صالح أحمد العلي... مؤرخ من سلالة الكبار

صالح أحمد العلي... مؤرخ من سلالة الكبار

شغفي التاريخ الإسلامي، طالبًا في الجامعة، وأستاذًا فيها، وباحثًا مازلت أكابد على هذه المساحة، منذ نحو أربعة عقود حتى اليوم. وكان يلفتني اسمان من أعلامه، ولطالما أثارا اهتمامي، كمؤرخين رصينين، مفعمين برؤية نفاذّة إلى منهج لا يخلو من لمعات تجديدية، أعني بهما عبدالعزيز الدوري وصالح أحمد العلي، وكلاهما تبوأ مكانة مرموقة في العالم العربي من مشرقه إلى مغربه، وكان العراق موطن الاثنين بقعة ثقافية متميزة، مكتظة بالكبار، شعراء ومؤرخين ومفكرين إلى كثيرين يقرأون بنهم، في وقت كان السوق الرائجة لمعظم الإصدارات، لا ينافسه قطر عربي آخر، وهما حينئذ في صميم حركته الصاخبة.

حدث أن التقيت عبد العزيز الدوري، مع قلة من الزملاء الواعدين، على مائدة المؤرخ نقولا زيادة، ثم بعد سنين، وأثناء ترددي على الأردن مشاركًا في ندوات المؤتمر الدولي لتاريخ بلاد الشام، تعرّفت أكثر على هذا المؤرخ الكبير في علمه وخلقه، إذ كان أستاذًا حينذاك في الجامعة الأردنية راعية هذا المؤتمر. كما شاركت في تكريمه بدعوة من مؤسسة شومان (1999) في بحث تحت عنوان «عبدالعزيز الدوري المفكر المفعم بالتراث». وكنت قد تعرضت بنقد طفيف لبعض آرائه، فناقشني بخفة أحد الزملاء من طلابه، مطنبًا في تقريظه، فلم أعبأ بكلامه الاستفزازي، حتى إذا انتهت الجلسة وغادرت المنبر، تقدم نحوي المُكرم، شاكرا ومثنيًا على مداخلتي، ثم أضاف: «لقد ضاقت نفسي بهذا المديح»، فكبُر في عيني وتعاظم إعجابي به، أستاذًا وعالمًا، وصديقًا افتقدته كثيرًا بعد رحيله.
كان هذا باختصار شأني مع الدوري، أما صالح العلي، فلم تسعفني الفرص للتعرف المباشر عليه، مع العلم بأنني كنت أقرب إلى اختصاصه، وأفدت من دراساته القيمة، إذ بهرني بقدرته الفائقة على تقصي المعطيات التاريخية، ولاسيما ذات المنحى الاجتماعي والإداري والاقتصادي، حائزًا قصب السبق في هذا الاتجاه. وذات يوم في التسعينيات بادهني برسالة حميمة، وكان آنئذ في صدد إعداد دراسة عن الكوفة، طالبًا موافاته بكتاب لي صادر عن معهد الإنماء العربي (1985) وهو «اتجاهات المعارضة في الكوفة... دراسة في التكوين السياسي والاجتماعي»، وبدا أنه مطّلع على بحثي في مجلة «الاجتهاد» (1997) «عبدالعزيز الدوري والتاريخ الاقتصادي»، حيث أجريت في سياقه مقارنة سريعة بين قطبي التاريخ الإسلامي، وما جاء فيه: «إذا كانت للدوري ريادته في التاريخ الاقتصادي، فإن ثمة مؤرخًا آخر يشاركه في الكثير من الرؤية العلمية، فضلاً عن تشابه الظروف بين الاثنين، وكذلك الثقافة والتوجه الفكري، ذلك هو الدكتور صالح أحمد العلي، منطلقًا من دراسته «التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية في البصرة في القرن الأول الهجري (1953)». ثم أضاف إليها دراسات في التاريخ الاقتصادي، ومنها «ملكيات الأراضي في الحجاز في القرن الأول الهجري» (1969)، «جباية الصدقات في القرن الأول الهجري» (1969)، «الأنسجة في القرنين الأول والثاني» (1961)، «العطاء في الإسلام» (1970)، إلخ.

