تفاحة أمريكا والعالم نيويورك... مدينة المدن

تفاحة أمريكا والعالم  نيويورك... مدينة المدن

المدينة هي «تفاحة» أمريكا والعالم، «التفاحة الشهية»، وهي موضوعنا... وسواء كان ارتباطك بالجذور أو كنت ممن يهابون التغيير، لن تشعرك نيويورك بأنك غريب. لن تصيبك بتلك الوحشة الطاردة، التي تصمك بأنك «آخر»، قادم من بلاد مغايرة وثقافة مختلفة، فنيويورك ما هي إلا خليط من كل أنواع هذا «الآخر»، هي معرض «ألوان الآخر»، بكل تجلياته اللغوية والدينية والاجتماعية والفنية والثقافية. هي بوتقة التنوع، فيها أو في معملها ينصهر الجميع، وتسمح في الوقت نفسه لكل عنصر بأن يحتفظ بخصوصيته، ومذاقه، ونكهته. وتلك هي عبقرية  «مدينة المدن»، أن تكون كل المدن في آن واحد، وأن تكون «نفسها» في تجربة لا مثيل لها، ربما في أي مكان آخر في الدنيا. 

أنت تلتقي فيها بالقارات الخمس أربعًا وعشرين ساعة في الأربع وعشرين ساعة، وهي تهاودك في ما تسعى إليه، أو تكشف لك عن الزاوية التي منها تريد أن تراها؛ جادة أو متجهمة، لعوبا وماجنة، أوج الفن وذروة المال، لا تستمد «هويتها» من الموقع أو الحيز المكاني أو من جماعة إثنية بعينها، بل تخلط كل الأمكنة والأجناس والأديان والقوميات، من كل طرائق العيش، تصنع أسلوبها وهويتها لتكون... نيويورك. 

قوس قزح الإنسانية!
 «قوس قزح إنساني» متعدد الإثنيات، منذ النشأة الأولى، منذ كان يسكنها عام ١٦٤٣، خمسمائة شخص، يتكلمون ثماني عشرة لغة. نيويورك الوحيدة، هي كما يصفها كنيث جاكسون، المؤرخ المتخصص في تاريخها، «مصنع ديمقراطي»، وبتعبيره أيضًا هي القادرة على أن تمنحك الإحساس بأن بإمكانك أن تكون «حلمك»، أو على الأقل «منتميًا لعالم جديد».
 لكنها برغم هذا كله لها وجه آخر: وجه «المفرمة»، المفرطة في لهاثها وقسوتها، الصارمة الحادة التي تمضي من دون أن تلتفت لمن هرسته تحت سنابكها. هي مدينة الوحدة برغم الزحام، أو «الوحدة» و«الزحام»، تماما كما رآها الفنان إدوارد هوبر الذي التقط من عمق روحها «غصّة الوحدة». وعبر عنها في أعماله الفنية الشهيرة العديدة: عبر الوجوه الوحيدة، أيا كان مكانها: في بار... مطعم... مقهى. 
للوحدة وجوه وزوايا في هذه المدينة، لكن أكثر ما كان يشعرني بشدة وطأتها هو: «السب واي» Subway، أو مترو أنفاق نيويورك،  حيث تزدحم التنويعات الصامتة للوجوه، أيا كان ما يفعله أصحابها. وجوه... تقرأ أو تغني أو كانت غافية أو منكفئة أو تمد البصر أو حتى تكلم نفسها، فهي تفعل ذلك مع نفسها.
عند طلّتهم الأولى على جزيرة مانهاتن، رأى مكتشفوها أمرًا عبّروا بقولهم عن أنه أشبه بـ«الحيلة السحرية»؛ جبال كثيفة الخضرة كأنها تبتسم، متخذة أشكالاً هرمية صوب السحب، موجات خضارها الغني تسرق العين هكذا.

