نــزار قبَّـانــي علامةٌ ناتئةٌ في عناقِ الشعرِ والموسيقى

نــزار قبَّـانــي علامةٌ ناتئةٌ في عناقِ الشعرِ والموسيقى

مزجَ‭ ‬رحيقَ‭ ‬العطرِ‭ ‬بماءِ‭ ‬النّارِ‭ ‬وأطلقَهُما‭ ‬في‭ ‬شرايينِ‭ ‬اللغةِ‭ ‬العربيّةِ،‭ ‬فتحوّلت‭ ‬أشعارُهُ‭ ‬إلى‭ ‬عصافيرَ‭ ‬تزغْردُ‭ ‬وتغرّدُ‭ ‬على‭ ‬أغصانِ‭ ‬الأيّامِ‭ ‬وفي‭ ‬حدائقِ‭ ‬الذكرياتِ‭ ‬الشجيّةِ‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تشيب‭!‬

‭ ‬نزار‭ ‬قبّاني،‭ ‬المُختلِفُ،‭ ‬والمُختلَفُ‭ ‬عليه،‭ ‬الاستثنائيُّ‭ ‬الذي‭ ‬حطّمَ‭ ‬أسوارَ‭ ‬المعاجمِ‭ ‬وفتحَ‭ ‬النوافذَ‭ ‬العتيقةَ‭ ‬لتقفزَ‭ ‬منها‭ ‬مفرداتُ‭ ‬اللغةِ‭ ‬مرتديةً‭ ‬أثوابًا‭ ‬عصريّةً‭ ‬تمرحُ‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬الشوارعِ‭ ‬والميادينِ‭ ‬العربيّة،‭ ‬ليشكّلَ‭ - ‬بمفردِهِ‭ - ‬خطًّا‭ ‬شعريًّا‭ ‬متفرِّدًا‭ ‬تلاشى‭ ‬كثيرونَ‭ ‬في‭ ‬ظلالِهِ،‭ ‬وتبعثروا‭ ‬على‭ ‬جانبي‭ ‬الطريقِ،‭ ‬وضاعت‭ ‬ملامحُ‭ ‬قصائدِهم‭ ‬الباهتةِ‭ ‬عندما‭ ‬حاولوا‭ ‬مجاراتِهِ‭ ‬أو‭ ‬استنساخَ‭ ‬ثورتِهِ‭ ‬الفائرةِ‭ ‬العفويّةِ‭ ‬التي‭ ‬ألهبت‭ ‬الأذهانَ‭ ‬والأرواحَ‭ ‬والعيونَ‭ ‬على‭ ‬مدارِ‭ ‬خمسينَ‭ ‬عامًا‭ ‬متوهّجةً‭ ‬في‭ ‬كِتابِ‭ ‬القرنِ‭ ‬العشرين‭.‬

‭ ‬كانَ‭ ‬نزار‭ ‬قبّاني‭ ‬ثائرًا‭ ‬شجاعًا‭ ‬على‭ ‬المستويين،‭ ‬العاطفي‭ (‬الوجداني‭)‬،‭ ‬والسياسي‭ ‬المحفوفِ‭ ‬بالمخاطرِ‭ ‬والمكائدِ‭ ‬وألاعيبِ‭ ‬منتفعي‭ ‬كلّ‭ ‬عصر،‭ ‬وفي‭ ‬كلّ‭ ‬الأحوالِ‭ ‬ظلَّ‭ ‬متفرّدًا‭ ‬في‭ ‬تعاملِهِ‭ ‬مع‭ ‬القصيدةِ‭ ‬ليجبرَكَ‭ ‬على‭ ‬التصفيقِ‭ ‬الحارّ‭ ‬والحاد،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬اختلفتَ‭ ‬معهُ‭ ‬حولَ‭ ‬المضمون،‭ ‬أو‭ ‬تألّمتَ‭ ‬من‭ ‬جرأتهِ‭ ‬وكسرهِ‭ ‬للقوانينِ‭ ‬الاجتماعيةِ،‭ ‬أو‭ ‬بسببِ‭ ‬بعضِ‭ ‬تجاوزاتِهِ‭ ‬في‭ ‬حقّ‭ ‬النحو‭ ‬والسياقاتِ‭ ‬اللغويّةِ‭ ‬وارتكابِهِ‭ ‬بعض‭ ‬المخالفاتِ‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تبرّرُها‭ ‬الضرورةُ‭ ‬الشعريّة‭.‬

‭ ‬كان‭ ‬نزار‭ ‬يكتبُ‭ ‬القصيدةَ‭ ‬للقصيدةِ‭ ‬وللشعرِ،‭ ‬لينشرَها‭ ‬صحفيًّا‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬دواوينَ‭ ‬أو‭ ‬يلقيها‭ ‬في‭ ‬مواجهةِ‭ ‬الجمهورِ‭ ‬في‭ ‬تفاعلٍ‭ ‬حيّ،‭ ‬ولم‭ ‬يضعْ‭ ‬في‭ ‬حُسبانِهِ‭ ‬أن‭ ‬يصدحَ‭ ‬المطربونَ‭ ‬بأشعارِهِ،‭ ‬غيرَ‭ ‬أنّهُ،‭ ‬وفي‭ ‬لحظةٍ‭ ‬استثنائيّةٍ‭ ‬مثله،‭ ‬أصبحَ‭ ‬علمًا‭ ‬على‭ ‬رءوسِ‭ ‬الأشهادِ‭ ‬في‭ ‬حقلِ‭ ‬الغناءِ‭ ‬بقصيدةٍ‭ ‬واحدةٍ‭ ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬منصّاتِ‭ ‬الإذاعةِ‭ ‬المصريّةِ‭ ‬في‭ ‬ربيع‭ ‬العامِ‭ ‬1960م‭.‬

