مسرحيَّة الـحجَر الأسوَد

مسرحيَّة الـحجَر الأسوَد

من‭ ‬الأمور‭ ‬التي‭ ‬تثلج‭ ‬الصدر‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬إلحاح‭ ‬قوي‭ ‬ورغبة‭ ‬أكيدة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬مبدعي‭ ‬المسرح‭ ‬على‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الأمة‭ ‬العربية‭ ‬والإسلامية‭ ‬الذي‭ ‬ظل‭ ‬حكرًا‭ ‬على‭ ‬الباحثين‭ ‬والمهتمين،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬غابت‭ ‬أسرارها‭ ‬عن‭ ‬عامة‭ ‬الناس‭. ‬ورغم‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬هناك‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬لايزال‭ ‬يحاول‭ ‬الرجوع‭ ‬إلى‭ ‬التاريخ‭ ‬والتراث‭ ‬لتجسيده‭ ‬على‭ ‬خشبة‭ ‬المسرح،‭ ‬صانعًا‭ ‬منه‭ ‬روائع‭ ‬أدبية‭ ‬وفنية‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تبهر‭ ‬العالم‭. ‬شريطة‭ ‬أن‭ ‬تتلاءم‭ ‬مع‭ ‬مستجدات‭ ‬العصر‭ ‬وتعبر‭ ‬عن‭ ‬قضاياه‭ ‬المهمة،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬أكده‭ ‬‮«‬ت‭.‬س‭. ‬إليوت‮»‬‭ ‬حول‭ ‬أهمية‭ ‬استدعاء‭ ‬العناصر‭ ‬التراثية‭ ‬على‭ ‬اعتبار‭ ‬أنها‭ ‬وسيلة‭ ‬مهمة‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬الواقع‭ ‬المعاصر‭. ‬

لجأ‭ ‬الكُتاب‭ ‬المسرحيون‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬إلى‭ ‬التاريخ،‭ ‬بغية‭ ‬صنع‭ ‬مسرح‭ ‬عربي‭ ‬أصيل،‭ ‬يستلهم‭ ‬مادته‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي‭ ‬لتأكيد‭ ‬الهوية‭ ‬القومية‭ ‬العربية‭. ‬حيث‭ ‬يعتبر‭ ‬التاريخ‭ ‬مادة‭ ‬خام،‭ ‬يمكن‭ ‬تشكيلها‭ ‬لصنع‭ ‬أعمال‭ ‬درامية‭ ‬تحوي‭ ‬موضوعاتها‭ ‬الدلالات‭ ‬الرمزية‭ ‬والموحية‭. ‬ومن‭ ‬منطلق‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬التجارب‭ ‬المسرحية‭ ‬التي‭ ‬استوحت‭ ‬موضوعاتها‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬المصري‭ ‬العربي،‭ ‬مثل‭ ‬الموضوعات‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالملوك،‭ ‬كما‭ ‬تناولت‭ ‬بعض‭ ‬الأعمال‭ ‬تاريخ‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬مثل‭ ‬الدولة‭ ‬الفاطمية‭ ‬والإخشيدية‭ ‬وشجرة‭ ‬الدر،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬الموضوعات‭ ‬التي‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬الدولة‭ ‬العباسية‭ ‬وعن‭ ‬هارون‭ ‬الرشيد‭ ‬ونكبة‭ ‬البرامكة‭.‬

وعلى‭ ‬مستوى‭ ‬دول‭ ‬الخليج‭ ‬العربي‭ ‬فإنه‭ ‬يوجد‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬والمخرجين‭ ‬الذين‭ ‬اشتغلوا‭ ‬على‭ ‬المواد‭ ‬التاريخية،‭ ‬ولعل‭ ‬أبرزهم‭ ‬سمو‭ ‬الشيخ‭ ‬الدكتور‭ ‬سلطان‭ ‬بن‭ ‬محمد‭ ‬القاسمي‭ ‬حاكم‭ ‬الشارقة،‭ ‬الذي‭ ‬يُعد‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬النصوص‭ ‬التاريخية‭ ‬القلائل‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬المنطقة،‭ ‬والذي‭ ‬اتصف‭ ‬بسعة‭ ‬خياله‭ ‬وعشقه‭ ‬للتاريخ‭. ‬وقد‭ ‬اهتم‭ ‬سموه‭ ‬بكتابة‭ ‬النصوص‭ ‬المسرحية‭ ‬التي‭ ‬تجسد‭ ‬الصراع‭ ‬التاريخي‭ ‬والبُعد‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬ذ‭ ‬المسيس‭ - ‬تجاه‭ ‬قضايا‭ ‬الدين‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬والوطن‭ ‬العربي‭.  ‬وتُعد‭ ‬مسرحية‭ ‬‮«‬الحجر‭ ‬الأسود‮»‬‭ ‬خير‭ ‬مثال‭ ‬على‭ ‬استدعاء‭ ‬التاريخ‭ ‬وربطه‭ ‬بمجريات‭ ‬الساعة،‭ ‬وأخرجها‭ ‬للمسرح‭ ‬منصف‭ ‬السويسي‭ ‬بمسرح‭ ‬الشارقة‭ ‬الوطني‭. ‬وتتقارب‭ ‬هذه‭ ‬المسرحية‭ ‬مع‭ ‬النصوص‭ ‬المسرحية‭ ‬السابقة‭ ‬للمؤلف،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬معظمها‭ ‬يجسد‭ ‬الصراع‭ ‬العقائدي،‭ ‬ولكنها‭ ‬تختلف‭ ‬بالطبع‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الموضوع‭ ‬والمعالجة‭ ‬والرؤية‭ ‬الإخراجية‭ ‬لها‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭.‬

