كوينتن تارانتينو.. المقامر الكبير

كوينتن تارانتينو.. المقامر الكبير

في‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬قتل‭ ‬بيل‮»‬‭ (‬2004م‭)‬،‭ ‬يراهن‭ ‬المخرج‭ ‬الأمريكي‭ ‬كوينتن‭ ‬تارانتينو‭ ‬‮«‬تينيسي‮»‬‭ (‬1963م‭) ‬رهانًا‭ ‬شديد‭ ‬الصعوبة؛‭ ‬فيقترب‭ ‬من‭ ‬وجه‭ ‬بيل‭ (‬ديفيد‭ ‬كاراداين‭) ‬في‭ ‬لقطات‭ ‬قريبة‭ ‬جدًا،‭ ‬وهو‭ ‬يعلم‭ ‬أن‭ ‬هوليوود‭ ‬لم‭ ‬تجرؤ‭ ‬منذ‭ ‬رحيل‭ ‬الممثل‭ ‬جون‭ ‬وين‭ ‬والمخرج‭ ‬سيرجي‭ ‬ليوني‭ ‬على‭ ‬الاقتراب‭ ‬بهذا‭ ‬القدر‭ ‬من‭ ‬وجه‭ ‬رجل‭. ‬وينجح‭ ‬رهان‭ ‬تارانتينو‭ ‬نجاحًا‭ ‬مضاعفًا‭ -‬وكأنه‭ ‬راهن‭ ‬على‭ ‬الصفر‭ ‬في‭ ‬لعبة‭ ‬الروليت‭-‬،‭ ‬فيعيد‭ ‬المُشاهد‭ ‬بضربة‭ ‬واحدة‭ ‬لزمن‭ ‬أفلام‭ ‬الوسترن،‭ ‬ولوجوه‭ ‬رعاة‭ ‬البقر‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأفلام‭: ‬بقسوة‭ ‬تضاريسها‭ ‬الذكورية،‭ ‬بخطوطها‭ ‬الحادة،‭ ‬بغضونها،‭ ‬وجفافها‭ ‬التعبيري‭ ‬الصحراوي‭.‬

لكن‭ ‬حالة‭ ‬الحنين‭ ‬للوسترن‭ ‬هذه‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬حالة‭ ‬حنين‭ ‬مُفرَّغة‭ ‬من‭ ‬عاطفيتها؛‭ ‬حنين‭ ‬عقلي‭ ‬محكوم‭ ‬ومضبوط‭ ‬الانفعالات،‭ ‬لا‭ ‬يصل‭ ‬أبدًا‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬العاطفية،‭ ‬فتارانتينو‭ ‬قد‭ ‬ضاعف‭ ‬من‭ ‬مجازفته‭ ‬بقيامه‭ ‬مسبقًا‭ ‬ببناء‭ ‬حائط‭ ‬عال‭ - ‬كما‭ ‬يفعل‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬أفضل‭ ‬حالاته‭ - ‬يقطع‭ ‬الطريق‭ ‬على‭ ‬العاطفية،‭ ‬ويمنع‭ ‬وصولها‭ ‬للمُشاهد‭. ‬اللغم‭ ‬البارد‭ ‬الذي‭ ‬زرعه‭ ‬تارانتينو‭ ‬لتجريد‭ ‬حالة‭ ‬الحنين‭ ‬تلك‭ ‬من‭ ‬عاطفيتها؛‭ ‬هو‭ ‬إدراك‭ ‬المُشاهد‭ - ‬وهو‭ ‬يتأمل‭ ‬تضاريس‭ ‬وجه‭ ‬بيل‭ - ‬للمفارقة‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬بيل‭ ‬لا‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬الصحراء،‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الوسترن،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬الما‭ ‬بعد‭ ‬حداثية،‭ ‬وأنه‭ ‬ليس‭ ‬كجون‭ ‬وين‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬المخرج‭ ‬الكبير‭ ‬جون‭ ‬فورد‭ ‬‮«‬الباحثون‮»‬‭ (‬1956م‭) ‬يحاول‭ ‬في‭ ‬رحلته‭ ‬الطويلة‭ ‬لملمة‭ ‬شمل‭ ‬أسرة،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬العكس،‭ ‬فبيل‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬يحاول‭ ‬تحطيم‭ ‬شمل‭ ‬أسرة؛‭ ‬أسرته‭ ‬هو‭ ‬شخصيًا‭.‬

رهانات‭ ‬تارانتينو‭ ‬السينمائية‭ ‬لا‭ ‬تتوقف،‭ ‬إنه‭ ‬مقامر‭ ‬دائم،‭ ‬مقامر‭ ‬للنخاع،‭ ‬يحقق‭ ‬أحيانًا‭ ‬مكاسب‭ ‬خيالية،‭ ‬ويخسر‭ ‬مرات‭ ‬أخرى‭ ‬أيضاً،‭ ‬ككل‭ ‬المقامرين؛‭ ‬يخسر‭ ‬مَشاهد‭: ‬كخسارته‭ ‬في‭ ‬مشهد‭ ‬النهاية‭ ‬الهوليوودية‭ ‬السَويّة‭ ‬جدًا‭ ‬لفيلم‭ ‬‮«‬قتل‭ ‬بيل‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬مشهد‭ ‬اغتصاب‭ ‬مارسيليس‭ ‬والاس‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬حكايات‭ ‬مثيرة‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬يخسر‭ ‬أفلامًا‭ ‬بكاملها‭: ‬كفيلم‭ ‬‮«‬أوغاد‭ ‬مغمورون‮»‬،‭ ‬لكنه‭ ‬يظل‭ ‬دائمًا‭ ‬كالمقامرين‭ ‬الكبار،‭ ‬لا‭ ‬يشبع‭ ‬أبدًا‭ ‬ظمأه‭ ‬للمجازفة،‭ ‬ولا‭ ‬يكف‭ ‬أبدًا‭ ‬عن‭ ‬استفزاز‭ ‬حظوظه‭ ‬مع‭ ‬الجمهور‭.‬

