كوينتن تارانتينو.. المقامر الكبير

في فيلم «قتل بيل» (2004م)، يراهن المخرج الأمريكي كوينتن تارانتينو «تينيسي» (1963م) رهانًا شديد الصعوبة؛ فيقترب من وجه بيل (ديفيد كاراداين) في لقطات قريبة جدًا، وهو يعلم أن هوليوود لم تجرؤ منذ رحيل الممثل جون وين والمخرج سيرجي ليوني على الاقتراب بهذا القدر من وجه رجل. وينجح رهان تارانتينو نجاحًا مضاعفًا -وكأنه راهن على الصفر في لعبة الروليت-، فيعيد المُشاهد بضربة واحدة لزمن أفلام الوسترن، ولوجوه رعاة البقر في تلك الأفلام: بقسوة تضاريسها الذكورية، بخطوطها الحادة، بغضونها، وجفافها التعبيري الصحراوي.
لكن حالة الحنين للوسترن هذه تكون في الحقيقة حالة حنين مُفرَّغة من عاطفيتها؛ حنين عقلي محكوم ومضبوط الانفعالات، لا يصل أبدًا إلى حد العاطفية، فتارانتينو قد ضاعف من مجازفته بقيامه مسبقًا ببناء حائط عال - كما يفعل وهو في أفضل حالاته - يقطع الطريق على العاطفية، ويمنع وصولها للمُشاهد. اللغم البارد الذي زرعه تارانتينو لتجريد حالة الحنين تلك من عاطفيتها؛ هو إدراك المُشاهد - وهو يتأمل تضاريس وجه بيل - للمفارقة من أن بيل لا يعيش في الصحراء، ولا في زمن الوسترن، بل في المدينة الما بعد حداثية، وأنه ليس كجون وين في فيلم المخرج الكبير جون فورد «الباحثون» (1956م) يحاول في رحلته الطويلة لملمة شمل أسرة، بل على العكس، فبيل في الحقيقة يحاول تحطيم شمل أسرة؛ أسرته هو شخصيًا.
رهانات تارانتينو السينمائية لا تتوقف، إنه مقامر دائم، مقامر للنخاع، يحقق أحيانًا مكاسب خيالية، ويخسر مرات أخرى أيضاً، ككل المقامرين؛ يخسر مَشاهد: كخسارته في مشهد النهاية الهوليوودية السَويّة جدًا لفيلم «قتل بيل»، أو مشهد اغتصاب مارسيليس والاس في فيلم «حكايات مثيرة»، أو يخسر أفلامًا بكاملها: كفيلم «أوغاد مغمورون»، لكنه يظل دائمًا كالمقامرين الكبار، لا يشبع أبدًا ظمأه للمجازفة، ولا يكف أبدًا عن استفزاز حظوظه مع الجمهور.
واعيًا أو بالفطرة، يدرك المقامر أن القمار هو أعلى أشكال المخاطرة، لأنه يضعه في موقف التهديد المستمر، ومن هنا تكون الإثارة في قمة كمالها. وكذلك الأمر بالنسبة لصياد الأسود مثلًا؛ الذي يفقد الإثارة بعد الأسد الثالث، فالاعتياد الناتج عن الممارسة والتأمين يجعل من النتيجة شبه مضمونة، ويجعل الصياد يتقدم في حرفته يومًا بعد يوم، مراكمًا خبرة فوق أخرى، فتخفت إثارة ترقُّب النتيجة، وإن ظلت هناك إثارة ما، فهي تنبع من مراقبة الصياد لخبرته الشخصية في عملها، من مراقبته لدرجة إتقانه للصيد.
