قائدٌ إنسانيٌ يُحقق أحلامَ الإنسانية

قائدٌ إنسانيٌ  يُحقق أحلامَ الإنسانية

العملُ البنّاء نوعان جميلان: عملٌ مقابل أجر، في الدنيا والآخرة، وعملٌ لا يريد المرء منه جزاءً أو شكورًا إلا ابتغاء وجه الله. ولكلّ جميل حُسنه، وأحسنُ الجمال ما استمر ودام تصرفًا، وأجمل الحُسن ما كان طبعًا في الإنسان بغير تكلفٍ. ومن جميل الطبائع خصّ العربُ «الكرمَ» بالأولوية، فتغنوا به شِعرًا وتسامروا بروايته فنًا، وصنّفوه ليُعَرِّفوه، فشرحوا اختلافًا بينه وبين البَذْلِ والعطاء، وفَرَّقوا بينه وبين السَفَهِ والتبذير، واتفقوا على أنّ الكرمَ مراتبُ أولاها الجود وثانيتها السخاء وأسماها الإيثار.

 

 كثيرة هي أحاديث الكرم في التاريخ العربي، وأقربها إلى ذاكرة الشعوب قصص الإيثار، فحاتم الطائي رمز في الجود والسخاء مذكور، لكنه فاق بالكرم أقرانه عندما آثر ذبح فرسه لإطعام ضيفه الذي جاء إليه يطلبها. لم يقتصر الكرم على ديـن أو طائفة أو مِلَّة، بل كـان ولا يـزال خُلُقًا يتخـلّـق بـه الإنسان ليتزوّد منه فيزداد فضيلة وسموًا، فحاتم الطائي المسيحي ومعن بن زائدة المسلم ويعقوب بن كلّس اليهودي (وزير المعز لدين الله الفاطمي)، كلّ أولئك دوّنهم التاريخ في سجل الكرم. كلّ الديانات دَعَت إلى فضائل الأخلاق، فالفضيلة أصيلة في سلوك البشر، أما الشرّ فاستثناء، على الرغم من غَلَبَتِهِ في بعض الأزمان، وكانت سنّة الله في الدنيا متى غَلَب الشرّ، أن يُرسِل إلى البشَرِ مُصلِحًا أو نبيًا أو رسولاً، يُذكِّرهم بفضائل الإنسانية ويحثّهم على اتباع السلوك القويم. بهذا قضت كلّ الشرائع وأغلب القوانين، فعندما تزيد «الأنا» عند الناس يقضي المشرِّع بينهم فارضًا عليهم الضرائب والمكوس. لذا، نلاحظ اختلافًا واضحًا في المجتمعات المدنية، بين مجتمع ساد سلوك العطاء بين أفراده، ومجتمع آخر أناني تفرض عليه القوانين مشاركته لإنقاذ إنسان من الفقر والذلّ والجوع والمرض. نحن العرب، ورثنا العطاء والكرم، كسلوك في حياتنا ومقوِّم أخلاقي في حضارتنا، وأكّدت أدياننا ذلك. لا شكّ في أنّ العطاء الكريم ينمي الحبّ في النفوس، فتراه واضحًا في الأسرة والعائلة وما بعد ذلك، حتى يصل إلى حب من لا تعرفه، وحتى يكون الحبُّ جائزة للكريم. وكلما زادت المحن بانت ووضحت أخلاق الكرام، وها نحن لمحزونون على ما يجري من حولنا لإخواننا العرب من تهجير وتشريد وأسر وتقتيل، فترانا نجزع ونفزع ونهب لنجدتهم، وما يُحرّكنا سوى حبنا لهم. كل الشعب العربي، استنفر واستنكر الأحداث التي تقلق أشقاءه في مواطنهم، فبادر كل حسب قدرته وطاقته لنجدة ونصرة أخيه. كنا صغارًا، نسمع بحركة التحرير العربي من الاستعمار الأجنبي في الجزائر، والنضال الفلسطيني ضد الاستيطان الصهيوني، فكنا جميعا، جزائريين وفلسطينيين، ننشد في مدارسنا: 
الله أكبر فوق كيد المعتدي
والله للمظلوم خير مؤيدِ 
أو نشيد الوطن الأكبر: 
وطني حبيبي الوطن الأكبر
يوم ورا يوم أمجاده بتكبر
لم نكن نملك الكثير، ولكننا تعلمنا من أهالينا كيف نعطي أكثر ما عندنا، ونقف مع أشقائنا العرب ونشاركهم الآلام والأحلام. كانت الحكومة الكويتية تدفع في هذا الاتجاه، من خلال التربية والتعليم والإعلام، وحتى القطاع الخاص الذي كان عروبي الهوية والهوى، وعمل على دعم الأشقاء، حيث لا ننسى شركة السينما الكويتية التي كانت تستقطع ما نسبته 20 في المائة من قيمة تذكرة الدخول لصالات عرض الأفلام لمصلحة حركة التحرير في الجزائر، وما إن تحررت الجزائر حتى استمرت هذه النسبة مستقطعة لمصلحة منظمة التحرير الفلسطينية. وتمضي السنون، وتمتحن الكويت بالغزو الغاشم عام 1990م، فنرى الشعب العربي الكريم يقف إلى جانب الكويتيين وينادي بتحرير الكويت، ويُقدم كل المساعدات، التي كان أهمها الحبُّ والأمان... والأمل. 

