حصاد الماء من الضباب مصدر واعد لري عطش العالم

حصاد الماء من الضباب  مصدر واعد لري عطش العالم

بالرغم من توافر المياه على سطح الأرض بكثرة، وانتشارها في معظم أنحاء العالم، فإن الصالح منها للاستهلاك البشري يبلغ نحو 3 في المائة فقط، ما دفع العلماء للبحث عن موارد إضافية لري عطش العالم للمياه، سواء عبر تحلية مياه البحار أو المحيطات أو إعادة استخدام المياه العادمة بعد معالجتها، أو حصاد الضباب أو الهواء.
وخلال تاريخ الإنسان على الأرض، استطاعت البشرية أن تعيش على نحو 1 في المائة من كمية المياه المتوافرة على الأرض، وهذه الكمية من المياه تم توفيرها من مصادر تقليدية، كمياه الأنهار والجداول والآبار والينابيع، إلا أن حاجة الإنسان الماسة والمتزايدة إلى المياه، أدت إلى التفكير في استغلال مصادر غير تقليدية للحصول عليها.  

تظهر السجلات التاريخية أنه قبل نحو 2000 عام كان سكان بعض مناطق أوربا وأمريكا الجنوبية والشرق الأوسط يكثفون بخار الماء الجوي للحصول على المياه النظيفة والصالحة للاستهلاك البشري  للتعويض عن نقص المياه في بعض المواسم أو الحالات، وأطلقوا عليها اسم الآبار الهوائية.
وحصاد الضباب Fog Harvesting الذي يعد من المصادر غير التقليدية للمياه العذبة، يعتمد على تكثيف بخار الماء الموجود في الهواء أو المتجمع على شكل ضباب وعلى ارتفاعات متفاوتة عن سطح الأرض، بحيث يتم تجميع هذا البخار على شكل قطرات ماء صغيرة عند ملامستها لشبكات بسيطة مصنوعة من بعض الألياف. وهذه الطريقة تكون فعالة في المناطق الساحلية والجبلية، وقد شاع استخدامها في بعض الدول كالبيرو وتشيلي اللتين يسود فيهما ضباب كثيف في بعض فترات العام ويعرف بظاهرة Camanchaca.
ويعود الفضل إلى قبائل الأنكا في تطوير هذه التقنية لتوفير المياه النظيفة والصالحة للشرب.
يذكر أن الضباب ظاهرة طبيعية تنشأ عن تجمع قطرات مائية في الهواء نتيجة تكاثف بخار الماء بالقرب من سطح الأرض، وله عدة أنواع، كضباب اليابسة الذي يتكون بسبب فقدان سطح الأرض لحرارتها ووجود رطوبة في الهواء، وضباب الوديان الذي يتشكل بسبب هبوب رياح باردة من الجبال العالية نحوها، وضباب البحار الذي يتكون نتيجة هبوب تيارات بحرية دافئة نحو مناطق باردة، وهذا النوع من الضباب يمكن أن ينتقل لمسافات بعيدة، علما بأن الضباب في فصل الصيف يختلف عن الضباب في فصل الشتاء، حيث يتميز الصيفي بارتفاع نسبة الرطوبة فيه، في حين يكون الشتوي قليل المياه من جراء انخفاض نسبة الرطوبة فيه.

تقنية بسيطة
يعتمد حصاد الضباب على نصب شباك ناعمة مستطيلة الشكل في الغالب، مصنوعة من بعض الألياف النباتية أو النايلون أو مادة البولي بروبلين المربوطة بدعامات معدنية أو خشبية موضوعة في مواجهة الرياح المحملة ببخار الماء، ويمكن أن تكون هذه الشباك على هيئة وحدات منفصلة أو مجموعة مترابطة بعضها مع بعض، وبمساحات مختلفة. ولدى اصطدام الهواء المحمل ببخار الماء، تتكاثف المياه على سطح الشبكة وتتجمع على هيئة قطرات، وعندما يكبر حجمها تسقط إلى الأسفل بفعل الجاذبية الأرضية في حوض مفتوح متصل بأنابيب لنقل المياه المتجمعة إلى خزانات خاصة لحفظه. وفي العادة تتم معالجة المياه للتخلص من الشوائب التي قد تعلق فيها، كالغبار وأوراق النباتات والحشرات الصغيرة، كما يتم تعقيمها في خزانات خاصة لكي تكون صالحة للشرب وللاستخدامات المنزلية.
وتتفاوت كفاءة عملية حصاد الضباب من يوم لآخر، نظرا لتذبذب كثافة الضباب وسرعة الرياح ودرجة الحرارة، وكذلك الضغط الجوي ونوعية الشباك المستخدمة في عملية الحصاد، وقد أجريت تحسينات على تلك الشباك خلال السنوات الماضية، حيث طور الباحثون بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في الولايات المتحدة الأمريكية أليافًا نفاذة قابلة للاختراق تم اختبارها في تشيلي، وأثبتت قدرتها بمعدل خمسة أضعاف ما تجمعه شباك الضباب التقليدية، وكذلك استخدمت بصحراء ناميب في ناميبيا شبكات ثلاثية الأبعاد طورها الباحثون في معهد تكنولوجيا النسيج وهندسة العمليات في ألمانيا، وبلغت كفاءتها نحو ثلاثة أضعاف الشبكات التقليدية.
وحصاد الضباب من التقنيات السهلة لجمع المياه في حال توافر الظروف المناسبة، فتشغيلها لا يتطلب أعدادًا كبيرة من العمال والفنيين، إذ تجب مراقبة عمل الشبكات وجودة المياه الناتجة، كالتأكد من شد الحبال المثبتة للشباك وعدم تمزقها بسبب تعرضها للتيارات الهوائية، واستبدال التالف منها، وإزالة الغبار المتراكم عليها وكذلك الطحالب وتنظيفها باستمرار، كما يلزم تنظيف مصافي المياه الخاصة بحجز الحشرات وأوراق النباتات والطمي، وإجراء معالجة للمياه لتنقيتها وتعقيمها بالكلور أو الأوزون للقضاء على الكائنات الدقيقة والفطريات التي يمكن أن تنمو في صهاريج تخزين المياه. 