وقد‭ ‬حاول‭ ‬المخرج‭ ‬السويسي‭ ‬التملص‭ ‬من‭ ‬سردية‭ ‬الأحداث‭ ‬التاريخية‭ ‬وواقعيتها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬اللوحة‭ ‬التعبيرية‭ ‬التي‭ ‬استهل‭ ‬العرض‭ ‬بها،‭ ‬والتي‭ ‬حملت‭ ‬أجواء‭ ‬أسطورية‭ ‬اقتربت‭ ‬من‭ ‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة،‭ ‬وتناغمت‭ ‬مع‭ ‬الأداء‭ ‬الاستعراضي‭ ‬للممثلين،‭ ‬والذين‭ ‬سعوا‭ ‬لتقديم‭ ‬لوحة‭ ‬راقصة‭ ‬بتشكيلات‭ ‬حركية‭ ‬تعبيرية،‭ ‬عبرت‭ ‬عن‭ ‬التوهج‭ ‬الحضاري‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الدولة‭ ‬العباسية‭ ‬خلال‭ ‬الفترة‭ ‬الأولى‭ ‬سنة‭ ‬132هـ،‭ ‬والتي‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬عام‭ ‬750م‭.‬

كما‭ ‬سعى‭ ‬المخرج‭ ‬إلى‭ ‬تقسيم‭ ‬خشبة‭ ‬المسرح،‭ ‬ما‭ ‬ساعده‭ ‬على‭ ‬الولوج‭ ‬الضمني‭ ‬إلى‭ ‬واقعية‭ ‬الأحداث‭ ‬التاريخية،‭ ‬ومهد‭ ‬للمشاهد‭ ‬الدخول‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬شخوص‭ ‬وأحداثها،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تحديد‭ ‬مستويين‭ ‬متفاوتين،‭ ‬المستوى‭ ‬الأول؛‭ ‬هو‭ ‬الجانب‭ ‬الخلفي‭ ‬من‭ ‬الخشبة‭ ‬حيث‭ ‬تدور‭ ‬الأحداث‭ ‬التي‭ ‬يقودها‭ ‬الكورس‭ (‬الحروب،‭ ‬التماثل‭ ‬مع‭ ‬حالة‭ ‬الشخصيات‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬المسرح،‭ ‬القتل‭... ‬النواح‭...)‬،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬الجانب‭ ‬الأمامي‭ ‬وقعت‭ ‬عليه‭ ‬الأحداث‭ ‬الرئيسة‭. ‬وهذا‭ ‬نقل‭ ‬المشاهدين‭ ‬إلى‭ ‬أحداث‭ ‬المسرحية‭ ‬ومعايشة‭ ‬شخصياتها‭ ‬وصراعها‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحقيق‭ ‬العدالة،‭ ‬ومحاربة‭ ‬الفساد‭ ‬الذي‭ ‬طال‭ ‬البلاد‭ ‬والعباد‭. ‬كما‭ ‬ساعد‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬رفع‭ ‬الإيقاع‭ ‬السريع،‭ ‬وزرع‭ ‬عنصر‭ ‬التشويق‭ ‬في‭ ‬مفردات‭ ‬العمل‭ ‬لحث‭ ‬الجمهور‭ ‬على‭ ‬المتابعة‭.‬

وبذلك‭ ‬لم‭ ‬يغفل‭ ‬المخرج‭ ‬أهمية‭ ‬تواصل‭ ‬الجمهور‭ ‬مع‭ ‬الحدث‭ ‬التاريخي‭ ‬وتصديق‭ ‬واقعيته‭ ‬ومشاطرة‭ ‬شخوصه‭ ‬القضية،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إصراره‭ ‬على‭ ‬كسر‭ ‬الجدار‭ ‬الرابع،‭ ‬وجعل‭ ‬طاقم‭ ‬العمل‭ ‬يتسلل‭ ‬بين‭ ‬الجمهور‭ ‬بغية‭ ‬كسر‭ ‬الإيهام‭ ‬المسرحي‭. ‬وتكمن‭ ‬أهمية‭ ‬العرض‭ ‬في‭ ‬كونه‭ ‬يناقش‭ ‬قضية‭ ‬شائكة‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬تداخلت‭ ‬فيه‭ ‬المفاهيم‭ ‬السياسية‭ ‬والدينية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬سرد‭ ‬القصة‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬يجهلها‭ ‬البعض،‭ ‬كما‭ ‬يتحرج‭ ‬البعض‭ ‬الآخر‭ ‬من‭ ‬الحديث‭ ‬عنها،‭ ‬نظرًا‭ ‬لحساسيتها‭ ‬الدينية،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬سرد‭ ‬قصة‭ ‬سرقة‭ ‬الحجر‭ ‬الأسود‭ ‬من‭ ‬الديار‭ ‬المقدسة‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬القرامطة‭ ‬عام‭ ‬317هـ‭. ‬وتعتبر‭ ‬القرامطة‭ ‬حركة‭ ‬باطنية‭ ‬تنسب‭ ‬إلى‭ ‬حمدان‭ ‬بن‭ ‬الأشعث‭ ‬الذي‭ ‬لقب‭ ‬‮«‬قرمط‮»‬،‭ ‬وذلك‭ ‬بسبب‭ ‬قصر‭ ‬قامته‭. ‬والذي‭ ‬جاء‭ ‬من‭ ‬الأهواز‭ ‬إلى‭ ‬الكوفة‭ ‬واستقر‭ ‬فيها‭ ‬وأطلق‭ ‬عليها‭ ‬دار‭ ‬الهجرة‮»‬،‭ ‬وأسس‭ ‬مذهب‭ ‬القرامطة‭ ‬فيها‭ ‬عام‭ ‬890م‭. ‬