قبائل الهنود
في مقتبل القرن التاسع عشر، دوّن الروائي واشنطن إيرفنج، وصفاً للحظة اكتشاف خليج نيويورك، الذي كان موقع  ساحله مثاليا للرواد الأوائل من الأوربيين. كانت هناك على الأقل ثماني عشرة جماعة تسكن هذا الحيز السحري، يتراوحون بين ٣٠ و٥٠ ألفًا، قبائل متحدرة من هنود أمريكا الأول. من أوائل مكتشفي هذا الساحل، كان «فلورنتن جيوفاني دي فرازانو، الذي أطلق اسمه على الجسر الواصل بين بروكلين وستاتن اينلند، وهو الذي قام بمغامرات احتكاك أولية مع المجموعات التي كانت تسكن على طول نهر الهدسون، مجموعة «المانات» في مانهاتن، و«الكنارسي» في بروكلين، و«الروكويز» في كوينز، وستاتن اينلند. 
أما البحّار الإنجليزي هنري هدسون، فقد انبسطت أراضي نيويورك على يديه في أوائل القرن السابع عشر، وتحديدا في العام ١٦٠٩، وتلك القصة وحدها تحتاج إلى صفحات مطولة.
«أمستردام الجديدة»، كان الاسم الذي أطلق عليها قبل أن تصير وتُعرف باسمها الذي استمرت به. وقبل أن تحمل لقب «التفاحة» وحّدت أجزاؤها: (مانهاتن،بركلينكوينزم، برونكس، ستاتن اينلند). 
شهدها عام ١٨٩٨ وصارت عامرة.  كانت بمنزلة البوابة بحكم الموقع، للهجرة للعالم الجديد، وكانت المعبر الذي على أعتابه يتم الفرز قبل الدخول إلى هذا العالم، تحمل السفن مئات الألوف إلى نقطة المركز بجزيرة آيليس حيث اختبارات مدى اللياقة والصلاحية البدنية والعقلية، (قدم إيليا كازان في فيلمه «أمريكا... أمريكا» رؤيته المميزة والحساسة التي لا تُنسى في هذا السياق). معظم القادمين كانوا يتجهون إلى الجزء المعروف باسم لوير آيست سايد، ومنه تشكل قوس قزح المدينة. شكلته تنويعات من اليهود والألمان والصينيين والبولنديين والاسكندنافيين والآيرلنديين والإيطاليين. تمركز اليهود في اللور إيست سايد، كونوا حيّهم، بنوا المعابد وأسسوا الصحف، وبالمثل فعلت كل جماعة إثنية. أما الألمان فعبروا إلى ويليامز برج في بركلين بينما اختار الإيطاليون  شمال مانهاتن. 
تقدم نيويورك بالذات، دونًا عن أي مدينة أخرى في العالم وفي أمريكا أيضًا، نموذجاً ساطعاً وفريداً في الاندماج والاحتفاظ بالخصوصية، دون أي تضارب، يعني من الممكن جداً أن تكون أمريكيًا أو إيطاليًا أو صينيًا، أو من أي أصل، وتحتفظ بكل ما تشتهي من بذور موطنك، لا تناقض ولا تنغيص. لكل عرق أو جنسية احتفالاتها وأعيادها ومهرجاناتها وأيامها الخاصة الوطنية. في الحي الصيني لن ترى غالبا إلا الصينيين. ولو تناسيت أنك في نيويورك، لن تجد إلا بالصدفة ما قد يذكرك، ربما شرطياً على ناصية أو سائق تاكسي. أما البنية كلها فهي صينية، من المطعم أو محل الذهب إلى الكوافير أو البنك وحتى شركات الحافلات. 
 