‭ ‬كانت‭ ‬هناكَ‭ ‬تجربةٌ‭ ‬موءودةٌ‭ ‬لم‭ ‬نستطع‭ ‬الاهتداءَ‭ ‬إلى‭ ‬تسجيلٍ‭ ‬لها،‭ ‬تلكَ‭ ‬التي‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬المطربُ‭ ‬والملحنُ‭ ‬المصري‭ ‬أحمد‭ ‬عبدالقادر‭ ‬عندما‭ ‬زارَ‭ ‬دمشقَ‭ ‬في‭ ‬منتصفَ‭ ‬خمسينياتِ‭ ‬القرنِ‭ ‬العشرين،‭ ‬فقد‭ ‬استهوتْهُ‭ ‬قصيدةٌ‭ ‬نزاريّةٌ‭ ‬عنوانها‭ ‬‮«‬كيفَ‭ ‬كان؟‮»‬،‭ ‬فلحّنها‭ ‬وغنّاها‭ ‬هناك،‭ ‬و‭..... ‬ماتت‭ ‬تحتَ‭ ‬قدميهِ‭ ‬في‭ ‬ليلتِها،‭ ‬وعندما‭ ‬جاء‭ ‬العام‭ ‬1960م،‭ ‬كان‭ ‬نزارُ‭ ‬يعملُ‭ ‬سفيرًا‭ ‬للجمهوريّةِ‭ ‬العربيّةِ‭ ‬المتحدةِ‭ (‬مصر‭ ‬وسوريّة‭) ‬لدى‭ ‬الصين،‭ ‬وهناكَ‭ ‬باغتتهُ‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬أيظنُّ؟‮»‬،‭ ‬فكتبها،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنّ‭ ‬نزارًا‭ ‬قد‭ ‬حكى‭ ‬قصّةَ‭ ‬القصيدةِ‭ ‬بنفسِهِ‭ ‬في‭ ‬مقالٍ‭ ‬له‭ ‬نشرتهُ‭ ‬جريدةُ‭ ‬‮«‬الحياة‮»‬‭ ‬في‭ ‬العدد‭ ‬12904،‭ ‬الجمعة‭ ‬3‭ ‬يوليو‭ ‬1998م‭ ‬في‭ ‬سلسلة‭ ‬المقالاتِ‭ ‬التي‭ ‬نشرتها‭ ‬له‭ ‬بعد‭ ‬وفاته،‭ ‬إلا‭ ‬أنّهُ‭ ‬لم‭ ‬يقُلْ‭ ‬لنا‭: ‬كيفَ‭ ‬وصلت‭ ‬القصيدةُ‭ ‬إلى‭ ‬صوتِ‭ ‬نجاة‭ ‬الصغيرة؟‭ ‬وقد‭ ‬تعدّدتِ‭ ‬الرواياتُ‭ ‬بين‭ ‬مَن‭ ‬يقولُ‭ ‬إنّ‭ ‬نزارًا‭ ‬أرسلَها‭ ‬إلى‭ ‬نجاة‭ ‬رأسًا،‭ ‬ومَن‭ ‬يقولُ‭ ‬إنه‭ ‬أرسلَها‭ ‬لصديقه‭ ‬كامل‭ ‬الشناوي‭ ‬الذي‭ ‬اقترحها‭ ‬على‭ ‬نجاة،‭ ‬ومَن‭ ‬يقولُ‭ ‬إنّ‭ ‬نجاة‭ ‬قرأتها‭ ‬منشورةً‭ ‬فالتمست‭ ‬من‭ ‬الشنّاوي‭ ‬أن‭ ‬يقنعَ‭ ‬الموسيقار‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهَّاب‭ ‬بتلحينها‭ ‬لها،‭ ‬وما‭ ‬يهمّنا‭ ‬هو‭ ‬النتيجةُ،‭ ‬فقد‭ ‬صدرت‭ ‬القصيدةُ‭ / ‬الأغنيةُ‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬مارس‭ (‬آذار‭) ‬من‭ ‬العام‭ ‬1960م،‭ ‬فاشتعلت‭ ‬الحرائقُ‭ ‬في‭ ‬أثيرِ‭ ‬الإذاعةِ‭ ‬لكثرةِ‭ ‬ما‭ ‬أذيعت‭ ‬بناءً‭ ‬على‭ ‬طلبِ‭ ‬المستمعين،‭ ‬ثمّ‭ ‬كانت‭ ‬الطلبَ‭ ‬الأوّلَ‭ ‬لجمهور‭ ‬نجاة‭ ‬في‭ ‬حفلاتها‭ ‬التاليةِ‭ ‬المنقولةِ‭ ‬على‭ ‬الهواء،‭ ‬ما‭ ‬دفعَ‭ ‬أحدَ‭ ‬رسّامي‭ ‬الكاريكاتير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يرسمَ‭ ‬مذيعًا‭ ‬يقول‭: ‬هُنا‭ ‬‮«‬إذاعة‭ ‬أيظنّ‮»‬‭!! ‬