 

صراع‭ ‬رئيسي

ويُعد‭ ‬‮«‬الحجر‭ ‬الأسود‮»‬‭ ‬مكونًا‭ ‬أساسيّا‭ ‬للكعبة‭ ‬المكرمة‭ ‬التي‭ ‬يحج‭ ‬المسلمون‭ ‬إليها‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬من‭ ‬بقاع‭ ‬الأرض،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬أركان‭ ‬الإسلام‭ ‬الخمسة،‭ ‬من‭ ‬استطاع‭ ‬إليه‭ ‬سبيلا‭. ‬والحجر‭ ‬الأسود‭ ‬هو‭ ‬حجر‭ ‬بيضاوي‭ ‬الشكل،‭ ‬لونه‭ ‬أسود‭ ‬ضارب‭ ‬للحمرة،‭ ‬وبه‭ ‬نقط‭ ‬حمراء‭ ‬وتعاريج‭ ‬صفراء،‭ ‬وللحجر‭ ‬الأسود‭ ‬كساء‭ ‬وأحزمة‭ ‬من‭ ‬فضة‭ ‬تحيط‭ ‬به‭ ‬حماية‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬التشقق،‭ ‬وهناك‭ ‬روايات‭ ‬غير‭ ‬مؤكدة‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬جبريل‭ -‬عليه‭ ‬السلام‭- ‬نزل‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬السماء‭.‬

وركز‭ ‬المؤلف‭ ‬في‭ ‬مسرحية‭ ‬‮«‬الحجر‭ ‬الأسود‮»‬‭ ‬على‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬الدولتين؛‭ ‬العباسية‭ ‬والقرامطة،‭ ‬مختارًا‭ ‬حقبة‭ ‬تاريخية‭ ‬تقع‭ ‬بين‭ ‬سنة‭ ‬132هـ‭ ‬الموافقة‭ ‬للعام‭ ‬750م‭ ‬إلى‭ ‬سنة‭ ‬279هـ‭ ‬الموافقة‭ ‬للعام‭ ‬892‭ ‬م،‭ ‬وبعد‭ ‬وفاة‭ ‬الخليفة‭ ‬المعتز‭ ‬وتولي‭ ‬ابنه‭ ‬المقتدر‭ -‬غير‭ ‬البالغ‭ - ‬دفة‭ ‬الحكم،‭ ‬حدث‭ ‬صراع‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬ابن‭ ‬عمه‭ ‬عبدالله‭ ‬بن‭ ‬المقتدر،‭ ‬وهذا‭ ‬أعطى‭ ‬دولة‭ ‬القرامطة‭ ‬فرصة‭ ‬للتسلل‭ ‬إلى‭ ‬كيان‭ ‬الخلافة‭ ‬العباسية‭ ‬والسلب‭ ‬والحرب‭ ‬والنهب‭ ‬فيها‭. ‬ولم‭ ‬يكتف‭ ‬المؤلف‭ ‬بالرواية‭ ‬التاريخية،‭ ‬ولكنه‭ ‬سعى‭ ‬إلى‭ ‬الإسقاط‭ ‬السياسي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ما‭ ‬يدور‭ ‬في‭ ‬واقعنا‭ ‬من‭ ‬قضايا‭ ‬الإرهاب‭ ‬التي‭ ‬ترتكب‭ ‬باسم‭ ‬الدين،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الدين‭ ‬منها‭ ‬براء‮»‬،‭ ‬لذا‭ ‬فإننا‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬المعالجات‭ ‬التاريخية‭ ‬في‭ ‬الأعمال‭ ‬الدرامية‭ ‬المقدمة‭ ‬في‭ ‬وقتنا‭ ‬الراهن‭. ‬

وسوف‭ ‬نتابع‭ ‬حادثة‭ ‬سرقة‭ ‬الحجر‭ ‬الأسود‭ ‬كما‭ ‬وردت‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬الشخصيات‭ ‬في‭ ‬عرض‭ ‬مسرحية‭ ‬‮«‬الحجر‭ ‬الأسود‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تضمنت‭ ‬الصراع‭ ‬الجدلي‭ ‬العقائدي‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬فصولها‭. ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬استهلالية‭ ‬العرض‭ ‬بالمنادي‭ ‬أو‭ ‬الراوي‭ ‬الذي‭ ‬يعلن‭ ‬انطلاقة‭ ‬الحدث‭ ‬الدرامي،‭ ‬وهو‭ ‬يدق‭ ‬الطبول‭ ‬قائلا‭: ‬يا‭ ‬أهالي‭ ‬بغداد‭.. ‬الحاضر‭ ‬يعلم‭ ‬الغائب‭.. ‬تولي‭ ‬الخليفة‭ ‬عبدالله‭ ‬بن‭ ‬المعتز‭ ‬الخلافة‭ ‬يا‭ ‬أهالي‭ ‬بغداد‮»‬‭.‬

