على طلبة الـجامعات احترام دُور العِلم
أسهم د. هاني هلال، وزير التعليم العالي والبحث العلمي الأسبق في مصر وأستاذ الهندسة بجامعة القاهرة في وضع وتنفيذ استراتيجية قومية لتطوير التعليم العالي. هلال الذي تولى مسئولية التعليم العالي في مصر 5 سنوات متتالية منذ عام 2006، قاد فيها مرحلة تطوير منظومة التعليم العالي. التقاه الكاتب الصحفي محمد عبدالعزيز في الكويت إبان حضوره مؤتمرًا لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية. تطرّق الحوار إلى العديد من المحاور بهدف التعرّف عن قرب على ركائز استراتيجية التعليم العالي في مصر إبان توزيره، والدروس المستفادة من القيادة الاستراتيجية للتعليم العالي ومتطلبات نجاح قيادة الخطة. تحدث الدكتور هلال بشفافية منقطعة النظير وأفصح وصال وجال في بنات أفكاره فأخرج من مستودعها الثري كل ما هو مفيد. استهل هلال حديثه بالثناء على الكويت حكومة وشعبًا، وخصّ «العربي» لتقديرها لشخصه.
< ما القاعدة التي انطلقت منها منظومة التعليم العالي في مصر في ثوبها الجديد عام 2006؟
- كانت مصر منذ عام 2000 تواجه عددًا من التحديات، من أهمها: تطوير منظومة التعليم العالي، فأدركت في سبيلها إلى ذلك أن الاستثمار في العنصر البشري هو البداية للانطلاق نحو نهضة تنموية شاملة.
لجأ المسئولون عن التعليم العالي عام 2000 وعلى رأسهم د.مفيد شهاب إلى إقامة مؤتمر قومي شارك فيه عدد كبير من الاختصاصيين رصدوا معًا مواطن القوة ومكامن الخلل في مفاصل المنظومة التعليمية، وخرجوا بوثيقة سمّيت «تطوير التعليم العالي»، وبدأوا التنفيذ عبر مشاريع للتطوير بهدف إعداد خريج قادر على المنافسة المتميزة في سوق العمل، خريج يحمل المهارة والجدارة ليعمل محليًا وإقليميًا ودوليًا ويكون مثالاً جيدًا لبلده.
سعت تلك المشاريع منذ البدء في تنفيذها عام 2000 إلى خلق منظومة تنافسية يتمكن من خلالها الخريج المصري من منافسة نظيره الدولي في أي جامعة عالمية.
< لكنك أستاذ جامعي اختصاصي في علوم الهندسة - فكيف جيء بك لتطوير التعليم؟
- كنت مستشارًا ثقافيًا لمصر في فرنسا، وحزت خبرة جيدة مكّنتني من العمل كمنسق وطني لمشروع دعم التعليم العالي المموّل من الاتحاد الأوربي، وفي عام 2003 عملت مستشارًا لوزير التعليم العالي آنذاك زميلي د.عمرو سلامة، ومن ثم توليت مسئولية الوزارة خلفًا له عام 2006.
وتعمّدت إكمال مسيرة زميليَّ سلامة وشهاب لجهدهما الواضح في مسيرة تطوير التعليم العالي منذ بدء الألفية الثانية.
أجواء تنافسية
< وما النقاط الرئيسة للاستراتيجية القومية لتطوير التعليم العالي التي عملتم بها؟
- أولاً الرؤية: وهي السعي لتعليم عالٍ يدفع التنمية البشرية لإسهام مؤثر في التطوير والتنمية التكنولوجية والاقتصادية.
ثانيًا الرسالة: وهي الوصول لمجتمع المعرفة ودفع الابتكار والإبداع من خلال خلق أجواء تنافسية علمية تُبنى على التميّز.
ثالثًا الهدف الاستراتيجي: وهو إعداد خريج عالي الجودة، متميز، كثيف المهارات، قادر على المنافسة في سوق العمل، ويحقق طموحات الدولة بشأن خطط التنمية.
< وهل كان من السهولة بمكان تحقيق هذه الاستراتيجية على أرض الواقع، أم كانت هناك صعاب - وما هي؟
- لا لم يكن ذلك بالأمر اليسير بالطبع، لأن الإنسان عدو ما يجهله، فتطوير منظومة التعليم العالي صاحَبه عدد من الصعاب والتحديات أجملها في الآتي:
أولاً التنافسية العالمية: وقد اعتمدنا في ذلك على اختراق المجتمع الجامعي عبر مشاريع تطوير تعتمد على خلق أجواء من التنافس العلمي لإحداث حراك فاعل، على أن تضع كل جامعة استراتيجية واضحة للتطوير، وتعمل على تنفيذها بخطى ثابتة.
وتأصيل مبدأ التنافسية الأكاديمية في كل شئون التعليم والبحث العلمي وسياسة التقييم المرتكز على جودة الأداء.
التعليم الفني
التحدي الثاني أمامنا كان الزيادة السكانية ومعها زيادة الطلب على التعليم العالي، وهما يترتبان على بعضهما في تناسب طردي.