‭ ‬جاءت‭ ‬‮«‬أيظنُّ؟‮»‬‭ ‬مغايرةً‭ ‬بالفعلِ‭ ‬للطقوسِ‭ ‬الشعريّةِ‭ ‬المغنّاة،‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬مئاتُ‭ ‬القصائدِ‭ ‬البديعةِ‭ ‬التي‭ ‬تملأُ‭ ‬الأثيرَ‭ ‬والذكرياتِ‭ ‬إلى‭ ‬الآن،‭ ‬لكنها‭ ‬كانت‭ ‬تسيرُ‭ ‬الخطوةَ‭ ‬المعتادةَ‭ ‬كجنودِ‭ ‬الأمنِ‭ ‬المركزيّ‭ ‬الملتزمين،‭ ‬أمّا‭ ‬موسيقار‭ ‬الأجيال‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهّاب،‭ ‬فكانَ‭ ‬مهمومًا‭ ‬بالشارعِ‭ ‬العامِ‭ ‬أكثرَ‭ ‬من‭ ‬همّهِ‭ ‬بالشعرِ‭ ‬أو‭ ‬بالصورِ‭ ‬الشعريّة،‭ ‬ولذلك‭ ‬جنحَ‭ ‬دائمًا‭ ‬إلى‭ ‬تطريزِ‭ ‬اللحنِ‭ ‬بالموسيقى‭ ‬الراقصةِ‭ ‬المتأججةِ‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬كانت‭ ‬التجربةُ‭ ‬الشعوريّةُ‭ ‬في‭ ‬حالةِ‭ ‬شجنٍ‭ ‬أو‭ ‬ألمٍ‭ ‬أو‭ ‬بكاء،‭ ‬أي‭ ‬على‭ ‬النقيضِ‭ - ‬تمامًا‭ - ‬من‭ ‬مارد‭ ‬النغمِ‭ ‬وعملاقِ‭ ‬القصيدةِ‭ ‬العربيّةِ‭ ‬رياض‭ ‬السنباطي،‭ ‬كذلكَ‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬عبدالوهّاب‭ ‬مولعًا‭ ‬بالتغييرِ‭ ‬والتبديلِ‭ ‬في‭ ‬الكلمات،‭ ‬بل‭ ‬قال‭ ‬إن‭ ‬‮«‬بوسْعِهِ‭ ‬أن‭ ‬يلحّنَ‭ ‬صفحةً‭ ‬كاملةً‭ ‬من‭ ‬الجريدةِ،‭ ‬ولو‭ ‬كانت‭ ‬صفحة‭ ‬الحوادث‮»‬،‭ ‬وكانَ‭ ‬محقًّا‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬بينما‭ ‬كانَ‭ ‬السنباطي‭ ‬ينهِكُ‭ ‬الشاعرَ‭ ‬معهُ‭ ‬من‭ ‬أجلِ‭ ‬تغييرِ‭ ‬مفردةً‭ ‬واحدةً‭ ‬في‭ ‬القصيدة،‭ ‬وكانَ‭ ‬دائمًا‭ ‬معنيًّا‭ ‬بالموضوعِ‭ ‬وبالفكرةِ‭ ‬ثمّ‭ ‬التعبيرِ‭ ‬والتصويرِ‭ ‬الشعري،‭ ‬وكم‭ ‬من‭ ‬قصائدَ‭ ‬رفضَ‭ ‬أنْ‭ ‬يلحّنها‭ ‬لأمّ‭ ‬كُلثوم،‭ ‬مُعللا‭ ‬ذلك‭ ‬بأنها‭ - ‬القصيدة‭ - ‬لم‭ ‬تحرّكْ‭ ‬فيهِ‭ ‬ساكنًا،‭ ‬وليس‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬الشعرِ‭ ‬سوى‭ ‬الوزن‭.‬

