راشد السيف (1900 - 1972) الشاعر والمعلم والغواص الذي تعلَّم تجارب إنسانية عميقة
الشاعر الكويتي راشد السيف, وجه مضيء في سماء الشعر بالكويت. لا شك في أنه تميز عن رفاق مسيرته الشعرية بمساهماته في بناء النهضة العلمية والأدبية في فترة كانت حافلة بالأحداث القومية الكبيرة والتجارب الإنسانية المتعددة.
نشأته ودراسته
ولد في الكويت لدى أسرة مكافحة، ودرس في الكُتَّاب وحفظ القرآن وتعلم بعض مبادئ الحساب، ولكنه لم يستمر لوفاة والده، فاضطر وهو لايزال في التاسعة من عمره أن يعمل في بعض المهن. عمل بحارًا في السفن التجارية, وغواصًا على مراكب صيد اللؤلؤ، ثم عاد مرة أخرى إلى الدراسة، فقد كان يحب الاطلاع والــــقـــراءة، فاتجــــه للعــمـــل فــــي مدرسة السعادة للأيتام التي أنشــــأها شملان بن عــــلي آل سيف الرومي لتعلــــيـــم أبناء أهــــل الكويــــت على نفقته، وعمل الشاعر في التدريس ثم انتقل إلى المدرسة المباركــــية وتنقل في وظائف التدريس حتى أصبح ناظرًا للمدرسة الأحمدية.
كتاب الغنيم
ويحدثنا عنه د.يعقوب يوسف الغنيم في كتابه عن الشاعر وهو «راشد السيف.. حياته وشعره» الذي كتبه بالتعاون مع الشاعر فيصل السعد، يقول الغنيم: «ما مر أمامي ذكر الأستاذ راشد السيف - رحمه الله - إلا وتذكرت أول يوم دخلت فيه المدرسة، كان يومها ناظرًا للمدرسة الأحمدية آنذاك الواقعة على سيف البحر من العاصمة، وقد أخذني والدي صبيحة ذلك اليوم البعيد إليها بقصد قيدي تلميذًا مستجدًا بها، وأذكر يومها أنه أدخلني غرفة من غرف ذلك المبنى الكبير على رجل بدا لي أنه المسئول عن كل شيء في تلك المدرسة، وكان الرجل مهيبا له لحية خطها الشيب وعلى عينيه نظارة طبية، يتحدث بهمس ويعمل بصمت، وقد قام بترتيب أمور دراستي من تسجيل وتحديد للصف الدراسي، فابتدأت مسيرتي الدراسية بناء على توجيهاته، كان ذلك الرجل هو راشد السيف الذي عرفته في ما بعد شاعرا وإنسانا وصديقا إلى أن توفاه الله تاركا في نفسي عظيم الأثر لما كان يتحلى به من كريم الصفات..».
ثقافة ذاتية
استطاع راشد السيف أن يثقف نفسه ثقافة ذاتية، معتمدًا على ما يقرأه من أدب وشعر وكتب الدين والتراث، فحقق منهاجا أخلاقيا لا يحيد عنه، وعمله في التدريس جعله ملتزمًا بمبادئ الحق والخير والسلوك القويم والتربية الصالحة. لقد خبر الحياة وذاق مرارة الشقاء والجهد في العمل والكفاح المضني من أجل الرزق الحلال، واختلط برجال البحر الصيادين والغواصين البسطاء الذين يخرجون في مراكبهم بحثا عن اللؤلؤ وقد يعودون أو لا يعودون، إنهم تحت رحمة الريح والليل والعواصف والأمواج، وفي هذا المناخ الإنساني يلوذ الإنسان بروحه إلى الله ويزداد إيمانه ويقينه بالخير والحب والتسامح والارتباط مع الآخرين والعمل من أجلهم.
