الفنان التشكيلي ستّار كاووش على سلّم الحلم ارتقى من الواقع إلى الأسطورة

الفنان التشكيلي ستّار كاووش على سلّم الحلم ارتقى من الواقع إلى الأسطورة

إذا‭ ‬قلنا‭ ‬عن‭ ‬فنان‭ ‬إنه‭ ‬في‭ ‬عمله‭ ‬الفني‭ ‬يرتكز‭ ‬على‭ ‬تجربته‭ ‬ورؤيته‭ ‬العالم،‭ ‬فإن‭ ‬ذلك‭ ‬يصدق‭ ‬على‭ ‬الفنان‭ ‬العراقي‭ ‬المغترب‭ ‬ستار‭ ‬كاووش‭. ‬فلهذا‭ ‬الفنان‭ ‬‮«‬سلّمه‮»‬‭ ‬الخاص‭ ‬الذي‭ ‬صنعه‭ ‬بنفسه‭ ‬وارتقى‭ ‬عليه‭ ‬عالم‭ ‬الفن،‭ ‬مستمداً‭ ‬موضوعاته‭ ‬من‭ ‬مصدرين‭: ‬تجربته‭ ‬البيئية‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬عناصر‭ ‬الفطرة‭ ‬والحيوية،‭ ‬ورؤياه‭ ‬الفنية‭ ‬التي‭ ‬انبنت‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬أسطوري‭ ‬التكوين،‭ ‬ما‭ ‬جعله‭ ‬يرى‭ ‬‮«‬الأشياء‮»‬،‭ ‬و«المواقف‮»‬،‭ ‬و«الحالات‮»‬‭ ‬الإنسانية‭ ‬رؤية‭ ‬لا‭ ‬تبعد‭ ‬عما‭ ‬للأسطورة‭ ‬من‭ ‬عوالم‭ ‬التكوين‭. ‬

من‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬راح‭ ‬يبني‭ ‬تطورات‭ ‬هذه‭ ‬الرؤية‭/ ‬الرؤيا،‭ ‬ناسجاً‭ ‬إياها‭ ‬بحبكة‭ ‬فنية‭ ‬لها‭ ‬خصوصيتها‭ ‬الدالة‭ ‬عليه،‭ ‬فناناً‭ ‬وعملاً‭ ‬فنياً،‭ ‬بما‭ ‬اتخذ‭ ‬من‭ ‬أسلوب‭ ‬شخصي‭ ‬في‭ ‬التعبير‭. ‬فهو،‭ ‬كما‭ ‬يرغب‭ ‬في‭ ‬تصنيف‭ ‬نفسه،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الرؤية‭ ‬والأسلوب‭ ‬الفني،‭ ‬‮«‬رسام‭ ‬تشخيصي‮»‬،‭ ‬وليس‭ ‬رساماً‭ ‬واقعياً‭. ‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬فهو‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬له‭ ‬منطقته‭ ‬الخاصة‭ ‬التي‭ ‬يعمل‭ ‬فيها،‭ ‬والتي‭ ‬يجد‭ ‬أنها‭ ‬ميزته‭ ‬عن‭ ‬سواه‭ ‬من‭ ‬الفنانين‭ -‬‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬ينكر‭ ‬الاستفادة‭ ‬من‭ ‬اتجاهات‭ ‬وأساليب‭ ‬عديدة‭ ‬في‭ ‬الرسم‭- ‬فـ«حديقة‭ ‬لوحاته‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬يحب‭ ‬أن‭ ‬يطلق‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬تسمية،‭ ‬‮«‬تُطلّ‭ ‬بأغصانها‭ ‬على‭ ‬حدائق‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬بستان‭ ‬الفن‭ ‬الواسع‮»‬‭.‬

