الرقصة الطقوسية رقصة الهبيش في حضرموت أنموذجا

استدل الباحث بأن رقصة الهبيش الحضرمية رقصة طقوسية قديمة تغيرت وظيفتها الاجتماعية والطقوسية من التعبد للإله «سين» (إله القمر عند الحضارم) إلى وظيفة اجتماعية واقتصادية بقول الشاعر:
على ضوء ذا الكوكب الساري
باقضي الليل خبه وسيره
ذلك البيت الشعري الذي يعظم فيه ذلك الكوكب المعبود قديما ويحكي قصة اكتمال القمر وتعظيمه اعتبر أساسا ومرجعا في كثير من قصائد السمر والشرح (للباحث الحضرمي: صالح سعيد باشنتوف، مخطوطة 2004م)، حيث بنى عليه كثير من الشعار أشعارهم وحاكوه، وقد كثرت الأقوال في نسبة هذا البيت، فبعضهم نسبه إلى الجن، وآخرون نسبوه إلى شاعر مجهول، بينما اختار البعض السلامة فنسبوه إلى التراث (تسمى القصيدة كثيرة الحركة وذات الإيقاعات السريعة والمقاطع الشعرية الطويلة «قصيدة شرحية»، ويقال لمن يمارسها من الرجال « مشترحون «وللنساء» «مشترحات»).
إن الحكم على أي ظاهرة أو رقصة تراثية شفهية أو غير مسجلة بأنها ظاهرة أو رقصة طقوسية صعب جدا لتقادم الزمان وتغير القيمة الوظيفية والثقافية من العبادة للآلهة وتعظيمها وشكرها إلى قيمة وظيفية اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية عند ترسخ قيم الإسلام وأحكامه في المجتمعات المسلمة، والدوافع التي دعت الباحث لدراسة هذه الظاهرة الصعبة «الرقصة الطقوسية» أجملها في الآتي:
< ما تمتاز به حضرموت من عمق تاريخي ضاربٍ جذوره في الزمن الغابر، والتنوع والتعدد لتنوع الجغرافيا والطقس، إضافة لحالات التأثير والتأثر التي أنتجت كمًا كبيرًا من الرقصات والألعاب الشعبية بعضها مازال قائمًا حتى الآن، والبعض الآخر انقرض واندثر.
< الدور الأساس الذي لعبته رقصة الهبيش ظهر في تطور المقاطع الشعرية والإيقاعات الموسيقية للرقصات الحضرمية والأغنية الحضرمية؛ وذلك لأن الرقصة تتطلب مقاطع شعرية متنوعة وطويلة، تواكب الإيقاعات الشعرية المتعددة والمتنوعة التي تفرضها الحركة الكثيرة والسريعة في الرقصة، ولذلك رأى كثير من الباحثين أن «رقصة الهبيش» هي أصل كثير من الرقصات والإيقاعات والأنواع الغنائية الحضرمية.
< على الرغم من تمسك كل من البيئة الحضرية والبيئة البدوية برقصاتها الخاصة بها وإيقاعاتها المتناسبة مع بيئتها، فإن رقصة الهبيش ذات الأصل البدوي شكلت محل اجتماع بين الحضر والبدو، فهي رقصة متطورة متحركة غير جامدة، تطورت إيقاعاتها ومقاطعها الشعرية بتطور التمازج الاجتماعي والثقافي في المجتمع.
< الغموض الكبير الذي أحاط برقصة الهبيش والهالة القدسية والأسطورية التي أعطت للرقصة - وقد تصدر المسمى الآتي «رقصة الهبيش ذلك الحضور من عمق الغموض» - عنوانا للبحث، فالبعض نسبها للشياطين والجن، وآخرون اعتبروها رقصة طقوسية لعبادة القمر، وهكذا تضاربت فيها الآراء واختلفت التفاسير المتأثرة بالطابع الأسطوري.
< عدم وجود مصادر أو مراجع مكتوبة حول نشأة الرقصة وتاريخها عبر الأزمنة والتطورات التي طرأت عليها خلال تاريخها والتأثيرات التي تتأثر بها سلبا وإيجابا.