وقد واجهناها بالتوجه نحو زيادة التعليم الفني والتكنولوجي الذي تحتاج إليه خطط التنمية، مع وضع حملات توعية بأهمية التعليم الفني والعمل على إنشاء مؤسسات تعليم أهلية، ودعم التعليم الإلكتروني والتعلم عن بعد.
< لكن الزيادة السكانية يمكن أن تكون داعمًا للاقتصاد القومي حال الاستثمار الجيد لها.
- نعم، وهذا ما لجأنا إليه بتحويل العامل السلبي لتلك الزيادة المفرطة في السكان إلى عامل إيجابي يسهم في تنمية الاقتصاد الوطني.
وكان التحدي صعوبة تلبية رغبة مئات الآلاف من الشريحة العمرية من 18 إلى 22 عامًا في الالتحاق بالجامعة، فضلاً عن إلحاقهم بتخصصات يحتاج إليها سوق العمل، وبذلك نكون قد صنعنا قيمة مضافة إلى الاقتصاد الوطني.
< وكيف واجهتم توفير متطلبات سوق العمل؟
- هذا كان التحدي الثالث الذي واجه منظومة تطوير التعليم العالي في مصر عام 2006، فعملنا على تغيير متتابع للبرامج التعليمية، والتدريب المستمر وتغيير المسار.
وسعينا إلى التشجيع على ربط البرامج الجديدة الموجهة بالقطاعين الخدمي والصناعي. وخلق مساحة حوارية دائمة مع كل القطاعات المدنية لتوجيه مهارات الخريجين طبقًا لما يحتاج إليه سوق العمل.
التمويل والإدارة
< وهل حال التعثر المالي لمصر وقلة مواردها دون إتمام كامل للخطة الاستراتيجية لتطوير التعليم العالي؟
- من دون شك، وقفت الموارد المالية حجر عثرة، ولم تتمكن الدولة من توفير التمويل المطلوب لدعم الخطة، وكان هذا التحدي الرابع أمامنا.
< وكيف واجهتم هذه العثرة إذن؟
- لجأنا إلى إشراك المجتمع في التمويل والإدارة والمتابعة للهروب من هذه العثرة، فقمنا بعمل حملات توعية وتسويق لمخرجات التعليم العالي للقطاعين الصناعي والخدمي، مع تعظيم مؤسسات التعليم العالي الحكومية لتمويل تنفيذ خططها الاستراتيجية، وعقد شراكات بين الجامعات الحكومية والخاصة لتحد من العقبة الكئود التي واجهتنا من جراء محدودية الموارد وقلة التمويل.
ثقافة الجودة
< لكننا لم نلحظ ثمرات ذلك التطوير بشكل لافت، فما أسباب ذلك؟
- تطوير التعليم يسير ببطء ويؤتي ثماره بعد فترة، وكان لدينا بعض العقبات في الطريق مثل إصرار القيادة السياسية آنذاك على الاهتمام بملفات أخرى مثل المياه والطرق والصرف الصحي على حساب أولويات التعليم العالي بسبب ضروريات حزبية تتطلبها العملية الانتخابية وتلمُّس الحاجات الضرورية للمجتمع للحصول على رضا الناخبين.
فتطوير التعليم العالي سار وتحرك ركبه من سبات عميق، لكن آثاره تستحس على المدى البعيد والناس في عجلة دائمًا.
لقد كرّسنا لثقافة جديدة اسمها الجودة في كل الأشياء - امتحانات - تعليم - منتج تعليمي - عضو هيئة تدريس - منافسة.
وإذا كان أداؤنا قد شابه بعض التقصير فليصلحه مَن يأتي بعدنا ويعالج ثغراتنا ويبني على إيجابياتنا، لقد كنت أقوم بزيارة 23 جامعة حكومية مدنية كل عام، وكان يعمل معي فريق عمل على قلب رجل واحد. وعملنا على تطوير منظومة التعليم العالي في مصر، مارّين بكمّ كبير من التحديات، منها أيضًا مقاومة عملية التغيير ذاتها.
ففي ظل أوضاع ساكنة منذ سنوات يصعب معها إحداث تطوير ديناميكي بسرعة ملحوظة.
فكان لابد من التطوير التدريجي وفقًا لأولويات محددة، مع قياس تقبّل سرعة التغيير، ونشر ثقافة الجودة تدريجيًا خلال السنوات الخمس التي عملنا فيها، مع تطبيق ربط زيادة الدخل بجودة الأداء، ودعم الخطط التنفيذية للكليات والمنبثقة عن خطط التطوير ليمكن لها التقدم والحصول على شهادة الاعتماد.
ركائز استراتيجية
< لكن كيف استطعتم مواجهة الإقبال الكثيف على التعليم الجامعي مع رفع جودته وتطويره؟
- كان لوزارة التعليم العالي في السبيل إلى ذلك ركائز استراتيجية عدة، تم وضعها بعناية من قبل الاختصاصيين لمجابهة حجم الطلب المتنامي على التعليم العالي والسير قدمًا في اتجاه تطويره ورفع سقف جودته، ومن هذه الركائز:
إتاحة التعليم العالي للراغبين والقادرين علميًا، وإتاحة فرص التعليم في جميع المناطق ولمختلف الطوائف كأحد أسس الأمن القومي والسلام الاجتماعي.