كما‭ ‬أشار‭ ‬النص‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬بدايات‭ ‬ضعف‭ ‬الخلافة‭ ‬العباسية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬بعد‭ ‬وفاة‭ ‬الخليفة‭ ‬المقتدر،‭ ‬وتولي‭ ‬ابنه‭ ‬الخليفة‭ ‬عبدالله‭ ‬بن‭ ‬المعتز‭ ‬الحكم،‭ ‬والذي‭ ‬لا‭ ‬يتجاوز‭ ‬عمره‭ ‬ثلاثة‭ ‬عشر‭ ‬ربيعًا‭. ‬ويمكن‭ ‬تلمس‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬النص‭ ‬عندما‭ ‬احتدم‭ ‬النزاع‭ ‬بين‭ ‬ابن‭ ‬المعتز‭ ‬والأم،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬المقطع‭ ‬التالي‭. ‬‮«‬منذ‭ ‬أن‭ ‬قتل‭ ‬والدي‭ ‬الخليفة‭ ‬المعتز،‭ ‬وهذه‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬انحطاط،‭ ‬فبدلًا‭ ‬من‭ ‬الانتصارات‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬هزائم‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬القرامطة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭.. ‬وبدلًا‭ ‬من‭ ‬العلم‭ ‬والمعرفة‭ ‬والرقي،‭ ‬أشغلت‭ ‬الصبي‭ ‬بلذاته،‭ ‬وجعلت‭ ‬الدولة‭ ‬تدور‭ ‬أمورها‭ ‬على‭ ‬تدبير‭ ‬النساء‭ ‬والخدم‮»‬‭. ‬

وهكذا‭ ‬يتضح‭ ‬أن‭ ‬بدايات‭ ‬ضعف‭ ‬الدولة‭ ‬العباسية‭ ‬كانت‭ ‬بعد‭ ‬تولي‭ ‬الخلافة‭ ‬لابنه‭ ‬الأصغر‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬حول‭ ‬له‭ ‬ولا‭ ‬قوة،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬سببًا‭ ‬في‭ ‬ضعف‭ ‬الدولة‭ ‬وانفلات‭ ‬الأمن‭ ‬فيها‭. ‬وكانت‭ ‬أم‭ ‬المقتدر‭ ‬التي‭ ‬تمتعت‭ ‬بنفوذ‭ ‬قوي‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تدير‭ ‬شئون‭ ‬الدولة،‭ ‬كما‭ ‬ازدادت‭ ‬سطوة‭ ‬الخدم‭ ‬والنساء‭  ‬في‭ ‬القصور‭ ‬واتضح‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الخادمة‭ ‬‮«‬ثومال‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬ولتها‭ ‬أم‭ ‬المقتدر‭ ‬الإشراف‭ ‬على‭ ‬شئون‭ ‬ديوان‭ ‬المظالم‭. ‬ويمكن‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬الحديث‭ ‬الذي‭ ‬ورد‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬أحد‭ ‬القادة،‭ ‬والذي‭ ‬يكشف‭ ‬الوضع‭ ‬الذي‭ ‬آلت‭ ‬البلاد‭ ‬إليه‭: ‬‮«‬أخبار‭ ‬بغداد‭ ‬تسر‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬تولى‭ ‬المقتدر‭ ‬الخلافة‭: ‬أي‭ ‬قبل‭ ‬ست‭ ‬سنوات،‭ ‬والمقتدر‭ ‬مع‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬بغداد‭... ‬مرة‭ ‬يرفعونه‭.. ‬ومرة‭ ‬ينزلونه‭...‬‮»‬‭ ‬والذي‭ ‬يفرح‭ ‬جدا‭ ‬أنهم‭ ‬أدخلوا‭ ‬في‭ ‬شريعتهم‭ ‬اللعب‭ ‬والهزل‮»‬‭... ‬‮«‬المقتدر‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬أخبار‭ ‬الرزايا‭ ‬والفجائع،‭ ‬لأن‭ ‬أمه‭ ‬تمنع‭ ‬عنه‭ ‬تلك‭ ‬الأخبار‮»‬‭ ... ‬إنها‭ ‬فرصتنا‭ .. ‬نهجم‭ ‬على‭ ‬بغداد‭.. ‬ونزيل‭ ‬الخلافة‭ ‬العباسية‭.. ‬ونثبت‭ ‬القرمطية‮»‬‭. ‬