إلاّ‭ ‬أن‭ ‬البداية،‭ ‬بدايته‭ ‬الفنية،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬كذلك،‭ ‬وبهذا‭ ‬الاكتمال‭.. ‬فقد‭ ‬بدأ‭ ‬بالتعبيرية،‭ ‬ثم‭ ‬‮«‬البوب‭ ‬آرت‮»‬،‭ ‬وحتى‭ ‬‮«‬الآرت‭ ‬ديكو‮»‬،‭ ‬مروراً‭ ‬بتقنيات‭ ‬مختلفة‭ ‬وعديدة،‭ ‬ليصل‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬أعماله‭ ‬اليوم‭ ‬التي‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭: ‬إنه‭ ‬يمكن‭ ‬النظر‭ ‬إليها،‭ ‬من‭ ‬جانب،‭ ‬بوصفها‭ ‬‮«‬أعمالاً‭ ‬رمزية،‭ ‬بحكم‭ ‬ما‭ ‬تحتويه‭ ‬من‭ ‬رموز‭ ‬ومفردات‭ ‬تُخفي‭ ‬وراءها‭ ‬شيئاً‭ ‬ما‮»‬،‭ ‬لم‭ ‬يُدرك‭ ‬سرّه‭ ‬بعد،‭ ‬أو‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يريد‭ ‬إفشاء‭ ‬هذا‭ ‬السر‭. ‬ومن‭ ‬جانب‭ ‬آخر،‭ ‬ما‭ ‬نشاهده‭ ‬في‭ ‬أعماله‭ ‬هذه‭ ‬من‭ ‬‮«‬ألوان‭ ‬ومناخات‭ ‬فيها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الشفافية،‭ ‬فضلاً‭ ‬عما‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬أجواء‮»‬‭ ‬لا‭ ‬ينفي‭ ‬أنها‭ ‬‮«‬قد‭ ‬تبدو‭ ‬على‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬الغموض،‭ ‬والسحر،‭ ‬والقرب‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬الحكاية‮»‬‭. ‬وهنا،‭ ‬وفي‭ ‬ما‭ ‬يُعيّن‭ ‬فيه‭ ‬الفنان‭ ‬اتجاهه‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬الرسم،‭ ‬نجد‭ ‬شيئاً‭ ‬لا‭ ‬يتردد‭ ‬في‭ ‬نسبته‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الواقعية‭ ‬السحرية‮»‬‭. ‬وأما‭ ‬منابع‭ ‬هذا‭ ‬كله‭ ‬فيعيدها‭ ‬إلى‭ ‬المزج‭ ‬الذي‭ ‬يعتمده‭ ‬‮«‬بين‭ ‬أجواء‭ ‬بغداد‭ (‬المدينة‭ ‬التي‭ ‬ولد‭ ‬فيها،‭ ‬وفي‭ ‬أجوائها‭ ‬نشأ‭ ‬وتكوّن‭)‬،‭ ‬وعوالم‭ ‬‮«‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‮»‬،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬الأجواء‭ ‬الغربية‭ (‬الأوربية‭)‬‮»‬‭. ‬وقد‭ ‬اختار‭ ‬الحياة‭ ‬والعيش‭ ‬فيها‭ ‬منذ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عشرين‭ ‬عاماً‭.. ‬فهو،‭ ‬إذا‭ ‬صح‭ ‬القول،‭ ‬يعيش‭ (‬وقد‭ ‬عاش‭ ‬نحو‭ ‬نصف‭ ‬سنوات‭ ‬عمره‭) ‬بين‭ ‬ثقافتين‭ ‬يجد‭ ‬تأثيراتهما‭ ‬تنعكس‭ ‬على‭ ‬أعماله‭ ‬الفنية‭ ‬التي‭ ‬يحرص‭ ‬دائماً‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬عليها‭ ‬بصمته‭ ‬بما‭ ‬يُمّيزه‭ ‬عن‭ ‬الفنانين‭ ‬الآخرين‭.‬

