حكاية المغاربة مع فريد الأطرش

حكاية المغاربة مع فريد الأطرش

كلّما تناهى إلى سمعي صوت الموسيقار فريد الأطرش، حضرتني قامة الأستاذ فؤاد الريسوني، مدرس اللغة العربية لدى البعثة الفرنسية في مدينة طنجة المغربية. كان هذا المدرس، سيّداً حقيقياً، أنيقاً في سلوكه وفي مظهره وفي ثقافته. وقد أصادف الصّواب إذا ما شبّهته بالنجم السينمائي الضاحك الوجه أنور وجدي، فقد كانت له القامة ذاتها، وإشراقة المحيا ذاتها، ولربما الحب العميق ذاته الذي يكنه لفريد الأطرش ولشقيقته أسمهان.  تحلّ ذكرى وفاة فريد في شهر ديسمبر من كل عام، فكان هذا الأستاذ المريد على طريقة الصوفيين، يعدّ حقيبته، ويشدّ الرحال في خطّ مستقيم نحو المحروسة القاهرة، ليحلّ بها في اليوم المعلوم، حتى يشبع نهمه بالتّرحم على روح فريد الأطرش، وروح شقيقته أسمهان.

ظلّ هذا العاشق الريسوني على هذا النهج، دون أن يغفل موعده السنوي القار، إلى أن لحق بفريد الأطرش، رحمهما الله، منذ حوالي عقد من الزمن أو أكثر قليلاً.
في جميع تلك الزيارات الترحمية، كان يعود إلى مدينة طنجة، مزوّداً بأخبار جديدة عن حياة فريد, محيطه ونجاحاته وكبواته العاطفية، تلك التي كانت محتجبة في السابق، وبذلك كان يتوافد عليه غير قليل من محبّي الفنان فريد الأطرش، لسماع تلك الأخبار والحكايات.
بيد أن اللقاء الوحيد الذي جمعني بهذا الأستاذ النبيل، ظلّ يتيماً، فلم يكتب له أن يتكرّر، إذ رحل عن دنيانا بعد بضعة أشهر من تلبية دعوة عشاء في بيتي، رفقة صديقنا المشترك فؤاد بنزكري، والصديق محمد خليل المصري المقيم في طنجة.
من بين ما حكاه الريسوني، أنه كان دائم السفر إلى القاهرة للترحم على أسمهان، وذلك منذ بداية خمسينيات القرن الماضي، يرعى قبرها، يتولى ترميم ما يحتاج إلى ترميم، وإصلاح ما يحتاج إلى إصلاح،  ثم ينثر ورداً على قبرها، ويقفل عائداً إلى مدينته طنجة.
وذات يوم، استفسر فريد الأطرش من حارس قبر شقيقته، عمن يتولّى ذلك، فأخبره الحارس بأن شاباً مغربياً يسمّى الأستاذ فؤاد، يأتي خصيصاً ليقوم بذلك، فأوصى بأن يلتقي به إلى أن تحقق له ذلك، فارتبطا بعلاقة مودة دافئة، استغرقت  مسار حياتهما.
هذا التعلق بفريد الأطرش لا يدعو إلى أي استغراب، فحكايات المغاربة مع هذا الفنان العربي بالذات، عديدة ومتنوعة، فلكل مدينة مغربية حكايتها، فمدينة الناضور، مثلاً، كان أهاليها يسمون جهاز الراديو بفريد الأطرش، إلى هذه الدرجة بلغ تعلُّقهم بهذا الفنان، أما في مدينة القصر الكبير، شمال المغرب، وتعد من أعرق مدنه، فارتبطت طفولتي بمشهد ذلك الحلواني الشهير في أحد أزقة المدينة، الذي كان يشكل آنذاك ظاهرة حقيقية لتشبهه في كل شيء وتعلُّقه التام بالموسيقار فريد، من ملبس تمثَّل في قميص ناصع البياض وربطة عنق داكنة اللون، كما اعتاد فريد أن يضعها في سهراته وحفلاته الراقية، إلى الحذاء الأسود ذي اللمعة المثيرة، وقصة الشعر التي اشتهر بها فريد، وكان محل هذا الحلواني لا يرتاده إلا ميسورو المدينة الذين كانت تجلبهم أغاني فريد، حيث كان الجميع يصر على الإنصات لها منذ أن يفتح دكانه إلى ساعة إغلاقه. 