أما في القمار فعلى العكس، فليس هناك أي وضع مضمون في القمار، وكل لحظة زمنية تحمل تهديدًا بالخسارة كما تحمل آمالًا في الربح. إنها مبارزة عارية بين المقامر وبين القدر، والمقامر هنا يستمر في اللعب في ظل التهديد المستمر بالخسارة، فلا وجود في هذه المبارزة لفكرة «الرشد»، ولا يمكنه في أي وقت -مهما طالت المدة الزمنية لممارسته للقمار- الادعاء بإتقانه اللعب، لأن فكرة «الإتقان» ذ الشرط الضروري للتقدم - هي فكرة شديدة المراوغة في القمار، فلا يمكن لمقامر - مهما بلغ من الذكاء والمهارة - الوثوق بأنه أتقن اللعب بحيث تصبح النتيجة مضمونة، ولا الادعاء بأن طول الممارسة قد حقق له «تقدمًا» مهنيًا في القمار. في الحقيقة، لا وجود لفكرة «التقدم» بالمعنى الغربي في لعبة القمار، بل إن قيمًا سلبية في العقل الحديث بشكل عام، هي السائدة عند المقامر، قيم مثل: تجاهل الخبرة، المجازفة، البدايات الجديدة، التكرار، تجاهل الوعي، نفاد الصبر، الإدمان.
إن الأمل في الانتصار، في إلحاق هزيمة بالقدر، هو حمى لا تستطيع إيقافها صدمات الخسارة المتتالية، فهذه الحمى منفصلة عن الخبرة التاريخية للمقامر ومستقلة عنها. والمقامر وإن ربح مرة - بعد خسارات متتالية - فإن ربحه ليس نتيجة لتراكم الخبرة التي تحثه باستمرار -إن هو استجاب لصوتها - على الانسحاب، ولكنه في الحقيقة نتيجة لتجاهل صوت الخبرة.
يترتب على غياب دور «الخبرة» في القمار؛ غياب فكرة «المشروع» لدى المقامر؛ فليس هناك إلا مشروع الاستمرار على الطاولة، الاستمرار في المبارزة، الاستمرار في ظل التهديدات الدائمة، فما يتم ربحه قد يضيع في أول لعبة تالية مهددًا بسقوط مهين، فالمقامر يدرك جيدًا أنه ما من لعبة من ألعابه تعتمد على اللعبة السابقة، فليس للقمار ماض، ولا ذاكرة، وبالتأكيد ليس هناك تراكم في القمار، فالرمية التالية للنرد تقضي على الماضي الثقيل للرمية السابقة عليها.
وأفلام تارانتينو، بالمثل، لا تمثل «مشروعًا» سينمائيًا، ولا تمثل تراكمًا فنيًا يعلو فيه اللاحق على السابق، فليس هناك من «اعتمادية» لأحدهما على الآخر، فيمكننا التوقع بسهولة أن فيلم تارانتينو الجديد سيكون تجربة طازجة مليئة بالمفاجآت والصدمات للمُشاهد، وكأنه يطبق القول الشهير لدى المقامرين: لا ينبغي أن يجرب المقامر حظه مرتين على الطاولة نفسها!
ألغام درامية
حتى إن أمكننا القول إن أفلامه - وبصفة عامة حتى الآن - تنتمي لتقاليد أفلام الجريمة، لكننا سنلاحظ أنه على الدوام لا يكف عن محاولة تعطيل سير التقاليد الكلاسيكية لهذا القالب بزرع ألغام درامية غير متوقعة، وفي كل موضع، وسنلاحظ أيضًا أن أفلامه تظل دائمًا في علاقة جدلية مستمرة مع السينما التي يحبها، ومع علاقته هو بهذه السينما، التي يقبع على قمتها - وفق تصريحاته -: «الطيب والشرس والقبيح»، «ريو برافو»، «سائق التاكسي»، «كلهم يضحكون»، «الهروب الكبير»، «كاري»، «الأصابع الخمس للموت»، «المعركة الملكية»، بالإضافة إلى أفلام المعارك اليابانية، والأكشن الفلبيني.
«كلاب المستودع» (1992م) كان أول أفلامه التجارية، وهو فيلم جيد الصنع من الإنتاج المنخفض، ينتمي لثيمة العصابة التي تجتمع للقيام بمهمة صعبة كـفيلم «غابة الأسفلت»، وفيلم «ريفي في» وغيرهما، لكنه يبدأ من حيث تنتهي بقية أفلام القالب نفسه؛ فالفيلم يبدأ بعد أن تفشل مهمة السرقة نتيجة خيانة أحد أفراد العصابة، مع الاعتماد جوهريًا على استخدام تقنية العودة للماضي (الفلاش باك) في سرد ملابسات القصة والعلاقات بين الشخصيات.