بين الاجتماعي والاقتصادي
«ولكن العلي غالبًا ما قدّم الشأن الاجتماعي على الاقتصادي، مركّزًا بصورة خاصة على القبائل العربية، انتشارًا (امتداد العرب في صدر الإسلام)، وعلى المدن نشأة وخططًا (البصرة، مدينة السلام - سامراء - الكوفة في ما بعد)، ومركزًا كذلك على مسائل ذات طابع ثقافي، تتجلى خصوصًا في أبحاثه عن تطور الحركة الفكرية في صدر الإسلام: «التدوين وظهور الكتب المصنفة في العهود الإسلامية الأولى»، «الرواية والأسانيد وأثرهما في تطور الحركة الفكرية في صدر الإسلام».
«أما الدوري، فقد ظلّت المسألة الاقتصادية بين اهتماماته الأساسية، ويؤثرها غالبًا على المناحي الأخرى في التاريخ العربي، بالإضافة إلى قضايا أخرى، ربما كان تكوينه السياسي حافزه إلى الخوض فيها، إذ كانت المسألة القومية، وما تشعّب عنها، مما تتصدى له وتوغل عبره إلى «الجذور» في أبحاث تأصيلية مهمة (الجذور التاريخية للقومية العربية، الجذور التاريخية للشعوبية، الجذور التاريخية للاشتراكية، التكوين التاريخي للأمة العربية - دراسة في الهوية والوعي)... إلخ».
وقد عقّب على بحثي في رسالته قائلاً: «نشرتم فيه (الاجتهاد) مقالاً عن الأخ الدكتور الدوري، وعقدتم فيه مقارنة بيننا، وإني أثمّن ملاحظاتكم النافذة وأحكامكم الصائبة، وأشكركم على متابعة ما أنشر وحسن تقديركم». وفي تلك الأثناء كنا نحضّر لمؤتمر في بيروت حول «كتابة التاريخ الإسلامي - المنهج والإشكالية»، فدعوته، وكان متحمسًا لحضوره، وذكر في رسالته أنه انتهى من إعداد البحث، ولكن ثمة ما حال دون ذلك، كما لم يحالفني الحظ في لقائه إبان زيارتي لبغداد بعد سنوات ثلاث على المؤتمر (2000).
وقبل التوسع في قراءة العلي مؤرخًا لابد من العود إلى البدايات، فهو من مواليد 1918 في الموصل، وتدرّج في دراسته، حتى نال الإجازة في التاريخ من جامعة القاهرة (1945)، وحاز الدكتوراه في الفلسفة من جامعة أكسفورد في بريطانيا (1949)، ثم تقلّد مناصب عدة، من أبرزها رئاسة المجمع العلمي العراقي (1978 - 1996)، بالإضافة إلى عضويته في مجامع عربية أخرى، عدا نيله جوائز وأوسمة كثيرة. ولكن اللافت في مساره الأكاديمي، ذلك التحول من التاريخ إلى الفلسفة، فالعودة إلى التاريخ، حيث شغل رئاسة قسمه فترة إلى جانب دوره أستاذًا حتى التقاعد في جامعة بغداد. ولعل الفلسفة رفدت فكره التاريخي وأثّرت فيه، فلم يكن مؤرخًا حدثيًا يتكئ على المرويات، ويعيد إنتاجها بشوائبها ومغالطاتها وأهوائها، بقدر ما كان ثاقب النظر في استقرائها، وبارعًا في توظيفها بما يوائم طبيعة البحث وأهدافه.
