الفنان التشكيلي ستّار كاووش على سلّم الحلم ارتقى من الواقع إلى الأسطورة

إذا قلنا عن فنان إنه في عمله الفني يرتكز على تجربته ورؤيته العالم، فإن ذلك يصدق على الفنان العراقي المغترب ستار كاووش. فلهذا الفنان «سلّمه» الخاص الذي صنعه بنفسه وارتقى عليه عالم الفن، مستمداً موضوعاته من مصدرين: تجربته البيئية بما فيها من عناصر الفطرة والحيوية، ورؤياه الفنية التي انبنت على أساس أسطوري التكوين، ما جعله يرى «الأشياء»، و«المواقف»، و«الحالات» الإنسانية رؤية لا تبعد عما للأسطورة من عوالم التكوين.
من خلال هذا راح يبني تطورات هذه الرؤية/ الرؤيا، ناسجاً إياها بحبكة فنية لها خصوصيتها الدالة عليه، فناناً وعملاً فنياً، بما اتخذ من أسلوب شخصي في التعبير. فهو، كما يرغب في تصنيف نفسه، من حيث الرؤية والأسلوب الفني، «رسام تشخيصي»، وليس رساماً واقعياً. وعلى هذا فهو يرى أن له منطقته الخاصة التي يعمل فيها، والتي يجد أنها ميزته عن سواه من الفنانين - وإن كان لا ينكر الاستفادة من اتجاهات وأساليب عديدة في الرسم- فـ«حديقة لوحاته»، كما يحب أن يطلق عليها من تسمية، «تُطلّ بأغصانها على حدائق أخرى من بستان الفن الواسع».
إلاّ أن البداية، بدايته الفنية، لم تكن كذلك، وبهذا الاكتمال.. فقد بدأ بالتعبيرية، ثم «البوب آرت»، وحتى «الآرت ديكو»، مروراً بتقنيات مختلفة وعديدة، ليصل إلى ما هو عليه في أعماله اليوم التي يقول فيها: إنه يمكن النظر إليها، من جانب، بوصفها «أعمالاً رمزية، بحكم ما تحتويه من رموز ومفردات تُخفي وراءها شيئاً ما»، لم يُدرك سرّه بعد، أو أنه لا يريد إفشاء هذا السر. ومن جانب آخر، ما نشاهده في أعماله هذه من «ألوان ومناخات فيها الكثير من الشفافية، فضلاً عما لها من أجواء» لا ينفي أنها «قد تبدو على شيء من الغموض، والسحر، والقرب من عالم الحكاية». وهنا، وفي ما يُعيّن فيه الفنان اتجاهه هذا في الرسم، نجد شيئاً لا يتردد في نسبته إلى «الواقعية السحرية». وأما منابع هذا كله فيعيدها إلى المزج الذي يعتمده «بين أجواء بغداد (المدينة التي ولد فيها، وفي أجوائها نشأ وتكوّن)، وعوالم «ألف ليلة وليلة»، فضلاً عن الأجواء الغربية (الأوربية)». وقد اختار الحياة والعيش فيها منذ أكثر من عشرين عاماً.. فهو، إذا صح القول، يعيش (وقد عاش نحو نصف سنوات عمره) بين ثقافتين يجد تأثيراتهما تنعكس على أعماله الفنية التي يحرص دائماً أن تكون عليها بصمته بما يُمّيزه عن الفنانين الآخرين.
و«مثلما تجعل الغـــربــة فرديــــة الفـــنان عالية» فإنها تفتح له آفاقاً هائلة في الفن والحرية للتواصل مع الآخرين في مــــناخات فنية صحيحة، والتعرف إلى تجارب متعددة»، وهو ما يؤكده الفنان نفسه، لافتاً إلى أن «التقاليد الفنية في أوربا مختلفة عنها في بلدان أخرى. إن لهذه التقاليد تاريخها الطويل.. فماذا إذا كنت تشاهد ذلك كل يوم.. ألا يؤثّر فيك فناناً؟»، مشيراً إلى أنه في البلد الذي يعيش فيه (هولندا)، وهو بلد صغير، «هناك تسعمائة متحف، فضلاً عن آلاف الجاليريات والمؤسسات الثقافية»، وهذا كله، كما وجده وتلقى تأثيراته، «يمنح الفنان حافزاً على المضيّ في طريقه الملوَّن، والطويل». ولكن - يضيف مستدركاً - «من الصعب أن تنجح وتؤكد مكانتك الفنية هنا. ففي هذا البلد، حيث أعيش وأمارس حياتي الفنية، لا يهتمون لفنان جيّد فقط، أو يبحثون عنه.. وإنما هم يبحثون عن الفنان المتفرد، والمؤثّر، الذي لديه مساحته الخاصة، ويعمل بتقنيات مختلفة تميزه عن الآخرين».
