مولِّدات المعرفة في الفكر العلمي

مولِّدات المعرفة  في الفكر العلمي

كانت العلاقة بين العلم والتقنية عبر تاريخها الطويل علاقة تبادلية، أخْذاً وعطاءً، عن طريق «التغذية المرتدة» Feedback على فترات متباعدة في بادئ الأمر، ثم متقاربة تدريجياً بعد ذلك.

 

الناظر لطبيعة هذه العلاقة في عصرنا يجد أنها أصبحت أكثر التصاقاً من ذي قبل، حتى ليقال إن علوم اليوم هي الأساس لتقنيات الغد، ذلك أن التقنية – بحكم مقطعيها في المقابل الأجنبي Technology - أصبحت تستخدم بمعنى «علم التطبيقات العملية»، أي دراستها المنظمة وفق أسس وقواعد ومناهج علمية، بالإضافة إلى استخدامها للتعبير عن عملية الإنتاج الفنية، وهذا يعني أن التقنية المعاصرة أصبحت قائمة على العلم Science-Based Technology وهو تصحيح للمفهوم الشائع عن التقنية التقليدية المتضمَّنة في «المهارات الحرفية».
لكنّ الفهم الدقيق لطبيعة العلاقـة التبادلية بين العلم والتقنـية ينبغي أن يقودنا بالضرورة إلى التركيز على الجانب الآخر لهذه العلاقة، والمتمثل في ما يطلق عليه اليوم «مولِّدات المعرفة ومحركاتها» Epistemology Generators and Engines، وهي الأفكار والتقنيات القديمة التي غذّت الفكر العلمي قروناً عديدة، وأثمرت ما يمكن أن نسميه بالعلم المبني على التقنية.Technology-Based Science إنها في حقيقة الأمر، فلسفة معرفية جديدة ذات تاريخ تقدُّمي لتقنية قديمة، يبدأ من ملاحظة لظاهرة طبيعية ما، ثم يرتقي تدريجياً إلى أنموذج «الآلة المعرفية الكاملة» على المستويين العلمي والتقني.
وإن شئنا مثالاً من تاريخ العلم والتقنية يوضح هذا المنظور الفلسفي، فإننا نستشهد بفكرة «المحرك البخاري» Steam Engine التي نشأت دون استخدام مباشر لنظرية علمية معينة، ولكنها تطورت وأثمرت علم الديناميكا الحرارية Thermodynamics، أحد الفروع المهمة لعلم الفيزياء. وأبسط مثال عرفه الإنسان منذ القدم لقوة بخار الماء نجده في أكثر أنواع المراجل بدائيةً، وهي غلاّية الماء المنزلية، أو غلاّية الشاي، التي يتم فيها تحويل الماء، أو جزء منه، بالتسخين إلى بخار يستخدم لتوليد قوة ميكانيكية. وكانت هذه الملاحظة القديمة بداية لسلسلة من الاختراعات الأولية التي بدأها «هيرون الإسكندري» في القرن الأول للميلاد بتطويع قوة البخار في كرته الضاغطة، وفي عام 1551م، أورد تقي الدين محمد بن معروف الدمشقي (1520-1585م) في كتابه «الطرق السنية في الآلات الروحانية» أول وصف لتدوير سيخ شواء اللحم بواسطة عنفة بخارية، وطورها بعد ذلك المهندس الإنجليزي توماس نيوكومن Thomas Newcomen (1963-1729م) باختراع أول محرك بخاري حقيقي تجاري في عام 1712م، ثم جاء المخترع الأسكتلندي جيمس وات James Watt (1736-1819م) وأدخل تحسينات أساسية على الآلة البخارية التي سجَّل اختراعها عام 1781م، وسجل معه التاريخ قفزة علمية وتقنية هائلة في عصر الثورة الصناعية قرب نهاية القرن الثامن عشر الميلادي. فالآلة في هذا المثال هي التي ولّدت العلم، ولهذا يقال إن العلم يدين للمحرك البخاري بأكثر مما يدين المحرك البخاري للعلم.