تصاميم مبتكرة
خلال السنوات القليلة الماضية، تبنى عدد من مراكز الأبحاث هذه التقنية التي تهدف إلى توفير المياه النظيفة لعدد من المناطق التي تعاني شح المياه، ومن تلك المراكز، معهد MIT الأمريكي، حيث تعاون مع إحدى المؤسسات لتصميم تقنيات مستقبلية لتكثيف المياه الموجودة في الهواء بالاستعانة بالطاقة الشمسية والرياح وغيرهما من مصادر الطاقة.
وقد نجحت تلك المؤسسة في ابتكار طلاء سطحي نانوي ذي نمطين، أحدهما محب للماء وآخر كاره له، حيث يعمل السطحان على تكثيف رطوبة الجو وتكوُّن المياه التي يتم جمعها في قناني للشرب أو لري المزروعات عن طريق التنقيط أو لتوفير حاجة سكان المناطق النائية وركاب القوارب والسفن بالمياه اللازمة للشرب وللاستخدامات اليومية الضرورية.
وقد سعى عدد من الشركات لتطوير تقنيات حديثة للحصول على المياه من الضباب ورطوبة الجو، منها شركة كندية طورت طريقة لجمع مياه الضباب لتزويد المناطق الصحراوية والريفية في الدول النامية بما تحتاج إليه من المياه النظيفة، ويمكن تطبيق هذه الطريقة في المناطق الجافة، شريطة وجود الضباب فيها، وكذلك نظام «أوال ووتر Awal water» الذي طورته إحدى الشركات في عام 1997، وأنتج 1000 لتر من المياه يوميًا من الهواء الجوي، وقد تم لاحقًا إجراء اختبارات على هذا النظام في مدينة أبوظبي التي تتميز بمناخها الحار في فصل الصيف.
ومن الأنظمة التي تم تطويرها أيضًا للحصول على المياه النظيفة من الهواء، نظام A2WH الذي يستخدم الطاقة الشمسية لدفع الهواء الحامل للرطوبة في مجفف لامتصاص الماء من الهواء، ونظام AirDrop الذي يعمل على توفير المياه من الهواء لري المزروعات بواسطة أنابيب خاصة وبطريقة التنقيط.

دول تحصد مياه الأجواء
تعاني عاصمة البيرو (ليما) التي تقع على أطراف صحراء «أتاكاما» مشكلة شح المياه النظيفة للشرب، فهذه المدينة تقع في واحدة من أكثر مناطق العالم جفافًا، وبالرغم من تزويد سكان ليما بالمياه عن طريق الصهاريج والأنابيب، فإنها تعاني عجزاً واضحًا في إمدادات المياه النظيفة.
ونظرًا لوقوع هذه العاصمة على شاطئ المحيط الهادي، وارتفاع نسبة الرطوبة فيها وخصوصًا في فصل الصيف، فقد صمم الباحثون في عام 2012 في جامعة بيرو للهندسة والتقنيات نظامًا خاصًا لجمع المياه من الهواء، من خلال تكثيف الرطوبة وتحويلها إلى مياه نظيفة صالحة للشرب، وذلك بواسطة لوحة خاصة تتكون من خمسة مكثفات وتعمل على التيار الكهربائي. ولدى تبريد تلك المكثفات، تتجمع قطرات المياه عليها وتتحول إلى الحالة السائلة، ويتم تجميع المياه أسفل تلك اللوحة التي تستطيع إنتاج 96 لترًا من الماء يوميًا، وهذه المياه تتم تنقيتها وتعقيمها ونقلها إلى شبكة التوزيع، أما كلفة هذه اللوحة فتبلغ نحو 1200 دولار أمريكي.
كذلك تم استخدام تقنية حصاد الضباب لتأمين المياه النظيفة لسكان قرية «توهيكا» الجبلية في غواتيمالا الواقعة على ارتفاع 3300 متر فوق سطح البحر، والتي تعاني شح المياه، حيث يتميز شتاء هذه المنطقة بأنه عاصف وضبابي، ومنذ عام 2006 تم تدشين مشروع «فوج كويست Fog Quest» غير الربحي في المنطقة، إذ تم تركيب 35 منصة لجمع الضباب استطاعت توفير 6300 لتر من المياه الصالحة للشرب يوميًا.

