ألبير أديب ومجلة «الأديب»

ألبير أديب ومجلة «الأديب»

قلّما‭ ‬اقترن‭ ‬اسم‭ ‬شخص‭ ‬باسم‭ ‬مجلة‭,‬‭ ‬كما‭ ‬اقترن‭ ‬اسم‭ ‬ألبير‭ ‬أديب‭ (‬1908-1985‭) ‬بمجلته‭ ‬‮«‬الأديب‮»‬‭ (‬1942-1983‭). ‬أعطاها‭ ‬نصف‭ ‬اسمه‭. ‬كما‭ ‬أعطاها‭ ‬نصف‭ ‬عمره‭. ‬بدأت‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬الأديب‮»‬‭ ‬شبابها‭ ‬مع‭ ‬شبابه،‭ ‬وانتقلت‭ ‬إلى‭ ‬شيخوختها‭ ‬مع‭ ‬شيخوخته‭. ‬أعطاها‭ ‬من‭ ‬ضوء‭  ‬عينيه‭ ‬ومن‭ ‬نبضات‭ ‬قلبه‭ ‬وأكلت‭ ‬أحرُفها‭ ‬من‭ ‬ناظريه‭. ‬وُلد‭ ‬ألبير‭ ‬أديب‭ ‬الشاعر‭ ‬والصحافي‭ ‬والأديب‭ ‬اللبناني‭ ‬في‭ ‬المكسيك‭ ‬سنة‭ ‬1908،‭ ‬وغادرها‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬الخامسة‭ ‬مع‭ ‬والدته‭ ‬متوجهًا‭ ‬إلى‭ ‬الإسكندرية‭ ‬حيث‭ ‬درس‭ ‬الفتى‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬الفرير،‭ ‬ثم‭ ‬انتقل‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ ‬حيث‭ ‬تابع‭ ‬دراسته‭ ‬في‭ ‬الفرير،‭ ‬ومنها‭ ‬انتقل‭ ‬إلى‭ ‬مدرسة‭ ‬القديس‭ ‬يوسف‭ ‬المارونية‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭.‬

عمل‭ ‬في‭ ‬الصحافة‭ ‬وراسل‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬الصحف‭ - ‬ثم‭ ‬سافر‭ ‬إلى‭ ‬السودان‭ ‬وعمل‭ ‬محاسبًا‭ ‬في‭ ‬وزارة‭ ‬المالية‭. ‬وفي‭ ‬سنة‭ ‬1930‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ ‬ومنها‭ ‬إلى‭ ‬لبنان‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬عمه‭ ‬أوغست‭ ‬أديب‭ (‬1859-1936‭) ‬قد‭ ‬ألّف‭ ‬أول‭ ‬حكومة‭ ‬سنة‭ ‬1926‭ ‬بعد‭ ‬إعلان‭ ‬الجمهورية‭ ‬اللبنانية‭.‬

وفي‭ ‬سنة‭ ‬1938‭ ‬أنشأ‭ ‬ألبير‭ ‬أديب‭ ‬إذاعة‭ ‬راديو‭ ‬الشرق‭ (‬الإذاعة‭ ‬اللبنانية‭ ‬اليوم‭). ‬وتولى‭ ‬إدارتها‭. ‬ثم‭ ‬أنشأ‭ ‬سنة‭ ‬1942‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬الأديب‮»‬‭ ‬التي‭ ‬استمرت‭ ‬في‭ ‬الصدور‭ ‬حتى‭ ‬أواخر‭ ‬سنة‭ ‬1983‭ ‬عندما‭ ‬توقّفت‭ ‬بعد‭ ‬41‭ ‬سنة‭ ‬على‭ ‬تأسيسها‭. ‬وفي‭ ‬سنة‭ ‬1949‭ ‬أسس‭ ‬مع‭ ‬كمال‭ ‬جنبلاط‭ ‬وآخرين‭ ‬الحزب‭ ‬التقدمي‭ ‬الاشتراكي‭.‬