ومن كتبه المنوه بها - إضافة إلى «البصرة وتنظيماتها»: «عمر بن عبدالعزيز»، «أهل الفسطاط»، «تاريخ العرب القديم والبعثة النبوية»، «الكوفة في صدر الإسلام - دراسة في معالمها العمرانية وتركيب سكانها وتنظيمهم»، «الفتوح الإسلامية»، «سامراء إبان إقامة الخلافة فيها»، «دولة الرسول في المدينة - دراسة في تكونها ونظمها»، «الإدارة في العهود الإسلامية الأولى»، إلى أبحاث معمقة وهي في غالبيتها تعالج موضوعات غير مطروقة، أو على الأقل تحتل موقع الصدارة في إطارها، مكتسبة تميزها من عناصر أربعة:
1 - انتشارها عمومًا على مساحة الإسلام الأول.
2 - غزارة المادة وتنوع مصادرها.
3 - التوظيف المناسب في ضوء اتجاهات البحث ومقارباته.
4 - وضوح المنهج، وإن شابته تعثرات أحيانًا في مساره.
وليس ممكنًا الذهاب بعيدًا في قراءة نقدية لأعمال المؤرخ العلي في مقالة تنوء بمثل ذلك، وفي هذه الحالة لابد من الانتقاء، متوقفًا عند كتابين طالما استثارا إعجابي، وهما: دولة الرسول، والإدارة في العهود الإسلامية. فالأول على الرغم مما سبقه أو جاء بعده من الأبحاث في هذه الموضوعة، إلا أنه ظلّ مائزًا بينها، إذا أغفلنا كتابي «محمد في مكة» و«محمد في المدينة» للمستشرق مونتغمري وات، معبرًا فيهما عن رؤية خاصة به. ولكن التنويه بعمل الأخير لن يأخذنا إلى مقارنات شمولية، غير معنية بها هذه المقالة، فما قصدناه هو التفاضل على المساحة العربية، حيث اتخذت دراسة العلي سمتها المرجعية لتلك التجربة الرائدة في المدينة. 
وقد استل مادتها من مصادر متنوعة، مرتبة بما يوافق مقتضيات المنهج، وذلك بدءًا من القرآن الكريم وتفاسيره، إلى كتب السيرة، وفي طليعتها سيرة ابن إسحق برواياتها المتعددة، إلى كتب الحديث والفقه والخراج والشمائل (صفات الرسول وأخلاقه وشمائله ودلائل نبوته...) والأنـــساب والرجـــــال وتواريــــخ البلدان ومصنفات التواريخ العامة... هذا فضلاً عن العودة قليلاً إلى مؤلفات عربية وأجنبية.
سلسلة الأفكار المنظمة
وفي ضوء ما سلف، فإن استبار العلي تلك الأصول أتاح له الإحاطة بمفاصل المرحلة، محصنًا بالأدوات المناسبة لدراسة جادة، مستلهمًا ربما منهجًا يشبه ما عبّر عنه الدكتور عبدالرحمن بدوي، بأنه «فن التنظيم الصحيح لسلسلة من الأفكار»، هذا إذا صح إسقاط مقدمة الكتاب على متونه. فقد مهد للدراسة بقوله: «نُقدّم صورة عامة لمجرى الأحداث في حياة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وبعيد وفاته، وكثير من الحقائق التي وردت فيها معروفة في ما نشر من كتب ودراسات سابقة، وقد روعي في عرضها إظهار الأحوال القائمة التي كان لها أثر في مجرى الأحداث. وذلك استهدف ربط الأحداث المنفردة بالأحوال العامة، مما يعين على فهم أسلم لمكانتها وأهميتها ومساراتها. ومن مظاهر عظمة الرسول (صلى الله عليه وسلم) إدراكه الثاقب لتلك الأحوال، وأعماله الناجحة في الإفادة منها في تحقق الإنجاز الباهر الذي توصل إليه. فالدراسة راعت متابعة الأحداث وتلاحمها مع الأوضاع القائمة، ولم تقتصر على سرد الأحداث السياسية والحربية، وإنما امتدت إلى تقدير أهمية الأحداث، وإلى معالجة الجوانب الاجتماعية والإدارية والأخلاقية التي أُبرزت بعد دراسة دقيقة، وتأمل هادئ، ومحاولة للنظر في الأحداث والأحوال كما كانت عليه في حينها، ومع تجنب المبالغات التي أضافها عدد من المتأخرين، والتوجهات المقولية التي حاول البعض صب الأحداث فيها، وكان رائدنا فيها عرض الحقيقة كما تراءت لنا».