< الموقف الاجتماعي والديني الرافض لهذه الرقصة، يمكن تلخيص المواقف الرافضة للرقصة بالآتي:
- غير مقبولة من قبل بعض الفئات الاجتماعية في داخل المدن، إذ تتم معارضتها، ما يجعل هواتها يمارسونها دائمًا خارج المدن مع السماح بها في المدن خلال بعض المناسبات؛ وحجة تلك الفئات المعارضة أن هذه الرقصة يحدث فيها الاختلاط بين الرجال والنساء علنًا.
- ولأنها أيضًا باللهجة العامية.
ولأنها «ليست صفو أهل البلاد». يعني ليست الرقصة الرئيسة لأهل البلد والمعترف بها اجتماعيا.
- تدخل السلطة ممثلة بالحكام لمنع هذه الرقصة إرضاء لتلك الفئات بموجب حجج دينية أو أخلاقية؛ لما بها من مشاركة فاعلة للمرأة.
- لكونها رقصة «الشياطين».
- لأنها تترك أثرا كبيرا في مشاعر المشترحين أثناء الرقصة، قد يصل بالبعض إلى حد فقدان الشعور الذي يتقمص الراقص ويعرف بالعامية بـ «الغي».
- ما ينشأ أثناء ممارسة هذه الرقصة من علاقات عشق بين بعض الرجال وبعض الراقصات.
- إثارة النعرات القبلية والاجتماعية أثناء ممارسة الرقصة، وخاصة عندما ترفض المشترحة مشاركة الرقص مع بعض الأشخاص لاعتبارات قبلية أو اجتماعية.
- أصدر السلطان صالح بن غالب القعيطي» في بداية خمسينيات القرن الماضي مرسوما يمنع إقامتها داخل المدن.
- صدرت وثيقة بمنطقة الصداع بتاريخ 1322هـ تمنع نساء المنطقة من حضور شرح البدو.
النشأة والموطن
أعاد الباحث رقصة الهبيش لأصلها اللغوي، فمعنى كلمة «هبيش» في اللغة العربية أعاد معظم المعاني اللغوية لكلمة «الهبيش» للأصل «فعل جمع الشيء أو تجميعه، أو تجمُّع لقوم غير متجانس»، فالتسمية لهذه الرقصة أتت من ذلك الفعل، وهو تجمع أولئك النفر من الناس وتأديتهم لتلك «الرقصة» بصورة إيقاعية منسجمة تمامًا. وحين العودة لشهادات الرواة عن تاريخ ونشأة الرقصة أتت الإجابات محملة بعنصري الخرافة والأسطورة.
الرواية الشائعة تفيد بأن رقصة الهبيش قديمة جدًا من أيام عاد، وأن قوم عاد سكنوا في جبل ضبضب كما يقولون» (جبل ضبضب بمدينة الشحر بساحل حضرموت).
رأي آخر يزعم بأن رقصة الهبيش كانت تقام بمنطقة تسمى «جعارة»، وهي تقع في وادي عرف (وادي عرف بمنطقة غيل بن يمين بساحل حضرموت)؛ ولأن الناس هناك بجعارة (جعيرة) كثرت معاصيهم وذهبوا مع اللهو والمجون فأهلكهم الله.
إن رقصة الهبيش ليست «إنسية» إنما هي «جنية» أخذها الإنسان عن الجن عن طريق الاستماع.
موطن الرقصة
تمارس رقصة الهبيش في منطقة محدودة المساحة الجغرافية نسبيا في ساحل حضرموت، وتمتد من الصداع غربًا إلى الديس الشرقية شرقًا والمشقاص. (المشقاص هي في الواقع ليست منطقة أو مدينة إنما هي جهة ومقابلها معراب)، وتمتد المشقاص من مدينة الحامي إلى ما بعد الريدة الشرقية من شرق حضرموت فقط، لكن مصطلح العامة اتفق على أن يطلق على مدينة قصيعر والريدة وغيرها من المناطق في هذا الإطار بالمشقاص.