و«مثلما‭ ‬تجعل‭ ‬الغـــربــة‭ ‬فرديــــة‭ ‬الفـــنان‭ ‬عالية‮»‬‭ ‬فإنها‭ ‬تفتح‭ ‬له‭ ‬آفاقاً‭ ‬هائلة‭ ‬في‭ ‬الفن‭ ‬والحرية‭ ‬للتواصل‭ ‬مع‭ ‬الآخرين‭ ‬في‭ ‬مــــناخات‭ ‬فنية‭ ‬صحيحة،‭ ‬والتعرف‭ ‬إلى‭ ‬تجارب‭ ‬متعددة‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يؤكده‭ ‬الفنان‭ ‬نفسه،‭ ‬لافتاً‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬‮«‬التقاليد‭ ‬الفنية‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬مختلفة‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬أخرى‭. ‬إن‭ ‬لهذه‭ ‬التقاليد‭ ‬تاريخها‭ ‬الطويل‭.. ‬فماذا‭ ‬إذا‭ ‬كنت‭ ‬تشاهد‭ ‬ذلك‭ ‬كل‭ ‬يوم‭.. ‬ألا‭ ‬يؤثّر‭ ‬فيك‭ ‬فناناً؟‮»‬،‭ ‬مشيراً‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬البلد‭ ‬الذي‭ ‬يعيش‭ ‬فيه‭ (‬هولندا‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬بلد‭ ‬صغير،‭ ‬‮«‬هناك‭ ‬تسعمائة‭ ‬متحف،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬آلاف‭ ‬الجاليريات‭ ‬والمؤسسات‭ ‬الثقافية‮»‬،‭ ‬وهذا‭ ‬كله،‭ ‬كما‭ ‬وجده‭ ‬وتلقى‭ ‬تأثيراته،‭ ‬‮«‬يمنح‭ ‬الفنان‭ ‬حافزاً‭ ‬على‭ ‬المضيّ‭ ‬في‭ ‬طريقه‭ ‬الملوَّن،‭ ‬والطويل‮»‬‭. ‬ولكن‭ - ‬يضيف‭ ‬مستدركاً‭ - ‬‮«‬من‭ ‬الصعب‭ ‬أن‭ ‬تنجح‭ ‬وتؤكد‭ ‬مكانتك‭ ‬الفنية‭ ‬هنا‭. ‬ففي‭ ‬هذا‭ ‬البلد،‭ ‬حيث‭ ‬أعيش‭ ‬وأمارس‭ ‬حياتي‭ ‬الفنية،‭ ‬لا‭ ‬يهتمون‭ ‬لفنان‭ ‬جيّد‭ ‬فقط،‭ ‬أو‭ ‬يبحثون‭ ‬عنه‭.. ‬وإنما‭ ‬هم‭ ‬يبحثون‭ ‬عن‭ ‬الفنان‭ ‬المتفرد،‭ ‬والمؤثّر،‭ ‬الذي‭ ‬لديه‭ ‬مساحته‭ ‬الخاصة،‭ ‬ويعمل‭ ‬بتقنيات‭ ‬مختلفة‭ ‬تميزه‭ ‬عن‭ ‬الآخرين‮»‬‭.‬