قفز بعده قفزة مختلفة تمامًا بفيلم «حكايات مثيرة» (1994م)، وهو فيلم معقد البناء، يبدو فيه أن كل شيء يسير على النحو الخطأ؛ فيلم مليء بشخصيات سيكوباتية، وحشية دموية، مغلفة بتحضر زائف من ثقافة ما بعد الحداثة. ومركز الثقل في الفيلم -إلى جانب البناء الشائك الذي صُمم لتكون كل نقلة فيه بمنزلة «مفاجأة» - هو الحوار الذي تمت كتابته لتكون كل جملة فيه بمنزلة «حدث». والفيلم بصفة عامة غير قابل للتكرار، فهو كلعبة الدومينو التي تم غلقها بحركة أخيرة. ومن هنا كانت خطيئة من تأثروا به من السينمائيين الشبان في أنحاء العالم، فحاولوا تقليده في نسخ رديئة. ويُحسب لتارانتينو أنه لم يقع في فخ تكراره، حتى أنه أجهض - بسرعة - مشروع صناعة جزء ثان له بعد النجاح النقدي والجماهيري الكبيرين اللذين حظي بهما الفيلم.
ما يلفت النظر - ضمن ما يلفت - في «حكايات مثيرة»، أن تارانتينو يكتب نصًا من العهد القديم هو غير موجود في الكتاب المقدس، النص الذي جاء على لسان صامويل جاكسون وادعى بأنه من سفر حزقيال (أصحاح 25 - آية 17). بل إنه يعيد أوما ثورمان إلى الحياة بعد أن تموت، وهو ما سيعود إلى فعله في فيلم «أوغاد مغمورون» حين يقتل هتلر في نهاية الفيلم منهيًا بذلك الحرب العالمية الثانية! لا شيء مقدسًا لدى هذا المقامر؛ إنه يطبق تعريف جون ترافولتا للمعجزة في «حكايات مثيرة» بأنها: «حين يجعل الرب ما هو مستحيل ممكنًا»، لكنه يطبقه وكأن السينمائي هو من يجعل المستحيل ممكنًا في أفلامه.
يغير المقامر الطاولة التي يلعب عليها، فيخرج فيلم «جاكي براون» (1997م) - وهو الفيلم الوحيد لتارانتينو المعد عن أصل روائي لإيلمور ليونارد - وتدور حبكته حول محاولة الإيقاع بتاجر مخدرات وسلاح أسود، من قبل واحدة من أفراد عصابته، التي تقوم بخداعه، وخداع رجال الشرطة أيضًا الذين اتفقوا معها. والانطباع العام النهائي الذي نخرج به من الفيلم، هو تذكر القول الشهير لنيتشه: «الضعيف يهزم القوي»، والفيلم عمومًا أكثر أعمال تارانتينو «كلاسيكية» من حيث البناء، ومن حيث التقاليد الدرامية لهذا القالب، وتفوح منه بشدة رائحة سبعينيات القرن الماضي -خصوصًا في الإيقاع - ويبدو وكأنه فيلم للمخرج سبايك لي أو أحد المدافعين عن حقوق السود في أمريكا؛ وتشعر معه وكأن تارانتينو كان يطمح من ورائه إلى لقب «الأسود الفخري»!
ثيمة الانتقام
أما فيلمه ذو الجزأين «قتل بيل» (2003م، 2004م)، ورغم أنه عن الثيمة الشهيرة: «الانتقام»؛ انتقام الكونت دي مونت كريستو - في صورة انتقام امرأة (أوما ثورمان) هذه المرة - فإنه في الحقيقة تجميع لرؤية وهضم تارانتينو لتاريخ السينما التي يفضلها (أفلام الويسترن، والويسترن سباجيتي، والساموراي، والمعارك اليابانية، والأكشن الفلبيني). إنه فيلم الأفلام، وهو فيلم عما يحبه، وعما يحب أن نشاركه فيه من أفلامه المفضلة. أبطال «قتل بيل» لا يتقربون لنا لا بمشاعرهم ولا بأفكارهم المشتركة معنا، بل بالقاسم المشترك بينهم وبيننا في ما نفضله ذ نحن وهم - كمستهلكين لمنتجات ثقافة البوب - مثلما هي الحال أيضًا في فيلمه اللاحق «ضد الموت» - وهو ما يجعل تلك المخلوقات في منتصف المسافة ما بين السينما والإعلان.
