الهويةُ مفتاحُ السَّرد

الهويةُ مفتاحُ السَّرد

كانت بذور حالة الإبداع والكتابة عند الروائي البحريني فريد رمضان منثورة في تربة خصبة تسقى بماء فكره ومتخيله منذ الطفولة، وحين كانت هذه البذور بحاجة إلى نبش الأرض ليعرف المتلقي مكامنها أقدم عليها فريد رمضان، لتأتي هذه الحالة متعددة المواهب الإبداعية والفنية، القابضة على مفاصل التجربة، القادرة على تحديد مسار الكتابة في ما بعد في الجنس الأدبي والموضوعات المطروحة.


اشتغل رمضان بالكتابة الإبداعية ولوجًا إلى مستويات فنية وتقنية بعد ما خاض محاولات كتابية متنوعة، وشعرية على وجه الخصوص، إلا أن عالم السرد كان فاتنًا ومدهشًا بالنسبة إليه، وهو الطريق الذي تشرب منه عوالم الثقافة المتشعبة بدءًا من قراءاته في أدبيات المسرح العالمي بتشجيع من الناقد البحريني حسن عون، وصولاً إلى القراءات الأدبية في الشعر والسرد عبر تواصله غير المباشر والمباشر بعد ذلك مع الشاعر علي الشرقاوي، ثم تتالت القراءات الذاتية والتشجيعية من الأصدقاء والأدباء، حتى بات اسمه معروفًا في الساحة الأدبية المحلية والخارجية.
وفي الوقت الذي كانت له فيه محاولات شعرية، فإن المجال الذي تميز فيه وكرس تجربته الإبداعية هو السرد بمجالاته المختلفة، فقد كتب القصة القصيرة في البداية وأصدر على أثرها مجموعته اليتيمة «البياض» في العام 1984، كما كتب النص السردي الممزوج بين لغتي الشعر والنثر، فأصدر «تلك الأشياء التي تشبهك»، في العام 1986، و«نوران» في العام 1995، وكتب النص المسرحي، مثل: «درب المصل» والسيرة والسيناريو، كما كانت له بعض المشاركات التي يشترك فيها مع فنانين تشكيليين ليخرج وإياهم عملاً إبداعيًا محتويًا على ثقافة الكلمة وثقافة اللوحة التشكيلية، إذ صدر له مع الفنان البحريني جمال عبدالرحيم نص نوران مرة أخرى، ومع الفنان البحريني أيضًا عمر الراشد في تجربة مشتركة بعنوان «رنين الموج» في العام 2012، فضلاً عن كتاب بعنوان «عطر أخير للعائلة – سيرة ناقصة» في العام 2008. 
أما عالم الرواية فكان محطة رئيسة في تجربة المبدع البحريني، حيث أصدر حتى هذه اللحظة ثلاث روايات بين عامي 1994 - 2006، فجاءت الرواية الأولى بعنوان «التنور – غيمة لباب البحرين» في العام 1994، وأعيدت طباعتها ثانية في العام 2014 بشكل مختلف في التنسيق والإخراج والغلاف، والثانية بعنوان «البرزخ – نجمة في سفر» في العام 2000، والثالثة بعنوان «السوافح – ماء النعيم» في العام 2006، وهنا نرى أن رمضان كان يلجأ إلى عنوانين اثنين في الرواية، إذ لا يكتفي بعنوان رئيس للرواية، وإنما يصبه بعنوان فرعي، وهي تجربة اعتاد أن يكرسها في أعماله الروائية على الرغم من أنه لم يكتب العنوان الفرعي في روايته «التنور» أول صدورها، ولكنه أبقاه في طبعتها الثانية. ولم يأت بالعناوين الفرعية وكأنها حالة مزاجية أو رغبة في التزويق، وإنما كان يرمي كما أعتقد إلى التأمل في ما يأخذنا إليه من أحداث الرواية وأمكنتها، وخاصة أن فضاء البحرين هو الفضاء الرئيس لهذه التجارب الثلاث، وبمناطق مختلفة أيضًا، لذلك تجد أيها القارئ العنوان الفرعي يمثل جزءًا من فضاء الرواية.
