الأديب المتجدد واللغوي الغيور

الأديب المتجدد واللغوي الغيور

من الأسماء التي عمرت فضاء نشأتي, إذ كان حينها قرين أسماء تبدَّت لنا كالنجوم في فضاء الأدب المحلي, نقرأهم في الصحف أفكارا ذات مساس بما في مجتمعنا من قضايا: اللغة, والتربية, والعروبة, والتطوير, والنقد, والدرس, والتعليم, والقراءة, وما يلوح في المخيلة الغضة فنتذوق, ونتأثر..., وفيهم كان ساطعا, تؤجَّج فينا الوطنيةُ بما يقول, وتطفو طاقة اعتزازنا بالانتماء العربي في ما يقصِد, وتؤسَّس ركيزة اللغة, ومذاق جمالها بما يصوغ, وثمة نزعة يشعل بها حنايا الخفوق لقضايا عربية, فينشط  الإحساس بها كفلسطين الجريحة, والجزائر المحتلة, ومصر العلم, والثقافة, والنقد, تماما كما كان يفعل نشيد «بلاد العرب أوطاني» بالناشئة حينذاك, مع أنه يعود بنا إلى المكانة المرموقة للحرمين موئل وطن يحتضننا بما يبثه من طموحاته عنه لمواكبة ما يستجد من حولنا في ما يثير من أفكار, ويبوح من شعر.

هذا الشاعر تجلَّى اسمه في ذاكرتي، الأديب المتجدد, واللغوي الغيور... والعروبي الأثير... والناقد المبادر..., وكنت أشعر بكثير من الامتلاء حين آتي بشيء عنه في حصة التعبير, وأذكر جدلا نشأ بيني وبين الناقد المديني الشهير عبدالعزيز الربيع عن أعلام الأدباء في بلادي, جاء ابن إدريس في أولهم, إذ كنتُ في ذلك أنحاز لجملة من التطلعات الاستشرافية التي كان يبثها حينذاك, حتى إذا ما تواصلت معه طالبة في الجامعة أتلقى عنه وعن تلك الكوكبة من أدباء السعودية, دارسة  شعره ونثره, وجدتني أقوم بتدريس طالبات جلسن مكاني أدب عبدالله بن إدريس بقسم اللغة العربية بجامعة الملك سعود, فإذا به وقد تحقق له الكثير من استشرافاته تلك, إذ أصبحت واقعا في حياته وتجاربه خلال مسيرته الفكرية, والوظيفية, والأدبية, والإعلامية وجميعها تنهل من, وتعبِّر عن قيمية  متجذرة فيه تضمنتها سيرته الذاتية الثرية, ومجموعة أشعاره الكاملة، حيث نقف فيهما على تفاصيلها فنجده ذلك التكوين المعمق لمن نهل من العلم الشرعي, واللغة العربية, والتأصيل الديني, والثقافة العامة بما مكنه من قَدرِه الرفيع في مسيرة الأدباء السعوديين, وبصم له ذاتيته النقية الخاصة, فهو لم يقتصر ذكره في البلاد, بل تخطى إلى خارجها, إذ تفضي سيرته إلى أنه قد جلس إلى أقطاب الفكر, والعلم, والنقد في العالم العربي في الثمانينيات وما بعدها من  أمثال الزيات, وطه حسين, والعقاد, والزركلي, وعائشة عبدالرحمن, ومندور..., وسواهم بمثل ما هو مع الذين هم من جيله, وممن سبقهم من نقاد, وأدباء, وشعراء وطنه من تقادم, ثم من عاصره كالعواد, وحمزة شحاتة, وطاهر الزمخشري, وابن خميس, والجاسر, وغيرهم..., وقد نال سبق الأولية في اهتمامهم فكتبوا, ونشروا بدءا عن شعرائه المعاصرين أول سفر له يضم ثلة من شعراء نجد الذين ألقي عليهم الضوء, وأزاح عنهم حجب الغُمرة في مؤلفه الشهير «شعراء نجد المعاصرون» الذي أصدره في طبعته الأولى سنة 1385هــ, وانتهاء لأن يكون مدار البحث الأكاديمي, والتوثيقي.