كتب وأخرج بعده «ضد الموت» (2007م)، وهي قصة بسيطة الحبكة، بسيطة البناء - كأنها نقيض «حكايات مثيرة» - لكن القصة تتكرر مرتين، بنتيجة مختلفة كل مرة؛ عن مهووس بمطاردة الفتيات وقتلهن، ينجح في قتل مجموعة من الفتيات في القصة الأولى، في حين تنجح مجموعة أخرى من الفتيات في قتله في القصة الثانية (وكأن المجموعة الثانية من الفتيات تنتقم للمجموعة الأولى، وليلاحظ القارئ أيضًا أن تارانتينو يربط دائمًا في أفلامه ما بين مفهوم البطولة وبين الانتقام بالقتل)، والفيلم رغم بساطة حبكته وبنائه، فإنه فيلم ممتع، يحمل بصمات أسلوب تارانتينو في الحوار، ورسم الشخصيات، وكيفية بناء المشهد، والموضوعات التي يفضل الحديث عنها، وأسلوبه البصري، وطريقته المميزة في صنع شريط الصوت للفيلم.
من المدهش أن يلجأ هذا المقامر في تترات النهاية لهذا الفيلم، إلى عرض صور فوتوغرافية شخصية لفتيات وسيدات التقطت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وهي صور يمكن القول إنها غير قابلة للاستخدام إلا كصور شخصية للذكرى لأصحابها فقط. وكأنه بهذا الاستخدام يدين الوسيلة وهو يستخدمها، وكأنه يقول إن مجتمع السوق الحالي قد أدخل إلى مجاله كل ما كان في السابق غير قابل للاستخدام، كل ما كان شخصيًا. أو كأنه يقدم الحقبة التي تمت فيها هذه الصور كمُثل عليا، كحنين لتجاوز عيوب المجتمع الاستهلاكي ما بعد الحداثي، كأنه طموح لإحداث قطيعة مع الحقبة الحالية، وحلم بأن تحل الحقبة السابقة محل التالية، فرغم تفاهة هذه الصور - من الوجهة الفنية - إلا أن استحضارها من رحم الزمن قد أكسبها «هالة»، قد أكسبها سحرًا، ربما للبعد الكبير بيننا كمشاهدين وبين استعادة الحقبة التي صُورت فيها، وهو ما يضفي عليها طابعًا احتفاليًا - فعدم القابلية للاقتراب من الشيء هو الخاصية المميزة للصور الاحتفالية - للدرجة التي ننزعج فيها من محاولته تقليد هذه الصور مرة أو مرتين باستخدام ممثلات وإكسسوارات الحاضر، وكأنه من جديد ينفي إمكان استنساخ هذه الحقبة، وأن النتيجة ستكون تشويهًا أكثر فجاجة.
صنع بعد ذلك «أوغاد مغمورون» (2009م)، وهو فيلم عن مجموعة من الجنود الأمريكيين اليهود (يتم تقديمهم بوصفهم مجرمي حرب في غاية العنف والسادية) والذين يُكونون - بالاستعانة ببعض الممثلين والعاملين في صناعة السينما - فرقة لتصفية الضباط النازيين في فرنسا المحتلة في الحرب العالمية الثانية، ويشرعون في تنفيذ خطة لاغتيال الوزير جوبلر، بل وهتلر شخصيًا.
