظر، سرعان ما تراجعت، ونهائياً، خلف النجاحات الغنائية التي بدأ فريد الأطرش يسجلها في أغنياته السينمائية، منذ مطلع الأربعينيات.
من أجمل أغنيات هذه المجموعة الأولى التي توارت في حياة فريد الأطرش إلى النسيان، ومازالت متوارية بعد رحيله، أغنيات مثل «بحب من غير أمل» و«سهرت طول الليل» و«امتى تعود يا حبيب الروح» و«عشك يا بلبل» وسواها، وقصائد مثل «ختم الصبر بعدنا بالتلاقي» و«يا نسمة تسري».
غير أن موسيقيين مرموقين في القاهرة، مثل مدحت عاصم وعبدالحميد توفيق زكي، بدأ يلفت أسماعهما منذ البداية هذا النجم الموسيقي - الغنائي الذي بزغ في عصر تربُّع محمد عبدالوهاب على عرش الموسيقى والغناء في مصر، وفي العالم العربي.
فسارع مدحت عاصم إلى تزويده بلحنين رائعين من إيقاع التانجو: «كرهت حبك»، و«من يوم ما حبك فؤادي»، قبل أن يزوّد حنجرة شقيقته أسمهان باللحن الخالد: «دخلت مرة في جنينة».
في حياة شقيقته أسمهان، أطلق فريد الأطرش على الأقل فيلمين سينمائيين، تقاسم بطولة الأول «انتصار الشباب» معها، والثاني «أحلام الشباب» مع تحية كاريوكا ومديحة يسري، أما ثاني وآخر أفلام أسمهان قبل رحيلها «غرام وانتقام»، فقد اكتفى فيه فريد بالتلحين لأسمهان، إلى جانب محمد القصبجي ورياض السنباطي، فوضع لها «أهوى» و«ليالي الأنس»، وأعد لها موسيقى الموال السوري الفلكلوري «يا ديرتي مالك علينا لوم».
إلى هذا المدى كانت قد ظهرت بقوة النكهة الموسيقية المشرقية في ألحان فريد الأطرش في القاهرة، وخصوصاً في فيلم «أحلام الشباب»، مثل أغنية «يا داخلين أرضنا» وأغنية «تطلع يا قمر بالليل». وكانت النكهة المشرقية تصبغ فن فريد الموسيقي والغنائي، ولاسيما في المواويل الشعبية التي يطلقها بين أغنية وأخرى.
لكن فريد سرعان ما اندمج في صميم النهضة الموسيقية الجديدة التي تابعها بعد سيد درويش، بالذات، كل من محمد القصبجي ومحمد عبدالوهاب، ولعل هذا الأخير كان في بداية فريد الأطرش مثله الأعلى، لأنه كان يجمع النجومية الموسيقية إلى النجومية الغنائية. ولعل هذا التزاوج الفني بين النكهة المشرقية من جهة، والنكهة المصرية الشعبية والحديثة، في ألحان وأغنيات فريد الأطرش في النصف الأول من حياته الفنية بالذات، هو ما أمَّن لها جماهيرية واسعة ليس في جميع البلدان العربية فحسب، ولكن في مصر بشكل خاص.
لكن القدر الذي ظل يخدم فريد الأطرش حتى ذلك الوقت، كان يعد له صدمة حياته، بالرحيل الفاجع والمبكر لشقيقته أسمهان، التي كانت، إضافة إلى العلاقة الأخوية بينهما، تعتبر توأمه الفني، وكان لهذه الصدمة أعمق الأثر في حياته العامة والفنية، فأصبحت ألحانه تتميز، منذ تلك الصدمة بميل ظاهر إلى النحيب والحزن، الذي وإن كان لقي صدى لدى الجمهور، إلا أنه كان ينحو إلى المبالغة أحياناً.