واعيًا‭ ‬أو‭ ‬بالفطرة،‭ ‬يدرك‭ ‬المقامر‭ ‬أن‭ ‬القمار‭ ‬هو‭ ‬أعلى‭ ‬أشكال‭ ‬المخاطرة،‭ ‬لأنه‭ ‬يضعه‭ ‬في‭ ‬موقف‭ ‬التهديد‭ ‬المستمر،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬تكون‭ ‬الإثارة‭ ‬في‭ ‬قمة‭ ‬كمالها‭. ‬وكذلك‭ ‬الأمر‭ ‬بالنسبة‭ ‬لصياد‭ ‬الأسود‭ ‬مثلًا؛‭ ‬الذي‭ ‬يفقد‭ ‬الإثارة‭ ‬بعد‭ ‬الأسد‭ ‬الثالث،‭ ‬فالاعتياد‭ ‬الناتج‭ ‬عن‭ ‬الممارسة‭ ‬والتأمين‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬النتيجة‭ ‬شبه‭ ‬مضمونة،‭ ‬ويجعل‭ ‬الصياد‭ ‬يتقدم‭ ‬في‭ ‬حرفته‭ ‬يومًا‭ ‬بعد‭ ‬يوم،‭ ‬مراكمًا‭ ‬خبرة‭ ‬فوق‭ ‬أخرى،‭ ‬فتخفت‭ ‬إثارة‭ ‬ترقُّب‭ ‬النتيجة،‭ ‬وإن‭ ‬ظلت‭ ‬هناك‭ ‬إثارة‭ ‬ما،‭ ‬فهي‭ ‬تنبع‭ ‬من‭ ‬مراقبة‭ ‬الصياد‭ ‬لخبرته‭ ‬الشخصية‭ ‬في‭ ‬عملها،‭ ‬من‭ ‬مراقبته‭ ‬لدرجة‭ ‬إتقانه‭ ‬للصيد‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬القمار‭ ‬فعلى‭ ‬العكس،‭ ‬فليس‭ ‬هناك‭ ‬أي‭ ‬وضع‭ ‬مضمون‭ ‬في‭ ‬القمار،‭ ‬وكل‭ ‬لحظة‭ ‬زمنية‭ ‬تحمل‭ ‬تهديدًا‭ ‬بالخسارة‭ ‬كما‭ ‬تحمل‭ ‬آمالًا‭ ‬في‭ ‬الربح‭. ‬إنها‭ ‬مبارزة‭ ‬عارية‭ ‬بين‭ ‬المقامر‭ ‬وبين‭ ‬القدر،‭ ‬والمقامر‭ ‬هنا‭ ‬يستمر‭ ‬في‭ ‬اللعب‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬التهديد‭ ‬المستمر‭ ‬بالخسارة،‭ ‬فلا‭ ‬وجود‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المبارزة‭ ‬لفكرة‭ ‬‮«‬الرشد‮»‬،‭ ‬ولا‭ ‬يمكنه‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ -‬مهما‭ ‬طالت‭ ‬المدة‭ ‬الزمنية‭ ‬لممارسته‭ ‬للقمار‭- ‬الادعاء‭ ‬بإتقانه‭ ‬اللعب،‭ ‬لأن‭ ‬فكرة‭ ‬‮«‬الإتقان‮»‬‭ ‬ذ‭ ‬الشرط‭ ‬الضروري‭ ‬للتقدم‭ - ‬هي‭ ‬فكرة‭ ‬شديدة‭ ‬المراوغة‭ ‬في‭ ‬القمار،‭ ‬فلا‭ ‬يمكن‭ ‬لمقامر‭ - ‬مهما‭ ‬بلغ‭ ‬من‭ ‬الذكاء‭ ‬والمهارة‭ - ‬الوثوق‭ ‬بأنه‭ ‬أتقن‭ ‬اللعب‭ ‬بحيث‭ ‬تصبح‭ ‬النتيجة‭ ‬مضمونة،‭ ‬ولا‭ ‬الادعاء‭ ‬بأن‭ ‬طول‭ ‬الممارسة‭ ‬قد‭ ‬حقق‭ ‬له‭ ‬‮«‬تقدمًا‮»‬‭ ‬مهنيًا‭ ‬في‭ ‬القمار‭. ‬في‭ ‬الحقيقة،‭ ‬لا‭ ‬وجود‭ ‬لفكرة‭ ‬‮«‬التقدم‮»‬‭ ‬بالمعنى‭ ‬الغربي‭ ‬في‭ ‬لعبة‭ ‬القمار،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬قيمًا‭ ‬سلبية‭ ‬في‭ ‬العقل‭ ‬الحديث‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬هي‭ ‬السائدة‭ ‬عند‭ ‬المقامر،‭ ‬قيم‭ ‬مثل‭: ‬تجاهل‭ ‬الخبرة،‭ ‬المجازفة،‭ ‬البدايات‭ ‬الجديدة،‭ ‬التكرار،‭ ‬تجاهل‭ ‬الوعي،‭ ‬نفاد‭ ‬الصبر،‭ ‬الإدمان‭. ‬

إن‭ ‬الأمل‭ ‬في‭ ‬الانتصار،‭ ‬في‭ ‬إلحاق‭ ‬هزيمة‭ ‬بالقدر،‭ ‬هو‭ ‬حمى‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬إيقافها‭ ‬صدمات‭ ‬الخسارة‭ ‬المتتالية،‭ ‬فهذه‭ ‬الحمى‭ ‬منفصلة‭ ‬عن‭ ‬الخبرة‭ ‬التاريخية‭ ‬للمقامر‭ ‬ومستقلة‭ ‬عنها‭. ‬والمقامر‭ ‬وإن‭ ‬ربح‭ ‬مرة‭ - ‬بعد‭ ‬خسارات‭ ‬متتالية‭ - ‬فإن‭ ‬ربحه‭ ‬ليس‭ ‬نتيجة‭ ‬لتراكم‭ ‬الخبرة‭ ‬التي‭ ‬تحثه‭ ‬باستمرار‭ -‬إن‭ ‬هو‭ ‬استجاب‭ ‬لصوتها‭ - ‬على‭ ‬الانسحاب،‭ ‬ولكنه‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬نتيجة‭ ‬لتجاهل‭ ‬صوت‭ ‬الخبرة‭.‬

يترتب‭ ‬على‭ ‬غياب‭ ‬دور‭ ‬‮«‬الخبرة‮»‬‭ ‬في‭ ‬القمار؛‭ ‬غياب‭ ‬فكرة‭  ‬‮«‬المشروع‮»‬‭ ‬لدى‭ ‬المقامر؛‭ ‬فليس‭ ‬هناك‭ ‬إلا‭ ‬مشروع‭ ‬الاستمرار‭ ‬على‭ ‬الطاولة،‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬المبارزة،‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬التهديدات‭ ‬الدائمة،‭ ‬فما‭ ‬يتم‭ ‬ربحه‭ ‬قد‭ ‬يضيع‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬لعبة‭ ‬تالية‭ ‬مهددًا‭ ‬بسقوط‭ ‬مهين،‭ ‬فالمقامر‭ ‬يدرك‭ ‬جيدًا‭ ‬أنه‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬لعبة‭ ‬من‭ ‬ألعابه‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬اللعبة‭ ‬السابقة،‭ ‬فليس‭ ‬للقمار‭ ‬ماض،‭ ‬ولا‭ ‬ذاكرة،‭ ‬وبالتأكيد‭ ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬تراكم‭ ‬في‭ ‬القمار،‭ ‬فالرمية‭ ‬التالية‭ ‬للنرد‭ ‬تقضي‭ ‬على‭ ‬الماضي‭ ‬الثقيل‭ ‬للرمية‭ ‬السابقة‭ ‬عليها‭.‬

وأفلام‭ ‬تارانتينو،‭ ‬بالمثل،‭ ‬لا‭ ‬تمثل‭ ‬‮«‬مشروعًا‮»‬‭ ‬سينمائيًا،‭ ‬ولا‭ ‬تمثل‭ ‬تراكمًا‭ ‬فنيًا‭ ‬يعلو‭ ‬فيه‭ ‬اللاحق‭ ‬على‭ ‬السابق،‭ ‬فليس‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬‮«‬اعتمادية‮»‬‭ ‬لأحدهما‭ ‬على‭ ‬الآخر،‭ ‬فيمكننا‭ ‬التوقع‭ ‬بسهولة‭ ‬أن‭ ‬فيلم‭ ‬تارانتينو‭ ‬الجديد‭ ‬سيكون‭ ‬تجربة‭ ‬طازجة‭ ‬مليئة‭ ‬بالمفاجآت‭ ‬والصدمات‭ ‬للمُشاهد،‭ ‬وكأنه‭ ‬يطبق‭ ‬القول‭ ‬الشهير‭ ‬لدى‭ ‬المقامرين‭: ‬لا‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يجرب‭ ‬المقامر‭ ‬حظه‭ ‬مرتين‭ ‬على‭ ‬الطاولة‭ ‬نفسها‭!‬

 