ومن‭ ‬هنا‭.. ‬‮«‬أنا،‭ ‬في‭ ‬أعمالي،‭ ‬أفيد‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الأشياء‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬حولي‭: ‬فمقطع‭ ‬صغير‭ ‬من‭ ‬قصيدة،‭ ‬أو‭ ‬لقطة‭ ‬عابرة‭ ‬في‭ ‬فيلم،‭ ‬أو‭ ‬امرأة‭ ‬أشاهدها‭ ‬تجلس‭ ‬وحيدة‭ ‬على‭ ‬مقعد‭ ‬في‭ ‬الحديقة‭ ‬المجاورة‭ ‬لبيتي،‭ ‬تتأمل‭ ‬في‭ ‬الزهور‭ ‬والطبيعة‭.. ‬كما‭ ‬العشاق‭ ‬في‭ ‬المقاهي‭ ‬المزدحمة‭.. ‬أحاول‭ ‬ان‭ ‬أجعل‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المشاهد‭ ‬كلها‭ ‬عالمي‭ ‬الفني‭ ‬الشخصي،‭ ‬ممارساً‭ ‬أسلوبي‭ ‬في‭ ‬الرسم‭.. ‬وما‭ ‬يهمني،‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬كله،‭ ‬هو‭ ‬الزاويـــــة‭ ‬التي‭ ‬أطلّ‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬المشهد‭,‬‭ ‬وهو‭ ‬عنصر‭ ‬مهم‭ ‬جداً‭ ‬في‭ ‬لوحاتي‭.. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يقودني‭ ‬إلى‭  ‬تكوين‭ ‬متفرد،‭ ‬وإخراج‭ ‬مناسب‭.. ‬فأنا‭ ‬هنا‭ ‬أوزّع‭ ‬مــفـــردات‭ ‬اللوحة‭ ‬بالأهمية‭ ‬نفسها‭: ‬فوجه‭ ‬المرأة،‭ ‬وحركة‭ ‬أصابع‭ ‬اليدين،‭ ‬والشَعر‭ ‬المنساب‭ ‬بنعومة‭.. ‬والتفاحة،‭ ‬والطاقية،‭ ‬والنوافذ‭ ‬نصف‭ ‬المفتوحة،‭ ‬والستائر‭ ‬الملونة‭.. ‬وسواها‭ ‬الكثير‭.. ‬جميعها‭ ‬‮«‬مفردات‮»‬‭ ‬أجعل‭ ‬منها‭ ‬أشكالاً‭ ‬ذات‭ ‬قيمة‭ ‬فنية‭..‬‮»‬‭.‬

 

المرأة‭.. ‬الانسان‭!‬

وما‭ ‬يريد‭ ‬قوله،‭ ‬أو‭ ‬تأكيده،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬جعل‭ ‬الإنسان‭ ‬موضوعه‭ ‬الفني‭ ‬الأثير،‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭  ‬موضوعه‭ ‬الأكيد،‭ ‬وبخاصة‭ ‬تلك‭ ‬اللحظات‭ ‬الخاصة‭ ‬التي‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬الرجل‭ ‬والمرأة‭. ‬ولكن‭ ‬ليس‭ ‬هذا‭ ‬وحده‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يهمه‭ ‬ويعنيه‭ ‬فناننا،‭ ‬‮«‬وإنما‭ ‬تكوين‭ ‬اللوحة‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬أبحث‭ ‬عنه،‭ ‬وتقنيتي‭ ‬الفنية‭ ‬أيضاً‭ ‬التي‭ ‬أحرص‭ ‬دائماً‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬دائماً‭ ‬متفردة‮»‬،‭ ‬مشدداً‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬المرأة‭ ‬هي‭ ‬المركز‭ ‬الذي‭ ‬تستند‭ ‬إليه‭ ‬لوحته‭.. ‬‮«‬فالمرأة‭ ‬شجرتي‭ ‬المثمرة،‭ ‬ونافذتي‭ ‬التي‭ ‬أطل‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬على‭ ‬عالمي‭ ‬الملوّن‮»‬‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬التعدد‭ ‬الذي‭ ‬تجمعه‭ ‬لوحته‭ ‬شكلاً،‭ ‬فإنه‭ ‬لا‭ ‬يجد‭ ‬فيها‭ ‬شيئاً‭ ‬من‭ ‬التضاد‭ ‬والتنافر،‭ ‬بل‭ ‬يجد‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يكرّس‭ ‬بحثه‭ ‬الفني‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الانسجام‭.. ‬‮«‬فأنا‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬المحبة‭ ‬والجمال‭.. ‬والرسم‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يوفر‭ ‬لي‭ ‬ذلك‭. ‬إذا‭ ‬وجدته‭ ‬يوماً‭ ‬لا‭ ‬يوفره‭ ‬لي،‭ ‬كما‭ ‬أرى‭ ‬وأريد،‭ ‬سأتوقف‭!‬‮»‬‭. ‬ويضيف‭: ‬‮«‬الرسم‭ ‬هو‭ ‬سعادتي‭ ‬التي‭ ‬أرسمها‭.. ‬وأحاول‭ ‬أن‭ ‬أجعل‭ ‬منه‭ ‬مصدراً‭ ‬لسعادة‭ ‬الآخرين‮»‬‭. ‬ويعيدني،‭ ‬وأنا‭ ‬أمضي‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬عالمه‭ ‬الفني‭ ‬الغزير‭ ‬بأشكاله‭ ‬وألوانه‭.. ‬يعيدني‭ ‬إلى‭ ‬البدايات‭.. ‬بداياته‭: ‬