وفريد رمضان يعتبر من الجيل الثاني لكتاب الرواية البحرينية إذا اعتبرنا أن الرواية فعلاً بدأت مع بداية ثمانينيات القرن العشرين، أما إذا اعتبرنا أن البداية هي خمسينيات وستينيات القرن الماضي على يد فؤاد عبيد ثم خلف أحمد خلف ومحمود المردي، فإن الجيل الثاني يتمثل في محمد عبدالملك وعبدالله خليفة وفوزية رشيد وأمين صالح، وعليه يكون فريد رمضان من الجيل الثالث الذي يمثله معه عبدالقادر عقيل وجمال الخياط. 
ومن خلال قراءة أعمال فريد رمضان عامة والروائية بشكل خاص، فإننا نرى أنه لم يذهب إلى الكتابة السردية، ويدخل عالم الرواية صدفة أو من أجل كتابة اسمه على جدار المشهد الأدبي البحريني، ولم تكن غايته زيادة في عدد الكتاب، أو أن لديه رغبة جامحة ليكرس اسمه بين الكتاب، بل نرى أنه دخل عالم الرواية لما وجد فيه من المحفزات المهمة التي ينبغي أن تكشف من خلالها بعض المعطيات التي أوصلت هذه الحالة المجتمعية إلى نقطة ما، أو مناقشتها سرديًا بفنية وجمالية، وبخاصة أن المجتمع البحريني فيه من المناحي والقضايا التي يمكن أن تطرح روائيًا سواء أكان باب الدخول هو الماضي أم الحاضر أم المستقبل. ولكن فـــي الوقت نفسه لم يكن راغبًا في طرح ما هو موجود في الرواية البحرينية أو نوقش بصورة جلية بأعمال روائيــة لروائيين بحرينيين سبقوه.
من هنا كان رمضان يحث ذائقته القرائية والبحثية على القراءة المستمرة والبحث الدائم بصبر وتأن وتأمل أيضًا، وها هو يطرح على نفسه السؤال تلو السؤال، ساعــــتئذ يمـــــسك بالقلم يرسم خريطة الكتابة، ويهنــــدس معمارها السردي، وأي المواد التي ينبغي أن يقرأها القارئ، ويرى فيها ما هو غير موجود في أعمال روائية أخرى، أو عما هو سائد في الكتابة السردية البحرينية، هكذا جاءنا رمضان بمشروعه الروائي الذي تميز به وفيه، ألا وهو الهوية بمـــفهوميها الواسع والضيق، الهوية التي كانت ولاتزال تشغل فكر ومتخيل الكثير من الكتاب على اختلاف مجالاتهم وأجناسهم الكتابية، الهوية التي بدأ يفكر فيها وكيفية تناول موضوعها، وأي زاوية يمكن له الانطلاق منها؟ وما المادة التي يمكن أن تقدم إلى القارئ العادي والنموذجي؟
ويبدو أن تناول رمضان موضوع الهوية في الأعمال الروائية الثلاثة انطلق من قراءة شاملة ودقيقة لتركيبة المجتمع البحريني وما يتصف به من تعدد في القوميات والأقليات والإثنيات والجنسيات المختلفة على الصعيد الديني والمذهبي والقوميات وغيرها، ومن يقوم بدراسة اجتماعية أو أنثروبولوجية أو حتى مسحية سيجد أن من يسكن البحرين هم متعددو الهويات الثقافية والاجتماعية والدينية، ففي البحرين الأديان السماوية الثلاثة، وفيها السنة والشيعة، وفيها البهائية والبهرة، وفيها ألوان البشرة المختلفة، وفيها الهولة والعجم، وكل هذا التباين لم يكن موضوع خلاف أو صراع، بل كان مدخلاً للتعايش والتقارب والتسامح وبخاصة بعد الاتساع العمراني الأفقي والعمودي في مدن البحرين وقراها، لكن هذا لا يعني أن المجتمع خال من الأمراض الاجتماعية والصراعات البينية والوقتية، فضلاً عن أهمية هذه الهويات وما ينبغي على القارئ البحريني معرفته بدقة وتفحص عبر علوم مختلفة وكتابات متعددة، وقد كانت الرواية أحد المداخل التي تقدم معرفة للقارئ.