ونتيجة‭ ‬لضعف‭ ‬الخلافة‭ ‬العباسية‭ ‬ازدادت‭ ‬سطوة‭ ‬القرامطة،‭ ‬وظهرت‭ ‬شخصية‭ ‬أبو‭ ‬سعيد‭ ‬الحسن‭ ‬بن‭ ‬بهران‭ ‬الجنابي‭ ‬في‭ ‬البحرين‭ ‬والإحساء،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يدعو‭ ‬إلى‭ ‬مذهب‭ ‬‮«‬السبعية‭ ‬أو‭ ‬الباطنية‮»‬‭.. ‬واستطاع‭ ‬التأثير‭ ‬في‭ ‬الناس‭ ‬وإقناعهم‭ ‬بأفكاره،‭ ‬ثم‭ ‬أخذ‭ ‬يقطع‭ ‬الطرق‭ ‬ويغير‭ ‬على‭ ‬النواحي‭ ‬والأطراف‭. ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يدعو‭ ‬الناس‭ ‬إلى‭ ‬الانحلال‭ ‬الأخلاقي‭ ‬بجميع‭ ‬أشكاله،‭ ‬والذي‭ ‬لا‭ ‬تجيزه‭ ‬الأعراف‭ ‬والديانات‭ ‬السماوية‭... ‬ويمكن‭ ‬الاستدلال‭ ‬على‭ ‬نوايا‭ ‬أبي‭ ‬سعيد‭ ‬الجنابي‭ ‬أو‭ ‬الصقلبي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الحوار‭ ‬الذي‭ ‬دار‭ ‬بين‭ ‬الخادمين‭:‬

‮«‬منذ‭ ‬أن‭ ‬بدأت‭ ‬الخدمة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البيت‭ ‬لم‭ ‬أشاهد‭ ‬أبا‭ ‬سعيد‭ ‬الجنابي‭ ‬يصلي‭ ‬ويصوم‭.. ‬الخادم‭ ‬الصقلبي‭: ‬هذا‭ ‬اسمه‭ ‬حسن‭ ‬بهرام‭.. ‬كان‭ ‬دقاقًا‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬جنابه‭.. ‬اشتغل‭ ‬بالتجارة‭.. ‬وجعل‭ ‬يدعو‭ ‬العرب‭ ‬إلى‭ ‬مذهبه‭.. ‬مذهب‭ ‬القرامطة‭... ‬حاربه‭ ‬الخليفة‭ ‬المعتضد‭.. ‬ولكن‭ ‬حسن‭ ‬بهرام‭ ‬انتصر‭ ‬على‭ ‬الخليفة‭... ‬ونهب‭ ‬البصرة‭ ‬وأسر‭ ‬الرجال‭ ‬وسبى‭ ‬النساء‭ ‬والأطفال‮»‬‭.‬

وكانت‭ ‬نهاية‭ ‬أبي‭ ‬سعيد‭ ‬الجنابي‭ ‬القرمطي‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬خادمه‭ ‬الصقلبي‭ ‬الذي‭ ‬دهمه‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬الحمام،‭ ‬وقتل‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬جنوده‭ ‬بالطريقة‭ ‬نفسها‭...‬،‭ ‬ويمكن‭ ‬الاستدلال‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المقطع‭ ‬الحواري‭ ‬التالي‭: ‬القائد‭ ‬الخامس‭: ‬‮«‬الخادم‭ ‬قتل‭ ‬والدكما‭ ... ‬أيها‭ ‬الحراس‭.. ‬الخادم‭ ‬قتل‭ ‬السيد‭.. ‬أيها‭ ‬الناس‭.. ‬الخادم‭ ‬قتل‭ ‬القادة‮»‬‭.‬

 

خلية‭ ‬إرهابية

وبعد‭ ‬وفاة‭ ‬أبي‭ ‬سعيد‭ ‬الجنابي‭ ‬تولى‭ ‬قيادة‭ ‬القرامطة‭ ‬أبوطاهر،‭ ‬وهو‭ ‬أحد‭ ‬أحفاد‭ ‬أبي‭ ‬سعيد‭ ‬الجنابي،‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يكوِّن‭ ‬خلية‭ ‬إرهابية‭ ‬تحت‭ ‬مظلة‭ ‬الفكر‭ ‬العقائدي‭ ‬الذي‭ ‬يعتقد‭ ‬به،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬يدعو‭ ‬الشباب‭ ‬وعشاق‭ ‬السلاح‭ ‬في‭ ‬البحرين‭ ‬والحسا‭ ‬لمناصرته‭ ‬وتبنى‭ ‬أفكارًا‭ ‬إلحادية‭ ‬تتنصل‭ ‬من‭ ‬الدين‭ ‬الإسلامي‭ ‬وتجمح‭ ‬إلى‭ ‬العبودية‭ ‬لغير‭ ‬الله‭... ‬وقد‭ ‬استطاع‭ ‬بعد‭ ‬فترة‭ ‬وجيزة‭ ‬أن‭ ‬يجمع‭ ‬عددًا‭ ‬غفيرًا‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬حوله،‭ ‬ويغرر‭ ‬بعقولهم‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬المال،‭ ‬ويصف‭ ‬القائد‭ ‬الخامس‭ ‬ذلك‭ ‬‭- ‬كما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬النص‭ - ‬قائلا‭: ‬‮«‬بعد‭ ‬أن‭ ‬استولى‭ ‬أبوطاهر‭ ‬على‭ ‬الحكم،‭ ‬أي‭ ‬قبل‭ ‬خمس‭ ‬عشرة‭ ‬سنة‭... ‬كان‭ ‬يأخذ‭ ‬الناس‭ ‬معه‭ ‬إلى‭ ‬الصحراء‭... ‬ويقول‭ ‬لهم‭. ‬احفروا‭ ‬هنا،‭ ‬فستجدون‭ ‬مالا‭.. ‬فإذا‭ ‬حفروا‭ ‬وجدوا‭ ‬المال‭... ‬فاعتقدت‭ ‬الناس‭ ‬أنه‭ ‬يعلم‭ ‬الغيب‭.‬