‮«‬أنت‭ ‬تعرف‭ ‬لوحـــاتي‭ ‬جيداً‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬متابعتك‭ ‬لتلك‭ ‬البدايات‭ ‬التـــــي‭ ‬كـــــنتُ‭ ‬عليها‭.. ‬فأنا‭ ‬لم‭ ‬أرسم‭ ‬لوحـــة‭ ‬حزينة‭ ‬قط،‭ ‬وأحاول‭ ‬دائماً‭ ‬ألا‭ ‬أفعل‭ ‬ذلك‭. ‬ومثـــلما‭ ‬أتعامل‭ ‬مع‭ ‬الأشياء‭ ‬من‭ ‬حولي‭ ‬بتفاؤل‭ ‬ومحبة،‭ ‬أنظر‭ ‬إلى‭ ‬الرسم‭ ‬بالمقدار‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬البراءة‭ ‬والجمال‭. ‬فأنْ‭ ‬أطــــل‭ ‬من‭ ‬النافــــذة،‭ ‬أو‭ ‬أرسم‭ ‬نافذة،‭ ‬العمـــــليـــة‭ ‬بالنســبة‭ ‬لي‭ ‬واحدة‮»‬‭.‬

 

تقنية‭ ‬الحكاية

أما‭ ‬الحبكة‭ ‬الفنية‭ (‬وهو‭ ‬يقول‭: ‬التقنية‭) ‬التي‭ ‬يعتمدها،‭ ‬ويجد‭ ‬أنها‭ ‬هي‭ ‬ما‭ ‬يُعطي‭ ‬عمله‭ ‬الفني‭ ‬قيمته‭ ‬الحقيقية،‭ ‬ويميزه‭ ‬من‭ ‬أعمال‭ ‬الآخرين‭.. ‬فهي‭ ‬ليست‭ ‬مقصودة‭ ‬لذاتها،‭ ‬وإنما‭ ‬نجدها‭ ‬تتخلق‭ ‬في‭ ‬لوحته‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مستوى‭: ‬فهناك‭ ‬مستوى‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬واقعيتها‭ ‬اليومية‭.. ‬وهناك‭ ‬المستوى‭ ‬الميثولوجي،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬الأسطورة‭ ‬من‭ ‬عناصر‭ ‬رؤيوية،‭ ‬والتي‭ ‬نجد‭ ‬الواقع،‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬واقعي،‭ ‬يتخلق‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬من‭ ‬صور‭ ‬الحكاية‭. ‬وهناك‭ ‬المستوى‭ ‬الشعري‭ ‬لهذه‭ ‬الحبكة‭ ‬الذي‭ ‬يجمع‭ ‬عناصره،‭ ‬ويجتمع‭ ‬بها،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المستويين‭ ‬السابقين‭: ‬الموضوع،‭ ‬واللون‭. ‬فهو‭ ‬إذ‭ ‬يرسم‭ ‬يحاول‭ - ‬كما‭ ‬يقول‭ - ‬أن‭ ‬يجعل‭ ‬لوحته‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬أحلامه‭.. ‬‮«‬أن‭ ‬تترجم‭ ‬بعض‭ ‬الغموض‭ ‬الذي‭ ‬تتركه‭ ‬في‭ ‬نفسي‭ ‬أشياء‭ ‬ربما‭ ‬تكون‭ ‬صغيرة،‭  ‬أو‭ ‬عابرة‭.. ‬تراني‭ ‬دائماً‭ ‬منسحباً‭ ‬إلى‭ ‬الأجواء‭ ‬السحرية،‭ ‬والبعيدة،‭ ‬والغامضة‮»‬،‭ ‬مؤكداً‭ ‬دور‭ ‬الحلم‭ ‬في‭ ‬عمله‭ ‬الفني‭: ‬‮«‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬رأيت‭ ‬في‭ ‬الحلم‭ ‬أن‭ ‬لي‭ ‬جناحين‭ ‬فطرتُ‭ ‬بهما‭ ‬إلى‭ ‬بغداد‭ ‬لرؤية‭ ‬أمي‭ ‬هناك‭.. ‬أمي‭ ‬التي‭ ‬مرت‭ ‬عليّ‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة‭ ‬لم‭ ‬أرها‭ ‬فيها‭. ‬