وصف رقصة الهبيش وطريقة ممارستها
أولا: الشكل والعدد
تقام هذه الرقصة بعدد من الأفراد يتراوح عددهم بين الأربعة والعشرين والثلاثين فردًا وأغلب الأحيان تقام بأقل من هذا العدد، ويتقابل الرجال والنساء في صفين متوازيين كل صف يسمى «شنفا» في مكان خالٍ ومستو يسمى مداره.
ثانيا: التمهيد للرقصة
يشرع شخصان بترديد صوت من «الدان» (يستعمل مصطلح «الدان» بمعنى صوت إيقاعي، ويستعمل «الدان» بمعنى نوع غنائي متكامل الأغراض الشعرية والإيقاعات الموسيقية) لتحفيز الشعار والمشترحين المشاركين في الرقص، ويشترط في الشخصين اللذين يرددان صوت «الدان» أن يمتازا بحسن الصوت وسرعة البديهة في حفظ الشعر وقوله، وتجرى بعد ذلك مساجلة شعرية بين عدد من الشعراء. «الدان» الذي يغنيه أو يقدمه هذان الشخصان يسمى «صوتاً»، يعني لحنًا يظل يتداول فترة من الزمن، أثناء ذلك يكون بقية المشترحين جالسين لكي يحفظوا كلمات الشعر التي يقولها الشاعر؛ لأنهم سوف يغنونها أثناء الرقصة.
ثالثا: بداية الرقصة
تبدأ الرقصة عندما يبدأ شخص منهم متفق عليه، ويكون ذا خبرة قديمة بالرقصة فيقوم بالتصفيق بعد أن يصل إلى وسط الساحة المخصصة للرقصة، وتسمى هذه الساحة «المدارة»، أما ذلك التصفيق من قبل ذلك الشخص فيسمى «كسر الصوت»، وهو إشارة البدء بالرقصة فيقوم الراقصون «المشترحون» بتشكيل صفين يسمى كل صف «شنفًا». المساحة في ما بين الصفين تقدر بحوالي أربعة إلى خمسة أمتار تقريبًا يقوم هؤلاء بالغناء والتصفيق، وكل شنف يؤدي شطرًا من القصيدة، ويكون التصفيق عبارة عن ضربة واحدة، يعني «كفا واحدا». بعد برهة يخرج إلى وسط المدارة ثلاثة أشخاص يكونون في بداية الرقصة من ذوي الخبرة أو المسئولين عن الرقصة، وهؤلاء الثلاثة أحدهم يسمى «محيق» والفردان الآخران يسميان «مرحبين»، وفي هذه الحالة تأتي المرأة التي ترقص بهذه الرقصة وتسمى «الراعية» فتدخل من أحد جوانب المدارة وبالذات الجهة اليمنى ويكون أمامها أولئك الثلاثة، فيقف أحدهم إلى جانبها ويتحرك معها إلى الأمام راقصًا «المحيق»، وأمامها وجهًا لوجه «المرحبان» يرقصون أيضًا ويمشون إلى الخلف... وعند دخول الراعية إلى المدارة يتحول التصفيق من ضربة واحدة إلى ضربتين مزدوجتين مع ضـــرب الأرض بالأرجل.
وتستمر الرقصة أو (الصوت) كما يسمى شعبيًا ما بين نصف الساعة وخمس وأربعين دقيقة. وبعدها ينتهي ذلك بعد مغادرة الراعية خارج المدارة.
رابعا: المرأة المشاركة في الرقصة (الراعية)
تعتبر المرأة العنصر الأساسي في رقصة الهبيش، ومن خلال ما تلبسه من حلي تَصدر أصوات إيقاعية تعد الأساس في ضبط الإيقاع للرقصة كلها، وتكون تلك «الراعية» قد لبست ملابس جميلة، ولبست أيضًا الحلي من الفضة، ويكون تحت إبطها خلخال يصدر صوتًا عندما تهتز، فتبدأ تدور داخل المدارة وتتحرك بين الصفين, وعندما تصل عند أحد تلك الصفوف تقف هناك لبرهة وتؤدي حركات اهتزازية، ويكون ذلك الصف «الشنف» قد زاد الضرب بيديه ورجليه رافعًا صوته بالغناء حتى تغادرهم الراعية لتدور نصف دورة وتتحول إلى الشنف الثاني وهكذا.