ولم يكن في مسيرته يقتصر قربا, وعلائق بالمفكرين علماء, وأدباء, ونقاد, وشعراء فحسب، بل كان غير بعيد عن أساطين السياسة من الملوك, والقادة الذين عاصرهم، فالتقى بهم فيصل بن عبدالعزيز, والحسين بن طلال, وصدام حسين, وجمال عبدالناصر, ثم من تلاهم, وأخيرا الملك عبدالله بن عبدالعزيز الذي توج ريادته بمقام الشخصية السعودية المكرمة بوسام الملك عبدالعزيز, وبالميدالية الذهبية في المهرجان السنوي «الجنادرية»  في العام الهجري 1431 فوق ثرى نجد التي تغنى بليلها, ونهارها, وسعى ليرسي دوره في مسيرة نهضتها بكل حيويته, وفكره, وشعره, وجهده في وظائفه العديدة، مدرسا, وإعلاميا مؤسسا, وناقدا ذا موقف, فاستحق في محفل الأدباء السعوديين وسام الريادة في العام 1390 للهجرة في مؤتمر الأدباء السعوديين الأول. كانت تلك  إجابة الله تعالى له، إذ بلغ زورقه مرفأ الحلم الجميل كما سأل في قصيدته زورقي: «رباه بلغ بالسلامة زورق الحلم الجميل». 
عرف ابن إدريس بعصاميته مذ قَدِم لنجد ناشئا يستشرف مستقبل الدارس للغة العربية, وللعلم الشرعي في الرياض, ومن ثم المعلم لهما, وإلى أن مد أنهار الصحف بروافد فكره, وجميل قصيده, ومن ثم حين ترأس مجلة إسلامية هي «الدعوة» ليعلن من خلال توجهها موقفه الجاد من قضايا دينه, ووطنه, وأمته, وعروبته... و..., و...، ولقد ذاع اسمه بعد أن انتشر كتابه الأول المذكور داخل البلاد وخارجها لسنوات عديدة, وقد أهداني كتابه الشهير ذلك في حين طُلعتي مذيلا بتوقيعه،  وقد كانت مفاجأة، إذ من البدهي أن الكبار لم يكونوا يحفلون بالصغار، بما عزز مواقفه, وأثبت مبادئه, بشيمة تواضعه, وكرم روحه, فنزل هذا المرجع التأصيلي  بين أيدينا سفرا أولا في تأريخ الشعر النجدي المعاصر من يومه, ولايزال, إذ عرَّفنا فيه من لم نكن نعرف منهم, فتذوقنا عنه اختلافات ألوان الشعر في نجد, وأصغينا معه لأصداء إيقاع شعرائها. هذا الكتاب لازمني طويلا فكان رفيق كتبي في حقيبة المدرسة, ومنذها عرفت هذا الجزيري, وأدركت في ما بعد أننا تقاسمنا حب نجد, ومن ثم عاصرنا نموها, وتسقسقنا هواءها كمائها, وتجاذبنا طيوف الأفكار في فضائها سُكنى, ومعاشا, كتبها ابن إدريس شعرا مذ شبابه, وكتبتها نثرا مذ طفولتي. 
إن اسم ابن إدريس قيمة ثابتة، يتمتع بمكانتها في قائمة الأدباء السعوديين, بما له من سمات قيَمية لها قدرها في مجتمع نشأ على الفضائل ومنظومتها, حيث هو نموذج لمرحلة مهمة في نهج هذا المجتمع في التربية, والتعليم بما ينطق منبثقا من روحه, ومنظومة قيم معتقده, وأخلاقه..., تلك التي كانت القاسم بينه وبين جيله, فمنجزه الفكري شعرا ونثرا هو طحين عجينة بيئة مجتمعه هذا, وواقعها, فوسمت وبُصمت في فلكه الفكري موضوعات قصائده, وأفكار نثره, وجميع أدواره. ولأن مصادره