موجات الهجرة العربية
الهجرة العربية إلى نيويورك جاءت على موجات، أولاها كانت موجة شامية، أي قادمة من الشام، مؤسِّسة سكنت بارك سلوب وباي ريدج في بروكلين، واشتغلت في التجارة، ولم تخل من مسحة إبداع، مثلها فنانون وكتاب لعل من أبرزهم جبران خليل جبران. موجة الستينيات كانت دوافعها سياسية في المقام الأول. حتى عام ١٩٦٥، كان المسيحيون العرب يشكلون ٩٥ بالمائة من العرب الأمريكيين، اليوم نصف العرب الأمريكيين مسلمون؛ يتوزعون على كل خريطة الحياة في نيويورك، أضف إليهم خمسين ألف يهودي من أصل عربي، معظمهم موجود وممثل في سوق المال والجامعات.  
هناك مناطق تجمع للعرب وفق شرائحهم الاجتماعية، في كوينز مثلا، وفي الوقت الراهن يمكنك أن تجد الشرائح الأولى للطبقة المتوسطة (المستورة)، أغلبهم من الحرفيين والمهنيين، وهؤلاء عرّبوا الحي لغة ومعاشا، حيث يمكنك هناك أن تجد محال لا تبيع سوى أقمشة الحجاب الذي ترتديه المسلمات، ثم تتناثر تفاصيل عربية أخرى مثل جزارات اللحم والبقالين والحلاقين وحتى محاميي الهجرة، بل إن الخريطة تفصيليا في كوينز ترسم صدى لواقعهم، أي أن هناك مناطق تمركز للشوام وأخرى للمغاربة وثالثة للمصريين. وفي داخل التقسيمة الواحدة توزيع للأنشطة، الشوام الفلسطينيون يهيمنون على التجارة والسوبر ماركت وبعض المطاعم، ومن بين أشهرها وأكبرها مطعم  يقدم أكلات فلسطينية، وقد تجاوز في شهرته الحيز الجغرافي لموقعه والزبائن من العرب، وصار واحدا من مطاعم نيويورك، تكتب عنه المجلات ويظهر في أبواب المجلات المتخصصة.
المصريون تتوزع أنشطتهم على المقاهي والمعمار والتاكسي، وجزء منهم تقريبًا احتكر عربات «سندوتشات الهوت دوج» في القلب اللاهث لمانهاتن، أيقونة الأيقونة، يحتلون النواصي التي تقع على أطراف أهم الشوارع والميادين، حول البنوك وأبراج ناطحات السحاب التي تحتلها الصحف وقنوات التلفزيون، على مقربة خطوات من كل معارض المجوهرات الشهيرة ودور الأزياء العالمية، مئات من العربات المجهزة.
 ويقال إن المصريين ورثوا جيرانهم «المتوسطيين» في الوطن اليونانيين، وبعد أن فتح الله عليهم تخلوا عن بعض المهن التي تسلمها المصريون. على سبيل المثال ستجد أن ملكية العربات اليدوية المصنوعة من «الاستانلس» يحتكرها نفران أو ثلاثة من «الأسطوات»، هم أشبه بالمقاولين، يملكون «عدّة الشغل»، ويؤجرونها للقادمين  الباحثين عن «رزق». مع تباشير نور الصباح، يتسلم كل ورديته، العربة التي يجرها بسيارة، يتسلمها مزودة بالمؤن: الهوت دوج والمشروبات والخبز وقطع الدجاج أو اللحم والملحقات. 
حين تقف أمام واجهة محل لعلامة شهيرة في عالم الصناعة الحديثة والدقيقة والفاخرة، مثل «كارتييه» أو «ورولكس» تأتيك أصوات الأغنيات المنبعثة من العربات؛ أغنيات الحنين ومواويل الصبر من عمرو دياب والست أم كلثوم وعبدالحليم، وحتى سعد الصغير وبوسي. جزء لا يستهان به من هؤلاء الواقفين لا يحمل أوراقا شرعية للإقامة، بعضهم لف الدنيا ليصل في مغامرة لا يمكن تصورها. كنت أستمتع بمراقبة أصواتهم العالية، عندما تتخفى وراء لغتهم الأصلية - العربية - حين يتبادلون الحوارات بالصوت العالي: «ماجتش ليه امبارح»، أو يأخذ الحنين أحدهم فيغني بأعلى صوته أغنية ربما تكون قد سقطت من ذاكرتك، أنت القادم توا من مصر: «سلامات يا حبايب... يا حبايب سلامات»؛ أغنية محرم فؤاد التي التقطها في «الفيفث أفينيو» أو الجادة الخامسة لأول مرة (لا أعرف ترجمة لكلمة أفينيو  Avenue غير الجادة وإن كنت أجهل أصلها)، في يوم شتاء لم تبخل فيه سماء نيويورك بالثلوج.
الهجرات العربية تأخرت نسبيا عن باقي الإثنيات القادمة من بقاع العالم، وكان اللبنانيون والسوريون في مقدمة الركب في منتصف القرن الفائت، ثم لحق بهم الفلسطينيون. المصريون تأخروا نسبيًا، وأغلبهم بدأوا الرحيل من مصر  منذ الستينيات، ومع بدء التأميمات بدأ مؤشر الهجرة المصرية لنيويورك يتصاعد ويصير أكثر تنوعًا: من سائق التاكسي وحتى أشهر الأطباء. 