ألغام‭ ‬درامية

حتى‭ ‬إن‭ ‬أمكننا‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬أفلامه‭ - ‬وبصفة‭ ‬عامة‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ - ‬تنتمي‭ ‬لتقاليد‭ ‬أفلام‭ ‬الجريمة،‭ ‬لكننا‭ ‬سنلاحظ‭ ‬أنه‭ ‬على‭ ‬الدوام‭ ‬لا‭ ‬يكف‭ ‬عن‭ ‬محاولة‭ ‬تعطيل‭ ‬سير‭ ‬التقاليد‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬لهذا‭ ‬القالب‭ ‬بزرع‭ ‬ألغام‭ ‬درامية‭ ‬غير‭ ‬متوقعة،‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬موضع،‭ ‬وسنلاحظ‭ ‬أيضًا‭ ‬أن‭ ‬أفلامه‭ ‬تظل‭ ‬دائمًا‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬جدلية‭ ‬مستمرة‭ ‬مع‭ ‬السينما‭ ‬التي‭ ‬يحبها،‭ ‬ومع‭ ‬علاقته‭ ‬هو‭ ‬بهذه‭ ‬السينما،‭ ‬التي‭ ‬يقبع‭ ‬على‭ ‬قمتها‭ -  ‬وفق‭ ‬تصريحاته‭ -: ‬‮«‬الطيب‭ ‬والشرس‭ ‬والقبيح‮»‬،‭ ‬‮«‬ريو‭ ‬برافو‮»‬،‭ ‬‮«‬سائق‭ ‬التاكسي‮»‬،‭ ‬‮«‬كلهم‭ ‬يضحكون‮»‬،‭ ‬‮«‬الهروب‭ ‬الكبير‮»‬،‭ ‬‮«‬كاري‮»‬،‭ ‬‮«‬الأصابع‭ ‬الخمس‭ ‬للموت‮»‬،‭ ‬‮«‬المعركة‭ ‬الملكية‮»‬،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬أفلام‭ ‬المعارك‭ ‬اليابانية،‭ ‬والأكشن‭ ‬الفلبيني‭.‬

‮«‬كلاب‭ ‬المستودع‮»‬‭ (‬1992م‭) ‬كان‭ ‬أول‭ ‬أفلامه‭ ‬التجارية،‭ ‬وهو‭ ‬فيلم‭ ‬جيد‭ ‬الصنع‭ ‬من‭ ‬الإنتاج‭ ‬المنخفض،‭ ‬ينتمي‭ ‬لثيمة‭ ‬العصابة‭ ‬التي‭ ‬تجتمع‭ ‬للقيام‭ ‬بمهمة‭ ‬صعبة‭ ‬كـفيلم‭ ‬‮«‬غابة‭ ‬الأسفلت‮»‬،‭ ‬وفيلم‭ ‬‮«‬ريفي‭ ‬في‮»‬‭ ‬وغيرهما،‭ ‬لكنه‭ ‬يبدأ‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬تنتهي‭ ‬بقية‭ ‬أفلام‭ ‬القالب‭ ‬نفسه؛‭ ‬فالفيلم‭ ‬يبدأ‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تفشل‭ ‬مهمة‭ ‬السرقة‭ ‬نتيجة‭ ‬خيانة‭ ‬أحد‭ ‬أفراد‭ ‬العصابة،‭ ‬مع‭ ‬الاعتماد‭ ‬جوهريًا‭ ‬على‭ ‬استخدام‭ ‬تقنية‭ ‬العودة‭ ‬للماضي‭ (‬الفلاش‭ ‬باك‭) ‬في‭ ‬سرد‭ ‬ملابسات‭ ‬القصة‭ ‬والعلاقات‭ ‬بين‭ ‬الشخصيات‭.‬

قفز‭ ‬بعده‭ ‬قفزة‭ ‬مختلفة‭ ‬تمامًا‭ ‬بفيلم‭ ‬‮«‬حكايات‭ ‬مثيرة‮»‬‭ (‬1994م‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬فيلم‭ ‬معقد‭ ‬البناء،‭ ‬يبدو‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬يسير‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬الخطأ؛‭ ‬فيلم‭ ‬مليء‭ ‬بشخصيات‭ ‬سيكوباتية،‭ ‬وحشية‭ ‬دموية،‭ ‬مغلفة‭ ‬بتحضر‭ ‬زائف‭ ‬من‭ ‬ثقافة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة‭. ‬ومركز‭ ‬الثقل‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭ -‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬البناء‭ ‬الشائك‭ ‬الذي‭ ‬صُمم‭ ‬لتكون‭ ‬كل‭ ‬نقلة‭ ‬فيه‭ ‬بمنزلة‭ ‬‮«‬مفاجأة‮»‬‭ - ‬هو‭ ‬الحوار‭ ‬الذي‭ ‬تمت‭ ‬كتابته‭ ‬لتكون‭ ‬كل‭ ‬جملة‭ ‬فيه‭ ‬بمنزلة‭ ‬‮«‬حدث‮»‬‭. ‬والفيلم‭ ‬بصفة‭ ‬عامة‭ ‬غير‭ ‬قابل‭ ‬للتكرار،‭ ‬فهو‭ ‬كلعبة‭ ‬الدومينو‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬غلقها‭ ‬بحركة‭ ‬أخيرة‭. ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬كانت‭ ‬خطيئة‭ ‬من‭ ‬تأثروا‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬السينمائيين‭ ‬الشبان‭ ‬في‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم،‭ ‬فحاولوا‭ ‬تقليده‭ ‬في‭ ‬نسخ‭ ‬رديئة‭. ‬ويُحسب‭ ‬لتارانتينو‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬فخ‭ ‬تكراره،‭ ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬أجهض‭ - ‬بسرعة‭ - ‬مشروع‭ ‬صناعة‭ ‬جزء‭ ‬ثان‭ ‬له‭ ‬بعد‭ ‬النجاح‭ ‬النقدي‭ ‬والجماهيري‭ ‬الكبيرين‭ ‬اللذين‭ ‬حظي‭ ‬بهما‭ ‬الفيلم‭.‬

ما‭ ‬يلفت‭ ‬النظر‭ - ‬ضمن‭ ‬ما‭ ‬يلفت‭ - ‬في‭ ‬‮«‬حكايات‭ ‬مثيرة‮»‬،‭ ‬أن‭ ‬تارانتينو‭ ‬يكتب‭ ‬نصًا‭ ‬من‭ ‬العهد‭ ‬القديم‭ ‬هو‭ ‬غير‭ ‬موجود‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬المقدس،‭ ‬النص‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬صامويل‭ ‬جاكسون‭ ‬وادعى‭ ‬بأنه‭ ‬من‭ ‬سفر‭ ‬حزقيال‭ (‬أصحاح‭ ‬25‭ - ‬آية‭ ‬17‭). ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬يعيد‭ ‬أوما‭ ‬ثورمان‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تموت،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬سيعود‭ ‬إلى‭ ‬فعله‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬أوغاد‭ ‬مغمورون‮»‬‭ ‬حين‭ ‬يقتل‭ ‬هتلر‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الفيلم‭ ‬منهيًا‭ ‬بذلك‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭! ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬مقدسًا‭ ‬لدى‭ ‬هذا‭ ‬المقامر؛‭ ‬إنه‭ ‬يطبق‭ ‬تعريف‭ ‬جون‭ ‬ترافولتا‭ ‬للمعجزة‭ ‬في‭ ‬‮«‬حكايات‭ ‬مثيرة‮»‬‭ ‬بأنها‭: ‬‮«‬حين‭ ‬يجعل‭ ‬الرب‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مستحيل‭ ‬ممكنًا‮»‬،‭ ‬لكنه‭ ‬يطبقه‭ ‬وكأن‭ ‬السينمائي‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬يجعل‭ ‬المستحيل‭ ‬ممكنًا‭ ‬في‭ ‬أفلامه‭.‬

