طواطم علي شمس الملوّنة وسحر الطبيعة اللبنانية

طواطم علي شمس الملوّنة   وسحر الطبيعة اللبنانية

استوقفتني الأعمال الفنية الأخيرة للمعلم علي شمس، وذلك لما تمثّله من تحوّل نوعي في وجدانية بحثه عن روحانية الطبيعة. هي التي يعوّض في مشاعرها الغبطوية اللونية العزلة والقطيعة عن قحط بيروت: المدينة الموشومة بنخر الحرب الأهلية، وتخمة الاستهلاك والتدافع المقلق. قد يرجع شغفي النقدي بهذه المرحلة لما يشف أداؤها وأسلوبها المتمايز عن تاريخ تحوّلات سيرته الفنية، وخصوصاً أنه يغوص منذ عقود عدة في المكان الفردوسي نفسه في «منطقة الشوف»: ما بين ضيعة طفولته «الوردانية»، وضيعته العائلية «الرميلة».


يخرج فناننا في كوكبة أعماله التشكيلية هذه من مسطّح اللوحة إلى ما يشبه النحت الإنشائي الأيكولوجي مباشرة، بالأحرى يرفع الحدود بين النحت والتصوير بفرش مقاماته اللونية الموسيقية والحدسية في آن واحد على جذوع الأشجار، أو على أجزاء منها منتزعة من طبيعة منطقته. يقشر لحاءها ويبقي على جسدها المعمّر المتغضّن، والذي يحفظ عدد السنين من ذاكرته بعدد حلقاته الجيولوجية، يعالج هذه الكتلة كيميائياً خلال عام كامل للتخلص من البكتيريا أو أي عضويات ناخرة حية تمنع أسباب التسوّس في المستقبل، قبل أن ينقلها إلى محترفه ويبرجها بالألوان الطازجة الحيّة المنتعشة متوسطاً بحرائق وبراكين احتداماته الوجودية الوجديّة.
تذكّرني هذه الطقوس الفنية بأعمال نحّات «اللاندآرت» الأمريكي «هايزر» في انتزاعه الصخور البضّة بآلات علاقة من باطن صحراء «نيفادا» ليختمها بقلادات فولاذية ثم يبقيها في حفرتها الطبيعية موثقاً مصوّراً خلال عام من تواتر الفصول وعواملها بالفيديو.
يجتمع الفنانان حول غريزة العودة الحميمة إلى رحم حضن الطبيعة، وطوباوية الهجرة عن ضجيج تقنيات المدينة المعاصرة المصنّعة والمتصنّعة روحياً. كما يذكّرني بعض الجذوع التي يختارها بأشكال حيوان الفوك البحرية الانسيابية لمخترع النحت الحديث في باريس الروماني «برانكوسي».
ولكنها تحمّلني أكثر من زوايا هذه الجذوع إلى طفولة علي، بمعنى استعادة هيئة المقلاع الشعبي الذي نصطاد به عادة الطيور. وهكذا نرجع من جديد من المفهوم النظري إلى غريزة الحساسية الطبيعية التي يتمسك بها بحواسه الخمس: باللمس والرائحة والصوت والبصر والبصيرة. هي التي تسبح في رطوبة فيافيها مع كل شهيق وزفير، وحيث يلتحم الغيم مع أشباح التلال والجبال والغابات المتلاشية، وحيث تزرع بيوتات الضيعة بقرميدها المتلألئ بتفاؤل اللون الأحمر.
***
إذا عدنا إلى ذاكرة هذا التوحّد مع الطبيعة اللبنانية الغنّاء وجدناه عريقاً خلف هذه الأعمال ما بعد الحداثية. هي التي لا يتجاوز ظهورها العام 2010 (مع معرض غاليري شرفان - بيروت)، لكن أغلب هذه الأعمال بيعت مباشرة بالإنترنت، ما يؤكد سعة شعبيتها.
إذن كانت تراوده نفسه ويراوده شبقه الانطباعي بمعاقرة الموج والبحر المتوسطي، وخاصة عند مروره وسياحته وسباحته الدائمة في شواطئ مرفأ صيدا اللازوردية، فإن ماضي لوحاته لا يخفي هذا الإغراء الفراغي، المتحوّل ضوئياً: ما بين الموج والأفق وحرائق الشمس والرمل. أقول فإن إغراء المناظر المطوّقة لضيعته، يمثل أفضلية عاطفية يعايشها مع كل يوم جديد. مع إشراقة الشمس وغروبها، مع شفقها وبزوغها. هي الكينونة الفردوسية التي يختلي في عزلتها الدائمة بها. ينصت إلى صمتها وحفيف أصوات