من الغريب في هذا الفيلم، أن تارانتينو يلجأ إلى تزييف التاريخ عن قصد وعمد، بأن يجعل فرقة الانتقام تنجح في اغتيال جوبلر وهتلر، وبالتالي إنهاء الحرب العالمية الثانية بهذه الطريقة. وكأن التاريخ لا يعنيه، ولا الحقيقة الموضوعية تعنيه، بل ما يعنيه فقط هو أن يؤكد قوة السينما التي قضت على هتلر، السينما ممثلة في السينمائيين أعضاء فرقة القتل، وهو الهدف الذي يتأكد لنا بملاحظة كمِّ الإحالات التي لا تنتهي في الفيلم للأفلام وللشخصيات السينمائية المفضلة لدى تارانتينو. عمومًا، وأثناء مشاهدة عمل ما لتارانتينو، يُنصح بأخذ إجازة من التاريخ، ومن الحقائق الموضوعية، ومن الأخلاقيات السائدة أيضًا.
وباستثناء المشهد الافتتاحي الطويل لـ «أوغاد مغمورون»، الذي يحمل بصمات أسلوب تارانتينو في الحوار وبناء المشهد، فإن بقية الفيلم تعد أضعف ما صنع على الإطلاق، رغم محاولته لصنع «ويسترن سباجتي» في إطار فيلم ينتمي للحرب العالمية الثانية. الضعف الفني للفيلم يرجع إلى مقامرة تارانتينو باستخدام ثيمة «الكونت دي مونت كريستو» في غير محلها، فمن ينفذون الانتقام في الواقع هما: ممثل سينمائي، وصاحبة دار عرض سينمائي في فرنسا، لا مجموعة من دوبليرات المشاهد الخطرة في السينما كفيلم «ضد الموت»، ولا قاتلة محترفة كما في «قتل بيل»، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى العبث بالصورة السينتيمنتالية التي رسمتها هوليوود من قبل لتلك الحقبة على أنها حقبة التضحيات، والبطولات العظيمة الخالدة، والتفوق الأخلاقي لأحد الطرفين على الآخر، وهو ما حاول تارانتينو هدمه بتقديم فرقة الانتقام الأمريكية - اليهودية على نحو عنيف وسادي (يقتلون خصومهم ويسلخون فروات رءوسهم)، بل وتقديم ذلك على نحو يبعث على الضحك (وهو ما حدث بالفعل في صالات السينما عند عرض الفيلم)، وكأن العنف والقسوة يصلحان هما أيضًا مادة لصنع الكوميديا.
العنف والكوميديا
الملاحظة الأخيرة تنطبق على كل أفلام تارانتينو حتى الآن؛ فهو دائمًا ما يربط في أفلامه -منذ أول فيلم حتى آخر فيلم- بين العنف المفرط والكوميديا، ولنتذكر على سبيل المثال: قطع أذن المخبر في فيلم «كلاب المستودع»، إطلاق النار بالخطأ على وجه مارفن في «حكايات مثيرة»، قتل روبرت دينيرو لبرديجت فوندا لثرثرتها في «جاكي براون»، قتل المهووس في الجزء الثاني من «ضد الموت»، مشاهد التعذيب وسلخ فروة الرأس في «أوغاد مغمورون»، الإصابات التي يلحقها جيمي فوكس بصامويل جاكسون في المشهد ما قبل الأخير من «تحطيم أغلال دجانجو» (2012م) وهو آخر أفلام تارانتينو حتى الآن، وهو مقامرة حاول فيها أن يجمع بين مسعيين في آن واحد: صنع فيلم جديد من نوعية الـ«وسترن سباجيتي» من ناحية، وأن يكون الفيلم وسترن سباجيتي «أسود» من ناحية ثانية. فالفيلم يتناول فترة من فترات التاريخ الأمريكي المليئة باضطهاد واستعباد السود في ولايات الجنوب. استقبل الجمهور الفيلم بنجاح تجاري لا بأس به، لكنه فيلم من الأفلام متوسطة المستوى لتارانتينو، على الرغم من التكلفة الضخمة والإمكانات الكبيرة التي تم حشدها له.