والأمر نفسه، إن شئنا مثالاً آخر، ينطبق على «الغرفة المظلمة» التي ترجمت إلى اللاتينية بمصطلح Camera Obscura، وعرفت في وقت لاحق باسم «الخزانة ذات الثقب» Pinhole Camera. فقد كان الحسن بن الهيثم (965-1042م)، شأنه شأن غيره من الفلاسفة والعلماء الذين يتمتعون بدقة الملاحظة، أول من نبه إلى حقيقة انتشار الضوء في خطوط مستقيمة، وبرهن عليه بتجربة يدرسها الطلاب في عصرنا، حيث يقول في كتابه ذائع الصيت «المناظر»:
«إذا كان في بيتٍ عدّة سُرُج في أمكنة متفرقة، وجميعها مقابلة لثقب واحد، نافدٍ إلى مكان مظلم، يقابله جدار، فإن أضواء تلك السرج تظهر على الجدار متفرقة بعدد السرج، كل منها مقابل لواحد من السرج على سمت خط مستقيم مار بالثقب، وإذا ستر واحد من السرج بطل الضوء الذي كان مقابلاً له فقط، وإذا رفع الساتر عاد الضوء مكانه، وهذا المعنى يمكن اعتباره (أي البرهنة العلمية على صحته) بسهولة».
وقد حاول ابن الهيثم محاكاة عملية الإبصار باستخدام الغرفة المظلمة ذات الثقب (الذي يناظر إنسان العين)، واستقبال الصورة على حائل (يناظر شبكية العين)، وأوضح أن «الضابط» لوضوح الصورة على الحائل (أو الجدار) هو اتساع الثقب الذي يجب أن يكون وسطاً بين الضيق الشديد والسعة الزائدة. وفي تفسيره لعملية الإبصار، ومقارنتها بتجربة الغرفة المظلمة، ذكر أن كل نقطة في الجسم المرئي تتمثل بنقطة مماثلة على الصورة في داخل العين، وتظل تلك العلاقة سارية حتى ينتقل الحس البصري إلى منطقة الإدراك النهائي في الدماغ.
وفي عام 1589م – أي بعد ابن الهيثم بأكثر من خمسة قرون – نشر الفيلسوف الإيطالي ديلا بورتا Della Porta من مدينة نابولي كتاباً أسماه «السحر الطبيعي» Magia Naturalis، كان كشكولاً حاوياً موضوعات عديدة في فروع مختلفة من العلوم، وذكر فيه إمكان الحصول على صورة مقلوبة للمرئيات بواسطة ثقب صغير في حائل، فعدَّه بعض المؤرخين لأجل ذلك – دون سند تاريخي – مخترع «الخزانة المظلمة ذات الثقب». كذلك كان ليوناردو دافنشي قد وصف في مذكراته ما أسماه «الصندوق المعتم». لكن الراهب الألماني جوهان تزان هو الذي أدخل بعد ذلك أول تعديل على الغرفة المظلمة ذات الثقب، حيث ركَّب على فتحتها عدسة لامة ساعدت على استقامة الصورة ووضوح معالمها على الحائل.
وهكذا كانت تجربة الغرفة المظلمة للحسن بن الهيثم – على المستوى التقني – في القرن العاشر الميلادي أول الغيث المنهمر في تقنية التصوير الضوئي التي أدت إلى اختراع آلات تصوير متقدمة، لعل أحدثها، بعد اكتشاف الليزر، «كاميرا الفيمتو» التي اكتشفها د.أحمد زويل وحاز عليها جائزة نوبل عام 1999م.
كذلك يمكن زيادة فلسفة «مولدات المعرفة» وضوحاً بمسار معرفي آخر بدأ باختراع الغرفة المظلمة أو الخزانة ذات الثقب التي كانت نقطة الانطلاق إلى تأسيس علم البصريات والأجهزة البصرية، ثم أصبحت بعد ذلك وسيلة مثالية لأجيال من الفيزيائيين بعد الحسن بن الهيثم، على سبيل المثال، استخدمها العالم الإنجليزي إسحق نيوتن ( 1642-1727م) لإجراء تجربته الشهيرة عندما حلل الضوء الأبيض المار خلال منشور زجاجي إلى ألوان الطيف الأساسية (الأحمر، البرتقالي، الأصفر، الأخضر، الأزرق، النيلي، البنفسجي). فقد سمح نيوتن لشعاع من ضوء الشمس أن ينفذ من ثقب ضيق في أعلى جدار الغرفة ويمر في منشور زجاجي ثلاثي مقلوب، واستقبله من الجانب الآخر على الجدار المقابل، فوجد أنه قد تحلل واتخذ شكل حزمة من الألوان المتتابعة شبيهة بألوان قوس قزح.
