الحَبْل

الحَبْل

مرعب وخانق ومخادع ورقيق وناعم وهادئ، قادر على اللف والشنق والجر والسحب والإنقاذ، يبدو هادئاً وديعاً وهو مركون وملموماً، وقوياً ومتيناً وهو مشدود، وقاسِياً وهو ملفوف على الرقاب، ومخادعاً وهو منصوب فخاً، ويصبح مشكلة وهو معقد ومختلف.


يحب الاعتصام والائتلاف ويكره الفرقة والاختلاف، مرن يصلح للربط واللّف والدفع والقيادة، ودائماً يتحرك بنعومة وسرية ومرونة، ساحباً خلفه الإنسان: كمقطورة للهموم والمشكلات والفقر والبؤس، ومع ذلك يحاول أن يربط الأفكار ويصل الأرحام.
اختلط «الحابل بالنابل» في شؤون حياتنا، واضطربت الأمور وأصبحت معقدة أكثر من اللازم، وتشابكت كل حبال الأشياء من حولنا، وأصبحت متشابكة ومعقدة، وإذا حاولنا سحب الحبل من أول طرفه كي نفكه فهذا إنجاز في حد ذاته، إلا أننا – نادراً – ما نفلح في العثور على أوله أو الوصول إلى آخره.
وهذه هي حالنا، مربوطين جميعاً بأحبال دائبة ومرخية وشديدة الــخشونـــــة ومـــشدودة، بعضها يشنقنا ونكون نحن السبب، والآخر يسحبنا إلى الكثير من المتاهات التي أوقعنا فيها أنفسنا، مرة باسم المدنية ومرة بسبب الأموال أو بسبب ضغوط الحياة. 
ولا يوجد شخص في العالم لا يسحبه حبل أو مربوط في عنقه حبل، فهو قادر على التغير والتبدل، فالحبل اسم وجمعه حِبالٌ وأَحْبالٌ، وهو ما فُتِلَ من لِيفٍ ونحوه لِيُرْبَطَ أو يُقاد به، وهو يظل حبلاً إلى أن يقوم بفعل ما، سواء سحب أو جر أو ربط أو لف، أي أنه تختلف مسمياته بما يسحبه خلفه، فيقال: حَبَلَ المتاعَ أي شَدَّهُ بِالحَبْلِ، وحبَل فلاناً أي قيَّده، وحبَل الصَّيْدَ أي نصَب له الشَّرَك وصاده به، وحبلتِ المرأةُ الرَّجلَ أي أوقعته في شراك حبِّها، ودار حابلُه على نابلهِ: تداخل أوّله بآخره، وفلانٌ يَحْطِبُ في حبلِ فُلانٍ: يُعِينُه وينصُرُه، وَوصَل فلانٌ حبل فُلان: زوَّجه ابنَتَه، وأرخى الحبلَ: تبسَّط، واضطرب حبلُه: لم يعد يسيطر على نفسه، وانقطع حبلُ الحديث: اعترضه عارض، وترَكَ الحَبْلَ على الغارب: أي ترك الأمرَ يأخذ مجراه دون تدخل منه، وتعلَّق بحبال الهواء: رجا أمراً صعباً أو مستحيلاً، وحبل الكذب قصير, أي لا يدوم وسرعان ما ينكشف، حبله  طويل أي متباطئ ومتوانٍ، وقطَع عليه حبلَ أفكار: منعه من متابعة تفكيره، وحال دون تسلسل أفكاره، ومَدَّ له الحبلَ: صبر عليه، ووصل حبلَ وُدِّها: وصل ما يربطه بها، ويلعب على الحبلَيْن: انتهازيّ، يحاول الإفادةَ من كلِّ جهة، وقطع حبلَ المودّة: بداية الاختلاف والشجار، وحبلُ الوريد وهو عِرْقٌ في العُنق، ويُضرَب به المثل في القرب وفي التنزيل العزيز: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد}ِ (سورة ق / 61).
لكن حبل غسيل أمي يظل مشدوداً في ذاكرتي وهي ترتب الغسيل بما يتناسب مع أفكارها: الملابس البيضاء الخاصة برجال البيت، ثم الملابس الملونة الطويلة وفي النهاية الملابس الداخلية لحريم البيت، كنت أشاهد أمي وهي تعمل ذلك بيسر وسهولة، حتى حبل أفكارها وهي جالسة بعد عناء اليوم لم يكن تقطعه إلا مطالبي أنا وإخوتي، وكانت تعرف أول الحبل وآخره، فهو لم يتغير إلا من ترتيب أولويات بيتها، لكن حبل أفكار أبي كان يختلف بالتأكيد، فكان يقول: إن سحب أفكار روايته يأتي له بيسر وسلاسة، بينما حبل أفكاري أنا بطيء، وخاصة عندما كنت أذاكر دروسي، في حين أن جدتي كانت الوحيدة القادرة على فك كل الحبال المعقدة والمشتبكة في صبر وخبرة ومودة وعشرة، ولهذا السبب كانت قادرة على لَضْم وحلّ كل المشكلات العائلية.
وكانت حبال صوت أمي تقطع وهي تصرخ عليَّ لأذاكر دروسي، وذات مرة حاولت سحب حمار حارون بقوة فقام برفسي في بطني، ولا أنسى حبلاً أمسكته ذات يوم فاتضح أنه ثعبان، وحبلاً ربطت به كلباً في شجرة على الترعة وعندما عدت إليه في الصباح وجدته جثة هامدة بسبب الاختناق.