ثمة ما يريد المؤرخ العلي قوله، أو يحاول التأسيس له في موضوعة «الدولة» الأولى في الإسلام، متوسلاً - كما يرى - الحقائق، ومنتقدًا المبالغات في دراسات السابقين عليه. ولكن على أهمية تلك الأفكار الواردة في المقدمة، فقد ظلت تدور في فلك أقرب إلى التقليد، دون أن تنجو من ذلك الصياغة المتخمة بالتكرار، عدا تعثّر الإشكالية في سياقها.
وعلينا التنبّه إلى أن المؤرخ العلي، ينتمي إلى جيل تقليدي، كان السرد ما غلب على طرائقه في الكتابة التاريخية. وأكثره لم يكتنه التاريخ علمًا أو يخض في قراءة جدية للحدث على قاعدة التفاعل في المكان والزمان مع الاجتماع الإنساني. ولعل تميز العلي، ربما مع قلة قليلة من معاصريه، تجلى مع قدرته الفائقة على إثراء موضوعه بالمصادر، والتدقيق في المعلومة وسبر العناصر الاجتماعية والإدارية والاقتصادية والثقافية، في سياق لا تعكّره زحمة الروايات، وفيما نقده لم يكن جارحًا لبعض المؤرخين المحدثين، ممن قصروا دراساتهم على مسائل الحرب والسياسة في إطار سردي رتيب.
كما ما يستوقفنا بين دراساته، كتاب يضاهي في أهميته «دولة الرسول»، أعني به «الإدارة في العهود الإسلامية الأولى»، ولعل هذه الموضوعة لم تحظ بالعناية من المصنفين والمؤرخين، باعتبارها حالة جديدة واجهت الخلافة في مسيرة الفتوحات، فقد بدت ملامحها الأولى في ديوان عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، قبل أن يتسع مداها في عهد عبدالملك بن مروان، ومن ثم في العهود العباسية. وقد شاء صالح العلي سد هذه الثغرة عبر الإحاطة الشاملة بهذه المسألة مقدما لها بما يقارب فلسفة الإدارة، إذ رآها من «الممارسات التي تتخذها المؤسسات الحاكمة لتأمين السيطرة وضمان الاستقرار، والحفاظ على الكفاءة في العمل وزيادة الإنتاج. ويتوقف نجاحها على مدى قدرتها على تحقيق الأهداف التي رسمت من أجلها، أي توفقها في التطبيق، بصرف النظر عن مدى مطابقتها للأفكار المثالية التي تقوم عليها. ولخبرات القائمين بالإدارة ومكانتهم دور كبير في تنفيذ الخطط وتسيير شؤون الإدارة وتوجهاتها، هي الأفكار والاتجاهات السياسية العامة للدولة، والأهداف التي تنشدها في حكم الشعب، فالسلطة الحاكمة قد تهدف إلى السيطرة على الشعب وضمان طاعته وخضوعه واستتباب الأمن فيه، أو قد تهدف إلى تدريبه عسكريًا للقيام بالدفاع عن الدولة وصدّ الأخطار أو قهر الأعداء والتوسع، أو قد تهدف إلى جباية أكبر ما يمكن من المال، وإنماء نشاطاته في الحياة الاجتماعية أو الفكرية أو في الممارسات السياسية».