يغير‭ ‬المقامر‭ ‬الطاولة‭ ‬التي‭ ‬يلعب‭ ‬عليها،‭ ‬فيخرج‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬جاكي‭ ‬براون‮»‬‭ (‬1997م‭) - ‬وهو‭ ‬الفيلم‭ ‬الوحيد‭ ‬لتارانتينو‭ ‬المعد‭ ‬عن‭ ‬أصل‭ ‬روائي‭ ‬لإيلمور‭ ‬ليونارد‭ - ‬وتدور‭ ‬حبكته‭ ‬حول‭ ‬محاولة‭ ‬الإيقاع‭ ‬بتاجر‭ ‬مخدرات‭ ‬وسلاح‭ ‬أسود،‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أفراد‭ ‬عصابته،‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬بخداعه،‭ ‬وخداع‭ ‬رجال‭ ‬الشرطة‭ ‬أيضًا‭ ‬الذين‭ ‬اتفقوا‭ ‬معها‭. ‬والانطباع‭ ‬العام‭ ‬النهائي‭ ‬الذي‭ ‬نخرج‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬الفيلم،‭ ‬هو‭ ‬تذكر‭ ‬القول‭ ‬الشهير‭ ‬لنيتشه‭: ‬‮«‬الضعيف‭ ‬يهزم‭ ‬القوي‮»‬،‭ ‬والفيلم‭ ‬عمومًا‭ ‬أكثر‭ ‬أعمال‭ ‬تارانتينو‭ ‬‮«‬كلاسيكية‮»‬‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬البناء،‭ ‬ومن‭ ‬حيث‭ ‬التقاليد‭ ‬الدرامية‭ ‬لهذا‭ ‬القالب،‭ ‬وتفوح‭ ‬منه‭ ‬بشدة‭ ‬رائحة‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ -‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬الإيقاع‭ - ‬ويبدو‭ ‬وكأنه‭ ‬فيلم‭ ‬للمخرج‭ ‬سبايك‭ ‬لي‭ ‬أو‭ ‬أحد‭ ‬المدافعين‭ ‬عن‭ ‬حقوق‭ ‬السود‭ ‬في‭ ‬أمريكا؛‭ ‬وتشعر‭ ‬معه‭ ‬وكأن‭ ‬تارانتينو‭ ‬كان‭ ‬يطمح‭ ‬من‭ ‬ورائه‭ ‬إلى‭ ‬لقب‭ ‬‮«‬الأسود‭ ‬الفخري‮»‬‭!‬

 

ثيمة‭ ‬الانتقام

أما‭ ‬فيلمه‭ ‬ذو‭ ‬الجزأين‭ ‬‮«‬قتل‭ ‬بيل‮»‬‭  (‬2003م،‭ ‬2004م‭)‬،‭ ‬ورغم‭ ‬أنه‭ ‬عن‭ ‬الثيمة‭ ‬الشهيرة‭: ‬‮«‬الانتقام»؛‭ ‬انتقام‭ ‬الكونت‭ ‬دي‭ ‬مونت‭ ‬كريستو‭ - ‬في‭ ‬صورة‭ ‬انتقام‭ ‬امرأة‭ (‬أوما‭ ‬ثورمان‭) ‬هذه‭ ‬المرة‭ - ‬فإنه‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬تجميع‭ ‬لرؤية‭ ‬وهضم‭ ‬تارانتينو‭ ‬لتاريخ‭ ‬السينما‭ ‬التي‭ ‬يفضلها‭ (‬أفلام‭ ‬الويسترن،‭ ‬والويسترن‭ ‬سباجيتي،‭ ‬والساموراي،‭ ‬والمعارك‭ ‬اليابانية،‭ ‬والأكشن‭ ‬الفلبيني‭). ‬إنه‭ ‬فيلم‭ ‬الأفلام،‭ ‬وهو‭ ‬فيلم‭ ‬عما‭ ‬يحبه،‭ ‬وعما‭ ‬يحب‭ ‬أن‭ ‬نشاركه‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬أفلامه‭ ‬المفضلة‭. ‬أبطال‭ ‬‮«‬قتل‭ ‬بيل‮»‬‭ ‬لا‭ ‬يتقربون‭ ‬لنا‭ ‬لا‭ ‬بمشاعرهم‭ ‬ولا‭ ‬بأفكارهم‭ ‬المشتركة‭ ‬معنا،‭ ‬بل‭ ‬بالقاسم‭ ‬المشترك‭ ‬بينهم‭ ‬وبيننا‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬نفضله‭ ‬ذ‭ ‬نحن‭ ‬وهم‭ - ‬كمستهلكين‭ ‬لمنتجات‭ ‬ثقافة‭ ‬البوب‭ - ‬مثلما‭ ‬هي‭ ‬الحال‭ ‬أيضًا‭ ‬في‭ ‬فيلمه‭ ‬اللاحق‭ ‬‮«‬ضد‭ ‬الموت‮»‬‭ - ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬تلك‭ ‬المخلوقات‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬المسافة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬السينما‭ ‬والإعلان‭.‬

كتب‭ ‬وأخرج‭ ‬بعده‭ ‬‮«‬ضد‭ ‬الموت‮»‬‭ (‬2007م‭)‬،‭ ‬وهي‭ ‬قصة‭ ‬بسيطة‭ ‬الحبكة،‭ ‬بسيطة‭ ‬البناء‭ - ‬كأنها‭ ‬نقيض‭ ‬‮«‬حكايات‭ ‬مثيرة‮»‬‭ - ‬لكن‭ ‬القصة‭ ‬تتكرر‭ ‬مرتين،‭ ‬بنتيجة‭ ‬مختلفة‭ ‬كل‭ ‬مرة؛‭ ‬عن‭ ‬مهووس‭ ‬بمطاردة‭ ‬الفتيات‭ ‬وقتلهن،‭ ‬ينجح‭ ‬في‭ ‬قتل‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الفتيات‭ ‬في‭ ‬القصة‭ ‬الأولى،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬تنجح‭ ‬مجموعة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬الفتيات‭ ‬في‭ ‬قتله‭ ‬في‭ ‬القصة‭ ‬الثانية‭ (‬وكأن‭ ‬المجموعة‭ ‬الثانية‭ ‬من‭ ‬الفتيات‭ ‬تنتقم‭ ‬للمجموعة‭ ‬الأولى،‭ ‬وليلاحظ‭ ‬القارئ‭ ‬أيضًا‭ ‬أن‭ ‬تارانتينو‭ ‬يربط‭ ‬دائمًا‭ ‬في‭ ‬أفلامه‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬مفهوم‭ ‬البطولة‭ ‬وبين‭ ‬الانتقام‭ ‬بالقتل‭)‬،‭ ‬والفيلم‭ ‬رغم‭ ‬بساطة‭ ‬حبكته‭ ‬وبنائه،‭ ‬فإنه‭ ‬فيلم‭ ‬ممتع،‭ ‬يحمل‭ ‬بصمات‭ ‬أسلوب‭ ‬تارانتينو‭ ‬في‭ ‬الحوار،‭ ‬ورسم‭ ‬الشخصيات،‭ ‬وكيفية‭ ‬بناء‭ ‬المشهد،‭ ‬والموضوعات‭ ‬التي‭ ‬يفضل‭ ‬الحديث‭ ‬عنها،‭ ‬وأسلوبه‭ ‬البصري،‭ ‬وطريقته‭ ‬المميزة‭ ‬في‭ ‬صنع‭ ‬شريط‭ ‬الصوت‭ ‬للفيلم‭.‬