أوراقها، وزقزقة طيورها، مثله مثل الفنان رسام المناظر المائية «الطاوي» في الصين. يعتبر الفضاء الطبيعي المطوّق بالجبال بمنزلة «رئة قدسية»، من الواجب عدم خنقها بالثرثرة التفصيلية للمرئيات. فناننا ينصت إلى الطبيعة بنفس الفلسفة مستنطقاً ألوانها مثل قصة الأعمى الذي يروي تكشّفاته الشاعر فكتور هوغو، وكيف أن الله يكشف عن بصيرته الزمانية بالإنصات الرهيف في الغابة إلى شتى هذه الأشواق حتى مطالعات علي الصوفية كما هو تعريف «الوجد» في «كتاب طبقات السلمي» وبأن حالها «كمن يسلم نفسه إلى زرقة الأوقيانوس ثم لا يرجو من غرقه نجاةً».
أعماله الراهنة تغرق حتى الثمالة في شبقها الأيكولوجي الملوّن والمقزّح الموشوم بألوان ربيع الجغرافيا في منطقة الشوف في الجنوب اللبناني.
***
حبا الله لبنان - إذن - ليس فقط بالطبيعة الغنّاء الطوباوية الفردوسية، بل وأيضاً ومنذ بداية القرن العشرين أو نهاية القرن التاسع عشر، بفنانين روّاد، يملكون موهبة لونية متوسطية على مستوى جنان الأرز وفتنة البحر الفينيقي، وهو ما يميّز المدرسة اللبنانية بـ«الباليتا» النورانية المتوهجة والساطعة، ذات المقام الصريح في السخونة والبرودة، «باليتا» قريبة من ألوان المراكب التي تجوب البحر الأبيض المتوسط ما بين طرابلس وصور، عبوراً بجبيل وبيروت. وهو ما ينطبق على فناني المناظر الخاصة الذين انتهلوا من هذه المقامات اللونية الطبيعية ليشارفوا في ما بعد حدود التجريد أو التنزيه على الأقل. وذلك ابتداء من عمر أنسي وصليبا الدويهي وانتهاءً بعلي شمس وملاعب، مروراً خاصة من المعلمين أمين الباشا وشفيق عبود، اللذين شكّلا منهلاً استلهامياً لتجربة علي لا ينضب - أوصله إلى ما وصل إليه اليوم - لم يكن أحياناً بمنجى عن التأثير الصريح للاثنين، فهو أقرب إلى المريد المتعصّب لتشظّي اللون لدى الأول، والغنائية الفرانكوفونية لدى الثاني، هي التي يتلاقح في توليفها ميراث بونار الفرنسي مع المتوسطية اللبنانية.
استعار فناننا المدرجات اللونية المغتبطة نفسها لدى الاثنين، سواء بالألوان الزيتية أو الإكريليك أو المائيات التي برع فيها بموهبة نادرة قادت أخيراً إلى مجسّماته الطبيعية الثلاثية الأبعاد، معتمداً مثلهما على تكسّرات وتجزيء مساحة الضوء بطريقة مشكاتية (مثل «الكاليودوسكوب» ذي المرايا اللونية المتقابلة)، وبحيث ترصّع الشظايا الصغيرة (مثل صناعة الصياغة والمجوهرات) ذات الصباغة المشبّعة بالبرودة أو المتخمة بالسخونة (على غرار ألوان المرجان أو الفينيق، الزمرد أو الجاد والعقيق... إلخ)، داخل المساحات الشاسعة المحايدة اللون المشتقة من حميمية بياض الكلس الحليبي الذي تدهن به عادة الجدر الريفية بحيث يجدّد كل عام في الربيع.
يصل فناننا مع المعلمين المذكورين إلى «الاختزال التصوّفي» في التكوين، وهو المرتبط بالقدرة على «تنزيه» اللون من سيميولوجية المعنى والدلالة، فالأزرق مثلاً لا يمثل إحالة إلى البحر أو السماء أو عين الحبيبة، بقدر ما يمثل كينونة مستقلة مقصودة لذاتها، حتى يتحوّل الأزرق إلى الموضوع نفسه، وكذلك الأخضر المتجذّر في الطبية الكونية، فهو أقرب إلى أبدية الفردوس من توثيق زمانية المنظر الطبيعي، وهكذا فلكل حال في رحم الطبيعة (من الساق إلى الجذر فالأوراق) مقام لوني خاص يقتنص ديمومة اللحظة المعيشة في الكون اللانهائي. يشبه هذا اللون أزيز الأزرق الجليدي المطفأ في سعير بركان الناري أو البرتقالي المشتعل.