القرآن الكريم, والعربية, فإن أول مظاهر ارتوائه منهما, وتأثره بهما  ظهر في لغة اللسان, وفصاحة البيان عنده, حيث إن القرآن المعجز تجلى تأثيره فيه في لغة فصيحة  هي سيدة سفن المبحرين, عرَّابة قوافل القول, ويبدو أنه لم تكن عنده صياغتها وحدها محور عنايته, بل عنى بمضامينها تعبيرا عن قيم الانتماء للدين, وللعروبة, تشهد بذلك قصائده, ومواقفه ومحاضراته, ونثره, ولقاءاته, ولقد ذهب يتحدث عنها الناقدون, والأدباء, والباحثون, من أولئك العرب الذين التقى بهم, أو من مجايليه في الوطن, أو هؤلاء الناشئين  في المرحلة الراهنة  بعد مواجهة مرهقة له أكثر من نصف عقد ونيف، بين ماض له سماته, وحاضر شب عن طوق تلك السمات. وبقي الذي تخنصر بزناد ثباته يبرهن على هذا بقوله: 
أبدا أصون كرامتي رغم الصعاب العاتيات
لن أنثني عن مبدئي، فالحق أجدر بالثبات
ولا غرابة, فابن إدريس أسس مواقفه الفكرية, والتعليمية, والتأسيسية في جميع المجالات التي خاضها تجارب ومبادرات، ملتزما بفضائل تلك العصبة من الأخلاق في التعامل, والبوح بوضوح لا يشوبه رياء, ولا تغلفــــه مجاملــة,  يقول ابنه زياد: «ويستمر...طوال حياته ينثر مفاهيم ومفردات العزة, والكرامة,والشهامة, والشموخ, والإباء...». لذا فقد كان في مرحلة صراع تبدلات، وثبات مجداف تطلعات. الشاعر فيه ذو معيار, موقعه الوسطية فلا إسراف في انحياز لأمة, ولا لعرق, ولا لفكر, ولا لتوجه, بل للجديد الجاد, وللأصيل الفياض, فأقام على قاعدة الاحتكام للغة نصوصه, ولضم متونها بمغزل انتقاء من لا يعجز أن ينتقي من قاموس بحرها بسلاسة وانطلاق, كما أنه لم يَحِد عن الجدية في المواقف المرتهنة لعقيدته, وعروبته, وصدق انتمائه, وأصوله. لذا هو كالبحار يجدف متعاهدا مع البحر, متزاملا مع الإبحار, يمم زورقه صوب مراسي الغايات بما حمَّلها من هموم الأمة, ووطنية المنتمي, وأصالة المؤمن, وأبعاد المتطلع الطموح. بشاعرية الشاعر الصحراوي, وموهبة المستقي من التراث العمودي. إنه لم يقتصر على مجداف النثر وهو المكين في ترويض أدواته, وقوالبه, بل جعل الشعر زورقه, وسفينة أفكاره ليبوح به عما في دخيلته, فهو شاعر الآماد: «الزورق», و«الإبحار», و«الملامح», و«العزف»، كما حملت عنه عناوين كتبه, ووضعت عنه مضامينها. إنه خضم من الريادة, والأصالة, والتجديد, والتأصيل, والعزوف عن الطبول, والثقة في الأجدى الأنقى, الأبقى, والعصامية, وبها مضى في واقعه متصالحا مع كل ما في مجتمعه, مضيفا إليه بما استشرفه له من الآمال, وما أتى من ثم فيه من المتغيرات, فمضى معه دون أن يتنحى عنه, أو يقصيه, لكنه أرسى آراءه على بساط أخضر من نزاهة الفكر, متدفقا من عميق النبع, يبحر بزورق, ويرسو بسفينة في تاريخ أدباء, وشعراء السعودية المؤسسين للريادة. 