من‭ ‬المدهش‭ ‬أن‭ ‬يلجأ‭ ‬هذا‭ ‬المقامر‭ ‬في‭ ‬تترات‭ ‬النهاية‭ ‬لهذا‭ ‬الفيلم،‭ ‬إلى‭ ‬عرض‭ ‬صور‭ ‬فوتوغرافية‭ ‬شخصية‭ ‬لفتيات‭ ‬وسيدات‭ ‬التقطت‭ ‬في‭ ‬خمسينيات‭ ‬وستينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬وهي‭ ‬صور‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إنها‭ ‬غير‭ ‬قابلة‭ ‬للاستخدام‭ ‬إلا‭ ‬كصور‭ ‬شخصية‭ ‬للذكرى‭ ‬لأصحابها‭ ‬فقط‭. ‬وكأنه‭ ‬بهذا‭ ‬الاستخدام‭ ‬يدين‭ ‬الوسيلة‭ ‬وهو‭ ‬يستخدمها،‭ ‬وكأنه‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬مجتمع‭ ‬السوق‭ ‬الحالي‭ ‬قد‭ ‬أدخل‭ ‬إلى‭ ‬مجاله‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬السابق‭ ‬غير‭ ‬قابل‭ ‬للاستخدام،‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬شخصيًا‭. ‬أو‭ ‬كأنه‭ ‬يقدم‭ ‬الحقبة‭ ‬التي‭ ‬تمت‭ ‬فيها‭ ‬هذه‭ ‬الصور‭ ‬كمُثل‭ ‬عليا،‭ ‬كحنين‭ ‬لتجاوز‭ ‬عيوب‭ ‬المجتمع‭ ‬الاستهلاكي‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثي،‭ ‬كأنه‭ ‬طموح‭ ‬لإحداث‭ ‬قطيعة‭ ‬مع‭ ‬الحقبة‭ ‬الحالية،‭ ‬وحلم‭ ‬بأن‭ ‬تحل‭ ‬الحقبة‭ ‬السابقة‭ ‬محل‭ ‬التالية،‭ ‬فرغم‭ ‬تفاهة‭ ‬هذه‭ ‬الصور‭ - ‬من‭ ‬الوجهة‭ ‬الفنية‭ - ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬استحضارها‭ ‬من‭ ‬رحم‭ ‬الزمن‭ ‬قد‭ ‬أكسبها‭ ‬‮«‬هالة‮»‬،‭ ‬قد‭ ‬أكسبها‭ ‬سحرًا،‭ ‬ربما‭ ‬للبعد‭ ‬الكبير‭ ‬بيننا‭ ‬كمشاهدين‭ ‬وبين‭ ‬استعادة‭ ‬الحقبة‭ ‬التي‭ ‬صُورت‭ ‬فيها،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يضفي‭ ‬عليها‭ ‬طابعًا‭ ‬احتفاليًا‭ - ‬فعدم‭ ‬القابلية‭ ‬للاقتراب‭ ‬من‭ ‬الشيء‭ ‬هو‭ ‬الخاصية‭ ‬المميزة‭ ‬للصور‭ ‬الاحتفالية‭ - ‬للدرجة‭ ‬التي‭ ‬ننزعج‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬محاولته‭ ‬تقليد‭ ‬هذه‭ ‬الصور‭ ‬مرة‭ ‬أو‭ ‬مرتين‭ ‬باستخدام‭ ‬ممثلات‭ ‬وإكسسوارات‭ ‬الحاضر،‭ ‬وكأنه‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬ينفي‭ ‬إمكان‭ ‬استنساخ‭ ‬هذه‭ ‬الحقبة،‭ ‬وأن‭ ‬النتيجة‭ ‬ستكون‭ ‬تشويهًا‭ ‬أكثر‭ ‬فجاجة‭.‬

صنع‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬‮«‬أوغاد‭ ‬مغمورون‮»‬‭  (‬2009م‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬فيلم‭ ‬عن‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الجنود‭ ‬الأمريكيين‭ ‬اليهود‭ (‬يتم‭ ‬تقديمهم‭ ‬بوصفهم‭ ‬مجرمي‭ ‬حرب‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬العنف‭ ‬والسادية‭) ‬والذين‭ ‬يُكونون‭ - ‬بالاستعانة‭ ‬ببعض‭ ‬الممثلين‭ ‬والعاملين‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬السينما‭ - ‬فرقة‭ ‬لتصفية‭ ‬الضباط‭ ‬النازيين‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬المحتلة‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬ويشرعون‭ ‬في‭ ‬تنفيذ‭ ‬خطة‭ ‬لاغتيال‭ ‬الوزير‭ ‬جوبلر،‭ ‬بل‭ ‬وهتلر‭ ‬شخصيًا‭. ‬

من‭ ‬الغريب‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الفيلم،‭ ‬أن‭ ‬تارانتينو‭ ‬يلجأ‭ ‬إلى‭ ‬تزييف‭ ‬التاريخ‭ ‬عن‭ ‬قصد‭ ‬وعمد،‭ ‬بأن‭ ‬يجعل‭ ‬فرقة‭ ‬الانتقام‭ ‬تنجح‭ ‬في‭ ‬اغتيال‭ ‬جوبلر‭ ‬وهتلر،‭ ‬وبالتالي‭ ‬إنهاء‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬بهذه‭ ‬الطريقة‭. ‬وكأن‭ ‬التاريخ‭ ‬لا‭ ‬يعنيه،‭ ‬ولا‭ ‬الحقيقة‭ ‬الموضوعية‭ ‬تعنيه،‭ ‬بل‭ ‬ما‭ ‬يعنيه‭ ‬فقط‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬يؤكد‭ ‬قوة‭ ‬السينما‭ ‬التي‭ ‬قضت‭ ‬على‭ ‬هتلر،‭ ‬السينما‭ ‬ممثلة‭ ‬في‭ ‬السينمائيين‭ ‬أعضاء‭ ‬فرقة‭ ‬القتل،‭ ‬وهو‭ ‬الهدف‭ ‬الذي‭ ‬يتأكد‭ ‬لنا‭ ‬بملاحظة‭ ‬كمِّ‭ ‬الإحالات‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تنتهي‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭ ‬للأفلام‭ ‬وللشخصيات‭ ‬السينمائية‭ ‬المفضلة‭ ‬لدى‭ ‬تارانتينو‭. ‬عمومًا،‭ ‬وأثناء‭ ‬مشاهدة‭ ‬عمل‭ ‬ما‭ ‬لتارانتينو،‭ ‬يُنصح‭ ‬بأخذ‭ ‬إجازة‭ ‬من‭ ‬التاريخ،‭ ‬ومن‭ ‬الحقائق‭ ‬الموضوعية،‭ ‬ومن‭ ‬الأخلاقيات‭ ‬السائدة‭ ‬أيضًا‭.‬