العلي والإدارة
ولعل هذا التوصيف يشي برؤية جديدة إلى الإدارة، ليست باعتبارها عملاً ديوانيًا، كما درجت بهذه السمة في العهود الخلافية المتتالية، ولكنها تعدّت ذلك إلى ما هو أكثر شمولاً، إذ يصبح من مهامها - وفق رأيه - حفظ الأمن والاستقرار وتوفير العناصر ذات الخبرة لتنفيذ الخطط الصادرة عن «الدولة». كما من شأنها التواصل مع الشعب (الرعية) لترويضه على الطاعة وعدم التمرد، إلى تأهيله عسكريًا في مجال الدفاع وحملات التوسع (الفتوح)، فضلاً عن الإنماء الاقتصادي وتنشيط حركة الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية، إلى آخر ذلك من مهام الإدارة التي تمثل من هذا المنظور الأداة الموجهة لفعاليات «الدولة» في مختلف شؤونها. هذا من حيث المبدأ لرؤية العلي إلى الإدارة، ولكن في التطبيق لا تعدو أن تكون مجرد تنظير مُتَخيّل لدور يتعدى حجمها أداة تنفيذية وإجرائية تحدد مهامها السلطة العليا. وهذا ما عاد إليه العلي في قوله، بأنها - أي الإدارة - «تؤدي وظيفة محدودة في الزمان والمكان».
وليس ثمة تباين في المنهج بين الكتابين: «الدولة» و«الإدارة»، حيث درج المؤلف على نمط خاص في دراسته، مركزًا على المعلومة دون استثمارها المكثف في الإشكالية الخافتة عمومًا  على مساحة الكتاب، مع العلم بأن المصادر التي رجع إليها - عدا مواءمتها لطبيعة البحث - فهي تعبّر عن سعة ثقافة، تتجلى مثالاً، في أوراق البردي والآثار والأبنية والنقود والمسكوكات، إلى المصنفات والتراجم، إلا أن النقد كان شحيحًا فيها، ولم تعكس إضاءات على المنهج، فتُحدث تعديلاً في التبويب المنهك بكثرة الفصول.
وفي الواقع يواجه العلي تحديا في تفسير طبيعة الإدارة الإسلامية، وذلك لتداخلها مع تنظيمات ما انفكت ملتبسة في علاقـــاتها ودلالاتها وغير واضحة في حدودها. ولعل ذلك يعود إلى توسّعه في مفهوم الإدارة الذي ذهب سالفًا إليه. فإن كان يصح إدراج منظومة الخراج، على تعقيدها، «ضمن نطاق الإدارة»، إلا أن ذلك لا ينطبق على القضاء مؤسسة مستقلة، أو مرتبطة مباشرة بالسلطة، مثل قاضي القضاة المعين من الخليفة، أو قاضي المظالم الذي ينتدبه غالبًا الوزير، أو المحتسب المختص بالقضايا اليومية كمراقبة الأسواق والموازين والمكاييل، وكل ما يدخل في نطاق وظيفته المختزلة بـ «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».
كما تتخذ الإدارة في دراسة العلي بعدًا جغرافيًا، من خلال تنوع مسمياتها وتعبيراتها، من دون أن يكون لها تحديد «قانوني» وفق تعبيره. فقد تصبح الولاية وحدة إدارية، اختلف الجغرافيون والمؤرخون في توصيفها، كأن يطلق تعبير «العمل» على خراسان، و«إقليم» على فرغانة وخوارزم (الأصطخري)، و«ناحية» على خوارزم (ياقوت). كما استعمل اليعقوبي وآخرون عبارة «مملكة» على بعض المناطق، بما يوائم مساحتها ونفوذ حاكمها. ومن الأسماء المتداولة أيضًا في هذا المجال، «الكورة» (اليعقوبي والإصطخري وقدامة بن جعفر) خصوصًا في خراسان وبلاد ما وراء النهر. هذا إلى جانب تسميات أخرى، قد لا تكون دقيقة، ولكن العلي، المعروف عنه الإبحار في الروايات، يبالغ أحيانًا في تصنيف أماكن على أنها وحدات إدارية، مثل «المدينة العظمى» (اليعقوبي)، باعتبارها مركزًا رئيسًا في محيطها، من دون التعرف إلى هذه المدينة وموقعها الجغرافي والسياسي... ثم يتدرّج مُستخدمًا «المنبر»، المقتبس عن الأصطخري والمقدسي، تعبيرًا غير واضح في صفته الإدارية.