جرأةُ‭ ‬عبدالوهّاب‭ ‬في‭ ‬صياغةِ‭ ‬اللحنِ‭ ‬كانت‭ ‬سببًا‭ ‬رئيساً‭ ‬في‭ ‬نجاح‭ ‬‮«‬أيظنُّ؟‮»‬‭ ‬وتحوّلها‭ ‬إلى‭ ‬حدث‭ ‬ضخمٍ‭ ‬وضعَ‭ ‬نجاة‭ ‬في‭ ‬قمّةٍ‭ ‬جديدة،‭ ‬وجعل‭ ‬من‭ ‬اسم‭ ‬نزار‭ ‬قبّاني‭ ‬نارًا‭ ‬على‭ ‬عَلَمٍ،‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬الأجداد،‭ ‬ولفرط‭ ‬جرأةِ‭ ‬عبدالوهّاب‭ ‬فقد‭ ‬قام‭ ‬بإصدارِ‭ ‬الأغنيةِ‭ ‬بصوتِهِ‭ ‬على‭ ‬شريط‭ ‬كاسيت‭ ‬وبلا‭ ‬تغيير،‭ ‬فقال‭ ‬له‭ ‬أحدُهم‭: ‬كيف‭ ‬ترضى‭ ‬لنفسكَ‭ ‬أن‭ ‬تقولَ‭: ‬‮«‬حتّى‭ ‬فساتيني‭ ‬التي‭ ‬أهملتُها‭...‬؟‮»‬،‭ ‬فقال‭ ‬عبدالوهّاب‭: ‬‮«‬لأنّ‭ ‬الشاعرَ‭ ‬أرادها‭ ‬هكذا،‭ ‬أم‭ ‬كنتَ‭ ‬تريدُ‭ ‬منّي‭ ‬أن‭ ‬أقولَ‭: ‬حتى‭ ‬بناطيلي‭ ‬التي‭ ‬أهملتُها؟‮»‬‭.  ‬انفعلَ‭ ‬نزار‭ ‬وتألّمَ‭ ‬لعدمِ‭ ‬استماعِه‭ ‬إلى‭ ‬قصيدتِهِ‭ ‬التي‭ ‬يتغنّى‭ ‬بها‭ ‬المحبّونَ‭ ‬في‭ ‬الوطنِ‭ ‬كلّه،‭ ‬بينما‭ ‬هو‭ - ‬الأبُ‭ ‬الشرعي‭ ‬للعمل‭ - ‬لم‭ ‬يظفرْ‭ ‬بلحظةٍ‭ ‬منه،‭ ‬فكتبَ‭ ‬رسالةً‭ ‬طويلةً‭ ‬إلى‭ ‬نجاة‭ ‬يحذّرها‭ ‬فيها‭ ‬بأنها‭ ‬لو‭ ‬تأخّرت‭ ‬في‭ ‬إرسال‭ ‬الشريط،‭ ‬فسوف‭ ‬يطلبُها‭ ‬في‭ ‬‮«‬بيت‭ ‬الطاعة‮»‬،‭ ‬وعندما‭ ‬سافرَ‭ ‬إلى‭ ‬القاهرةِ‭ ‬استُقبَلَ‭ ‬بحفاوة،‭ ‬واستقبلتْهُ‭ ‬نجاة‭ ‬استقبالَ‭ ‬الفاتحين،‭ ‬لتغنّي‭ ‬له‭ ‬بعد‭ ‬ذلكَ‭ ‬ثلاث‭ ‬بدائع‭ ‬أخرى‭ ‬كانت‭ ‬كلّها‭ ‬من‭ ‬ألحان‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهّاب‭ ‬وهي‭ ‬‮«‬ماذا‭ ‬أقولُ‭ ‬له؟‮»‬،‭ ‬‮«‬إلى‭ ‬حبيبي‮»‬،‭ ‬‮«‬أسألكَ‭ ‬الرحيلا‮»‬،‭ ‬والأخيرةُ‭ ‬جاءت‭ ‬في‭ ‬أخريات‭ ‬عبدالوهّاب‭ ‬وكانت‭ ‬في‭ ‬طليعةِ‭ ‬الألحان‭ ‬التي‭ ‬سقطت‭ ‬له،‭ ‬وأصابتْهُ‭ ‬بإحباطٍ‭ ‬شديد،‭ ‬فقد‭ ‬حاولَ‭ ‬أن‭ ‬يُجاري‭ ‬تلاميذه‭ - ‬وعلى‭ ‬رأسهم‭ ‬محمد‭ ‬الموجي‭ - ‬في‭ ‬تلحين‭ ‬الشعرِ‭ ‬الحُرّ،‭ ‬فوقعَ‭ ‬في‭ ‬الفخّ‭ ‬أو‭ ‬الكمين،‭ ‬ولم‭ ‬يستطع‭ ‬التعاملَ‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬النوعِ‭ ‬من‭ ‬‮«‬الكتابةِ‭ ‬القلقة‮»‬‭ ‬المختلفةِ‭ ‬تماما‭ ‬عن‭ ‬الشعرِ‭ ‬العمودي‭ ‬الذي‭ ‬يجيدُ‭ ‬السباحة‭ ‬في‭ ‬بحورِهِ‭ ‬وترقيصِ‭ ‬الكلماتِ‭ ‬الحزينةِ‭ ‬ومن‭ ‬ثمَّ‭ ‬الجمهور،‭ ‬ومن‭ ‬الأسرارِ‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تعدْ‭ ‬أسرارًا،‭ ‬أنَّ‭ ‬‮«‬أسألكَ‭ ‬الرحيلا‮»‬‭ ‬كانت‭ ‬بالفعلِ‭ ‬بينَ‭ ‬يديّ‭ ‬محمد‭ ‬الموجي،‭ ‬ولكنه‭ ‬فوجئَ‭ ‬بعبدالوهّاب‭ ‬يلحنّها،‭ ‬فذهبَ‭ ‬ليستفسرَ‭ ‬منه،‭ ‬فقال‭ ‬لهُ‭ ‬عبدالوهّاب‭: ‬أبوكَ‭ ‬أعجبَه‭ ‬شيءٌ‭ ‬يخصّك،‭ ‬هل‭ ‬تستطيعُ‭ ‬الاعتراض؟‭ ‬قال‭ ‬الموجي‭: ‬لا،‭ ‬وانحنى‭ ‬أمامه،‭ ‬لكنّ‭ ‬عبدالوهّاب‭ ‬أصرَّ‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يعطيهِ‭ ‬عشرة‭ ‬آلاف‭ ‬جنيه،‭ ‬كتعويضٍ‭ ‬عن‭ ‬الجهدِ‭ ‬الذي‭ ‬بذله‭ ‬مع‭ ‬القصيدة‭. ‬

‭ ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬‮«‬أيظن؟‮»‬‭ ‬قد‭ ‬فتحت‭ ‬الباب‭ ‬على‭ ‬مصراعيهِ‭ ‬أمامَ‭ ‬أشعار‭ ‬نزار‭ ‬لتقفزَ‭ ‬من‭ ‬الديوانِ‭ ‬المقروءِ‭ ‬إلى‭ ‬الديوانِ‭ ‬المسموعِ،‭ ‬فقد‭ ‬جاءت‭ ‬بعدها‭ ‬‮«‬ماذا‭ ‬أقولُ‭ ‬له؟‮»‬،‭ ‬وفيها‭ ‬تجاوزَ‭ ‬نزار‭ ‬سقفَ‭ ‬الوصفِ‭ ‬عندما‭ ‬قال‭: ‬

ربّاهُ‭.. ‬أشياؤهُ‭ ‬الصُّغرى‭ ‬تعذِّبُني

فكيفَ‭ ‬أنجو‭ ‬منَ‭ ‬الأشياءِ‭ ‬ربَّاهُ؟

هُنا‭ ‬جريدتُهُ‭ ‬في‭ ‬الرُّكنِ‭ ‬مُهْمَلَةٌ

هُنا‭ ‬كتابٌ‭ ‬معًا‭ ‬كنّا‭ ‬قرأناهُ

على‭ ‬المقاعدِ‭ ‬بعضٌ‭ ‬مِن‭ ‬سجائِرِهِ

وفي‭ ‬الزّوايا‭.. ‬بقايا‭ ‬مِنْ‭ ‬بقاياهُ

كيفَ‭ ‬استطاعَ‭ ‬نزار‭ ‬أن‭ ‬يرصدَ‭ ‬هذهِ‭ ‬الدقائقَ‭ ‬التي‭ ‬لو‭ ‬تعاملْنا‭ ‬معَهَا‭ ‬بمنظورٍ‭ ‬نفسيٍّ‭ ‬لأصابتْنا‭ ‬بالاشمئزازِ،‭ ‬الإهمال‭ / ‬السجائر‭ /‬البقايا‭ ‬المُلقاةُ‭ ‬بلا‭ ‬مبالاةٍ‭ ‬في‭ ‬الزوايا‭ ‬والأركان‭.... ‬إلخ،‭ ‬لماذا‭ ‬رأينا‭ ‬ذلك‭ ‬كلّه‭ ‬جميلا‭ ‬بل‭ ‬وعبقريًّا؟‭.. ‬لا‭ ‬أدري‭.‬