رغم تنوع أفلام تارانتينو، وتباين مستوياتها الفنية تباينًا غير كرونولوجي - فالفيلم الأول مثلًا أفضل من الثالث، والثالث أفضل كثيرًا من السادس - إلا أن غياب فكرة «التراكم» هذه، لا تنفي أن هناك عاملًا مشتركًا بين جميع أفلام تارانتينو؛ ألا وهو «الأسلوب»؛ فأفلامه تظل دائمًا -على تنوع قوالبها وطريقة بنائها - أفلامًا شخصية بامتياز، أفلامًا يضمها جميعًا خيط الأسلوب، وكأن المقامر يغير من الطاولة التي يقامر عليها، ومن المكان الذي يقامر فيه، بل ومن نوع اللعبة التي يلعبها، لكنه يحتفظ طوال الوقت بأسلوبه في المقامرة لا يبدله، لأنه لا يستطيع أن يبدله.
ومن المثير ملاحظة أن من أهم العوامل المشتركة في أسلوب تارانتينو السينمائي، هو أن شخصيات أفلامه ليست شخصيات درامية نمطية، فحياتها لا يقودها هدف درامي - باستثناء «قتل بيل» - ولا هي شخصيات كاملة الاستدارة، ولا ثلاثية الأبعاد، هي كشخصيات الدمى الكرتونية ثنائية الأبعاد، حتى في علاقاتها بالعالم وبغيرها من الشخصيات. مخلوقات تارانتينو هي سلالات لا تعنيها كثيرًا الأفعال بقدر ما تحرص حرصًا شديدًا على «شكل» التنفيذ، وأوضاع الجسد، والإشارات، والإيماءات أثناء تنفيذ الفعل؛ الشكل دائمًا عندها هو الهدف، وكل شيء آخر مثل «الأفعال، الأقوال، العلاقات، القيم» لا تفعل في الحقيقة سوى أن تكون إكسسوارات للشكل - الموضة.
مخلوقات تارانتينو لا يميزها أيضًا إلا خصيصة إنسانية واحدة: وعي عال، وعميق، وحاد بالذات، بالأنا، نرجسية مفرطة، إنهم لا يوجدون لكي يفعلوا، بل لكي يمارسوا ظهورهم، إنهم ممثلون للنخاع - وكل شيء في أفلام تارانتينو هو عن حب الظهور - لكنهم ممثلون على السطح فقط، فلا شيء ينفذ للأعماق، فالكلمات لا تخرج من أفواه مخلوقاته للتعبير عن شيء ما، بقدر ما أن هذه المخلوقات تحيا لكي تستهلك تلك الكلمات، كالممثل الذي يؤدي دورًا، ولكن لا أثر لكائن إنساني حقيقي خلف هذا الممثل. ومن هنا مثلًا يمكن تقدير «القفزة الإيمانية» التي حدثت لصامويل جاكسون في «حكايات مثيرة» تقديرًا كبيرًا لأن شيئًا ما قد نفذ للأعماق، أو على العكس، تزعجنا - كمشاهدين معتادين على أسلوب تارانتينو - اللمسة العاطفية لجوليا دجانجل في «ضد الموت» عندما تتبادل رسائل نصية من تليفونها مع حبيبها الذي لا نراه.
إن عالم تارانتينو هو عالم أحادي الصوت - على عكس مثلًا بوليفونية شخصيات دوستويفسكي المتعددة الأصوات - لكن رغم هذا «الإيجاز» الدرامي في رسم الشخصيات، الذي يشبه زيف الرسومات الكرتونية، فإن المفارقة أن هذا الزيف أقرب كثيرًا إلى الصدق من كل المحاولات «الواقعية» في السينما للتعبير عن الحقبة التي يعيشها الإنسان المعاصر في مجتمع ما بعد الحداثة الاستهلاكي.