مساندة الحق
وعندما وصل راشد السيف إلى مرحلة أخرى من تاريخ الكويت، حيث ازدهرت الحياة وتطورت الأمور بعد اكتشاف النفط، توجهت قصائده إلى مساندة الحق والدعوة إلى الوحدة ومواجهة الأخطار وتحرير البلاد المحتلة والوقوف ضد المستعمر والحروب والاعتداء على البلاد الآمنة، فوقف بجانب الثورة الليبية وضد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، ودعا شباب الأمة العربية إلى التمسك بالدين الإسلامي وتطهير النفس من الآثام والانتماء إلى الوطن والتسلح بالعلم.
ويقول عنه الأديب خالد سعود الزيد في كتابه «أدباء الكـويت في قرنين» - الجزء الأول «لقد كان لقســــوة الحـــــياة على الشاعر أبلغ الأثر في نفسيته، فجاء سلوكه مع الناس والحياة إيجابيًا صريحًا إلى أبعد الحدود، ميالاً إلى الحرية والانعتــاق الفكــــري، كـــــما كــــان لهذه القسوة نصيب في التأثير فــــي مجــــرى أسلوبه الشعري، فـــجــاء شعره خــــاليًا مـــن زخرف اللفظ وطــــلاوة التـــركــــيب، يمـــيل بشعره إلى المعنى القوي».
شاعر عصره
إن راشد السيف أثرى فترته وعصره بنتاج شعري تمكن فيه أن يصور لنا واقعه ونفسه ولواعجها وتمزقه من أجل وحدة العرب وما أصاب بلده من أزمات. إنه ابن البيئة التي عاش فيها، ولا يمكن أن ننسى أنه يعد بمقاييس عصره وفترته شاعرًا أجاد النظم وساهم في التغيير ودعا إلى ثورة على النفاق والخيانة والخداع والكذب والجمود، فيقول:
ولقد كرهت الخائنين فبغضهم
من غير أخلاقي وغير مرادي
لا أرتضي عمل النفاق كسلم
أرقى به الأكتاف في الحسادِ
ومتى تعاكسني الظروف فإنني
لم أنحرف عن موقفي بعنادِ
بذلك التزم الشاعر بقيم أخلاقية هي التي حددت دوره في الحياة، ويذكرك في ذلك بشعراء القيم والإباء والأخلاق الرفيعة في الصحراء العربية كقول عنترة:
بكرت تخوفني الحتوف كأنني
أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل
فأجبتها: إن المنية منهل
لابد أن أسقي بكأس المنهل
وفي نص شعري آخر، يدعو راشد السيف قومه إلى الأخلاق العالية لأنها سبيل النهضة الحقيقية ولا شيء دونها، وأن الأمة التي تبني أخلاقها على أسس ثابتة هي القادرة على معرفة طريقها نحو التقدم والرفعة، فيقول:
هي الأخلاق فلنعمل بها يا إخوتي
فيها سما الآباء.. كونوا مثلهم أيضًا
وإذا كان الشاعر قد جعل من القيم الأخلاقية هدفا في شعره، فلا بد أن يكون هو الآخر مثالا يحتذى به، ولا تناقض بين ما يدعو إليه قومه وما يعيشه في الحياة، إنه هو الآخر يتسم بالإباء والشهامة ورفض النفاق والتلون، فيقول:
ترفق رعاك الله لست بطامع
إلى أخذ أموال العباد أجوب
ولكنني شهم أحب بشاشة
بحسن اللقا فيما هناك يطيب
وما ترتضي التطبيل نفس أبية
لها بين أسلاك الضلوع طبيب
يعالجها بالصبر والصبر نافع
فلا الداء باق والدواء يصيب
وعندما اعتدت القوات الغازية على مصر عام 1956م، وهي الحرب التي عرفت باسم العدوان الثلاثي، غضب الشاعر راشد السيف مما أصاب مصر وأطلق صرخاته الحماسية لتدين العدوان وتعلن وقفة العرب في خندق واحد ضد المستعمرين، فيقول:
الحرب في بورِ سعيد
حرب لها شاب الوليد
حرب أراد بها الفنا
من كان جبارا عنيد
لكنها صمدت فلم
تخضع لنار من جديد
الطائرات بجوها
والسفن في بحر تميد
والجند في أرجائها
في فتك وحشي القرود
ويؤكد راشد السيف أن الشعوب تدافع عن قضايا الحق والحرية، ومن أجل ذلك تضحي بالأرواح، فالحق هو السيف الذي يبتر أعناق الطغاة، ويصف الحق قائلا:
للحق سيف فاضربوا في حده
عنق المعاند ضربة المغوار
هذا جزاء المشركين بربهم
دنيا ولكن بعدها في النار
لا تحسبن الله مخلف وعده
مهما تناءت حكمة الأقدار
سوء المصير لمن أساء عقيدة
بالله فوق تحمل الأوزار
ويساند الشعب الليبي حين يثور ضد المستعمر الإيطالي، إنه يبحث عن بصيص من النور يغشى أرض الأمة العربية ويبدد ظلماتها، فيضم صوته إلى طليعة الشعراء الأحرار الذين يغنون لانتماء الإنسان في كل مكان، فيقول:
تُنادي بني قحطان هيا لتصبروا
أترضون وهنا نحن للعار ندفع
والمعلم يعتبر المجتمع مسئولاً عن الأخلاق وحماية القيم وتعزيز موقعه في نفوس الصغار، ولا ننسى أن راشد السيف قد أمضى معظم حياته في التدريس، فهي رسالة روحية وعقلية تساهم في نهضة المجتمع والأمم، فيتيه بدور المعلم وأثره، فيقول:
لولا المعلم ما استقلت دولة
في الشرق أو في الغرب عن إرغام
لولاه ما رفعت لحق راية
كلا ولا سادت على الأحكام
القيم القومية
ونلاحظ أن معظم شعراء الكويت في فترة الخمسينيات والستينيات كانوا جميعًا يشعرون بالخوف من مظاهر التقدم والتطور التكنولوجي، فهم يخشون على القيم الروحية والأخلاقية والدينية، وينظرون إلى إنجازات الغرب في هذا المجال بالشك والتردد في الاتباع والانقياد إلى أفكارهم، وعندما أطلقت روسيا أول صاروخ، قال الشاعر:
ويل الحضارة ويل الخلق من عبث
من نار عاصفة تهوي بلا مطر
لأبرياء شعوب الأرض محكمة
تقرر الحكم إعدامًا لمحتكر
والقيم القومية أخذت مساحة كبيرة أو احتلت معظم الشعر العربي في الكويت، فلم تكن الكويــــت إلا ذراعين تحتضنان أماني الوطن العربي، واستطاعت أن يــــكون لهـــا صوت مؤثر في الدعوة إلى الإسلام ومناهضة وسائل الإرهاب الدولي والحروب والطغاة، فلم تقف دولة عربية لتحارب من أجل الحرية، إلا وكانت الكويت بشعبها وشعرائها وأدبائها يساندون الحرية والنضال السياسي، فيدعو راشد السيف إلى الاتحاد وتجميع شمل العرب، فيقول:
لا تحسب الدهر جيشًا أنت حاشده
ما الذخر إلا تواطى الشعب بالكلم
كم فرَّق الدهر حزبًا كان منتظمًا
فخالف الرأي حتى كاد كالعدم
كفانا هَوانًا إن تُجر نساؤكم
على غير ما تهوى من الخزى تجمع
لقد عاش راشد السيف مواقف أمته العربية، وكان معلمًا قديرًا رسالته الأخلاق الكريمة والقيم الوطنية والدينية، ونشر قصائده في مجلات عدة، مثل «كاظمة» و«البعثة» و«الرائد»، وفي صحف الكويت، ولذلك نتمنى أن يُجمع شعره كلّه، ويُصدر في كتاب خاص له مع ترجمة لحياته كاملة ليطلع الجيل الجديد على هذا التراث الشعري الزاخر بالمواقف والقيم الإنسانية .