من الحكومة والشعب إلى العالم
لم تقف دولة الكويت، حكومة وشعبًا، إزاء الفقر والجوع والكوارث الطبيعية ومعاناة الشعوب من الحروب مكتوفة الأيدي، بل تحركت على مستوى إنساني عالمي وإقليمي بإنشاء جمعية الهلال الأحمر الكويتي، ثم الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية، بعدها احتوت في أرضها الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي. أما الشعب الكويتي، فقد تحرك بطريق موازٍ لقيادته، فأنشأ جمعيات إنسانية لمساعدة الشعوب في المناطق الفقيرة والمنكوبة، وخاصة في قارتي آسيا وإفريقيا. لم يقف دعم دولة الكويت عند دول وشعوب العالمين العربي والإسلامي فقط، بل شمل المجتمع الإنساني بلا حدود. كان ولا يزال الحراك الكويتي باتجاه محاربة الجوع والفقر والكوارث منظمًا ومدروسًا، ففي منتصف العقد التاسع من القرن الفائت، (1984م تقريبًا)، وقع بين يدي تقرير من الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية يبيّن كارثة حلت بدولة فولتا العليا، وهي أنّ «فيروسا» قد انتشر في نهرها الذي كان مصدرًا لمياه الشرب لأكثر من قرية هناك، هذا الفيروس يسبب التهابًا حادًا في عين الإنسان، ويؤدي هذا الالتهاب بعد فترة إلى العمى. لم تقدّم الكويت معونات إنسانية وطبية فقط للمصابين بالعمى هناك، وهم ألوف، بل جندت فريق بحث من العلماء المتخصصين لمعالجة مياه النهر من الفيروس، ونجحت المهمة. هذا مثال بين قوائم من الإنجازات الإنسانية التي جعلت دولة الكويت العربية «مركزًا إنسانيًا»، وكان حقًا لأمير دولة الكويت أن يحظى بمسمى «قائد إنساني». إنّ تقليد حضرة صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح - حفظه الله - مسمى «قائد إنساني» هو وسام فَخْرٍ لكل عربيٍ فَخُرَ بعربي آخر حاز جائزة أو سُميَ تسمية عالمية، فكانت جوائزهم ومسمياتهم الدولية الرفيعة شعار رفعة لأوطانهم وعنوان رقي شعوبهم. 

سيرة استثنائية
يطول الحديث عن حضرة صاحب السمو أمير دولة الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح - حفظه الله - ولكننا آثرنا أن نقدم للقارئ العربي نبذة عن عطائه الإنساني للكويت والعرب والعالم. في عام 1945م بدأ حياته العملية كعضو في اللجنة التنفيذية العليا لتنظيم مصالح دولة الكويت. وبعد عشر سنوات، (1955م)، رأس دائرة الشؤون الاجتماعية والعمل ودائرة المطبوعات والنشر، وفي تلك الفترة تحققت الفكرة، بإصدار مجلة عربية ثقافية جامعة، هي المجلة التي بين يديك (مجلة العربي). وبعد استقلال الكويت بعام واحد، 1962م، صار وزيرًا للإرشاد والأنباء (الإعلام حاليًا)، ثم تقلد مهمته كوزير للخارجية الكويتية عام 1963م، وهو عام زخر بالأحداث العالمية، والصراع الدائر بين المعسكرين الشرقي والغربي... الاتحاد السوفييتي وحلفائه من جهة والولايات المتحدة وحلفائها من جهة أخرى، أزمات وتشنجات دولية انعكست آثارها على دول العالم أجمع. تلك الأحداث التي واكبتها قرارات سياسية دولية، سرية ومعلنة، وخطط وضعتها الدول العظمى للسيطرة على باقي الدول، أكسبت سموه خبرة واسعة في معرفة خبايا السياسة والتعامل معها بالحنكة والدبلوماسية، لإقرار مبادئ الأمن والسلام الدولي المحلي والإقليمي والعالمي. خمسة عقود في مجال الدبلوماسية، عاصر فيها رؤساء الدول العظمى، وتعامل مباشرة مع حكوماتهم؛ الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي والمملكة المتحدة وفرنسا ثم الصين والهند وباقي الدول الصناعية. 
ومن دهاليز السياسة العالمية في تنفيذ خطط الدول العظمى، تعامل سموه بضمير إنساني وحس عربي ومنظور وطني، لتصبح دولة الكويت دولة السِلم والأمان، الداعية إلى السلام العالمي وحقوق الإنسان في كل مكان، حتى أصبحت اليوم، وبإقرار دول العالم جميعًا «مركزًا إنسانيًا». 