وباستثناء‭ ‬المشهد‭ ‬الافتتاحي‭ ‬الطويل‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬أوغاد‭ ‬مغمورون‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬يحمل‭ ‬بصمات‭ ‬أسلوب‭ ‬تارانتينو‭ ‬في‭ ‬الحوار‭ ‬وبناء‭ ‬المشهد،‭ ‬فإن‭ ‬بقية‭ ‬الفيلم‭ ‬تعد‭ ‬أضعف‭ ‬ما‭ ‬صنع‭ ‬على‭ ‬الإطلاق،‭ ‬رغم‭ ‬محاولته‭ ‬لصنع‭ ‬‮«‬ويسترن‭ ‬سباجتي‮»‬‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬فيلم‭ ‬ينتمي‭ ‬للحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭. ‬الضعف‭ ‬الفني‭ ‬للفيلم‭ ‬يرجع‭ ‬إلى‭ ‬مقامرة‭ ‬تارانتينو‭ ‬باستخدام‭ ‬ثيمة‭ ‬‮«‬الكونت‭ ‬دي‭ ‬مونت‭ ‬كريستو‮»‬‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬محلها،‭ ‬فمن‭ ‬ينفذون‭ ‬الانتقام‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬هما‭: ‬ممثل‭ ‬سينمائي،‭ ‬وصاحبة‭ ‬دار‭ ‬عرض‭ ‬سينمائي‭ ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬لا‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬دوبليرات‭ ‬المشاهد‭ ‬الخطرة‭ ‬في‭ ‬السينما‭ ‬كفيلم‭ ‬‮«‬ضد‭ ‬الموت‮»‬،‭ ‬ولا‭ ‬قاتلة‭ ‬محترفة‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬‮«‬قتل‭ ‬بيل‮»‬،‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬ومن‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭ ‬العبث‭ ‬بالصورة‭ ‬السينتيمنتالية‭ ‬التي‭ ‬رسمتها‭ ‬هوليوود‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬لتلك‭ ‬الحقبة‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬حقبة‭ ‬التضحيات،‭ ‬والبطولات‭ ‬العظيمة‭ ‬الخالدة،‭ ‬والتفوق‭ ‬الأخلاقي‭ ‬لأحد‭ ‬الطرفين‭ ‬على‭ ‬الآخر،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬حاول‭ ‬تارانتينو‭ ‬هدمه‭ ‬بتقديم‭ ‬فرقة‭ ‬الانتقام‭ ‬الأمريكية‭ - ‬اليهودية‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬عنيف‭ ‬وسادي‭ (‬يقتلون‭ ‬خصومهم‭ ‬ويسلخون‭ ‬فروات‭ ‬رءوسهم‭)‬،‭ ‬بل‭ ‬وتقديم‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬يبعث‭ ‬على‭ ‬الضحك‭ (‬وهو‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬بالفعل‭ ‬في‭ ‬صالات‭ ‬السينما‭ ‬عند‭ ‬عرض‭ ‬الفيلم‭)‬،‭ ‬وكأن‭ ‬العنف‭ ‬والقسوة‭ ‬يصلحان‭ ‬هما‭ ‬أيضًا‭ ‬مادة‭ ‬لصنع‭ ‬الكوميديا‭.‬

 

العنف‭ ‬والكوميديا

الملاحظة‭ ‬الأخيرة‭ ‬تنطبق‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬أفلام‭ ‬تارانتينو‭ ‬حتى‭ ‬الآن؛‭ ‬فهو‭ ‬دائمًا‭ ‬ما‭ ‬يربط‭ ‬في‭ ‬أفلامه‭ -‬منذ‭ ‬أول‭ ‬فيلم‭ ‬حتى‭ ‬آخر‭ ‬فيلم‭- ‬بين‭ ‬العنف‭ ‬المفرط‭ ‬والكوميديا،‭ ‬ولنتذكر‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭: ‬قطع‭ ‬أذن‭ ‬المخبر‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬كلاب‭ ‬المستودع‮»‬،‭ ‬إطلاق‭ ‬النار‭ ‬بالخطأ‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬مارفن‭ ‬في‭ ‬‮«‬حكايات‭ ‬مثيرة‮»‬،‭ ‬قتل‭ ‬روبرت‭ ‬دينيرو‭ ‬لبرديجت‭ ‬فوندا‭ ‬لثرثرتها‭ ‬في‭ ‬‮«‬جاكي‭ ‬براون‮»‬،‭ ‬قتل‭ ‬المهووس‭ ‬في‭ ‬الجزء‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬‮«‬ضد‭ ‬الموت‮»‬،‭ ‬مشاهد‭ ‬التعذيب‭ ‬وسلخ‭ ‬فروة‭ ‬الرأس‭ ‬في‭ ‬‮«‬أوغاد‭ ‬مغمورون‮»‬،‭ ‬الإصابات‭ ‬التي‭ ‬يلحقها‭ ‬جيمي‭ ‬فوكس‭ ‬بصامويل‭ ‬جاكسون‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬‮«‬تحطيم‭ ‬أغلال‭ ‬دجانجو‮»‬‭ (‬2012م‭) ‬وهو‭ ‬آخر‭ ‬أفلام‭ ‬تارانتينو‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬وهو‭ ‬مقامرة‭ ‬حاول‭ ‬فيها‭ ‬أن‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬مسعيين‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬واحد‭: ‬صنع‭ ‬فيلم‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬نوعية‭ ‬الـ«وسترن‭ ‬سباجيتي‮»‬‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬الفيلم‭ ‬وسترن‭ ‬سباجيتي‭ ‬‮«‬أسود‮»‬‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬ثانية‭. ‬فالفيلم‭ ‬يتناول‭ ‬فترة‭ ‬من‭ ‬فترات‭ ‬التاريخ‭ ‬الأمريكي‭ ‬المليئة‭ ‬باضطهاد‭ ‬واستعباد‭ ‬السود‭ ‬في‭ ‬ولايات‭ ‬الجنوب‭. ‬استقبل‭ ‬الجمهور‭ ‬الفيلم‭ ‬بنجاح‭ ‬تجاري‭ ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬به،‭ ‬لكنه‭ ‬فيلم‭ ‬من‭ ‬الأفلام‭ ‬متوسطة‭ ‬المستوى‭ ‬لتارانتينو،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬التكلفة‭ ‬الضخمة‭ ‬والإمكانات‭ ‬الكبيرة‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬حشدها‭ ‬له‭.‬

رغم‭ ‬تنوع‭ ‬أفلام‭ ‬تارانتينو،‭ ‬وتباين‭ ‬مستوياتها‭ ‬الفنية‭ ‬تباينًا‭ ‬غير‭ ‬كرونولوجي‭ - ‬فالفيلم‭ ‬الأول‭ ‬مثلًا‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬الثالث،‭ ‬والثالث‭ ‬أفضل‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬السادس‭ - ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬غياب‭ ‬فكرة‭ ‬‮«‬التراكم‮»‬‭ ‬هذه،‭ ‬لا‭ ‬تنفي‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬عاملًا‭ ‬مشتركًا‭ ‬بين‭ ‬جميع‭ ‬أفلام‭ ‬تارانتينو؛‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬‮«‬الأسلوب»؛‭ ‬فأفلامه‭ ‬تظل‭ ‬دائمًا‭ -‬على‭ ‬تنوع‭ ‬قوالبها‭ ‬وطريقة‭ ‬بنائها‭ - ‬أفلامًا‭ ‬شخصية‭ ‬بامتياز،‭ ‬أفلامًا‭ ‬يضمها‭ ‬جميعًا‭ ‬خيط‭ ‬الأسلوب،‭ ‬وكأن‭ ‬المقامر‭ ‬يغير‭ ‬من‭ ‬الطاولة‭ ‬التي‭ ‬يقامر‭ ‬عليها،‭ ‬ومن‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬يقامر‭ ‬فيه،‭ ‬بل‭ ‬ومن‭ ‬نوع‭ ‬اللعبة‭ ‬التي‭ ‬يلعبها،‭ ‬لكنه‭ ‬يحتفظ‭ ‬طوال‭ ‬الوقت‭ ‬بأسلوبه‭ ‬في‭ ‬المقامرة‭ ‬لا‭ ‬يبدله،‭ ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يبدله‭.‬