ومن الطريف أن نذكر أن اللون الأحمر ظهر أسفل الطيف والبنفسجي أعلاه. ولما اكتشف نيوتن أن الطيف الشمسي لا ينتهي عند هاتين الحافتين، بل يتعداهما، أطلق على الأشعة التي تلي الأحمر (أو تقع أسفله) اسم «الأشعة تحت الحمراء»، وسمّي الأشعة التي تلي البنفسجي (أو تقع أعلاه) «بالأشعة فوق البنفسجية» ومع تقدم البحوث واستخدام أجهزة أدق، كان الطيف يتكون فيها أفقياً لا رأسياً، وكاد اللفظان «تحت الحمراء» و«فوق البنفسجية» يفقدان صفتيهما، غير أنه رؤي الاحتفاظ بتسمية نيوتن مع الإبقاء على اللفظين بدلالة التردد، حيث إن الضوء الأحمر هو أطول موجات الطيف المرئي وأقلها تردداً، بينما الضوء البنفسجي هو أقصرها وأكبرها تردداً، ومن ثم يكون تردد الأشعة تحت الحمراء هو الأدنى ترتيباً وتردد الأشعة فوق البنفسجية هو الأعلى.
ويكتب نيوتن إلى منافسه روبرت هوك خطاباً يشير فيه إلى اكتشافاته في البصريات، بقوله: «إذا كنت قد رأيت ما هو أبعد، فإن هذا لأني وقفت على أكتاف من سبقوني من العباقرة».
من ناحية أخرى، كانت «الغرفة المظلمة» أو «الخزانة ذات الثقب» المحرك الأول لمسيرة معرفية أخرى، حينما استخدمها ليون باتستا ألبرتي، حوالي عام 1430م، لتطوير «الرسم المنظوري» Perspective Drawing، أي رسم أشياء تطابق الأصل في الواقع الطبيعي، لكن في بعدين فقط بدلاً من ثلاثة أبعاد. وفي عام 1450م وصفها ليوناردو دافنشي مرة ثانية وجعل منها أنموذجاً للعين، ولكنه اعتقد أن الأجسام تظهر بأشكالها وألوانها الطبيعية، صغيرة ومقلوبة رأساً على عقب، داخل إنسان العين.
 إلا أن «الكاميرا» لم تصبح آلة كاملة للمعرفة إلا عندما جعلها كذلك كل من رينيه ديكارت (1596 -1650م) وجون لوك John Locke (1632-1704م) في القرن السابع عشر الميلادى، بعد أن استمدا من الغرفة المظلمة أنموذجاً معرفياً لتفسير إنتاج المعرفة وتوليدها، يربط بين الكاميرا والعين والعقل. وهنا نشأت فلسفة علمية جديدة تبحث في مشكلة الحاجة إلى المشاهد المثالي الذي يرى ما يجري داخل الكاميرا وخارجها في الوقت نفسه، ويكون قادراً على فهم حقيقة التناظر بين الموضوع الخارجي وتمثيله المعرفي داخل العين 
(أو الكاميرا).
وأخيراً، بعد هذا الطرح الموجز لقضية معرفية (أبستمولوجية) دقيقة في مجال الفكر العلمي، لابد من التأكيد على أننا - معشر العرب والمسلمين - أصبحنا في أمسِّ الحاجة إلى مثل هذه المعالجة التحليلية لثنائية العلم/ التقنية، والإلمام الواعي بالخصائص المميزة لكل من عنصريها، باعتبارهما وجهين لعملة واحدة، مرتبطين بمشكلات المجتمع - أي مجتمع - وقضاياه المصيرية، من حيث إنهما يؤديان دوراً أساسياً لا غنى عنه في تنمية المجتمعات المختلفة على جميع المستويات. هذا بالإضافة إلى أننا نهيب بصفوة العلماء والباحثين والمفكرين في عالمنا العربي والإسلامي أن يسهموا في بلورة «نظرية عامة متكاملة» في العلم والتقنية، تؤتي ثمارها عند التطبيق المتوازن في دفع حركة التقدم العلمي والتقني، ويظهر مردودها، عند وضع أي استراتيجية للإصلاح والتحديث والتطوير على أساس تنمية القدرات العلمية والتقنية، بتحقيق أعلى قدر ممكن من التنمية الشاملة، وخصوصاً في البلاد النامية التي تلهث دائماً وراء علم لا تنتجه، وتجد صعوبة بالغة في استيعاب تقنيات معقدة ومتجددة لا تستطيع ملاحقة أجيالها المتسارعة ■