ويرد‭ ‬القائد‭ ‬الخامس‭ ‬عليه‭ ‬قائلا‭: ‬‮«‬منذ‭ ‬بداية‭ ‬هذه‭ ‬السنة‭ ‬316هـ‭ ‬وهو‭ ‬يعيث‭ ‬فسادا‭ ‬في‭ ‬الأرض،‭ ‬فقد‭ ‬هجم‭ ‬على‭ ‬الكوفة‭ ‬والرحبة‭ ‬والموصل‭ ‬وسنجار‭.. ‬فقتل‭ ‬أهلها‭ ‬وسلب‭ ‬ونهب‭ ‬أموالهم‭. ‬كما‭ ‬نتلمس‭ ‬ازدياد‭ ‬سطوة‭ ‬أبي‭ ‬طاهر‭ ‬القرمطي‭... ‬على‭ ‬لسان‭ ‬محمد‭ ‬سنبر‭: ‬هو‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬الرحبة‭ ‬وسيحتل‭ ‬الرملة،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬دمشق‭.. ‬فلا‭ ‬تتعجل‭... ‬خوفي‭ ‬أن‭ ‬ينكشف‭ ‬أمرك‮»‬‭.‬

كما‭ ‬انتهز‭ ‬أبوطاهر‭ ‬القرمطي‭ ‬موسم‭ ‬الحجيج‭ ‬وتوجه‭ ‬إلى‭ ‬مكة‭ ‬المكرمة،‭ ‬وهجم‭ ‬على‭ ‬الحجاج‭ ‬وهم‭ ‬يؤدون‭ ‬فريضة‭ ‬الحج‭.. ‬ففزع‭ ‬الناس‭ ‬وفروا‭.. ‬وفرقوا‭ ‬حجاج‭ ‬بيت‭ ‬الله،‭ ‬وسرقوا‭ ‬الحجر‭ ‬الأسود‭ ‬عام‭ ‬317هـ،‭ ‬وقتلوا‭ ‬الحجاج‭ ‬وخلعوا‭ ‬كسوة‭ ‬الحجر‭ ‬الأسود،‭ ‬ولم‭ ‬يعودوا‭ ‬به‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬اثنين‭ ‬وعشرين‭ ‬عامًا‭. ‬

ويمكن‭ ‬توضيح‭ ‬ذلك‭ - ‬كما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬النص‭- ‬كالتالي‭: ‬‮«‬ذهبت‭ ‬للحج‭ ‬فلم‭ ‬يعجبني‭ ‬ذلك،‭ ‬فخرجت‭ ‬مع‭ ‬جماعتي‭ ‬على‭ ‬الحجاج‭ ‬يوم‭ ‬التروية‭ ‬فأخذت‭ ‬أموالهم،‭ ‬وقتلت‭ ‬كثيراً‭ ‬منهم،‭ ‬وأمرت‭ ‬بأن‭ ‬ترمى‭ ‬جثثهم‭ ‬في‭ ‬بئر‭ ‬زمزم،‭ ‬ونزعت‭ ‬كسوة‭ ‬الكعبة،‭ ‬وشققتها‭ ‬بين‭ ‬أصحابي،‭ ‬وقلعت‭ ‬الحجر‭ ‬الأسود‭. . ‬ومن‭ ‬بقي‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭ ‬من‭ ‬الحجاج‭.. ‬يقول‭: ‬لا‭. . ‬لا‭. . ‬وأنا‭ ‬أقول‭: ‬أين‭ ‬الطير‭ ‬الأبابيل؟‭ ‬أين‭ ‬الحجارة‭ ‬من‭ ‬سجيل؟

وبعد‭ ‬سرقة‭ ‬أبي‭ ‬طاهر‭ ‬للحجر‭ ‬الأسود‭ ‬عاد‭ ‬به‭ ‬فارًا‭ ‬إلى‭ ‬مسقط‭ ‬رأسه‭... ‬ليؤكد‭ ‬عدم‭ ‬مصداقية‭ ‬الدين‭ ‬الإسلامي،‭ ‬تعاظمت‭ ‬الأحداث‭ ‬بصورة‭ ‬أكبر‭ ‬لتصدم‭ ‬المشاهد‭ ‬بحقائق‭ ‬يصعب‭ ‬التكهن‭ ‬بأبعادها‭ ‬العقائدية‭ ‬والسياسية،‭ ‬ونفهم‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬المقطع‭ ‬التالي‭: ‬اعلموا‭ ‬يا‭ ‬معشر‭ ‬الناس،‭ ‬أن‭ ‬الدليل‭ ‬قد‭ ‬ظهر،‭ ‬وهو‭ ‬دين‭ ‬أبينا‭ ‬آدم‭... ‬وكل‭ ‬دين‭ ‬كنا‭ ‬عليه‭ ‬فهو‭ ‬باطل،‭ ‬وجميع‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬الدعاة‭ ‬باطل‭... ‬وزور‭ ‬عن‭ ‬ذكر‭ ‬موسى‭ ‬وعيسى‭ ‬ومحمد‭...‬إنما‭ ‬الدين‭ ‬دين‭ ‬آدم‭ ‬الأول،‭ ‬وهؤلاء‭ ‬كلهم‭ ‬دجالون‭ ‬محتالون‮»‬‭.‬