بالإضافة إلى مواءمة نظم التعليم العالي لاحتياجات الاقتصاد القومي وسوق العمل في الداخل والخارج. ومن الركائز المهمة أيضًا الاهتمام بالتعليم الفني والتكنولوجي كمحرك أساس للتقدم التقني للدولة.
التميّز في التعليم
< وماذا عن الهوية الثقافية لمصر والمثل التي جُبل عليها المجتمع؟
- كانت قيم المجتمع المصري والمحافظة على الهوية الثقافية للدولة بحسب نصوص الدستور من أهم ما ارتكزت عليه استراتيجية التعليم العالي لمواجهة غول زيادة الإقبال عليه، بالإضافة إلى رفع الكفاءة والجودة للمستويات العالمية لكونها طريق التميز في التعليم العالي، وتفعيل المسئولية والمشاركة المجتمعية بالنسبة للتعليم بشكل عام.
وكان من أهم الركائز أيضًا التنوّع والتكامل والمرونة في نظم التعليم بما يتواءم مع التغيرات المجتمعية والتطورات العالمية الاقتصادية والتكنولوجية، فضلاً عن مرتكز مهم يتمثل في تحقيق التوازن بين التخصصات التطبيقية والعلوم الإنسانية والاجتماعية بما يتناسب مع احتياجات التنمية القومية.
< وماذا يلزم لنجاح قيادة الخطة الاستراتيجية؟
- أولاً: لابد من توافر الدعم السياسي على كل المستويات، والرؤية الشاملة للقيادة.
ثانيًا: أن يدرك الجميع أن التغيير في حد ذاته ليس هدفًا، لكن إدارة التغيير هي العنصر الرئيس والمعول الأساسي لنجاح التخطيط الاستراتيجي للمنظومة.
ثالثًا: ديناميكية تحديث وتطوير الخطة وتفعيل التواصل المستمر مع كل شركاء المنظومة لضمان نجاح قيادة الخطة الاستراتيجية.
رابعًا: الاستفادة من التجارب السابقة والتغذية المرتجعة من كل الشركاء بهدف تحديث الأولويات وخطة العمل، مع الصبر والالتزام بمعايير التغيير.
خامسًا: التنسيق بين الهيئات والمؤسسات المعنية بالخطة لجمع البيانات والتنفيذ. كذلك من المتطلبات الرئيسة لنجاح قيادة الخطة الاستراتيجية خلق نظم قياس تأثير مشاريع التطوير في أداء المنظومة، ونظم أخرى للمتابعة والمراجعة وقياس الأداء.
القائد الناجح
< وما الأدوار التي يؤديها القائد لكي ينجح في أداء الخطة الاستراتيجية؟
- لابد أن يكون للقائد الناجح رؤية شاملة بعيدة المدى وقابلة للتنفيذ، يوفر الدعم السياسي اللازم، يعتمد على الإرادة وليس السلطة، يعلم أعضاء فريقه قبل قيادته لهم، يبعث فيهم الحماس لا الخوف. كما لابد للقائد أن يتبع سياسة الحوار وليس الأوامر، يشجع المبادرات وأطر التفكير خارج الإطار، يتبع سياسة الباب المفتوح والشفافية مع كل أعضاء الفريق.
القائد الناجح لا يقول «أنا»، بل «نحن» تقديرًا لأعضاء فريقه، ويحفزهم ماليًا ومعنويًا.
ينسب الإنجاز لأصحابه ويقر بمسئوليته في تحمُّل نتيجة الأخطاء، يكون قدوة لفريق عمله.
يعضد المجتهد ويتابع صاحب الأداء الضعيف، يعمل على التطوير المستمر لذاته ولفريق عمله ولا يستخدمهم كأدوات عمل فقط، قادر على التواصل مع كل أعضاء المنظومة، وليس منعزلاً مع القيادات العليا. لابد للقائد الناجح أن يمزج بين المعرفة والخبرة ويشجع ثقافة الابتكار.
< تاريخ الجامعات المصرية شاهد على الحراك السياسي الفاعل عبر مشاركة الطلاب، فهل تنكر عليهم ذلك؟
- لا أنكر على الطلاب حراكهم السياسي المعتدل، فهناك خيط رفيع بين المشاركة الفاعلة والفوضى العارمة، فلا توجد أي جامعة في العالم ينعكس عليها الصراع السياسي بين الأحزاب، لأنها في النهاية دُور علم.
وأتفق مع شباب الجامعات في عمل مبادرات لمحاكاة الأحزاب داخل الجامعات تعبّر عن آرائهم، لكن إذا حادت عن أهدافها السلمية، وأصبح المشهد ضرب حجارة ومولوتوف، فلابد من وقفة لإعادة الانضباط إلى الجامعة، فمن غير المسموح تحولها إلى ساحة للتجاذب السياسي.