له‭ ‬ديوان‭ ‬شعر‭ ‬‮«‬لمَنْ‮»‬‭ ‬صدر‭ ‬سنة‭  ‬1952‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬المعارف‭ ‬بمصر،‭ ‬وقد‭ ‬عرف‭ ‬ديوانه‭ ‬هذا‭ ‬بأنه‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬الرمزي‭ ‬الطلق،‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يتقيّد‭ ‬بوزن‭ ‬أو‭ ‬قافية،‭ ‬ولهذا‭ ‬عدّه‭ ‬بعض‭ ‬النقّاد‭ ‬من‭ ‬روّاد‭ ‬الرمزية،‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬الحديث‭. ‬وأسلوب‭ ‬قصائده‭ ‬يترجّح‭ ‬بين‭ ‬الرومانسية‭ ‬والواقعيّة‭ ‬والرمزية‭ ‬وبهذا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬إن‭ ‬الديوان‭ ‬في‭ ‬محتواه‭ ‬العام‭ ‬كان‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬قلق‭ ‬المرحلة‭ ‬واستعدادها‭ ‬لصنع‭ ‬شعر‭ ‬جديد‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬الفلسفة‭ ‬والحساسية‭. ‬ولكنه‭ ‬ظلّ‭ ‬محافظًا‭ ‬على‭ ‬التراث‭ ‬ولم‭ ‬يفهم‭ ‬الأدب‭ ‬أنه‭ ‬مزروع‭ ‬في‭ ‬الهواء‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬جذور‭.‬

تُرجم‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬لِمَنْ‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬الفرنسية‭ ‬والإنجليزية‭ ‬والإيطالية‭ ‬والإسبانية‭.‬

يقول‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬عنوانها‭ ‬‮«‬لِمَنْ‮»‬‭ ‬أعطت‭ ‬الديوان‭ ‬اسمه‭:‬

تُرى‭ ‬مَنْ‭ ‬أطلعَ‭ ‬الفجرَ‭ ‬علينا

ولِمَ‭ ‬عوى‭ ‬الكلبُ‭ ‬الأمينُ

مَنْ‭ ‬عرَّى‭ ‬شجرة‭ ‬‮«‬الميموزة‮»‬

أسمعتِ‭ ‬الكادح‭ ‬يسعى؟

قدمهُ‭ ‬مثقلة‭ ‬كقلبه

ألوانُ‭ ‬السماء‭ ‬في‭ ‬جِلبابه‭ ‬الأزرق

الشارعُ‭ ‬الطويلُ‭ ‬يقهقه

يُميتُ‭ ‬الصدى‭ ‬ولا‭ ‬يُعيده

فالقدمُ‭ ‬المثقلةُ‭ ‬خرساءْ

لا‭ ‬يُرجِّعها‭ ‬الصدى

والقلبُ‭ ‬المثقل‭ ‬كهدفّ

الرجْعُ‭ ‬فيه‭ ‬عُواء‭.‬

ظهرت‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬الأديب‮»‬‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬يناير‭ ‬من‭ ‬سنة‭ ‬1942،‭ ‬وآخر‭ ‬عدد‭ ‬صدر‭ ‬منها‭ ‬عدد‭ ‬أغسطس‭ - ‬ديسمبر‭ ‬سنة‭ ‬1983،‭ ‬كما‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬ذكرنا،‭ ‬والتي‭ ‬مرّ‭ ‬على‭ ‬احتجابها‭ ‬ثلاثون‭ ‬سنة،‭ ‬فكانت‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬41‭ ‬سنة‭ ‬سجلاً‭ ‬مهمًا‭ ‬للحركة‭ ‬الأدبية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬أي‭ ‬باحث‭ ‬أو‭ ‬مؤرخ‭ ‬للأدب‭ ‬العربي‭ ‬الحديث‭ ‬أن‭ ‬يتجاهلها‭ ‬أو‭ ‬يستغني‭ ‬عنها‭.‬