وهكذا نتحوّل من الطقس المناخي إلى الطقس الوجداني، بحيث يقترب علي شمس من سيرة فان جوخ، بنزقه اللوني المبدع ونزقه السلوكي الاستفزازي المعترض. هو التحوّل لدى الاثنين من اللون الصامت إلى اللون الصائت وما بينهما من برازخ عاطفية، ورفيف بصري رهيف. يكتم صراخه المكتوم في واد أصم. وفي عالم تزداد آثامه كل يوم. وبالنتيجة تنتصر ألوانه المتفائلة وضحكته الرنّانة على أحزانه الداخلية.
لعله من الجدير بالذكر أن مساحيّة اللون وتقابلاته الموسيقية وضبط نواظمها الصباغية بتقنية أوركسترالية وهارمونيّة عالية، لا تخفي متانة علي في التخطيط والرسم بعكس جحافل الهواة حوله، متناغماً مع متانة معلمي الرسم المتوسطيين بدورهم في لبنان، ابتداء من المعلم حسين ماضي وانتهاء بزميله ملاعب، عبوراً بجيل بورجيله ورءوف رفاعي وشحادة وفاديا حداد. نتلمس هذه المتانة تحت العجائن السخية لبول غيراغوسيان وسواهم. هو الجانب الجرافيكي في اللوحة، الذي يمثل كفة الميزان الثانية في توازنات علي مع اللون، يرجع ذلك ببساطة إلى متانة دراسته الموهوبة في عاصمة الثقافة الروسية بطرسبورج، وفي معهدها المتميز بجانب متحفها الأكبر عالمياً، من هذه المدينة انطلق أول تاريخ إبداعي توحيدي بين الموسيقى والتصوير، فألف موسورسكي قطعته الشهيرة «لوحات في معرض» إثر فقده صديقه الرسام. هو بدوره كان مجايلاً لموسورسكي ضمن الخماسي الموسيقي الروسي المؤسس بمن فيهم «بورودين». هو الذي علّم استرافنسكي ورحمانينوف التأليف الأوركسترالي. من هذه المدينة - إذن - انتقل فن رقص الباليه لأول مرة إلى باريس عن طريق دياغيليف بعبقرية الرسام نيجنسكي، وتبعهما بروكوفييف.
***
عايش علي شمس هذه البانوراما الإبداعية في ذروة نهضتها من ريادة الرقص (باليه دياغيليف ونيجنسكي) إلى ريادة الموسيقى (استرافنسكي ورحمانينوف) إلى ريادة التصوير (ربين) ثم الرواية (ديستوفسكي) وأخيراً السينما (إزنجشتاين)، ثم أكمل تدريبه الإبداعي وخبرته الثقافية في سنوات باريس، مرافقاً لزوجته الفنانة المعروفة فاطمة الحاج خلال بعثتها الدراسية، انخرط الاثنان في سلك تعليم التصوير في «معهد الفنون» (الفرع الأول) عند عودتهما إلى بيروت، وذلك إلى جانب أمين الباشا، أما شفيق عبود، فقد كان مستقراً في باريس حتى وفاته بالرغم من تعددية عروضه لدى «غاليري ربيز» في بيروت. يُذكر أنه تعاقد مع غاليري لبنانية في باريس هي «غاليري لوماند» أقامت فيها أخيراً فاطمة الحاج معرضها الشخصي المنقول من لبنان. ويذكر أيضاً أن زوجها علي شمس كان مكلفاً بتدريس العديد من المواد، وبرز خاصة في التشريح والمناظر والبورتريه، متفرغاً منذ عامين في محترفه، لأن عقده التدريسي استُنفد وبقيت زوجته لأنها موظفة رسمية.
كان علي مريداً لشفيق عبود، ليس فقط على مستوى سلالمه اللونية الغنائية، وإنما أيضاً على مستوى إنسانيته وخلقه المتسامح النبيل، وهو ما وثق علاقة الصداقة بينهما أثناء حياته وخلّف لدى علي حسرة عميقة بسبب وفاته، كان يتمنى أن يطلع على أعماله الإنشائية الملوّنة الجديدة، وينطبق على الاثنين ما قاله القدامى من العرب: «خير خلف لخير سلف» ■

 

إنشاءات من جذوع الأشجار الملوّنة من أعمال السنتين الأخيرتين، الاستقلال عن المدرسة اللبنانية.

 

منظر من الشوف... ألوان مائية على ورق كانسون عام 2009، ملامسة منهج أمين الباشا في تشظي اللون، العام 2009.