والغريب‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬أن‭ ‬طغيان‭ ‬أبي‭ ‬طاهر‭ ‬القرمطي‭ ‬تعاظم‭ ‬وعم‭ ‬العباد‭ ‬والبلاد،‭ ‬كما‭ ‬سولت‭ ‬إليه‭ ‬نفسه‭ ‬أن‭ ‬يتجرأ‭ ‬ويطلب‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬الطواف‭ ‬حوله‭.‬

‭ ‬وفي‭ ‬الفصل‭ ‬الأخير،‭ ‬يقوم‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬الحسن‭ ‬بن‭ ‬محمد‭ ‬سنبر‭ ‬بإرجاع‭ ‬الحجر‭ ‬الأسود‭ ‬إلى‭ ‬مكة‭ ‬المكرمة‭ ‬بعد‭ ‬اثنين‭ ‬وعشرين‭ ‬عامًا،‭ ‬كما‭ ‬دعا‭ ‬أمير‭ ‬مكة‭ ‬المسلمين‭ ‬إلى‭ ‬التوحد،‭ ‬وعدم‭ ‬السماح‭ ‬لأصحاب‭ ‬الغايات‭ ‬والمصالح‭ ‬بتفريق‭ ‬الأمة،‭ ‬هكذا‭ ‬يتم‭ ‬إرجاع‭ ‬الحجر‭ ‬الأسود‭ ‬إلى‭ ‬مكة‭ ‬المكرمة،‭ ‬بعد‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬الأحداث‭ ‬الدامية،‭ ‬التي‭ ‬عكست‭ ‬مرارة‭ ‬الواقع‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬يسيس‭ ‬الدين‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أهداف‭ ‬دنيوية‭ ‬بحتة‭. ‬وتذكر‭ ‬كتب‭ ‬التاريخ‭ ‬هجوم‭ ‬القرامطة‭ ‬على‭ ‬حجاج‭ ‬بيت‭ ‬الله‭ ‬والذين‭ ‬قتلوا‭ ‬كثيراً‭ ‬منهم،‭ ‬ودفنوا‭ ‬الناس‭ ‬أحياء‭ ‬في‭ ‬بئر‭ ‬زمزم،‭ ‬وذهبوا‭ ‬بالحجر‭ ‬إلى‭ ‬البحرين؛‭ ‬فبقي‭ ‬إلى‭ ‬عام‭ ‬339هـ،‭ ‬حيث‭ ‬أعاده‭ ‬الخليفة‭ ‬العبَّاسي‭ ‬المطيع‭ ‬لله‭ ‬إلى‭ ‬مكانه،‭ ‬وصنع‭ ‬له‭ ‬طوقين‭ ‬من‭ ‬فضة،‭ ‬فطوقوا‭ ‬الحجر‭ ‬بهما‭ ‬وأحكموا‭ ‬بناءه‭.‬

 

جماليات‭ ‬الرؤية‭ ‬البصرية

من‭ ‬الملاحظ‭ ‬على‭  ‬‮«‬االسينوغرافيا‭ ‬العامة‮»‬‭ ‬للعرض‭ ‬والأداء‭ ‬التمثيلي‭ ‬أن‭ ‬المخرج‭ ‬التزم‭ ‬بواقعية‭ ‬النص‭.. ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬حاول‭ ‬أن‭ ‬يوجد‭ ‬لجميع‭ ‬تفاصيل‭ ‬الحدث‭ ‬التاريخي‭ ‬مكانًا‭ ‬على‭ ‬الخشبة،‭ ‬والذي‭ ‬ساعد‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬تقسيم‭ ‬الخشبة‭ ‬إلى‭ ‬قسمين،‭ ‬القسم‭ ‬الأمامي‭ ‬والقسم‭ ‬الخلفي‭ ‬الذي‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬خشبة‭ ‬المسرح‭. ‬

كما‭ ‬أن‭ ‬المتابع‭ ‬للعرض‭ ‬يتلمس‭ ‬حرص‭ ‬المخرج‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬المتلازمة‭ ‬المكانية‭ ‬والزمانية،‭ ‬فحادثة‭ ‬الصراع‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬الدولة‭ ‬العباسية‭ ‬واضحة‭. ‬كما‭ ‬أشرنا‭ ‬إليها‭ ‬سابقًا‭ - ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬تباينًا‭ ‬في‭ ‬الأبعاد‭ ‬المكانية‭ ‬التي‭ ‬تعيش‭ ‬الشخصيات‭ ‬فيها،‭ ‬فهناك‭ ‬دار‭ ‬الخلافة‭ ‬مقر‭ ‬إقامة‭ ‬المقتدر‭ ‬بن‭ ‬المعتضد‭ ‬ودار‭ ‬أبي‭ ‬سعيد‭ ‬الجنابي‭ ‬في‭ ‬هجر،‭ ‬والساحة‭ ‬الموجودة‭ ‬أمام‭ ‬دار‭ ‬أبي‭ ‬طاهر‭ ‬سليمان‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬سعيد‭ ‬الجنابي‭.‬