تقوم الراقصة (الراعية) برفع قدميها مسافة بسيطة من على سطح الأرض، وكأنها تقوم بعملية سحب قدميها وهي تظهر بشكلها هذا متقدمة بها نحو الراقص، وبينما الراقصة على هذه الحركة تعمد ذراعها اليمنى بالإمساك بالحجل: وهو عبارة عن فضة خالصة أسطوانية الشكل تتلاءم مع مسكة اليد من ناحية الحجم، وتلبس الراعية أيضا حزاما طويلا معلقا على كتف الراقصة، ولكن بشكل منحرف ويكون للحجل من أطرافه كرات من الفضة المجوفة التي تتدلى عليه وتعمل على إصدار صوت الرنين، أما الذراع اليسرى للراقصة فتكون معطوفة على كتفها، وكأنه مثلث تلامس أطراف أصابعها الكتف، والبقاء على هذا النحو متقدمة أمام الراقص تظهر الراقصة حركة هز خاصرها بخفة ودلال من دون مبالغة في هزه، وهي عملية اهتزاز الخلاخل التي تحيط خصر الراقصة، والتي تعمل جنبًا إلى جنب مع الحجل الذي تمسكه بيدها اليمنى والذي يعمل على إضفاء صوت رنان يتماشى مع الأداء الإيقاعي وتصفيق الراقص في آن واحد».
خامسا: الرجال المشاركون في الرقصة (المشترحون):
المشترحون يقومون بكل تلك العمليات الثلاث في وقت واحد؛ التصفيق باليدين وضرب الأرض بالأرجل والغناء بصورة إيقاعية متناسقة مع حركة الراعية وخلخالها الذي يصدر صوتًا إيقاعيًا منسقًا مع الرقصة. الكل يتحرك بحركة ديناميكية مقدمين لوحة متكاملة من لحن وحركة، وأي نشاز من أحد الراقصين يعرفون مصدره مباشرة ويطلبون منه مغادرة المدارة. يتقدم الراقص ليصحب الراعية بثني قدمه للخلف، أي أن كعب القدم يلامس الركبة، أما ساقه الأخرى فيقف عليها على الأرض ويقوم عليها بعملية القفز بشكل منتظم بحركة خفة، ويعمل الراقص خلال الرقص على التبديل بين إحدى ساقيه بين فترة وأخرى متحركًا بهذه الحركة بالقفز للخلف، ويجر الراقصة معه إلى وسط حلبة الرقص بشكل نصف دائرة، ويتخلل هذه الرقصة خلال التحرك للراقص التصفيق بالأيدي، وهي حركة تناغم تشاركها ضربات القدم من على الأرض. ويقوم الراقص أيضا بعمل حركة التفاف حول نفسه، وبينما هو يعمل على هذا الحركة تعمد يده على الحوم من فوق رأس الراقصة بحركة سريعة يكررها الراقص في فترات متتابعة من عملية التفافه حول نفسه».
سادسا: الملابس المستخدمة في «رقصة الهبيش»
للرجال: صماطه، مقطب، كمر (حزام)، شميز (قميص).
للنساء: ثوب مستطيل يتسم بوجود من أطراف اليدين وأسفل ثنايه الثوب بشكل، مقرمة كبيرة تنسل على كافة الجسد، حزام من فضة، سروال طويل يلبس من تحت الثوب.
سابعا: الآلات المستخدمة في «رقصة الهبيش»
هاجر، مراويس، آلة المزمار.
سادسا: قوانين الرقصة
لرقصة الهبيش اهتمام كبير جدا عند مريدها ولها قوانين ولوائح تنظم حسن سيرها وتمنع الخلافات وتجاوز قوانين الرقصة، ومن تلك القوانين:
تقوم رقصة الهبيش على مشاركة امرأة واحدة في المدارة، فإذا حدث أن دخلت امرأتان للمدارة، تفرض قوانين الهبيش أن تقسم المدارة إلى نصفين كل واحدة ترقص في نصف، بحيث يكون كل صف من الرجال «الشنف» ترقص عنده أحداهن.