ومن‭ ‬المثير‭ ‬ملاحظة‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬العوامل‭ ‬المشتركة‭ ‬في‭ ‬أسلوب‭ ‬تارانتينو‭ ‬السينمائي،‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬شخصيات‭ ‬أفلامه‭ ‬ليست‭ ‬شخصيات‭ ‬درامية‭ ‬نمطية،‭ ‬فحياتها‭ ‬لا‭ ‬يقودها‭ ‬هدف‭ ‬درامي‭ - ‬باستثناء‭ ‬‮«‬قتل‭ ‬بيل‮»‬‭ - ‬ولا‭ ‬هي‭ ‬شخصيات‭ ‬كاملة‭ ‬الاستدارة،‭ ‬ولا‭ ‬ثلاثية‭ ‬الأبعاد،‭ ‬هي‭ ‬كشخصيات‭ ‬الدمى‭ ‬الكرتونية‭ ‬ثنائية‭ ‬الأبعاد،‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬علاقاتها‭ ‬بالعالم‭ ‬وبغيرها‭ ‬من‭ ‬الشخصيات‭. ‬مخلوقات‭ ‬تارانتينو‭ ‬هي‭ ‬سلالات‭ ‬لا‭ ‬تعنيها‭ ‬كثيرًا‭ ‬الأفعال‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تحرص‭ ‬حرصًا‭ ‬شديدًا‭ ‬على‭ ‬‮«‬شكل‮»‬‭ ‬التنفيذ،‭ ‬وأوضاع‭ ‬الجسد،‭ ‬والإشارات،‭ ‬والإيماءات‭ ‬أثناء‭ ‬تنفيذ‭ ‬الفعل؛‭ ‬الشكل‭ ‬دائمًا‭ ‬عندها‭ ‬هو‭ ‬الهدف،‭ ‬وكل‭ ‬شيء‭ ‬آخر‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬الأفعال،‭ ‬الأقوال،‭ ‬العلاقات،‭ ‬القيم‮»‬‭ ‬لا‭ ‬تفعل‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬إكسسوارات‭ ‬للشكل‭ - ‬الموضة‭.‬

مخلوقات‭ ‬تارانتينو‭ ‬لا‭ ‬يميزها‭ ‬أيضًا‭ ‬إلا‭ ‬خصيصة‭ ‬إنسانية‭ ‬واحدة‭: ‬وعي‭ ‬عال،‭ ‬وعميق،‭ ‬وحاد‭ ‬بالذات،‭ ‬بالأنا،‭ ‬نرجسية‭ ‬مفرطة،‭ ‬إنهم‭ ‬لا‭ ‬يوجدون‭ ‬لكي‭ ‬يفعلوا،‭ ‬بل‭ ‬لكي‭ ‬يمارسوا‭ ‬ظهورهم،‭ ‬إنهم‭ ‬ممثلون‭ ‬للنخاع‭ - ‬وكل‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬أفلام‭ ‬تارانتينو‭ ‬هو‭ ‬عن‭ ‬حب‭ ‬الظهور‭ - ‬لكنهم‭ ‬ممثلون‭ ‬على‭ ‬السطح‭ ‬فقط،‭ ‬فلا‭ ‬شيء‭ ‬ينفذ‭ ‬للأعماق،‭ ‬فالكلمات‭ ‬لا‭ ‬تخرج‭ ‬من‭ ‬أفواه‭ ‬مخلوقاته‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬شيء‭ ‬ما،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المخلوقات‭ ‬تحيا‭ ‬لكي‭ ‬تستهلك‭ ‬تلك‭ ‬الكلمات،‭ ‬كالممثل‭ ‬الذي‭ ‬يؤدي‭ ‬دورًا،‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬أثر‭ ‬لكائن‭ ‬إنساني‭ ‬حقيقي‭ ‬خلف‭ ‬هذا‭ ‬الممثل‭. ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬مثلًا‭ ‬يمكن‭ ‬تقدير‭ ‬‮«‬القفزة‭ ‬الإيمانية‮»‬‭ ‬التي‭ ‬حدثت‭ ‬لصامويل‭ ‬جاكسون‭ ‬في‭ ‬‮«‬حكايات‭ ‬مثيرة‮»‬‭ ‬تقديرًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬لأن‭ ‬شيئًا‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬نفذ‭ ‬للأعماق،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬العكس،‭ ‬تزعجنا‭ - ‬كمشاهدين‭ ‬معتادين‭ ‬على‭ ‬أسلوب‭ ‬تارانتينو‭ - ‬اللمسة‭ ‬العاطفية‭ ‬لجوليا‭ ‬دجانجل‭ ‬في‭ ‬‮«‬ضد‭ ‬الموت‮»‬‭ ‬عندما‭ ‬تتبادل‭ ‬رسائل‭ ‬نصية‭ ‬من‭ ‬تليفونها‭ ‬مع‭ ‬حبيبها‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬نراه‭. ‬

إن‭ ‬عالم‭ ‬تارانتينو‭ ‬هو‭ ‬عالم‭ ‬أحادي‭ ‬الصوت‭ - ‬على‭ ‬عكس‭ ‬مثلًا‭ ‬بوليفونية‭ ‬شخصيات‭ ‬دوستويفسكي‭ ‬المتعددة‭ ‬الأصوات‭ - ‬لكن‭ ‬رغم‭ ‬هذا‭ ‬‮«‬الإيجاز‮»‬‭ ‬الدرامي‭ ‬في‭ ‬رسم‭ ‬الشخصيات،‭ ‬الذي‭ ‬يشبه‭ ‬زيف‭ ‬الرسومات‭ ‬الكرتونية،‭ ‬فإن‭ ‬المفارقة‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الزيف‭ ‬أقرب‭ ‬كثيرًا‭ ‬إلى‭ ‬الصدق‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬المحاولات‭ ‬‮«‬الواقعية‮»‬‭ ‬في‭ ‬السينما‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬الحقبة‭ ‬التي‭ ‬يعيشها‭ ‬الإنسان‭ ‬المعاصر‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة‭ ‬الاستهلاكي‭.‬

 

حضارة‭ ‬في‭ ‬عزلة

من‭ ‬الملاحظات‭ ‬المثيرة‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي‭ ‬أيضًا‭ ‬في‭ ‬سينما‭ ‬تارانتينو،‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬شبه‭ ‬انعدام‭ ‬لمَشاهد‭ ‬نرى‭ ‬فيها‭ ‬زحامًا‭ ‬في‭ ‬المدينة،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬أعدادًا‭ ‬قليلة‭ ‬من‭ ‬المارة‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ (‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬استخدمهم‭ ‬كضحايا‭ ‬لإطلاق‭ ‬نار‭ ‬أو‭ ‬اصطدام‭ ‬سيارات‭ ‬ببعضها‭ ‬البعض‭). ‬إن‭ ‬هناك‭ ‬شبه‭ ‬انعدام‭ ‬لوجود‭ ‬مجاميع‭ (‬كومبارس‭) ‬مارة‭ ‬أثناء‭ ‬التصوير‭ ‬الخارجي‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬المدن‭. ‬ويبدو‭ ‬لنا‭ ‬طيلة‭ ‬الوقت‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬مقصود‭ ‬من‭ ‬تارانتينو؛‭ ‬وكأن‭ ‬‮«‬الحضارة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬يعبِّر‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬سينماه‭ ‬قد‭ ‬ارتدت‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬العزلة،‭ ‬ومخلوقاته‭ ‬‮«‬الوحشية‮»‬‭ ‬تحيا‭ ‬ضمن‭ ‬هذه‭ ‬العزلة؛‭ ‬ضمن‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬اللااعتمادية‭ ‬على‭ ‬الآخر‭ (‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬الآخر‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يميز‭ ‬المجتمع‭ ‬الإنساني‭ ‬منذ‭ ‬فجر‭ ‬البشرية‭)‬،‭ ‬وكأن‭ ‬المجتمع‭ ‬الاستهلاكي‭ ‬الجديد‭ ‬قد‭ ‬قضى‭ ‬على‭ ‬‮«‬الحاجة‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬الآخر؛‭ ‬تلك‭ ‬الحاجة‭ ‬الدافعة‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬المشتركة،‭ ‬والتي‭ ‬تآكلت‭ ‬بسبب‭ ‬ما‭ ‬يوفره‭ ‬المجتمع‭ ‬الاستهلاكي‭ ‬من‭ ‬استقلال‭ ‬يقضي‭ ‬على‭ ‬أنواع‭ ‬بعينها‭ ‬من‭ ‬السلوك‭ ‬والمشاعر‭. ‬هذه‭ ‬العزلة‭ ‬التي‭ ‬تظهر‭ ‬في‭ ‬أفلام‭ ‬تارانتينو‭ ‬يعززها‭ ‬ما‭ ‬يظهر‭ ‬لنا‭ ‬من‭ ‬شخصياته‭ ‬التي‭  ‬تتمتع‭ ‬بطابع‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬الآلية؛‭ ‬ذلك‭ ‬الطابع‭ ‬الآلي‭ ‬الذي‭ ‬يميز‭ ‬الإنسان‭ ‬الذي‭ ‬يحيا‭ ‬في‭ ‬العزلة‭ ‬ويركن‭ ‬إلى‭ ‬الراحة‭. ‬وكأن‭ ‬المجتمع‭ ‬الاستهلاكي‭ ‬قد‭ ‬أنتج‭ ‬طبقة‭ ‬اجتماعية‭ ‬جديدة‭ ‬هي‭ ‬الوحوش‭ ‬المنعزلة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬التكوين‭ ‬العقلي‭ ‬لها‭ ‬الاستفادة‭ ‬من‭ ‬الخبرة‭ ‬ولا‭ ‬التراكم‭ ‬ويحيون‭ ‬على‭ ‬إيقاع‭ ‬المقامرة،‭ ‬مخلوقات‭ ‬وحشية‭ ‬مقامرة‭ ‬نافدة‭ ‬الصبر؛‭ ‬موضوعات‭ ‬للاستهلاك،‭ ‬وكأن‭ ‬الإنسان‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬يستهلك‭ ‬السلع‭ ‬والأدوات،‭ ‬بل‭ ‬صارت‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تستهلكه‭.‬