استلهام السياق القرآني
ولعل التنقيب الذي برع فيه العلي، والإسهاب في المصطلحات، يصبحان عبئًا على الدراسة التي تتخذ في هذه الحالة المنحى السردي، أو في أحسن الأحوال المنحى الجمعي لمعطيات متناثرة في المرويات المعروفة، فقد كان همّه التأسيس لموضوعه الإدارة في مداها الأوسع، بما يتعدى الدراسات التقليدية، إلا أنه في إسهابه لم ينج من إسقاطات ليست مبررة دائمًا، على غرار ما عرض له عن النظم الإدارية في شبه الجزيرة العربية عند ظهور الإسلام في الفصل الرابع من الكتاب، متحدثًا عن أحوال الأخيرة آنذاك، بما في ذلك المراعي والمعادن واللغة من دون أن يلامس الجانب الإداري.
أعتقد أن العلي بدأ يلتقط مفاصل المنهج بما يستجيب لأطروحاته في المقدمة، مع دخوله في صميم الموضوعة الإدارية، متزامنة مع ظهور نواة «الدولة» في المدينة والمُعبَّر عنها حينئذ بـ«الجماعة». فقد أوجدت الهجرة «وضعًا يتطلب الاهتمام بالتنظيم السياسي والإدارة» على حد تعبيره. وهي مسألة بدت ضرورية لارتباطها العضوي بالاستقرار على قاعدة ترسيخ الانتماء للجماعة، في منأى عن العصبية القبلية، ومن ثم تصليب وحدتها في المواجهة المصيرية مع الشرك بقيادة مكة. ومن البديهي أن يستلهم الرسول(صلى الله عليه وسلم) أحكامه من القرآن الكريم دستور الجماعة ومرجعها، ولاسيما التأكيد على مبدأ الطاعة، وقد أورد العلي عددًا من الآيات في هذا السبيل، منها: {قل أطيعوا الله والرسول} (32/آل عمران)، {من يطع الرسول فقد أطاع الله} (80/النساء)، {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} (64/النساء)... إلخ. وعلى هذا المبدأ سار الخلفاء الأوائل، وإن بدا في أزمنة لاحقة، أن الطاعة فقدت هالتها بعد تضعضع سلطة الخلفاء ومعها مركزية «الدولة».
قد لا يكون جديدًا ما ذهب إليه العلي في تأسيسه للإدارة، ولكــن الجديد تجلى في استلهام الأفكار الدارجة في السياق القرآني بعقل مؤرخ مُتمكن من موضوعه، ما يبدو واضحًا في قوله: «وضعت الآيات القرآنية، المبادئ والأسس العامة التي يُهتدى بها في الإدارة، أما التفاصيل والتطبيقات فكانت للرسول (صلى الله عليه وسلم) وينفذ فيها ما يرى فيه المصلحة، فلم تكن الإدارة - يضيف - «قائمة على نصوص مكتوبة، أو قرارات مجالس عامة، وإنما كانت في أساسها نابعة من مبادئ الإسلام، وفي تطبيـــقاتها من متطلبات المصلحة العامة...». ومـــن هذا المنظور، فإن الأمة (الجماعة) المرتـــكـــزة على رابطة العقـــــيدة، كان من الطبيعي أن تعكس فكرها، على النظام في ثنائيتــه الدينـــية والسياسية، من دون أن تكون الإدارة في منحاها الأخــلاقي خارج المعادلة المعمّمة على جميع المرافق في الدولة.