فريق فريد الأطرش لكرة القدم
وفي مدينة مغربية أخرى، هي مدينة أصيلة، التي تشتهر اليوم بمهرجانها الثقافي الدولي، أذكر وأنا بعدُ طفل، أن كان بها فريقان لكرة القدم، الأول يسمّى فريق فريد الأطرش، ولا ينتسب إليه سوى محبي فريد، من لاعبين ومؤيدين، والثاني فريق محمد عبدالوهاب، ولايزال بعض أهالي هذه المدينة الوديعة، يتذكرون أسماء أعضاء الفريقين، وقد توفّي جلهم.
وممن لايزال على قيد الحياة، أذكر رئيس الفريق سيدي حميدو المصباحي، وكان عازفاً ماهراً على النّاي، وآخر ذا صوت رخيم هو محمد بن عيسى، وزير خارجية المغرب الأسبق، الذي تعرف أثناء دراسته في القاهرة، إلى الفنان فريد الأطرش، وارتبط وإياه بصداقة.
أضيف إلى هذين المريدين، شخص ثالث هو الشاعر والإعلامي المغــــربي محــمــد الــبــوعناني، الذي سيتعرّف إلى فريد الأطرش حين سيعمل في إذاعة باريس، رئيساً لبرامج القسم العربي، من منتصف خمسينيات القرن الماضي إلى منتصف ستينياته، وبحكم عمله وإعجابه العميق بفريد منذ طفولته بمدينة أصيلة، تولّى تقديم خدمات جليلة لفريد، خاصة في ما كان يتعلق بمستحقاته من إذاعة باريس، وكذا من شركة باطيماركوني التي كانت قد ابتاعت حقوق  شركة بيضفون، إلى غير ذلك.
فصار محمد البوعناني في تلك الفترة يرافق  فريد الأطرش إلى ملاعب سباق الخيل، التي كان مدمناً عليها، وإلى زيارة عيادات أطباء القلب، حيث يحكي البوعناني أن فريد لم يكن ينصاع  لتعليماتهم أو حتى لإرشاداتهم الطبية، بل كان يرتاد أرقى الأندية والملاهي الليلية الباريسية. وتعمقت الصداقة بين الرجلين، وجعلت قلب فريد ينفتح لهذا الشاعر المغربي، فكان يسرّ له بحكاية حبه الجارف للفنانة شادية، التي كانت محور انشغاله خلال تلك الأيام الباريسية، وقد كانت شادية حديثة الطلاق من النجم السينمائي عماد حمدي، الذي فارقها بدافع الغيرة القوية، وكان فريد يصدر أوامره بأن تصل إلى شادية يومياً باقة من الورد عربون إعجابه ومودته.
ومما يحكيه البوعناني أيضاً - الذي مازال يحتفظ بهدايا وأسطوانات وقّعها فريد - أن قلب فريد الأطرش لم تقو امرأة واحدة على شغله، أو لعله لم يجد الواحة الظليلة التي كان من الممكن أن يجد تحت فيئها كل ما كانت تحتاج إليه روحه من أمان وحب ودفء وعناية وإيمان به وبفنه، فقد كان في الوقت ذاته يهوى سامية جمال، ويحب شادية التي كانت مقيمة بالبناية نفسها التي كان يسكنها، ويعشق لبنى عبدالعزيز، منذ اللحظة التي غنى لها في أحد أفلامه أغنية «مش كفاية يا حبيبي»، غير أنه لم يقبل إلا بشريك وأنيس واحد في النهاية هو فنه وإبداعه، هو الذي جمعته بالعديد من جميلات مصر ولبنان آنذاك قصص غرامية، سرعان ما كانت تنتهي بفشل التجربة، فقد كان محبوباً جداً وكريماً ودافئاً مع الأصدقاء والصديقات، وكثير الأسفار والتنقل، وهي عوامل كانت ربما سبباً في تأجيج غيرة كل من ارتبطت به في أوج عطائه، وربما بسبب ذلك انتهى وحيداً وحزيناً على شاكلة تلك الحياة التي مثَّل أدوارها في الأفلام القليلة التي كان بطلها. وما من شك - وقد أجمع على ذلك كل من عايشه - في أن فريد انكسرت روحه منذ فقد أخته الفنانة أسمهان في الحادثة المروعة التي ذهبت بحياتها، إذ كانت تعتبر الأخت والصديقة والروح الشبيهة بروحه المفعمة بالجمال والإلهام.
فقَدَ فريد أخته وفقد معها ألق الحياة، فحتى أغنية الربيع التي لحنها وغناها كانت على إيقاع الحزن الذي سكنه طويلاً. 