من هذه المنطلقات كان موضوع الهوية شاغل الكاتب فريد رمضان الذي يحمل وعيًا ثقافيًا واجتماعيًا يمكن له أن يوجهه إنسانيًا، لذلك جاءت فكرة الهــــويـــات لتتــــغلغل في نسيج تفكيره ومتخـــيله فعالجت روايــــة «التنـــــور» هوية الهولة وأصولهـــــم ومــــدى إمكانيـــــة تعايشهم في المنطــــقة الخليجــــية بعد ما هاجروا من غرب فارس إلى شرق الدول العربية الواقعة على شاطئ الخليج، وهذا ما طرحه من قبل الكاتب الإماراتي راشد عبدالله في عمله الروائي الوحيد «شاهندة» الذي كتبه في سبعينيات القرن الماضي، وكذلك ناقش هذه الهوية الدكتور البحريني عبدالله المدني في روايته الأولى التي عــــنونهــا بــ«محمد صالح وبــــناته الثلاث» في بداية الألفية الثالثة، الثلاثـــــة يؤكــــدون أن من أسباب الهجرة طلب العيش الأكثر رحابة ورغدًا، بالإضافة إلى أن هناك من يؤكد عروبة هذه الأقلية التي نزحت إلى بلاد فارس في فترة زمنية ما، ثم عاد بعضها إلى موطنه الأصلي، وبعيدًا عن هذا أو ذاك فإنه من الصعوبة أن يجزم الباحث بأصالة شعب ما في مكان ما طالما هناك الهجرات والاتصالات التقليدية من خلال السفر والتجارة والانتقال من مكان لآخر بوسائل مواصلات تقليدية أيضًا.
أما رواية البرزخ فإنها طرحت هوية أخرى ليس في الأقوام، وإنما في الجنسيات والمكان، إذ ناقش هجرة بعض العمانيين والعراقيين إلى البحرين، وهذه الحقيقة كانت ماثلة أمامنا وبخاصة تجاه عمان، حيث كان الكثير من العمالة في الزراعة والرعي من أصول عمانية، وعاد العديد منهم في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي، ولكن بقي آخرون مستقرين في البحرين حتى هذه اللحظة، لذا فإن مناقشة رمضان لاستقبال البحرين هذه الجنسيات تكشف طبيعة العلاقات المختلفة والمتعددة بين أبناء البحرين والقاطنين من العرب، وهو ما طرحه في الرواية الثالثة «السوافح» ليناقش العلاقة الدينية والمذهبية بين شيعة البحرين وشـــيعة العـــــراق، والعــــلاقات المتينة التي تربط بينهما المنطلقة من حب آل بيت محمد (صلى الله عليه وسلم) والزيارات المتكررة من قبل شيعة المنطقة عامة والبحرين بوجه خاص إلى العتبات المقدسة في العراق.
كـــــان رمــــضــــان مدركًا تمام الإدراك لمشروعه الروائي، وأن عالم الرواية أساسًا ينبع من تجارب حياتية وثقافــــية واجتماعية وسياسية مختلفة ومحاطة بوعي لفهم المجتمع عامة، وطبقاته وفئاته ومؤسساته ومنطلقات أناسه، حيث إن تعقُّد أي مجــــتـــمع يفرض البحث عن جنس أدبي أو مدخل لقراءته والكتابة عنه، لذلك قالوا «الرواية بنت المدينة»، لأن التعقيد والنمو المدني والمديني عناصر وسمات لهذا المكان، ومن هنا كان وعي الكاتب فريد رمضان بالمكان وعيًا ثقافيًا واجتماعيًا، فلم يأت المكان بمجرد مكوّن من مكونات الكتابة الروائية، وإنما يحضره في الرواية بوصفه تقنية مهمة في فضاء العمل وأحداثه، كما أنه لم يكن في العمل إلا من خلال الراوي الشاهد على الأحداث أو الذي ينظر من الخلف بعد ما رسم شخصيات العمل ووضع خطوطها الدقيقة قبل البدء، لهذا تسير الشخصيات الرئيسة أو الثانوية بحسب نموها وأحداث الرواية، فلا يتدخل في حركتها أو نموها أو توجيهها وفق ما يريد هو، أي رمضان نفسه، وفي الوقت ذاته لم ينشغل باللغة في زخرفها اللفظي المنحوت معجميًا، وإنما يتعامل مع اللغة في سياقها الروائي المطل على اللغة الشعرية أحيانًا ■