ولا‭ ‬نزاع‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الأديب‮»‬‭ ‬كانت‭ ‬عند‭ ‬صدورها‭ ‬أهم‭ ‬مجلة‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬ومن‭ ‬أهم‭ ‬المجلات‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭.‬

في‭ ‬كلمته‭ ‬التي‭ ‬يقدّم‭ ‬بها‭ ‬ألبير‭ ‬أديب‭ ‬العدد‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬مجلته‭: ‬قال‭ ‬إنه‭ ‬‮«‬أرادها‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬مجلة‭ ‬الأصدقاء‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬وأهل‭ ‬الرأي‭ ‬وذوي‭ ‬الاختصاص‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬المعارف‭ ‬والفنون،‭ ‬كما‭ ‬أرادها‭ ‬همزة‭ ‬وصل‭ ‬بين‭ ‬أقطاب‭ ‬الفكر‭ ‬الحرّ‭ ‬في‭ ‬الأقطار‭ ‬العربية‭ ‬جمعاء‮»‬‭.‬

حققت‭ ‬‮«‬الأديب‮»‬‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬واستقطبت‭ ‬كبار‭ ‬الأدباء‭ ‬والشعراء‭ ‬والكتّاب‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬والعالم‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬أقصاه‭ ‬إلى‭ ‬أقصاه،‭ ‬فكانت‭ ‬جامعة‭ ‬دول‭ ‬عربية‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬الأدب‭ ‬والفكر‭. ‬كما‭ ‬بقيت‭ ‬‮«‬الأديب‮»‬‭ ‬محافظة‭ ‬على‭ ‬اعتدالها‭ ‬لا‭ ‬تتطرّف‭ ‬أو‭ ‬تنساق‭ ‬في‭ ‬تيارات‭ ‬الحداثة‭ ‬وتنجرف‭ ‬في‭ ‬‮«‬صرعاتها‮»‬،‭ ‬وبقيت‭ ‬كذلك‭ ‬محافظة‭ ‬على‭ ‬أصالتها‭ ‬وطابعها‭ ‬الخاص‭ ‬المميز‭.‬

ففي‭ ‬العدد‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬‮«‬الأديب‮»‬‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬يناير‭ ‬1942،‭ ‬نقرأ‭ ‬لعمر‭ ‬فاخوري‭ ‬وإلياس‭ ‬أبوشبكة‭ ‬وإلياس‭ ‬خليل‭ ‬زخريا‭ ‬وميشال‭ ‬طراد‭ ‬والدكتور‭ ‬جبرائيل‭ ‬جبور‭ ‬من‭ ‬لبنان‭ ‬ووديع‭ ‬فلسطين‭ ‬من‭ ‬مصر‭ ‬وعيسى‭ ‬الناعوري‭ ‬من‭ ‬الأردن‭ ‬وسواهم‭ ‬كثير‭. ‬وفيه‭ ‬كذلك‭ ‬احتفال‭ ‬بتكريم‭ ‬ذكرى‭ ‬الأديبة‭ ‬مي‭ ‬زيادة‭ (‬1895-1941‭) ‬يشارك‭ ‬فيه‭ ‬الدكتور‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬ومصطفى‭ ‬عبدالرزاق‭ ‬والدكتور‭ ‬حسين‭ ‬هيكل‭ ‬والشاعر‭ ‬خليل‭ ‬مطران‭. ‬تصوّر‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الحشد‭ ‬من‭ ‬الأدب‭ ‬والأدباء‭ ‬والشعر‭ ‬والشعراء‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬واحد،‭ ‬فهذا‭ ‬قلما‭ ‬نجده‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬من‭ ‬المجلات‭ ‬مهما‭ ‬عظمت‭.‬