عندها‭ ‬فكّرت‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬أرسم‭ ‬هذا‭ ‬الحلم‭ ‬وأعالجه،‭ ‬بوصفه‭ ‬رؤية‭ ‬تشكيلية،‭ ‬وبحسب‭ ‬رؤيتي‭ ‬وطريقتي‭ ‬في‭ ‬الرسم‭.. ‬فرسمتُ‭ ‬سلسلة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬اللوحات‭ ‬تمثّل‭ ‬أشخاصاً‭ ‬مجنَّحين،‭ ‬يسبحون‭ ‬في‭ ‬فضاءات‭ ‬اللوحات‭. ‬وكما‭ ‬يحصل‭ ‬في‭ ‬الحكايات‭ ‬التي‭ ‬كنا‭ ‬نسمعها‭ ‬ونحن‭ ‬بعد‭ ‬صغار،‭ ‬رسمتُ‭ ‬حلمي‭ ‬هذا،‭ ‬مقرِّباً‭ ‬هذه‭ ‬الشخصيات‭ ‬من‭ ‬أجواء‭ ‬الأسطورة‭ ‬والسحر‭. ‬وابتدأتُ‭ ‬هذه‭ ‬السلسلة‭ ‬من‭ ‬اللوحات‭ ‬بلوحة‭ ‬‮«‬شوق‭ ‬إلى‭ ‬البيت‮»‬،وفيها‭ ‬يظهر‭ ‬شخص‭ ‬بأجنحة‭ ‬وهو‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬الأعلى‭ ‬حيث‭ ‬تتراءى‭ ‬له‭ ‬بيوت‭ ‬ملوّنة‭.. ‬وانتهت،‭ ‬هذه‭ ‬السلسلة،‭ ‬بلوحة‭ ‬‮«‬ملاك‭ ‬شارد‭ ‬الذهن‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬يظهر‭ ‬فيها‭ ‬شخص‭ ‬يشبه‭ ‬ملاكاً‭ ‬يجلس‭ ‬على‭ ‬غيمة‭ ‬بعيدة،‭ ‬يتأمل‭ ‬القمر‭. ‬ومن‭ ‬لوحات‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ ‬ما‭ ‬تحمل‭ ‬عناوين‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬الأقدام‭ ‬الراقصة‮»‬‭ ‬و«بعيداً‭ ‬عن‭ ‬الأرض‮»‬‭ ‬و«قبلة‭ ‬الملاك‮»‬‭ ‬و‮«‬غواية‭ ‬الملاك‮»‬‭.. ‬وسواها‭ ‬كثير‭ (‬وقد‭ ‬اختارت‭ ‬‮«‬منظمة‭ ‬العفو‭ ‬الدولية‮»‬‭ ‬من‭ ‬لوحات‭ ‬هذه‭ ‬المجموعة‭ ‬لوحة‭ ‬‮«‬الحديث‭ ‬بصوت‭ ‬هادئ‮»‬‭ ‬وطبعتها‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬بطاقة‭ ‬بريدية‭ ‬تم‭ ‬توزيعها‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬عديدة‭ ‬من‭ ‬العالم‭). ‬وهكذا‭ - ‬يضيف‭ ‬الفنان‭ -‬‭ ‬حاولت‭ ‬أن‭ ‬أحوِّل‭ ‬هذه‭ ‬الشخصيات‭ ‬التي‭ ‬تمرّ‭ ‬بي‭ ‬خاطراً،‭ ‬أو‭ ‬أحلم‭ ‬بها،‭ ‬إلى‭ ‬كائنات‭ ‬تقترب‭ ‬من‭ ‬الأسطورة‭ ‬وأجوائها،‭ ‬محوِّلاً‭ ‬اليومي‭ ‬والحياتي‭ ‬إلى‭ ‬سحري،‭ ‬غامض،‭ ‬ومضيء‮»‬‭.‬