إذا كانت الراعية ترقص في المدارة لا يجوز لزوجها أو أخيها أو أبيها أن يمنعها من الرقص، فإذا فعل ذلك يتعرض الفاعل لعقوبات يقرها مجلس العشيرة بعد عقد جلسة محاكمة من قبل كبارها لذلك الشخص تنتهي بإجراءات عقابية.
الدليل على «طقوسية الرقصة» والوظيفة الأنتوبولوجية:
استنتج الباحث أن رقصة الهبيش تطورت من رقصة التنويش، وأنها رقصة طقوسية دينية عند الحضارم الذين يعبدون الإله «سين» إله القمر، فهذه الرقصة تمارس عند اكتمال القمر بدرا، اعتمادا على دلالة المكان والزمان وشكل الحركة في الرقصة، ويمكننا إجمال أهم الاستدلالات والحقائق التي تدلل على طقوسية الرقصة في الآتي:
تقام رقصة الهبيش عادة عند اكتمال القمر، كعادة البادية أن يقيموا حفلات زواجهم في أيام اكتمال القمر بدرا، ويختتموا تلك الاحتفالات بـ «التنويش» من قبل العروس.
ذكر الباحث أن المتغيرات الدينية وأسلمة المجتمع في حضرموت بدخول دين الإسلام أدت لتغيرات وظيفية وثقافية على الشكل الظاهري لرقصة الهبيش من حالة السفور السائدة في رقصة التنويش إلى التزام الحجاب. فالسفور دلالة طقوسية للرقصة استنادا إلى قصة تاريخية للملكة سمعون التي نذرت في جمعوض إذا عاد أخوها منتصرًا من الحرب فسوف تجعل النساء يرقصن عاريات، فالتعري الكامل أو الجزئي في حالة الطقوس أو النذور عادة موجودة في تلك الرقعة الجغرافية.
انتشرت رقصة الهبيش الطقوسية في رقعة جغرافية محددة، وقد تغيرت قيمتها الوظيفية من العبادة والابتهال إلى قيمة وظيفية جديدة تمثلت في النشاط الاقتصادي الذي يقام في الأسواق التجارية التي تنصب عند زيارة قبور الأولياء والصالحين، مثل زيارة قبر نبي الله هود التي تقام عادة سنويًا بعد انتهاء الخريف، والوظيفة الثانية المتغيرة، التواصل الاجتماعي بين الناس من خلال إقامة الرقصة في مناسبات الزواج واستجابة للعادات الاجتماعية.
حركة الراقصة في التنويش تكون إلى الأمام وإلى الأعلى، حيث تقوم الراعية (الراقصة) بدفع رأسها إلى الأمام حتى يغطي الشعر وجهها وصدرها، ثم تقوم برميه إلى أعلى بحيث يخال للمشاهد أن الشعر واقف عموديًا، ويكون صدرها بارزًا لأعلى وكذا الرأس، وتمشي على أصابع أقدامها كأنها في حالة تحفز للقفز إلى أعلى، وهكذا تستمر الرقصة. ودلالة حركة الجسم والشعر إلى أعلى تؤشر إلى حركة طقوسية للسماء.
تطور رقصة الهبيش
تتبع الباحث تطور رقصة الهبيش تاريخيا، ودرس تطور الشكل والحركة للرقصة، ووقف على تطور الإيقاعات الموسيقية والمقاطع الشعرية للرقصة، ومقارنتها بالرقصات الحضرمية الأخرى، وتصنيف الرقصات من حيث الأصل والفرع، وسنتوقف عند أهم الاستدلالات على تطور الرقصة وتاريخها.
شكلت رقصة التنويش الأساس للمرجع الأول؛ بما تحمله من مدلولات فكرية وحركية لكثير من الرقصات الحضرمية وخاصة الرقصات البدوية مثل رقصة الهبيش، حيث واجهت رقصة التنويش رفضا اجتماعيا ودينيا كبيرا لمشاركة المرأة سافرة الوجه والشعر، أما رقصة الهبيش فتكون المرأة مغطية الشعر والوجه؛ ما أدى إلى انتشارها في البدو والحضر.