كان‭ ‬سعر‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬الأديب‮»‬‭ ‬نصف‭ ‬ليرة‭ ‬لبنانية‭ ‬وكنت‭ ‬أكلّف‭ ‬عمي‭ ‬ليشتريها‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬طرابلس‭ ‬مطلع‭ ‬كل‭ ‬شهر‭.‬

وقد‭ ‬جاءت‭ ‬لتسدّ‭ ‬فراغًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬في‭ ‬الصحافة‭ ‬الأدبية‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬وخارجه‭ ‬بعد‭ ‬توقف‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬المكشوف‮»‬‭. ‬كان‭ ‬يقوم‭ ‬بعبء‭ ‬إصدارها‭ ‬منفردًا‭ ‬يساعده‭ ‬أحيانًا‭ ‬بعض‭ ‬المتطوعين‭ ‬من‭ ‬أصدقائه‭.‬

وكم‭ ‬كنت‭ ‬أدخل‭ ‬عليه،‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬الستينيات،‭ ‬في‭ ‬منزله‭ ‬الذي‭ ‬اتخذه‭ ‬له‭ ‬مكتبًا‭ - ‬والذي‭ ‬يقع‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬الشام‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬خط‭ ‬التماس‭ ‬الذي‭ ‬يشطر‭ ‬العاصمة‭ ‬بيروت‭ ‬إلى‭ ‬شطرين،‭ ‬والذي‭ ‬لازمه‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬المخاطر‭ ‬والأهوال‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬بات‭ ‬من‭ ‬المتعذّر‭ ‬استمرار‭ ‬العيش‭ ‬فيه،‭ ‬فانتقل‭ ‬إلى‭ ‬منزل‭ ‬كريمته‭ ‬ندى‭ ‬في‭ ‬رأس‭ ‬بيروت‭ - ‬فأجده‭ ‬جالسًا‭ ‬وراء‭ ‬مكتبه‭ ‬المتواضع،‭ ‬منكبًا‭ ‬على‭ ‬تصحيح‭ ‬‮«‬بروفات‮»‬‭ ‬عدد‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬الأديب‮»‬‭ ‬الجديد‭ ‬مستعينًا‭ ‬بعدسة‭ ‬مكبّرة‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬يشكو‭ ‬من‭ ‬شحّ‭ ‬في‭ ‬بصره،‭ ‬ودودًا‭ ‬هادئًا‭ ‬يعمل‭ ‬بصمت‭ ‬لا‭ ‬يحب‭ ‬الظهور،‭ ‬يستقبلك‭ ‬بابتسامته‭ ‬مرحّبًا‭ ‬بلكنته‭ ‬المصرية‭ ‬المحببة‭ ‬التي‭ ‬جلبها‭ ‬معه‭ ‬من‭ ‬أرض‭ ‬الكنانة،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬عاش‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬فترة‭ ‬تزيد‭ ‬على‭ ‬نصف‭ ‬قرن‭.‬

خلوق‭ ‬متواضع‭ ‬وبسيط،‭ ‬نذر‭ ‬حياته‭ ‬لمجلته،‭ ‬فترهب‭ ‬لها‭ ‬وتعبّد‭ ‬كما‭ ‬راهب‭ ‬في‭ ‬ديره‭ ‬أو‭ ‬صومعته‭.‬

وعندما‭ ‬أقعده‭ ‬مرض‭ ‬الشيخوخة‭ ‬استمررت‭ ‬في‭ ‬زيارته‭ ‬في‭ ‬منزل‭ ‬ابنته‭ ‬من‭ ‬حين‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭.‬

ونحن‭ ‬إذ‭ ‬نتذكّره‭ ‬اليوم،‭ ‬وقد‭ ‬جاهد‭ ‬الجهاد‭ ‬الحسن‭ ‬نردّ‭ ‬له‭ ‬نزرًا‭ ‬من‭ ‬فضله‭ ‬ونوفيه‭ ‬بعضًا‭ ‬من‭ ‬حقه‭ ‬‭.