إن لابن إدريس موقفا آخر معي لن أتجاوزه هنا, إذ في  الثلث الأول من التسعينيات كنت في بداية الدرس الجامعي, حين دعاني للإشراف على صفحات المرأة في «الدعوة», ولأن عبدالله بن إدريس بوضاءته الأدبية لم يكن ليطلب إليَّ هذا فلا ألبي فاستجبت, وكانت فترة خصيبة أمدني فيها بكثير من أضواء فكره, وزخم قيمه, فهو من أول الذين حملوا على عاتقهم توجس المستشرف لمحاضن الجيل المسلم. وقد نال ثمرات هذا في بنيه, وحفدته, وتلامذته, ومن نهج على ذلك. ولئن حفلت سيرته بالكثير مما ألمحت إليه هذه الحروف، إلا أنه يجدر بنا ألا ننسى أنه صاحب لغة جزلة, مباشرة وثرية, ناقلة بأمانة طيف روحه العذبة, وخلقه الجم, ومبادئه الواضحة القيمة, ففي قصائده وقع حروف شعراء العمود الشعري, وصدى قوافيهم, وملمح سبكهم, ومع جديته في التعبير, ومتانة صياغته, إلا أنه شاعر رهيف شفيف, له قلب ينبض بالحب, والحب عنده رمز للنور, وللرفقة, وللأبوة, والانتماء, والوفاء, فحبه للشمس رامزة لباطن يكتظ بمفردات النور وهو يخاطبها:
أحبك ضوءًا جلي الطلوع
كما نجتلي ساطع البينات
أحبك حب النقي النزيه
وحب الشجاع بلا غمغمات
ويتجلى الحب في قيمة «الوفاء» عنده في مواساته لركبتيه حين استبدل صناعيتين بهما:
رفيقتاي ونعم الصبر صبركما
لم تشكيا تعب الأيام في وطري
وابن إدريس لم يخف ميل فؤاده, وخفق عاطفته نحو المرأة في حياته فهي الرفيقة, والحبيبة, والزوجة «أم العيال», والحفيدة, كل أولئك حفلت مجموعته الشعرية الكاملة بالكثير من قصائده في مدار الرابطة الوتينة بهن,... غير أن الركن الخاص في جوفه حيث الخفق الأول لها, وبها في صباه حين «بهية» خطفت قلبه اليافع بحسنها فرآها أبهى النساء, وفيها «الحسن عنوان», ولم تكن غير «ريم» الصحراء التي تغنى بها العربي الصحراوي من قبله يقول:
خطفت قلبي بعين جل خالقها
كعين ريم, وهل للريم صنوان؟
ثم إن ابن إدريس عقد على الوفاء لها عهده, فمد معها في مراحل حياته , يخلص لها الود ما شاءت النساء, وما نطق الوفاء:
ألا فانعمي إن هذا الوداد
سيبقى إلى دارنا القادمة
 فالحب عنده متلازمة أمن ووفاء، صحوا ونوما:
أعيش بالحب في صحْوي وفي سِنتي
وأزرع الود مشروبا ومأكولا

ويبقى على عهده قيَّما على الوفاء, حارسا له في دروبه وهو ينفث قصيدته «أأرحل قبلك، أم ترحلين», تلك التي أعادت لابن إدريس وهجه، فذهب يرددها الناس, ويتمثل بوفائها القرناء, وتحلم بها النساء, قالها حين تزامن مرضه, مع مرض رفيقة دربه الأثيرة, وهما على فراش المرض في آن, فراح يتوجس الفراق الذي هاجسه بنبضٍ شغوفٍ, وقلقٍ مشفقٍ, وخاتله بأطياف الغياب:
أأرحل قبلك أم ترحلين
وتغرب شمسي أم تغربين...
فإن كنتُ بادئ هذا الرحيل
فيا حزن روح براها الحنين
وإن كنتِ من قد طواها المدى
فيا فجعة لفؤادي الطعين
كيف لا يكون هذا الوفاء مجسدا في شاعر إنسان ما برح يفي لركبتيه اللتين رافقتاه دروبه, أفلا يفي لمن شاطرته الزورق والمرساة، فيكون صفي الوداد, أمينا على الرفقة؟
لقد كنتِ لي سعد هذا الوجود
ويا سعدنا بصلاح البنين
لقد كنتُ نعم الرفيق الوفي
وأنتِ كذاك الرفيق الأمين
فلكٌ إنسانيٌ مثاليٌ, ينبت من جذر راسخ مكين, يمثل الأصالة, والثبات  تغلَّبَ على نزعات البشر في الإنسان فيه, وناف بثماره لدى الشاعر الرفيق الصدوق ابن إدريس الذي توسط في مسيرته بين ما عليه من واجب العطاء, وما له من سماحة الإفضاء, فجاء شعره  طيفا  يألفه, ويسامره, ونفثة تبوح عنه, ونبضا يتوهج به:
إذا ما انصرفت
وعنه تبلد
ما بيننا من وئام
يخالسني جيئة
في الظلام
ويقول: 
الشعر نبض مشاعر
خلجاتها تحكي الشعل 
ويقول: الشعر نفثة شاعر
للحق يثأر للمُثل
هو ذا ابن إدريس, في الشعر كما قال: مفردة, ورؤية, وعاطفة, وصور. وفي النثر مبدأ, وعزيمة, وطموحا, وروحا تتأجج بفضائلها ونقائها كما قرأه المثقفون, والباحثون .