مدينة اليهود الأولى
مدينة اليهود الأولى في العالم  ليست تل أبيب، لكنها نيويورك، ليس فقط من حيث العدد، ولكن من حيث التأثير، وفي مجالين  تحديدا هما الاقتصاد والثقافة بكل تنويعاتها وبينها الفنون. الوجود اليهودي في نيويورك «عتيق»، يعود إلى منتصف القرن السابع عشر، حيث بدأ بعشرين شخصًا من السفارديم وصلوا إليها مهاجرين. وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أصبح اليهود الأشكيناز في المدينة أغلبية. 
ويعد اليهود أهم جماعة مؤثرة في نيويورك (أكثر من مليونين وربع المليون)، ويهود نيويورك مختلفون عن باقي الولايات ويشكلون أوسع تشكيلة متنوعة من حيث الجذور والأصل والطبقة الاجتماعية. يهود ألمانيا هم العصب الأرستقراطي.  وباستثناء المتطرفين من اليهود والمسلمين سوف تفاجأ في أحيان عديدة بتعايش لافت أو تعامل يومي بين الجميع بلا أي إحساس بالاختلافات. وربما ما يزيد على هذا المعنى أنك ستجد تعايشا هنا بين يهود وعرب. سوف أذكر حالتين، أولاهما كانت في مستشفى سلون كيترينج، وهو أحد أهم مراكز علاج السرطان في العالم، ففي هذا المشفى هناك طبيبان أحدهما يهودي أمريكي مهم وشهير والثاني طبيب فلسطيني - أمريكي يعمل في المستشفى نفسه. هذان الطبيبان يشكلان معا ومنذ سنوات، فريقا طبيا متخصصا، وكثيرا ما يذهبان بالفريق إلى واحد أو أكثر من المخيمات الفلسطينية لعلاج اللاجئين.
أما الحالة الثانية فمن مستوى اجتماعي واقتصادي مغاير: سائق تاكسي مصري وأسرته التي تعيش منذ ثلاثة عقود وتسكن بيتا مالكه يهودي. وعلى مدى السنوات نمت العلاقة بين أسرتي المصري واليهودي الأمريكي وتعمقت. يقول عنها السائق المصري شارحا لي إنها علاقة في منتهى الاحترام؛ لدرجة أن زوجة صاحب البيت كانت تمرّض زوجته أو ترعاها عند كل حمل جديد لها، لكن طبعا ومع الأسف هذا ليس النمط أو النموذج الذي يعوّل عليه، لأن للسياسة منطقها، وهذه قصة طويلة وشرحها يطول. وإن كان الوضع العام معروفا والواقع يقول إنه: ليس للجماعة العربية فاعلية محسوسة، لا قوة ولا تأثير. 

موسيقى التفاحة الكبيرة!
نيويورك، أحسها مزيجاً من شهوة الحياة، وخيوط الشجن، ربما تستغرب لكنها تاريخ من الكد الإنساني ومكابدة الأشواق والبهجة أيضا... مزيج فريد تنفرد به «ذا بيج أبل»  (The Big Apple) أو التفاحة الكبيرة. عندما بحثت عن سر هذه التسمية، وتعددت التفاسير، مالت روحي لأحدها، الذي يقول إن عازفي موسيقى «الجاز»  Jazz  السود، المحملين  بأسى الغربة وشظف العيش، حين كانوا يذوبون عزفاً وغناء، في حانات «هارلم»، كانت «تفاحة آدم» تسقط وتتكور في حلوقهم مع شدة الانفعال. 
لموسيقى «الجاز» بصمة نيويوركية، تميزها عن مدرسة شيكاغو أو نيو أورلينز، وبها ظهرت أصوات ماسية وعلامات موسيقى الجاز: لويس أرمسترونج، دوك اللنجتون، كاب جالواي. حانات الجاز، عالم له خصوصية، حين زرت «روكفلر سنتر» في وسط المدينة، وصعدت إلى أعلى بناياته، برج شاهق يرتفع 260 مترا، توقفت عند صورة البناءين الشهيرين، الجالسين على السقالة، أعلى ناطحة سحاب، في استراحة غذاء. أمضيت وقتًا أتأمل فيه وجوه العمال، وظلت منطبعة وكأنها دليلي إلى المدينة.
 