المرويات الشفهية وشهادات الرواة تؤكد أن «التنويش» ظل يمارس لوقت قريب في منطقة المشقاص، وكان حضوره جليًا، ولم يبدأ التراجع عنه إلا في بداية ستينيات القرن الماضي، حيث استعيض عنه برقصة الهبيش.
شدة التقارب بين التنويش والهبيش في الإيقاعات والألحان والمقاطع الشعرية، والفارق بين الرقصتين شكليًا فقط يكمن في أن المرأة الراقصة تكون سافرة الوجه والشعر في «رقصة التنويش»، بينما تكون الراقصة محجبة في «رقصة الهبيش»، وكذلك تكون الحركة في رقصة الهبيــــش أكثر تطورا من رقصة التنويش.
التشابه الكبير بين رقصة الهبيش ورقصتي المريكوز والحفة (رقصتا المريكوز والحفة «رقصتان بدويتان سريعتا الإيقاع، ورقصة المريكوز يصاحبها إشعال نار، ما يدل على طقوسية الرقصة عند البعض) اللتين تقامان دائمًا في مكان جغرافي واحد «البيئة البدوية» يدل على تطورهما من أصل واحد، وهو رقصة التنويش.
الحركة في رقصة التنويش تتم عن طريقة الضرب بكف واحدة، وتطورت الحركة في رقصة الهبيش، فصارت تتم عن طريقة الضرب بكفين مع الضرب بالأرجل على الأرض.
أصوات رقصة الهبيش ومقاطعها الشعرية وإيقاعاتها شهدت حالة من حالات التفاعل والتطور شمل كل الفنون الشعبية الأخرى من ألوان الرقص والغناء الحضرمي الحديث، سواء منها الرقصات البدوية مثل المريكوز والحفة أو الرقصات الحضرية مثل «العده» والشبواني (رقصتا العدة والشبواني رقصتان حضريتان تمتازان بالإيقاعات الهادئة والبطيئة، وكذلك تكون حركة الجسم ثقيلة أيضا).
رقصة التنويش رقصة بدوية من حيث شكلها وإيقاعاتها ومقاطعها الشعرية والحركة فيها، وكذلك مشاركة المرأة سافرة الشعر والوجه، بينما الغالب على رقصة الهبيش الطابع البدوي، ولكنها تطورت وصارت تمارس عند البدو والحضر مع الحفاظ على الإيقاعات السريعة والمقاطع الشعرية الطويلة.
الإيقاع في الرقصة
اعتبرت رقصة الهبيــــش المنبـــــع الأول والأســــاس لكثير من الأغاني والرقصات الحضــــرمية إيقاعا موسيقيا ومقاطع شعرية، حيث يستطيع شاعر الهبيش أن يقول الشعر بسهولة في كثير من الرقصات والأنواع الشعرية؛ لما تتمتع به هذه الرقصة من تعدد وتنوع في المقاطع الشعرية والإيقاعات، ويمكن رصد الإيقاعات والمقاطع الشعرية الكثيرة والمتعددة في رقصة الهبيش.
واكب التطور الحركي لرقصة الهبيش تطورا موازيا في المقاطع الشعرية وكثرة الإيقاعات على الرقصة «الشرحية» التي يتغنى بها الراقصون من حيث تقطيعها إلى فصول تتناسق عدديا مع مستوى الحركة الإيقاعية السريعة في الرقصة.
أعطى تطور المظهر الحركي في رقصة الهبيش من التصفيق بضربة واحدة بكف الأيدي في رقصة التنويش إلى التصفيق بـ«كفين» مزدوجتين مع ضرب الأرض بالأرجل، تطور المقاطع الشعرية وتعدد الإيقاعات الموسيقية وطالت فصول قصيدة الهبيش، إذ وصلت إلى أربعة مقاطع يعني أربعة فصول، فإذا قلّت المقاطع الشعرية صار الصوت مبتورًا ومملًا ونشازًا عن الجانب الحركي.