حضارة في عزلة
من الملاحظات المثيرة بالنسبة لي أيضًا في سينما تارانتينو، أن هناك شبه انعدام لمَشاهد نرى فيها زحامًا في المدينة، أو حتى أعدادًا قليلة من المارة في الشوارع (إلا إذا استخدمهم كضحايا لإطلاق نار أو اصطدام سيارات ببعضها البعض). إن هناك شبه انعدام لوجود مجاميع (كومبارس) مارة أثناء التصوير الخارجي في شوارع المدن. ويبدو لنا طيلة الوقت أن ذلك مقصود من تارانتينو؛ وكأن «الحضارة» التي يعبِّر عنها في سينماه قد ارتدت إلى حالة من العزلة، ومخلوقاته «الوحشية» تحيا ضمن هذه العزلة؛ ضمن حالة من اللااعتمادية على الآخر (الاعتماد على الآخر هو ما يميز المجتمع الإنساني منذ فجر البشرية)، وكأن المجتمع الاستهلاكي الجديد قد قضى على «الحاجة» إلى الآخر؛ تلك الحاجة الدافعة إلى الحياة المشتركة، والتي تآكلت بسبب ما يوفره المجتمع الاستهلاكي من استقلال يقضي على أنواع بعينها من السلوك والمشاعر. هذه العزلة التي تظهر في أفلام تارانتينو يعززها ما يظهر لنا من شخصياته التي تتمتع بطابع أقرب إلى الآلية؛ ذلك الطابع الآلي الذي يميز الإنسان الذي يحيا في العزلة ويركن إلى الراحة. وكأن المجتمع الاستهلاكي قد أنتج طبقة اجتماعية جديدة هي الوحوش المنعزلة التي لا يستطيع التكوين العقلي لها الاستفادة من الخبرة ولا التراكم ويحيون على إيقاع المقامرة، مخلوقات وحشية مقامرة نافدة الصبر؛ موضوعات للاستهلاك، وكأن الإنسان لم يعد هو من يستهلك السلع والأدوات، بل صارت هي التي تستهلكه.
المُشاهد المتابع لأعمال تارانتينو يعرف أيضًا أن كل شخصياته تتكلم بلسانه هو، إنه هو الممثل - المؤدي الحقيقي لكل أدوار شخصياته الكرتونية، ولكن لا يصح الاستنتاج بأنها كلها تعبير عنه هو شخصيًا، بقدر ما يمكن القول إنه يستمتع بالتعبير بطريقته الشخصية عن هذه الشخصيات، إنه يستمتع بلعب دور الخارج على القانون، رجل العصابات، راعي البقر الذي يدخل في مبارزات فردية مع خصومه، إنه مقامر يتطلع إلى لفت نظر بقية الحضور في صالة القمار بلعب دور المقامر الذي يصارع الحظ، يصارع القدر.
ومن هنا فإنه يصمم كل جزء في أفلامه كما في ألعاب الواقع الافتراضي (virtual reality)، بحيث يلعب هو في كل منها (كمؤلف) دور البطولة، ومن هنا تأتي شهيته العارمة بتفعيل أداة «المفاجأة» باستمرار، التي تتيح للمؤلف أن يلعب دور البطولة، فالمصير والتغيرات في يده هو وحده، وهو المسئول عن خلق الصدمات المتتابعة في نفس المُشاهد؛ إن تارانتينو يحيا سينمائيًا على إيقاع الصدمات، وخلق الارتباك والتوترات التي تستتبعها.
ينتج عن ذلك حقيقة أنك بمشاهدة أفلام تارانتينو، فإن أفلامه لا تتغلغل لداخلك - ربما نتيجة اعتمادها على «الصدمات» المتتالية التي تجهض إمكان التسلل إلى داخل النفس - بقدر ما تتغلغل أنت كمشاهد داخلها، مثل مؤدي الكاروكي الذي يؤدي الأغنية المسجلة مسبقًا على خلفية مصورة مسبقًا، والذي يكون تركيزه منصبًا على النجاح في التزامن بصوته مع أغنية الخلفية، فلا يتسلل في النهاية شيء حقيقي من الأغنية لداخله.
ولذلك لا يتمتع المشاهد بأي حرية في التملص من عالم تارانتينو، ولا بأي مساحة للاختلاف في الرأي أو التفسير، في عالم ما بعد حداثي يزخر بالشطارة الخاوية من المعنى، هذا هو عالم تارانتينو، الذي لا يقدم أفلامه للمُشاهد لكي يحرره من الوعي الزائف، بل على العكس، لكي يضفي عليه مزيدًا من الأثقال والقيود الذهنية المعبأة في شكل صدمات متلاحقة لا فكاك منها، وكأن المُشاهد لدى تارانتينو هو العدو .