أبوظبي وسلطنة عمان
في عام 2011 اختبرت شركة فرنسية نظامًا خاصًا للحصول على المياه من الهواء الجوي في إمارة أبوظبي، حيث ركبت توربينًا هوائيًا استطاع إنتاج أكثر من 1400 لتر من المياه النظيفة يوميًا.
ويعتمد هذا النظام على توربين هوائي طوله 24 مترًا أطلق عليه WNS 1000 وطول مروحته 13 مترًا وتدور بسرعة تبلغ 100 دورة في الدقيقة، حيث تشغل مولدًا كهربائيًا بقدرة 30 كيلوواط يعمل على إدارة مكبس في داخل التوربين لضغط الهواء وتكثيف الرطوبة فيه، وتتجمع المياه الناتجة في خزان في أسفل التوربين.
وقد بينت الاختبارات التي أجريت على هذا النظام في أبوظبي، أنه عندما يكون معدل درجة الحرارة 35 درجة مئوية وسرعة الرياح 24 كيلومترًا في الساعة، والرطوبة النسبية تبلغ 30 في المائة، فإنه ينتج 350 لترًا من المياه يوميًا، وبالقرب من شواطئ البحر وعند ارتفاع الرطوبة، ينتج 1200 لتر من الماء يوميًا.
وقد أطلقت الشركة في عام 2012 نظامًا توربينيًا يدعى WNS 1000 للحصول على الماء من الهواء بشكل تجاري، وقد استهدفت الشركة الأماكن النائية والتجمعات السكنية التي يقل عدد سكانها عن 5000 نسمة، إلا أن الكلفة العالية لهذا النظام التي تبلغ نحو 660 ألف دولار تشكل حاليًا عائقًا كبيرًا أمام التوسع في استخدامه في الدول الفقيرة التي تعاني شح المياه.
من جهة أخرى، فقد اهتمت وزارة البيئة والشؤون المناخية في سلطنة عمان بمشاريع حصاد مياه الضباب في محافظة ظفار جنوبي البلاد، إذ أقامت ثلاث محطات لحصاد الضباب، في «جوجب» و«ريخيوت» و«طوي عتير». وهذه المناطق تشهد خلال الفترة من يونيو إلى سبتمبر رياحًا موسمية مصحوبة بالضباب الكثيف، 
وتتم عملية الحصاد بواسطة شباك من النايلون تكثف مياه الضباب، ثم يجمع الماء في خزانات للاستفادة منه خلال فصل الخريف لري الأشجار والمزروعات، وذلك ضمن مشاريع السلطنة المتعلقة باستدامة الغطاء النباتي والتوازن البيئي ومكافحة التصحر.

مياه نظيفة في الأجواء
يقول الخبراء إنه في أي وقت من الأوقات، فإن الهواء الجوي يحتوي على نحو 37500 تريليون جالون من المياه، وهذه الكميات الضخمة تتوزع حول العالم في نظام دقيق. وحاليًا تستغل 35 دولة في العالم تقنية حصاد الضباب لتوفير بعض حاجاتها من المياه النظيفة، وهذه الدول موجودة على امتداد ساحل المحيط الهادي في أمريكا الجنوبية والوسطى، وكذلك بعض المناطق في جبال أطلس بالمغرب العربي وفي سلطنة عمان وعلى الهضاب العليا في إريتريا ونيبال.
من جهة أخرى، فإن نحو مليار شخص - وفق تقديرات منظمة الصحة العالمية - بحاجة ماسة إلى المياه النظيفة والآمنة التي تخلو من الملوثات ومسببات الأمراض وخصوصا الكوليرا، وبسبب التغيرات المناخية التي تشهدها الأرض حاليا فإن خُمس سكان العالم سيعانون مستقبلاً عجزًا حادًا في توفير المياه العذبة، ومن هنا تبرز أهمية استغلال المصادر غير التقليدية للمياه لسد بعض العجز في إمدادات المياه النظيفة لسكان العالم، وخصوصًا في الدول النامية والفقيرة.
 إن تطوير تقنيات حديثة لاستخلاص المياه من رطوبة الهواء والضباب يتطلب تعاونًا وثيقًا بين مراكز الأبحاث والجامعات والشركات المهتمة بهذه التقنية، لضمان أفضل وأنجع وأرخص السُّبل لتوفير المياه الصالحة للاستهلاك البشري للتجمعات السكانية التي تواجه شبح شح المياه النقية الذي يهدد استقرارها ووجودها على كوكبنا الأزرق ■