المُشاهد‭ ‬المتابع‭ ‬لأعمال‭ ‬تارانتينو‭ ‬يعرف‭ ‬أيضًا‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬شخصياته‭ ‬تتكلم‭ ‬بلسانه‭ ‬هو،‭ ‬إنه‭ ‬هو‭ ‬الممثل‭ - ‬المؤدي‭ ‬الحقيقي‭ ‬لكل‭ ‬أدوار‭ ‬شخصياته‭ ‬الكرتونية،‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬يصح‭ ‬الاستنتاج‭ ‬بأنها‭ ‬كلها‭ ‬تعبير‭ ‬عنه‭ ‬هو‭ ‬شخصيًا،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إنه‭ ‬يستمتع‭ ‬بالتعبير‭ ‬بطريقته‭ ‬الشخصية‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الشخصيات،‭ ‬إنه‭ ‬يستمتع‭ ‬بلعب‭ ‬دور‭ ‬الخارج‭ ‬على‭ ‬القانون،‭ ‬رجل‭ ‬العصابات،‭ ‬راعي‭ ‬البقر‭ ‬الذي‭ ‬يدخل‭ ‬في‭ ‬مبارزات‭ ‬فردية‭ ‬مع‭ ‬خصومه،‭ ‬إنه‭ ‬مقامر‭ ‬يتطلع‭ ‬إلى‭ ‬لفت‭ ‬نظر‭ ‬بقية‭ ‬الحضور‭ ‬في‭ ‬صالة‭ ‬القمار‭ ‬بلعب‭ ‬دور‭ ‬المقامر‭ ‬الذي‭ ‬يصارع‭ ‬الحظ،‭ ‬يصارع‭ ‬القدر‭.‬

ومن‭ ‬هنا‭ ‬فإنه‭ ‬يصمم‭ ‬كل‭ ‬جزء‭ ‬في‭ ‬أفلامه‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬ألعاب‭ ‬الواقع‭ ‬الافتراضي‭ (‬virtual‭ ‬reality‭)‬،‭ ‬بحيث‭ ‬يلعب‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬منها‭ (‬كمؤلف‭) ‬دور‭ ‬البطولة،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬تأتي‭ ‬شهيته‭ ‬العارمة‭ ‬بتفعيل‭ ‬أداة‭ ‬‮«‬المفاجأة‮»‬‭ ‬باستمرار،‭ ‬التي‭ ‬تتيح‭ ‬للمؤلف‭ ‬أن‭ ‬يلعب‭ ‬دور‭ ‬البطولة،‭ ‬فالمصير‭ ‬والتغيرات‭ ‬في‭ ‬يده‭ ‬هو‭ ‬وحده،‭ ‬وهو‭ ‬المسئول‭ ‬عن‭ ‬خلق‭ ‬الصدمات‭ ‬المتتابعة‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬المُشاهد؛‭ ‬إن‭ ‬تارانتينو‭ ‬يحيا‭ ‬سينمائيًا‭ ‬على‭ ‬إيقاع‭ ‬الصدمات،‭ ‬وخلق‭ ‬الارتباك‭ ‬والتوترات‭ ‬التي‭ ‬تستتبعها‭.‬

ينتج‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬حقيقة‭ ‬أنك‭ ‬بمشاهدة‭ ‬أفلام‭ ‬تارانتينو،‭ ‬فإن‭ ‬أفلامه‭ ‬لا‭ ‬تتغلغل‭ ‬لداخلك‭ - ‬ربما‭ ‬نتيجة‭ ‬اعتمادها‭ ‬على‭ ‬‮«‬الصدمات‮»‬‭ ‬المتتالية‭ ‬التي‭ ‬تجهض‭ ‬إمكان‭ ‬التسلل‭ ‬إلى‭ ‬داخل‭ ‬النفس‭ - ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تتغلغل‭ ‬أنت‭ ‬كمشاهد‭ ‬داخلها،‭ ‬مثل‭ ‬مؤدي‭ ‬الكاروكي‭ ‬الذي‭ ‬يؤدي‭ ‬الأغنية‭ ‬المسجلة‭ ‬مسبقًا‭ ‬على‭ ‬خلفية‭ ‬مصورة‭ ‬مسبقًا،‭ ‬والذي‭ ‬يكون‭ ‬تركيزه‭ ‬منصبًا‭ ‬على‭ ‬النجاح‭ ‬في‭ ‬التزامن‭ ‬بصوته‭ ‬مع‭ ‬أغنية‭ ‬الخلفية،‭ ‬فلا‭ ‬يتسلل‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬شيء‭ ‬حقيقي‭ ‬من‭ ‬الأغنية‭ ‬لداخله‭.‬

ولذلك‭ ‬لا‭ ‬يتمتع‭ ‬المشاهد‭ ‬بأي‭ ‬حرية‭ ‬في‭ ‬التملص‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬تارانتينو،‭ ‬ولا‭ ‬بأي‭ ‬مساحة‭ ‬للاختلاف‭ ‬في‭ ‬الرأي‭ ‬أو‭ ‬التفسير،‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬حداثي‭ ‬يزخر‭ ‬بالشطارة‭ ‬الخاوية‭ ‬من‭ ‬المعنى،‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬عالم‭ ‬تارانتينو،‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يقدم‭ ‬أفلامه‭ ‬للمُشاهد‭ ‬لكي‭ ‬يحرره‭ ‬من‭ ‬الوعي‭ ‬الزائف،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬العكس،‭ ‬لكي‭ ‬يضفي‭ ‬عليه‭ ‬مزيدًا‭ ‬من‭ ‬الأثقال‭ ‬والقيود‭ ‬الذهنية‭ ‬المعبأة‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬صدمات‭ ‬متلاحقة‭ ‬لا‭ ‬فكاك‭ ‬منها،‭ ‬وكأن‭ ‬المُشاهد‭ ‬لدى‭ ‬تارانتينو‭ ‬هو‭ ‬العدو‭ ‬‭.