‭ ‬أمّا‭ ‬‮«‬إلى‭ ‬رجُل‮»‬‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬‮«‬إلى‭ ‬حبيبي‮»‬،‭ ‬فهي‭ ‬إحدى‭ ‬فرائدِ‭ ‬نزار‭ ‬المغناةِ‭ ‬على‭ ‬الإطلاق،‭ ‬وفيها‭ ‬تجرّأ‭ ‬عبدالوهّاب‭ ‬بإجراءِ‭ ‬تعديلينِ‭ ‬أو‭ ‬تبديلين،‭ ‬وجاءا‭ ‬في‭ ‬مكانهما‭ ‬بالفعل،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬البيتُ‭ ‬الأوّلُ‭ ‬يقول‭:‬

متى‭ ‬ستعرفُ‭ ‬كم‭ ‬أهواكَ‭ ‬يا‭ ‬رَجُلا‭....‬

فأصبحَ‭:‬

متى‭ ‬ستعرفُ‭ ‬كم‭ ‬أهواكَ‭ ‬يا‭ ‬أملا‭....‬

كانت‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬رجُلا‭ ‬توحي‭ ‬بالغضبِ‭ ‬والخشونةِ‭ ‬وكأنّها‭ ‬سبٌّ‭ ‬أو‭ ‬شتيمة،‭ ‬بينما‭ ‬جاءت‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬أملاً‮»‬‭ ‬لتضيءَ‭ ‬استهلالَ‭ ‬القصيدةِ‭ ‬بذلكَ‭ ‬الضوءِ‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬ينطفئْ‭ ‬إلى‭ ‬هذهِ‭ ‬اللحظة‭. ‬وأمّا‭ ‬التعديلُ‭ ‬الآخرُ‭ ‬فقد‭ ‬جاءَ‭ ‬في‭ ‬البيتِ‭ ‬السّابعِ‭ ‬الذي‭ ‬كانَ‭ ‬الشطرُ‭ ‬الأوّلُ‭ ‬منه‭:‬

يا‭ ‬مَنْ‭ ‬يدخّنُ‭ ‬في‭ ‬صمتٍ‭ ‬ويترُكُني‭....‬

فأصبحَ‭:‬

يا‭ ‬مَنْ‭ ‬يفكِّرُ‭ ‬في‭ ‬صمتٍ‭....‬

كما‭ ‬تمّ‭ ‬حذفُ‭ ‬البيتِ‭ ‬التالي‭ ‬له،‭ ‬الثامن،‭ ‬وكانَ‭ ‬جديرًا‭ ‬بأنْ‭ ‬يظلَّ‭ ‬فهو‭ ‬في‭ ‬صميمِ‭ ‬المعنى‭:‬

ألا‭ ‬تراني‭ ‬ببحرِ‭ ‬الحبِّ‭ ‬غارقةً

والموجُ‭ ‬يمضغُ‭ ‬آمالي‭ ‬ويرميها؟

وقد‭ ‬تجاوزَ‭ ‬نزار‭ ‬حدودَ‭ ‬التعبيرِ‭ ‬مرّةً‭ ‬أخرى‭ ‬عندما‭ ‬قال‭:‬

كفاكَ‭ ‬تلعبُ‭ ‬دَورَ‭ ‬العاشقينَ‭ ‬معي

وتنتقي‭ ‬كلماتٍ‭ ‬لستَ‭ ‬تعنيها

كم‭ ‬اخترعتُ‭ ‬مكاتيبًا‭ ‬سترسلُها

وأسعدتني‭ ‬ورودٌ‭ ‬سوفَ‭ ‬تُهديها

وكم‭ ‬ذهبتُ‭ ‬لوعدٍ‭ ‬لا‭ ‬وجودَ‭ ‬لهُ

وكم‭ ‬حلِمتُ‭ ‬بأثوابٍ‭ ‬سأشريها

وكم‭ ‬تمنّيتُ‭ ‬لو‭ ‬للرقصِ‭ ‬تطلبُني

وحيّرتْني‭ ‬ذراعي‭ ‬أين‭ ‬أُلقيها؟

الغريبُ‭ ‬أنَّ‭ ‬هذه‭ ‬القصائدَ‭ ‬التي‭ ‬غنتها‭ ‬نجاة‭ ‬من‭ ‬شعر‭ ‬نزار‭ ‬وألحان‭ ‬عبدالوهّاب،‭ ‬تتشابَهُ‭ ‬في‭ ‬المضمونِ‭ ‬والنهايةِ،‭ ‬غيرَ‭ ‬أننا‭ ‬لا‭ ‬نعبأُ‭ ‬بذلِك،‭ ‬إذ‭ ‬نستمتعُ‭ ‬بكلّ‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬انفراد‭ ‬أو‭ ‬‮«‬بالتجزئة‮»‬‭.‬

 