الإيقاع في قصيدة الهبيش متنوع، ويكون في الآتي:
- الصوت «الدان» هو الأساس الذي تقوم عليه القصيدة الشرحية سريعة الإيقاعات.
- التصفيق بالكف الذي يبدأ متدرجا من الرقص بكفة واحدة إلى الرقص بكفين مزدوجتين مع ضرب الأرض بالأرجل.
- «كسر الصوت» حين يقوم شخص ذو خبرة بالتصفيق بعد أن يصل إلى وسط المساحة المخصصة للرقصة، إيذانا بتحول الرقصة من السكون إلى الحركة.
- الخلخال ذو الحلقات الذي يصدر أصواتا إيقاعية متناسقة مع حركة الراعية.
- الحجل وهو عبارة عن فضة خالصة أسطوانية الشكل تتناسب مع مسكة اليد من ناحية الحجم.
- الحزام: تلبس الراعية حزاما طويلا تتدلى من أطرافه كرات من الفضة المجوفة التي تتدلى عليه، وتعمل على إصدار صوت الرنين.
- الآلات المستخدمة في رقصة الهبيش: هاجر - مراويس - آلة المزمار.
احتل «الغزل» وليالي السمر الغرض الغالب في رقصة الهبيش، ومع ذلك لم تغفل قصيدة الهبيش أغراضا كثيرة شملت مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ويكثر فيها شعر الحكمة.
ملاحظات على المنهج العلمي
في تسجيل ودراسة رقصة الهبيش
< كان للغموض وغلبة الطابع الأسطوري على الرقصة الدافع الأساس لدراسة الرقصة، ولكن هذا الغموض ضلل الباحث وخاصة عند توثيقه الرواية الشفهية من مصادرها الميدانية، حيث خلط بين تتبع الروايات الشفهية من ألسنة الرواة، وأقحم رواته في التعليل والتفسير وطالبهم بالتعليل لرواياتهم ؛ ما صبغ البحث بصبغة التعليلات والتفسيرات والاستنتاجات التي جاء كثير منها على حساب طبيعة البحث ومادته الأصلية.
< اعتمد الباحث كثيرا على دلالة المكان ووظيفته الاجتماعية والتاريخية، فالبيئة المدروسة هي بيئة جغرافية متسعة تمتد من الشحر إلى المشقاص شرق حضرموت، وجاءت مرويات الباحث الشفهية واستدلالاته الشعرية من بيئة حضرية محدودة رغم ترجيحه أن الرقصة بدوية المنشأ وتطورت لتصبح جسرا بين الحضر والبدو، وكذلك غابت عن البحث المرويات النسائية. والمرأة هي الأساس في الرقصة من حيث الشكل والإيقاع؛ مما حرم البحث من معلومات مهمة جدا يمكن أن تفسر كثيرا من الظواهر الغامضة حول الرقصة ونشأتها وتاريخها.
< غرق الباحث في تفسير الأقوال وتعليل الظواهر الاجتماعية والتاريخية التي أثقلت البحث وأفقدته الترابط الموضوعي.
< غلبة المنهج المعياري القائم على التعليل والتفسير أضعف التوصيف لكيفية الرقصة وأدائها وملابساتها التي جاءت ناقصة في كثير من جوانب الحديث عن الرقصة.
< عندما استدل الباحث على طقوسية رقصة الهبيش جاءت استدلالاته واستنتاجاته متناثرة متفرقة في طيات البحث، خاصة أن الباحث يدرس ظاهرة قديمة تغيرت قيمتها الوظيفية الدينية والاجتماعية والثقافية، والسبب في هذا التشتت السير مع التعليل والتفسير.
أشار الباحث إلى أن رقصة الهبيش وجدت أيضا في بيئة بعيدة نسبيا عن موطنها، فالرقصة تمارس أيضا في منطقة «ثمود» بالشكل والحركة والإيقاعات نفسها، ولم يفسر الباحث هذا الانتقال الجغرافي وأهمل دراسته والالتفات إليه، على الرغم من التوافق في البيئة بين بيئة ثمود وبيئة المشقاص كبيئة بدوية >