مدينة تلهث ولا تنام
  لكن ذلك لن يكون منصفًا، فلا مدينة يمكنها أن تنافس نيويورك، ولا مكان يضاهي عشق النيويوركيين للحياة والاستمتاع. هي مدينة المسارح والحدائق والبارات والمطاعم والمكتبات، مدينة لا تنام وإن أرغمت أهلها على النوم وسط الأسبوع مبكرا، ليواكبوا «إيقاعها» الخاص.
الإيقاع «النيويوركي» مَعْلم (بفتح الميم وتسكين العين)، سمة، إيقاع له صوت ورائحة، وملمس، وحضور يكاد يكون «متبلورا»  في حد ذاته. واحدة من الصحف، قامت بعملية حسابية: السائرون على الأرصفة في الطريق إلى العمل صباحا، كم من الوقت يخسرون بسبب «واحد ماشي على مهله»، أو آخر جُنّ وقرر أن يقرأ الجريدة بينما يمشي في هدوء؟!، وكم تكلفة هذا الوقت؟ ... وكانت حكاية! 
   حكاية السائرين اللاهثين تستحق التوقف، لأنك في واحدة من الولايات المسبحة بالمال، التي يرى كل واحد فيها، أنه لو تأخر أو تعثر فلن يجد مكانه. واحدة من الولايات التي تجمع ما بين التناقضات الاجتماعية بسلاسة ريشة الرسام نفسها، لما يجمع ما بين الأبيض والأسود بضربة فرشاة، فلك أن تعرف أن متوسط أجور ٢٥ في المائة من العاملين في «وول ستريت»  يدور سنويا حول ٣٤٧ ألف دولار في العام، (بإضافة الزيادة السنوية  Bonus)، وأن ما يقرب من مائة وسبعين ألفًا من رجالات البنوك كانوا يتحصلون على (وامسك أعصابك) ستة وثلاثين مليار دولار سنويا في عام ٢٠٠٦، وبزيادة قدرها ثلاثون في المائة عن العام السابق. ثراء فئة المديرين التنفيذيين لـ«وول ستريت»، بينما هناك ما يقرب من مليوني نيويوركي، حوالي خُمس سكان المدينة، تحت عتبة خط الفقر، وهو أمر لا تفرح له كثيرا مدينة نيويورك، فأغلب هؤلاء يقطنون ضواحي (مانشستر، بوتنام، روك لاند، في لونج آيلند) أو في كونيتيكات.
 
خريطة الاقتصاد
هناك خريـــطــة اجتماعية متفاوتة بين  المكونات الخمسة لولايات نيويورك، تقع في الذيل، منها برونكس وبروكلين، حيث يجد أصحاب الدخول التي تقل عن أربعين ألف دولار سنويا بغيتهم في السكن هناك، باستثناء بضعة أماكن في بروكلين، تطل على الإيست ريفر، فاقت أسعار السكن فيها مانهاتن. 
يعني مثلا ضاحية «ويليامز برج» كانت ضاحية المهاجرين من بولندا، وعلى نهرها بضعة هناجر، وأقدم مصنع للسكر. في غضون عامين تغيرت المنطقة، وأطل على النهر ناطحات بواجهات زجاجية شديدة الحداثة، (تعتبر الحي الـ «كول»)، لا يقل إيجار الاستديو الصغير فيها عن أربعة آلاف دولار شهريا، وفي السوبر حداثة هذه، كل الخدمات، بما فيها حضانة للكلاب أسفل العمارة، لا تكلف صاحب الكلب أكثر من سبعمائة دولار شهريا، مقابل رعاية الكلب ونزهته اليومية، إلى أن يعود صاحبه من العمل. وصاحبه هذا عادة إما محامٍ وإما موظف بنك، وفي الأغلب الأعم في نيويورك المدينة،  أعداد الكلاب تفوق أعداد السكان، واقتصاد «يشتغل» بالكامل على خدمة الكلاب، من حلاقين، وملابس «ماركات» (بربري وجوتشي ورالف لورين وغيرها) وموظفين «ينزهون» الكلاب، وهذا أحد تجليات الوحدة الفظيعة. الكلاب في نيويورك من المعالم، مثلها مثل «الإمباير ستيت» و«حديقة سنترال بارك» وحي سوهو ومسارح برودواي، جزء من شخصية المدينة.
في أحد الأيام، زارني - على غير العادة - مدير العمارة التي يسكن بها ابني، على مقربة خطوات من مبنى هيئة الأمم المتحدة التي يعمل بها ضمن البعثة المصرية. كانت إقامتي الطويلة، تحت ظرف مرضي، قد أذابت كثيرا من تقليدية التعامل مع المسؤولين عن العمارة من أول «الدورمان»  Door man أو حارس العمارة وحتى مدير البناية، وهو موظف يتلقى راتبًا وتمنحه رابطة السكان شقة مجانية ليقيم أربعًا وعشرين ساعة، وتقسّم تكلفة الشقة على كل الشقق الباقية ■

 

لقطة أخرى لإحدى البحيرات في سنترال بارك

 

جسر ويليامز بيرج ... الجسر المعلق في نيويورك الذي يربط بين مانهاتن وبروكلين

 

مبنى البورصة الأمريكية (إلى اليمين) الواقع في الشارع الشهير  وول ستريت أحد أكبر شوارع الاستثمار في أمريكا