وساهم‭ ‬الراوي‭ ‬في‭ ‬سرد‭ ‬أحداث‭ ‬المسرح‭ ‬وراهن‭ ‬بالممثل‭ ‬كعامل‭ ‬أساسي‭ ‬لزيادة‭ ‬إيقاع‭ ‬العرض،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬طول‭ ‬وكثرة‭ ‬التفاصيل‭ ‬الحدثية‭ ‬فيه‭. ‬ومن‭ ‬الملاحظ‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬قدرة‭ ‬المخرج‭ ‬على‭ ‬تحريك‭ ‬المجاميع‭ (‬الكورس‭) ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العرض،‭ ‬انطلاقًا‭ ‬من‭ ‬كونه‭ ‬عملًا‭ ‬تاريخيًّا‭ ‬يركن‭ ‬إلى‭ ‬الأحداث‭ ‬المتضمنة‭ ‬الغزوات‭ ‬والحروب‭ ‬والمعارك‭. ‬وارتباط‭ ‬حركة‭ ‬المجاميع‭ ‬بواقعية‭ ‬القصة‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬أكدت‭ ‬فكرة‭ ‬العمل‭ ‬وواقعيته،‭ ‬مما‭ ‬قد‭ ‬يساعد‭ ‬المشاهد‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬الحقائق‭ ‬التاريخية‭ ‬بشيء‭ ‬من‭ ‬التحفظ‭.‬

وقد‭ ‬شارك‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬حوالي‭ ‬ستين‭ ‬فردًا‭,‬‭ ‬ممثلين‭ ‬وفنيين‭ ‬وإداريين،‭ ‬ولعل‭ ‬أهم‭ ‬المشاركين‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الأداء‭ ‬التمثيلي،‭ ‬هم‭: ‬أحمد‭ ‬ناصر،‭ ‬محمد‭ ‬قنبر،‭ ‬عبدالله‭ ‬مسعود،‭ ‬محمد‭ ‬حسين،‭ ‬محمد‭ ‬يوسف،‭ ‬رائد‭ ‬الدالاتي،‭ ‬أحمد‭ ‬يوسف،‭ ‬أشواق‭ ‬وعمر‭ ‬الجسمي‭ ‬وأحمد‭ ‬الجسمي‭..‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬مجموعة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الفنانين‭ ‬والفنيين‭ ‬وطاقم‭ ‬العمل‭ ‬الإداري‭. ‬كما‭ ‬وظف‭ ‬المخرج‭ ‬الديكور‭ ‬بطريقة‭ ‬ترتبط‭ ‬بالبُعد‭ ‬المكاني‭ ‬ومحاولة‭ ‬فهم‭ ‬دلالاته‭ ‬بالنسبة‭ ‬للأحداث‭ ‬والشخصيات،‭ ‬حيث‭ ‬هناك‭ ‬عبارات‭ ‬كتبت‭ ‬مثل‭: ‬دار‭ ‬الهجرة،‭ ‬والساحة‭ ‬أمام‭ ‬دار‭ ‬الهجرة‭. ‬دار‭ ‬أبي‭ ‬طاهر‭ ‬سليمان‭ ‬بن‭ ‬حسن‭ ‬الجنابي‭ ‬القرمطي،‭ ‬والساحة‭ ‬التي‭ ‬تمثل‭ ‬الحرم‭ ‬المكي‭ ‬الشريف‭. ‬كما‭ ‬شكلت‭ ‬أزياء‭ ‬الممثلين‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬الديكور،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬عكست‭ ‬الأحداث‭ ‬التاريخية،‭ ‬وهذا‭ ‬بدوره‭ ‬ساعد‭ ‬المشاهد‭ ‬على‭ ‬التخيل‭ ‬والتحليق‭ ‬في‭ ‬الأحداث‭ ‬المقدمة،‭ ‬وجعل‭ ‬المشاهد‭ ‬يتعرف‭ ‬على‭ ‬أبعاد‭ ‬الشخصيات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬وعلاقتها‭ ‬بالسّلطة‭ ‬الحاكمة‭. ‬فهناك‭ ‬الشخصيات‭ ‬المحورية‭ ‬والقادة‭ ‬والجنود‭ ‬وعامة‭ ‬الناس‭ ‬والخدم‭... ‬كما‭ ‬ساعدت‭ ‬الموسيقى‭ ‬على‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬واقع‭ ‬الأحداث‭ ‬المهمة،‭ ‬ورفع‭ ‬الإيقاع‭ ‬في‭ ‬لحظات‭ ‬التأزم‭ ‬ولحظات‭ ‬الارتخاء‭ ‬النفسي‭ ‬والفرح‭... ‬وهذا‭ ‬المزيج‭ ‬التاريخي‭ ‬الرائع‭ ‬ساعد‭ ‬المتلقي‭ ‬على‭ ‬سبر‭ ‬الماضي‭ ‬الذي‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬عصر‭ ‬الحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬عام‭ ‬317هـ،‭ ‬مع‭ ‬محاولة‭ ‬استقراء‭ ‬الواقع‭ ‬واستشراف‭ ‬المستقبل‭ ‬بشيء‭ ‬من‭ ‬القلق‭ ‬المعاصر‭ ‬‭.