ويُعطي‭ ‬المسألة‭ ‬بُعداً‭ ‬آخر‭.. ‬أكبر‭: ‬‮«‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬حكايات‭ ‬البيئة‭ ‬الأولى‭ ‬وأجوائها،‭ ‬هناك‭ ‬مفردة،‭ ‬أو‭ ‬رمز‭ ‬بقي‭ ‬عالقاً‭ ‬في‭ ‬ذهني،‭ ‬وأحسب‭ ‬أنه‭ ‬سيبقى‭.. ‬وهو‭ ‬الشبّاك،‭ ‬أو‭ ‬النافذة‭.. ‬فهذه‭ ‬النافذة‭ ‬التي‭ ‬كنتُ،‭ ‬وأنا‭ ‬صغير،‭ ‬أتأمل‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يحصــــل‭ ‬خــــارج‭ ‬البــيت‭. ‬سحر‭ ‬هذه‭ ‬النافذة‭ ‬لايزال‭ ‬له‭ ‬تأثـــــيره‭ ‬عـــليّ‮»‬‭. ‬كــــيف؟‭ ‬ومن‭ ‬أي‭ ‬زاوية؟‭ ‬‮«‬لا‭ ‬تستغرب‭.. ‬أنا‭ ‬أعدّ‭ ‬النافـــــذة‭ ‬أعظم‭ ‬ابتكارات‭ ‬الإنسان‭ ‬الجمالية‭ ‬على‭ ‬الإطـــلاق‭.. ‬ربما‭ ‬لأنني‭ ‬أنظر‭ ‬إلى‭ ‬اللوحة‭ ‬على‭ ‬أنــــها‭ ‬‮«‬نافذة‮»‬‭. ‬