مع ذلك، فإن صدمة رحيل أسمهان الفاجع كانت من جهة ثانية دافعاً لفريد ليغرق همومه الإنسانية في إنتاج الأفلام السينمائية، وملئها بعشرات الألحان الجماهيرية الرائجة. وقد ظلت النكهة المشرقية في التلحين مرافقة لفريد الأطرش من هذه الموجة السينمائية، مثل ألحانه في فيلم «بلبل أفندي» الذي تقاسم بطولته مع صباح، ومثل أوبريت «غنا العرب، كله طرب» بشكل خاص، ثم أوبريت «بساط الريح» في فيلم «آخر كدبة» بعد ذلك.

عازف ماهر على العود
تميز فريد الأطرش إلى جانب شهرته الموسيقية والغنائية، بأنه كان أحد أمهر العازفين العرب المعاصرين على آلة العود، وأحد أكثر هواة هذه الآلة إخلاصاً لها وتمسكاً بها، حتى عندما تراجع دور العود في الفرقة الموسيقية العربية، ظل يعمد في حفلاته الغنائية إلى أن يسبقه إلى المسرح عوده. وقد تميز أسلوب فريد بين عازفي العود، بأنه كان من أبرع الضاربين باليد اليمنى، التي كانت تفوق أحاسيس اليد اليسرى لديه. وهذا الأمر يذكر بخاصية يمكن لنا أن نتأكد منها في فن فريد الأطرش، عندما نجري عليه استعراضاً شاملاً بعد أربعين عاماً على رحيله، وهو أن موهبته الموسيقية وغزارته الموسيقية، كانت أقوى من فكره الموسيقي.
ويمكن اكتشاف الموهبة الموسيقية في غزارة الألحان، وهي كذلك عند فريد الأطرش، وخصوصاً في النصف الأول من حياته الفنية حتى الخمسينيات، أما الثانية فيمكن الاستدلال عليها في العمارة الموسيقية في أسلوب كل ملحن، حيث يمكن أن نذكر بالمقارنة أن فريد كان على النقيض من زميله وأستاذه محمد القصبجي الذي كان فكره الموسيقي أقوى من موهبته الموسيقية، وعلى تمايز عن محمد عبدالوهاب ورياض السنباطي، اللذين كان هناك توازن دقيق بين الموهبة الموسيقية والفكر الموسيقي لديهما.
يمكن الآن أن نقول إن فريد الأطرش قد تأخر في اكتشاف زحف الشيخوخة إلى حنجرته ذات المساحات الواسعة، وخصوصاً على الطبقات العليا. فمع تقدم العمر أصبحت هذه الطبقات العليا تتراجع، ما يؤثر في صفاء الألحان المغناة على هذه الطبقات. وهو الأمر الذي أصبح واضحاً في الحفلات الأخيرة لفريد الأطرش، مقارنة بحفلاته المبكرة. كذلك يبدو أن شيئاً من الوهن بدأ يصيب غزارته الموسيقية، فقلّت إبداعاته الخالدة في سنواته الأخيرة، حتى أن أبرز ما أنتج في تلك السنوات الأخيرة، كان قصيدة «عش أنت» وقصيدة «أضنيتني بالهجر»، والقصيدتان من نظم بشارة الخوري (الأخطل الصغير)، الذي تنبه لشاعريته فريد الأطرش في مرحلة متأخرة.
خلاصة
يمكن القول من خلال هذه العجالة عن مجمل فن فريد الأطرش في ذكراه الأربعين، إنه كان - بلا جدال - علامة من أبرز علامات التجديد في الموسيقى العربية المعاصرة في القرن العشرين، وكان يتميز بأنه رسول النغم المشرقي إلى النغم المصري، وهي مهمة فنية قومية، كان يتابعها عن كثب الموسيقار محمد عبدالوهاب، بولعه الشديد، بكل ما ينتج في بلاد الشام، ولاسيما لبنان من تطور موسيقي وغنائي، لا يخجل عن التأثر به من حين لآخر.
في هذا المجال، لا يمكن أن نذكر دور فريد الأطرش في الموسيقى العربية المعاصرة، دون أن نذكر دور شقيقته أسمهان في تطوير أساليب الغناء العربي النسائي المعاصر... رحم الله الفنانين الكبيرين .