والحبل دائماً يترك حزاً أو حززاً «أثره على الجلد» لو ربطته على وسطك أو تركته على الأرض، وهذا الحز دائماً يكون مؤلماً، نشاهده بقوة في حبل الفقر الخشن الذي يخنق أعناق وبطون البشر، وخاصة شعوب العالم الثالث، بينما اللعب على الحبل تجيده دولة مثل إسرائيل تليها أمريكا، بينما لعبة «شد الحبل»، تلك اللعبة التي كنا نستمتع بها ونستعرض قوتنا، نجدها واضحة في حقب التاريخ المختلفة، أقربها في القرن التاسع عشر بين فرنسا وإنجلترا، ثم بين أمريكا وروسيا، وهو ما يدعوهم إلى أن يتركوا – أحياناً – الحبل على الغارب لبعض الأنظمة المناوئة لهم حتى يشنقوا أنفسهم. 
وأكثر من يستخدم الحبال في حياتهم اليومية: الصيادون ومتسلقو الجبال ومستكشفو المناطق الجديدة، والرياضيون وأعضاء الكشافة وعمال المسارح، وعشماوي: ذلك الرجل الذي يشنق المجرمين، ويقال إنه لا يلف حول عنق المتهم حبل النهاية إلا مرة واحدة، وإذا اضطر إلى استخدامه مرة أخرى فهو يتشاءم.
وأمهر من يتقافز على الحبل: لاعبو السيرك، ثم السياسيون بوعودهم الكاذبة، والاقتصاديون بنظرياتهم التي لا تشبع احتياجات الفقراء. 
وبالرغم من صعوبة الحصول على حل خاصة في مشكلاتنا الاقتصادية أو الاجتماعية المزمنة، فإن المشي على الحبل أو الرقص على الحبال الذي يتميز به السياسيون ثم النصابون، ليس من السهل الحصول عليه، مثله مثل ألعاب الحاوي حين يقوم بتقييد أحد المتفرجين بالحبال بقوة، ثم يحرره منها بكل خفة، وهو ما يعرف في علم السياسة «بسياسة شد الحبل».
والحبل يختلف من ثقافة إلى أخرى، فلدينا في الشرق يقولون: «اللي تقرصه الحيّة يخاف من الحبل»، و«اللي يربط في رقبته حبل، ألف من يسحبه»، «وكل عقدة وليها حلال»، وعندما يأتي في الأحلام فهو ميثاق، وعزّ وجاه أو مكر وخديعة أو سحر، بينما الحبل من السماء هو القرآن أو الدين.
وفي الغرب يختلف الأمر، فنجد أنه في الأحلام ينظرون للحبل السري على أنه إشارة للارتباط بالأم، بينما قديماً كان يوجد بعض السحرة يمتلكون حبالاً قادرة على سجن الرّياح، فإذا حلّت العقدة الأولى حُررت ريح غربية خفيفة، وإذا حُلّت العقدة الثانية، حرّرت ريح شمالية عنيفة، وما تكاد الثالثة تحلّ حتى تطلق أكثر العواصف هولاً، وإذا امتلكت قطعة من حبل المشنوق، فهو يشفي، بينما كان اليابانيون يرون أن الحبل إذا ضفر مع قش الأرز أصبح سحرياً، ويمكنهم به غلق الأماكن المقدسة، حيث يمنع التأثيرات الشريرة والأرواح الخبيثة والشقاء من بلوغ المعابد، وفي أعياد السنة الجديدة تحرق الحبال في طقس احتفالي وتستبدل بها حبال أخرى يدوم سلطانها عاماً كاملاً.
وصناعة الحبال تتميّز ببساطتها وغرابتها، وهي قديمة جداً ولكنها الآن تقاوم الانقراض، وأتذكر هنا ذلك الرجل الذي كان يجلس يفتل الحبال من ليف النخيل في بلدنا (ديروط) بصعيد مصر، وقد ربط طرف الحبل بقدمه والطرف الآخر يقوم بتضفيره بيديه، يحرك أصابعه للأعلى والأسفل في مشهد يدعو للانبهار.
 كانت تلك الحبال من الليف خشنة الملمس تستخدم عادة في ربط وتحزيم (القفف) التي تُحمَل لنا نحن أهل مصر بـ«الزَّفر» (الطيور) والسمن أو بالبلح نصيباً من ثلاث نخلات كانت أمام بيت عمتي، وقد تلاشى ذلك الآن، لكن تلك الحبال الخشنة ظلت مرتبطة بمهنة المعمار، حيث يتم ربط السقالات بها قبل ظهور الشدات المعدنية.
والآن، جميعنا متعلقون بالحبال «الدائبة» في تلك الحياة، حبل تربية الأطفال وحبل المصروفات المدرسية، وحبل الأقساط، وحبل المشكلات والهموم، غير الحبل الخشن الذي تفرضه علينا بعض الأنظمة الحاكمة، لكنني وسط كل ذلك أحب أن أذكّركم بلعبة «نط الحبل» التي استمتعنا بها ونحن صغار، وهي لعبة دون تكاليف أو مساحة مكان، كما أنها مفيدة للجسم. كما أتمنى أن نعود إلى أرحام أمهاتنا كي نصل الحَبْل السُّرِّيّ، حيث ينقل الغذاء إلينا ويخلّصنا من الفضلات، دون عناء ودون تعقيد ودون جر أو سحب، وإذا لم نفلح في ذلك، فما علينا إلا أن نسحب حبل الوداد ونصل ما قطع من أرحامنا ولكل الأشياء والأشخاص في حياتنا، وحتى ينعدل ويشفى الحبل الشوكي الذي يصلب ظهورنا، وحتى يتسنى لنا أن ننفذ قول الله تعالى كما أوصانا {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (سورة آل عمران/ 301) ■