حكاية غرام
ونعود إلى مدينة أصيلة، وعلاقة أهاليها بالموسيقار فريد الأطرش. ففي مطلع صيف عام 1961، عاد بعض الطلبة إلى مدينتهم، ومنهم محمد بن عيسى الذي كان يدرس الصحافة بالقاهرة، حاملاً معه من هناك شريطاً نادراً مسجلا بآلة تسجيل «الناكرا»، التي كانت آنذاك أحدث وأرقى أجهزة التسجيلات الموسيقية، ويتضمن الشريط أغنية «حكاية غرامي» لفريد الأطرش، مسجلة بتقنية عالية من إحدى سهرات الاحتفال بـ «شم النسيم»، ودعانا جميعاً لننصت إليها تحديدًا في مطعم «نجمة البحر» المشيد على شاطئ أصيلة، ولبينا الدعوة جميعاً بلهفة للاستماع إلى جديد الموسيقار فريد، الذي كانت أغانيه قد سبقت إلينا عبر جهاز الراديو والسينما، وما إن صدح فريد حتى غاصت صالة المطعم برواد كانوا مجرد عابري سبيل، جلهم من الوجوه اللامعة اليوم في مجال الأدب والفن التشكيلي، ممن يكنون لفريد حباً وتقديراً عميقين. وقد ازداد شغفنا بتلك الأغنية، بما فيها من شجن عميق وبحة امتاز بها فريد على مدى مشواره الفني. استهل فريد الحفل بكلمة جد مؤثرة، أعلن فيها أنه بلغ إلى علمه، قبل لحظات فقط من افتتاح السهرة، نبأ وفاة صديقه الحميم الشاعر والناقد الشاب إسماعيل الحبروك، هذا الأخير الذي غنى ولحن له العديد من القصائد العاطفية الرائعة التي تركت عميق أثرها على المستمع العربي، أذكر منها في سياق الحديث، على سبيل المثال لا الحصر «بحبك مهما قالوا عنك» و«حياة عنيك»... وبذات البحة الباكية، أهدى أغنيته تلك إلى صديقه الراحل إسماعيل الحبروك وأكمل غناءه بوجع دفين. وما إن أنهى فريد الأغنية حتى انخرطنا جميعاً في تصفيقات حارة هي ذاتها التصفيقات المنبعثة من صالة الحفلة، هناك في القاهرة، بمناسبة الاحتفال بشم النسيم، وكأننا كنا في مجلس واحد. 
لقد سردت هنا قصصا مختصرة عن علاقة المغاربة بالموسيقار فريد الأطرش، إيماناً مني بأنه - رحمه الله - قد ترك في الوجدان المغربي، والعربي، أثراً عميقاً، وذكرى لن يمحوها الزمن، ذكرى فنان قدير، عاش حياة اخترقتها الآلام والمحن، لكنها آلام ومحن لم تزده إلا إبداعاً وتعلقاً بالفن وبعوالمه الرحبة، فنان ذاق جميع المرارات، من اغتراب وفقد وحنين متعدد الأوجه، غير أنه انتصر في النهاية إلى روحه الحزينة التي في قمة الحزن أبهرت العالم العربي بسيمفونيات لا تقل دهشة ولا روعة عن السيمفونيات العالمية الشهيرة... في المغرب كما في كل البلدان العربية، كان حلوله بيننا في بعض المناسبات  كأحد ألمع وجوه الفن العربي، يشكل فرحاً واعتزازاً به وبإبداعه الخالد .