المأزقُ‭ ‬الكُلْثومي

في‭ ‬العام‭ ‬1966م،‭ ‬حاولَ‭ ‬نزار‭ ‬أن‭ ‬يضعَ‭ ‬أشعارَهُ‭ ‬على‭ ‬صوتِ‭ ‬أمّ‭ ‬كُلثوم،‭ ‬فأعطى‭ ‬عبدالوهّاب‭ ‬نصّ‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬اغضَبْ‮»‬،‭ ‬وسارعَ‭ ‬عبدالوهّاب‭ ‬بنشرِ‭ ‬الخبرِ‭ ‬والقصيدةِ‭ ‬كاملةً‭ ‬على‭ ‬مساحةٍ‭ ‬كبيرةٍ‭ ‬مع‭ ‬صورٍ‭ ‬لثلاثتهم‭ ‬في‭ ‬جريدةِ‭ ‬الأهرام‭ (‬21‭ ‬يونيو‭ ‬1966م‭ )‬،‭ ‬وذهبَ‭ ‬عبدالوهّاب‭ ‬ونزار‭ ‬إلى‭ ‬السيدة‭ ‬أمّ‭ ‬كُلثوم،‭ ‬وكانَ‭ ‬ردّها‭ ‬قاسيًا‭ ‬وصادمًا‭ ‬وموجِعًا،‭ ‬إذ‭ ‬قالت‭ ‬لنزار‭: ‬هل‭ ‬بعد‭ ‬كلّ‭ ‬الذي‭ ‬قدّمتُهُ‭ ‬لفنِّ‭ ‬الغناءِ‭ ‬والشعرِ‭ ‬الفصيحِ‭ ‬تريدُني‭ ‬أن‭ ‬أقفَ‭ ‬لأغنّي‭ ‬مثلَ‭ ‬هذا‭ ‬الكلام؟‭ ‬أنا‭ ‬لستُ‭ ‬هذهِ‭ ‬المرأةَ‭ ‬التي‭ ‬في‭ ‬هذهِ‭ ‬القصيدة‭!‬

‭ ‬بلعَ‭ ‬نزار‭ ‬صدمتَهُ،‭ ‬لكنّهُ‭ ‬أضمرَ‭ ‬الحقدَ‭ ‬لأمّ‭ ‬كُلثوم‭ ‬وظلّ‭ ‬متربّصًا‭ ‬بها‭ ‬لينتقمَ‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬مقالٍ‭ ‬شديدِ‭ ‬القسوةِ‭  ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬الأسبوع‭ ‬العربي‮»‬،‭ (‬عدد‭ ‬سبتمبر‭ / ‬أيلول‭ ‬1974م‭ )‬،‭ ‬عندما‭ ‬دخلت‭ ‬أمّ‭ ‬كُلثوم‭ ‬دوّامةَ‭ ‬مرضِ‭ ‬الموت،‭ ‬وبدأت‭ ‬وكالاتُ‭ ‬الأنباءِ‭ ‬تضعُها‭ ‬على‭ ‬رأسِ‭ ‬الأخبار،‭ ‬وعندها،‭ ‬أدركَ‭ ‬نزار‭ ‬أنها‭ ‬لن‭ ‬تقرأَ‭ ‬ما‭ ‬يكتبُ‭ ‬ولن‭ ‬تهتمَّ‭ ‬فقد‭ ‬فقدت‭ ‬قدرتَها‭ ‬على‭ ‬كلِّ‭ ‬شيءٍ،‭ ‬فعاجلها‭ ‬بمقالٍ‭ ‬مُهينٍ‭ (‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬نبيلا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭)‬،‭ ‬ولم‭ ‬يشفعْ‭ ‬لأمّ‭ ‬كُلثوم‭ ‬أن‭ ‬غنّت‭ ‬له‭ ‬قصيدتين‭: ‬‮«‬طريقٌ‭ ‬واحد‮»‬‭ ‬من‭ ‬ألحان‭ ‬عبدالوهّاب‭ (‬1969م‭)‬،‭ ‬‮«‬رسالة‭ ‬إلى‭ ‬الزعيم‮»‬‭ ‬من‭ ‬ألحان‭ ‬السنباطي‭ (‬1970م‭) ‬في‭ ‬وداع‭ ‬عبدالناصر،‭ ‬ولأنّ‭ ‬نزارًا‭ ‬كان‭ ‬موعودًا‭ ‬بالعذابِ‭ ‬مع‭ ‬‮«‬اغْضَبْ‮»‬،‭ ‬فقد‭ ‬شاءت‭ ‬الأقدارُ‭ ‬أن‭ ‬تغنّيها‭ ‬الفنانة‭ ‬أصالة‭ ‬في‭ ‬بدايةِ‭ ‬مشوارِها‭ ‬بألحان‭ ‬حلمي‭ ‬بكر،‭ ‬وجاء‭ ‬تعليقُ‭ ‬نزار‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الحدثِ‭ ‬بقوله‭: ‬لم‭ ‬أكرهْ‭ ‬في‭ ‬حياتي‭ ‬شيئًا‭ ‬لي‭ ‬مثلما‭ ‬حدثَ‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬اللحنِ‭ ‬وهذا‭ ‬الغناء،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬رحمةِ‭ ‬اللهِ‭ ‬لهُ‭ ‬أنْ‭ ‬توفّاهُ‭ ‬قبلَ‭ ‬أن‭ ‬يستمعَ‭ ‬إلى‭ ‬قصيدته‭ ‬‮«‬دمشق‮»‬‭ ‬بصوتِ‭ ‬أصالة‭ ‬أيضًا،‭ ‬فلو‭ ‬طالَ‭ ‬بهِ‭ ‬الأجلُ‭ ‬لماتَ‭ ‬بالسكتةِ‭ ‬من‭ ‬هولِ‭ ‬الصدمة‭!! ‬

 