الاحترام للجميع
لقد حرصت دولة الكويت من خلال دستورها ومناهجها في التربية والتعليم على أن تجعل من شعبها شعبًا يعتز بعروبته ليحمل فكرًا قوميًا عربيًا يتعدى إطار المحلية، لينتصر للحق والإنسان أينما كان. فكرٌ إسلامي وسطي عالمي يحترم الأديان جميعًا ويحمي حق الإنسان في الاعتقاد. والكويت دولة تحترم وتتمسك بالقوانين والقرارات الدولية، فلم يُسجّل في تاريخها يومًا التعدي أو الاعتداء، بل كانت تقف دائمًا مع حقوق الدول والشعوب. وموقف دولة الكويت واضح في قراراتها الدولية التي أعلنتها في كل المحافل الدولية والإقليمية والمحلية، منظمة الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي. وقد أخذت على عاتقها دور الوسيط في  حل النزاعات بين دول العالم والدول العربية، تلك الدول التي كانت تؤمن بحكمة القيادة الكويتية في حل الأزمات. ومنذ البدء، مع استقلال دولة الكويت وانضمامها إلى منظمة الأمم المتحدة، وضعت دولة الكويت قواعد سياستها الخارجية في التعامل مع المجتمع الدولي، حين كان حضرة صاحب السمو أمير دولة الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح - حفظه الله - وزيرًا للخارجية. كانت خطبه وكلماته التي ألقاها في الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة حاضرة المعاني ومستشرفة لأماني دول العالم النامي والدول العربية على وجه الخصوص، ففي الدورة الثالثة والعشرين لاجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في 22 أكتوبر عام 1968م، قال سموه:
إنّ في طليعة المسائل التي تهم الكويت... تلك التي اصطلح على تسميتها «الحالة في الشرق الأوسط». إنّ هذا العنوان لمن باب التورية، إنه قناع يحجب من وجه الحالة المشار إليها أكثر مما يُسفر... الحالة التي نشأت عن الغزو الإسرائيلي في يونيو 1967م لما تبقّى من فلسطين ولبعض الدول العربية المجاورة لها، أي احتلال الأراضي العربية وضم أجزاء منها ضمًا رسميًا إلى إسرائيل، واستعمار الأجزاء الأخرى واستباحة ثرواتها ومواردها، وكذلك تشريد مئات الآلاف من أهاليها، وإخضاع الباقين لحكم عسكري باطش... وجه واحد من وجوه قضية الشرق الأوسط، أما الوجه الآخر فهو الاعتداء على الشعب الفلسطيني العربي بأكمله، وإخضاعه لحالة ظالمة من التشتيت، وحرمانه من أبسط حقوق الشعوب وأقدسها، ألا وهو حقه في الوجود الآمن في وطنه، وحقه في تقرير مصيره فوق أرضه بِحرية.
وفي الخطاب نفسه الذي عرض فيه أهمية حلّ القضية الفلسطينية، لم ينسَ سموه أن يذكر أشباح الدمار التي تحيط بالإنسان في خضم الحروب، فصرّح طالبًا «انسحاب القوات الأجنبية من تشيكوسلوفاكيا»، و«ضرورة انتساب الصين الشعبية إلى عضوية منظمة الأمم المتحدة، فانضمام الصين يفرض عليها التزاماً دوليًا، على نحو يؤدي إلى المشاركة في مجالات نزع السلاح ووقف التسابق الذري والمحافظة على الأمن والسلام في العالم».
وقف الحرب...  نبذ الاعتداء... العيش بأمن وسلام، مطلب عام وحقٌّ لكل إنسان، يراه البعض حُلمًا، كأنه صرح من أماني... والبعض الآخر يَجِدُّ ويعمل لتحقيق حُلم الإنسان... بهذا صار قائدنا أمير دولة الكويت «قائدًا إنسانيًا»... وهكذا أصبحت دولة الكويت «مركزًا إنسانيًا».
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم  ■