وفي اتخاذه العراق أنموذجًا لنمط إداري متطور في الإسلام، يسوّغ العلي ذلك بأن له خصائص لا تتوافر لغيره من الأقاليم، وفي طليعتها وفرة المعلومات، كما «أن الأوضاع التي كانت قائمة (فيه) جعلته مركزًا لحركات أوسع وأكثر تنوعًا وفق تعبيره. كما شُهر العراق بأنه من أخصب البلدان، نظراً لموجات القبائل التي تدفقت عليه وانضوت مبكرًا في إطار الإسلام، فكان لوقت طويل، منطلق الحملات التوسعية نحو المشرق.
وليس ثمة شك أن العناوين المُتوقعة في سياقها الانسيابي وفي مادتها وإن بشيء من الابتسار، أكدت على خصوصية هذا الإٍقليم، في تكوينه الجغرافي، بتنظيماته الإدارية المتطورة، وما يلحق بها من الشؤون المالية (الدخل والخرج والضرائب على خلافها)، وتطور شبكة الطرق، تسهيلاً للعمليات العسكرية وحركة التجارة، وتعزيزا للتواصل بين الفئات الاجتماعية. وهي معطيات في مجملها أغنت البحث ورفدته بإضافات، معظمها اتسم بالجدة والموضوعية. وما يثير الإعجاب، لاسيما في المرحلة العباسية، وإن كانت هذه دخيلة على العنوان الرئيس للكتاب الخاص بالعهود الأولى في الإسلام، رصد الإدارة في سجلاتها وحساباتها وجباياتها، والمشرفين على تنفيذ الأعمال فيها. كما يلفت بإعجاب أيضًا، القوائم المفصلة بالأسماء والبلدان التي شكلت وحدات إدارية، كذلك تخصيص جداول للولاة والقضاة والحجّاب وأصحاب الشرطة والخراج، مرفقة جميعها بالمصادر التي انطوت على جهد غير عادي وجلد باهر، واستبار عميق للمصنفات في موضوعاتها المختلفة. ولعل هذه الجداول، أضفت على الكتاب ميزة لم ترق إليها الكتابات الصادرة تحت هذا العنوان، حتى لدى المستشرقين، المعروف عنهم التمعن في الروايات تنقيبًا وتقصيًا للمعلومة في ثناياها، ولكن مع الفارق في المنهج الذي قلّما اتخذ بعدًا تحليليًا لدى العلي، هذا عدا كسر وحدة الموضوع أحيانًا عبر تفاصيل تاريخية غير مشتبكة معه.
ولكن هذا المؤرخ في نسيجه الخاص، له طريقته في التأليف الموائمة للمرحلة التي استنفدها أو استنفدته، وقد كان نتاجها متشاكلاً بصورة عامة، حتى الدوري في دراساته التاريخية عن العصر العباسي مال إلى التقليد، دون أن ينجو من ذلك كتابه في المنهج «بحث في نشأة علم التاريخ عند العرب»، إذ كان عبارة عن تمهيد متعجّل أعقبته نماذج نصية، مستلّة من مصنفات «المؤرخين» الأوائل، وإن كان علينا التنويه بـ «مقدماته»، على غرار «مقدمة لتاريخ صدر الإسلام» أو «مقدمة للتاريخ الاقتصادي العربي».
وعلى سبيل الخاتمة، فلا يسعنا سوى الاعتراف بأصالة هذا المؤرخ الكبير، الذي أغنى المكتبة التاريخية العربية بمصنفاته وأبحاثه، وكانت له فرادته، قارئًا واغلاً في التفاصيل، حيث تجد في كتاباته ما يغنيك عن العودة إلى أصولها. وسيبقى العلي مبرّزًا في مجاله، ومدرسة للباحثين في التاريخ الإسلامي أساتذة وطلابًا، يلوذون بها وإن خالفوه في المنهج، ولكن مرجعيته في هذا الصدد ليست موضوع جدال ■