وقد‭ ‬صنّفتُ‭ ‬ذلـــــك‭ ‬في‭ ‬لوحـــــاتي‭ ‬من‭ ‬خـــلال‭ ‬المزج‭ ‬بين‭ ‬‮«‬داخل‭ ‬البيت‮»‬‭ ‬و«خارجه‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬تُطلّ‭ ‬عليه‭ ‬النافذة،‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬موجـــود‭ ‬داخل‭ ‬البيت‭. ‬كذلك‭ ‬هي‭ ‬النافذة‭ ‬بمعناها‭/ ‬بُعدها‭ ‬الرمزي‭.. ‬ما‭ ‬تمثّل‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬‮«‬حدود‭ ‬الوطن‮»‬‭ ‬يوم‭ ‬غادرته،‭ ‬تلك‭ ‬الحدود‭ ‬التي‭ ‬تشبه‭ ‬النافذة‭ ‬وقد‭ ‬أتاحت‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أطل‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬الواسع،‭ ‬والمنفتح‭.. ‬حتى‭ ‬غدت،‭ ‬كما‭ ‬تمثلتها،‭ ‬أو‭ ‬تمثّلت‭ ‬لي،‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬الأسطورة‭.. ‬فكانت‭ ‬لوحاتي‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬عناوين‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬أغنية‭ ‬لها‭ ‬حكاية‮»‬،‭ ‬و«وداع‭ ‬الصيف‮»‬،‭ ‬و«حلم‭ ‬قرب‭ ‬النافذة‮»‬،‭ ‬و«امرأة‭ ‬من‭ ‬بغداد‮»‬‭.. ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬لوحات‭ ‬أخرى‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬من‭ ‬أعماله‭ ‬هذه،‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬تسمياتها‭ ‬من‭ ‬مباشرة،‭ ‬وروح‭  ‬رومانسية،‭ ‬تبدو‭ ‬وكأنها‭ ‬تستمد‭ ‬مقوماتها‭ ‬من‭ ‬‮«‬تكوينات‮»‬‭ ‬ذات‭ ‬بُعد‭ ‬ميثولوجي‭. ‬فهي‭ ‬تعاين‭ ‬الواقع‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬واقعي‭.. ‬أما‭ ‬‮«‬ولادتها‮»‬،‭ ‬حين‭ ‬‮«‬تكون‮»‬،‭ ‬فتأتي‭ ‬وكأنها‭ ‬ولادة‭ ‬من‭ ‬رحم‭ ‬أسطوري‭.‬

هل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نسمّي‭ ‬هذا‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬نسميه‭ ‬‮«‬لغة‭ ‬الجذور‮»‬،‭ ‬هذه‭ ‬اللغة‭ ‬التي‭ ‬تنزع‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬رسم‭ ‬وإنجاز‭ ‬أعمال‭ ‬تختط‭ ‬رؤيتها‭ ‬الخاصة،‭ ‬والتي‭ ‬هي‭ ‬رؤية‭ ‬الفنان‭ ‬نفسه،‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬الإنسان‭ ‬والواقع؟‭ ‬فالجذر‭ ‬هنا‭ ‬‮«‬نزعة‭ ‬أصالة‮»‬‭ ‬وليس‭ ‬انكفاء‭ ‬على‭ ‬الماضي‭.. ‬والأصالة‭ ‬التي‭ ‬نعنيها‭ ‬هنا‭ ‬هي‭ ‬‮«‬استقاء‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬كائن‭ ‬في‭ ‬الذات‮»‬،‭ ‬وليس‭ ‬خارجها‭.‬

يقابل‭ ‬هذا‭ ‬عنده،‭ ‬كما‭ ‬يقول،‭ ‬‮«‬حنين‭ ‬إلى‭ ‬أيام‭ ‬بغداد‮»‬،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬لها‭ ‬عنده‭ ‬‮«‬جمال‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬آخر،‭ ‬يبقى‭ ‬في‭ ‬الذاكرة،‭ ‬ولا‭ ‬يغادرها‭ ‬بسهولة‮»‬‭. ‬ومن‭ ‬اجتماع‭ ‬هذا‭ ‬كله،‭ ‬واجتماعه‭ ‬رؤية‭ ‬فنية‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬كله،‭ ‬يحاول،‭ ‬كما‭ ‬يقول،‭ ‬أن‭ ‬يرسم‭ ‬لوحة‭ ‬جميلة،‭ ‬وناجحة،‭ ‬تُمسك‭ ‬بالمشاهد‭ ‬من‭ ‬ياقته‭ ‬وتُدخله‭ ‬إلى‭ ‬عالمها،‭ ‬بغدادية‭ ‬كانت‭ ‬أجواء‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬أو‭ ‬هولندية‭..‬‮»‬‭ ‬‭>‬