مع‭ ‬عبدالحليم‭ ‬حافظ

غنّى‭ ‬عبدالحليم‭ ‬حافظ‭ ‬قصيدتين‭ ‬من‭ ‬شعر‭ ‬نزار‭ ‬وألحان‭ ‬محمد‭ ‬الموجي‭ ‬وهما‭ ‬‮«‬رسالةٌ‭ ‬من‭ ‬تحتِ‭ ‬الماء‮»‬‭ ‬و«قارئةُ‭ ‬الفنجان‮»‬،‭ ‬وهما‭ ‬على‭ ‬رأسِ‭ ‬القصائدِ‭ ‬التي‭ ‬غنّاها‭ ‬حليم‭ ‬على‭ ‬الإطلاق،‭ ‬وجاء‭ ‬غناؤه‭ ‬لهما‭ ‬من‭ ‬بوابة‭ ‬نجاة‭ ‬أيضًا،‭ ‬إذ‭ ‬ترك‭ ‬نزار‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬رسالةٌ‭ ‬من‭ ‬تحتِ‭ ‬الماء‮»‬‭ ‬للراحل‭ ‬مجدي‭ ‬العمروسي‭ (‬مدير‭ ‬شركة‭ ‬‮«‬صوت‭ ‬الفنّ‮»‬‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬وعبدالحليم‭ ‬شريكين‭ ‬فيها‭ ‬معه‭) ‬آملا‭ - ‬نزار‭ - ‬أن‭ ‬تغنّيها‭ ‬نجاة،‭ ‬وبالصدفةِ‭ ‬مرّ‭ ‬عبدالحليم‭ ‬على‭ ‬الشركةِ‭ ‬فرأى‭ ‬القصيدةَ‭ ‬على‭ ‬مكتبِ‭ ‬العمروسي،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬قرأَها‭ ‬قال‭: ‬سأغنّيها‭!! ‬وهنا‭ ‬لا‭ ‬تستطيعُ‭ ‬نجاة‭ ‬أن‭ ‬تعترضَ‭ ‬أو‭ ‬تنطِقَ‭ ‬بحرفٍ‭ ‬واحدٍ،‭ ‬وكان‭ ‬عبدالحليم‭ ‬واعيًا‭ ‬إذ‭ ‬طلبَ‭ ‬من‭ ‬الموجي‭ ‬أن‭ ‬يقومَ‭ ‬بتلحينِها‭ (‬وليس‭ ‬عبدالوهَّاب‭) ‬بعد‭ ‬تعديلٍ‭ ‬طفيفٍ‭ ‬في‭ ‬قولِ‭ ‬نزار‭:‬

فأنا‭ ‬عاشقةٌ‭ ‬من‭ ‬رأسي‭ ‬حتّى‭ ‬قدمَيّ

ليصبحَ‭:‬

فأنا‭ ‬مفتونٌ‭ ‬من‭ ‬رأسي‭ ‬حتّى‭ ‬قدميّ

ونجحت‭ ‬القصيدةُ‭ ‬نجاحًا‭ ‬ساحقًا،‭ ‬أغراهم‭ ‬باستكمالِهِ‭ ‬في‭ ‬‮«‬قارئةِ‭ ‬الفنجان‮»‬‭ ‬التي‭ ‬أعتبرُها‭ ‬رأسَ‭ ‬قصائدِ‭ ‬نزار‭ ‬المغناةِ،‭ ‬وهي‭ ‬تعادلُ‭ ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬غنّاه‭ ‬حليم‭ ‬من‭ ‬الفصحى،‭ ‬وأراها‭ ‬تجسّدُ‭ ‬جزءًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬عبدالحليم،‭  ‬وقد‭ ‬كادت‭ ‬تُحدِثُ‭ ‬شرخًا‭ ‬في‭ ‬علاقةِ‭ ‬عبدالحليم‭ ‬بنزار‭ ‬لقيام‭ ‬عبدالحليم‭ ‬بعملِ‭ ‬تعديلاتٍ‭ ‬كثيرةٍ‭ (‬كانت‭ ‬واجبةً‭) ‬فأغضبت‭ ‬نزارًا‭ ‬إلى‭ ‬حدٍّ‭ ‬بعيد‭.‬

 

الآخرون‭.. ‬وكاظم‭ ‬السّاهر

كلهم‭ ‬دخلوا‭ ‬إلى‭ ‬أشعار‭ ‬نزار‭ ‬من‭ ‬بوابة‭ ‬نجاة‭ ‬الصغيرة،‭ ‬حتى‭ ‬أمّ‭ ‬كُلثوم‭ ‬وعبدالحليم،‭ ‬ومع‭ ‬هؤلاء‭ ‬نجدُ‭ ‬الكثيرينَ‭ ‬في‭ ‬ديوان‭ ‬نزار‭ ‬المسموع‭: ‬فيروز،‭ ‬فايزة‭ ‬أحمد،‭ ‬ماجدة‭ ‬الرومي،‭ ‬لطيفة‭ ‬التونسيّة،‭ ‬إلهام‭ ‬المدفعي،‭ ‬أصالة،‭ ‬خالد‭ ‬الشيخ‭.. ‬وصولا‭ ‬إلى‭ ‬غادة‭ ‬رجب،‭ ‬أمّا‭ ‬كاظم‭ ‬السّاهر‭ ‬فيغرّدُ‭ ‬وحدَهُ‭ ‬بعيدًا‭ ‬مُحطّمًا‭ ‬الأرقامَ‭ ‬القياسيّةَ‭ ‬ويغنّي‭ ‬ما‭ ‬يتجاوزُ‭ ‬مجموعَ‭ ‬ما‭ ‬غنّاهُ‭ ‬الآخرونَ‭ ‬من‭ ‬شعرِ‭ ‬نزار،‭ ‬اقترب‭ ‬كاظم‭ ‬من‭ ‬نزار‭ ‬كثيرًا،‭ ‬وأحبّهُ‭ ‬الشاعرُ‭ ‬الكبيرُ‭ ‬ودعمَهُ‭ ‬وشجّعهُ،‭ ‬وظلّ‭ ‬كاظم‭ ‬وفيّا‭ ‬له‭ ‬بعد‭ ‬رحيلِه‭ ‬إلى‭ ‬الدرجةِ‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يتركْ‭ ‬فيها‭ ‬قصيدةً‭ ‬تصلحُ‭ ‬للغناء‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬أشعار‭ ‬نزار،‭ ‬أي‭ ‬أنه‭ ‬أغلق‭ ‬البابَ‭ ‬تمامًا‭ ‬أمامَ‭ ‬الآخرين‭ ‬الذين‭ ‬لن‭ ‬يجدوا‭ ‬معنى‭ ‬منسيًا‭ ‬أو‭ ‬فكرةً‭ ‬صالحةً‭ ‬للغناءِ‭ ‬أو‭ ‬للبقاءِ‭ ‬ولم‭ ‬ينتبه‭ ‬إليها‭ ‬كاظم،‭ ‬وتأتي‭ ‬قصائد‭ ‬‮«‬اختاري،‭ ‬مدرسةُ‭ ‬الحزن،‭ ‬زيديني‭ ‬عشقًا،‭ ‬أشهدُ،‭ ‬قولي‭ ‬أحبّك،‭ ‬التحديات،‭ ‬الحبُّ‭ ‬المستحيل‮»‬‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬القصائد‭ ‬التي‭ ‬ستعيشُ‭ ‬طويلا‭ ‬في‭ ‬تجربتِهما‭ ‬معًا،‭ ‬ونستطيعُ‭ ‬أنْ‭ ‬نقولَ‭ ‬إنَّ‭ ‬الساهرَ‭ ‬أعادَ‭ ‬الحياةَ‭ ‬إلى‭ ‬أشعار‭ ‬نزار‭ ‬المنسية،‭ ‬وجعلَهُ‭ ‬ينتفِضُ‭ ‬مرّةً‭ ‬أخرى‭ ‬ويتحمّسُ‭ ‬للكتابةِ‭ ‬في‭ ‬أخرياتِه،‭ ‬كذلك‭ ‬حرّض‭ ‬كاظم‭ ‬كثيرينَ‭ ‬على‭ ‬محاولةِ‭ ‬غناءِ‭ ‬أشعارِ‭ ‬نزار‭ ‬بعدَ‭ ‬النجاحِ‭ ‬الساحقِ‭ ‬الذي‭ ‬حقَّقهُ‭ ‬والذي‭ ‬دخلَ‭ ‬بهِ‭ ‬ذكرياتِ‭ ‬المحبّينَ‭ ‬على‭ ‬مدارِ‭ ‬خمسة‭ ‬عشر‭ ‬عامًا‭ ‬لم‭ ‬ينازعْهُ‭ ‬فيها‭ ‬أحدٌ‭ ‬على‭ ‬القمّةِ‭ ‬وظلَّ‭ ‬بمفردِهِ‭ ‬خطًّا‭ ‬متميّزًا‭ ‬إلى‭ ‬درجةِ‭ ‬التفرّد،‭ ‬فظنّ‭ ‬كثيرونَ‭ ‬أنَّ‭ ‬السببَ‭ ‬هو‭ ‬أشعار‭ ‬نزار،‭ ‬فتسابقوا‭ ‬إليها،‭ ‬ودخلوا‭ ‬التجربة،‭ ‬لكن‭ ‬لم‭ ‬يتركوا‭ ‬البصمةَ‭ ‬التي‭ ‬تركها‭ ‬كاظم،‭ ‬ولا‭ ‬الأثرَ‭ ‬الذي‭ ‬غزلَهُ‭ ‬في‭ ‬تكوينِ‭ ‬جيلٍ‭ ‬بأكملِه‭.‬

نزار‭ ‬قبّاني‭ ( ‬21‭ ‬مارس‭ /‬آذار‭ ‬1923م‭ - ‬30‭ ‬أبريل‭ / ‬نيسان‭ ‬1998م‭ ) - ‬الذي‭ ‬أختلفُ‭ ‬معهُ‭ ‬كثيرًا‭ ‬في‭ ‬أعمالهِ‭ ‬السياسيةِ‭ ‬وأشبعتُهُ‭ ‬نقدًا‭ ‬موجِعًا‭ ‬في‭ ‬حياتِه‭ - ‬يظلّ‭ ‬علامةً‭ ‬ناتئةً‭ ‬في‭ ‬مسيرةِ‭ ‬الشعرِ‭ ‬العربيّ‭ ‬في‭ ‬القرنِ‭ ‬العشرين،‭ ‬ويظلّ‭ ‬ديوانُهُ‭ ‬المسموعُ‭ ‬مطرًا‭ ‬أخضرَ‭ ‬يهطلُ‭ ‬من‭ ‬زوايا‭ ‬الذكرياتِ‭ ‬ومن‭ ‬حنايا‭ ‬الأرواحِ‭ ‬التائقةِ‭ ‬إلى‭ ‬الانطلاق،‭ ‬ويبقى‭ ‬كلُّ‭ ‬ما‭ ‬تركهُ‭ ‬لنا،‭ ‬مدرسةً‭ ‬أبديةً‭ ‬تنتظرُ‭ ‬كلّ‭ ‬القادمينَ‭ ‬منَ‭ ‬الأجيالِ‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تولَدْ‭ ‬بعد،‭ ‬ليتعلّموا‭ ‬فيها‭ ‬مبادئَ‭ ‬الحبِّ‭ ‬والحريّة‭ ‬‭.