ومن هنا.. «أنا، في أعمالي، أفيد من كل الأشياء التي من حولي: فمقطع صغير من قصيدة، أو لقطة عابرة في فيلم، أو امرأة أشاهدها تجلس وحيدة على مقعد في الحديقة المجاورة لبيتي، تتأمل في الزهور والطبيعة.. كما العشاق في المقاهي المزدحمة.. أحاول ان أجعل من هذه المشاهد كلها عالمي الفني الشخصي، ممارساً أسلوبي في الرسم.. وما يهمني، من هذا كله، هو الزاويـــــة التي أطلّ منها على المشهد, وهو عنصر مهم جداً في لوحاتي.. وهو ما يقودني إلى تكوين متفرد، وإخراج مناسب.. فأنا هنا أوزّع مــفـــردات اللوحة بالأهمية نفسها: فوجه المرأة، وحركة أصابع اليدين، والشَعر المنساب بنعومة.. والتفاحة، والطاقية، والنوافذ نصف المفتوحة، والستائر الملونة.. وسواها الكثير.. جميعها «مفردات» أجعل منها أشكالاً ذات قيمة فنية..».
المرأة.. الانسان!
وما يريد قوله، أو تأكيده، من خلال جعل الإنسان موضوعه الفني الأثير، هو أن الإنسان موضوعه الأكيد، وبخاصة تلك اللحظات الخاصة التي تجمع بين الرجل والمرأة. ولكن ليس هذا وحده هو ما يهمه ويعنيه فناننا، «وإنما تكوين اللوحة هو ما أبحث عنه، وتقنيتي الفنية أيضاً التي أحرص دائماً على أن تكون دائماً متفردة»، مشدداً على أن المرأة هي المركز الذي تستند إليه لوحته.. «فالمرأة شجرتي المثمرة، ونافذتي التي أطل من خلالها على عالمي الملوّن».
وعلى الرغم من هذا التعدد الذي تجمعه لوحته شكلاً، فإنه لا يجد فيها شيئاً من التضاد والتنافر، بل يجد أن ما يكرّس بحثه الفني هذا هو الانسجام.. «فأنا أبحث عن المحبة والجمال.. والرسم هو ما يوفر لي ذلك. إذا وجدته يوماً لا يوفره لي، كما أرى وأريد، سأتوقف!». ويضيف: «الرسم هو سعادتي التي أرسمها.. وأحاول أن أجعل منه مصدراً لسعادة الآخرين». ويعيدني، وأنا أمضي معه في عالمه الفني الغزير بأشكاله وألوانه.. يعيدني إلى البدايات.. بداياته:
«أنت تعرف لوحـــاتي جيداً من خلال متابعتك لتلك البدايات التـــــي كـــــنتُ عليها.. فأنا لم أرسم لوحـــة حزينة قط، وأحاول دائماً ألا أفعل ذلك. ومثـــلما أتعامل مع الأشياء من حولي بتفاؤل ومحبة، أنظر إلى الرسم بالمقدار نفسه من البراءة والجمال. فأنْ أطــــل من النافــــذة، أو أرسم نافذة، العمـــــليـــة بالنســبة لي واحدة».
تقنية الحكاية
أما الحبكة الفنية (وهو يقول: التقنية) التي يعتمدها، ويجد أنها هي ما يُعطي عمله الفني قيمته الحقيقية، ويميزه من أعمال الآخرين.. فهي ليست مقصودة لذاتها، وإنما نجدها تتخلق في لوحته في أكثر من مستوى: فهناك مستوى الحياة في واقعيتها اليومية.. وهناك المستوى الميثولوجي، بما في الأسطورة من عناصر رؤيوية، والتي نجد الواقع، وما هو واقعي، يتخلق من خلالها في صورة من صور الحكاية. وهناك المستوى الشعري لهذه الحبكة الذي يجمع عناصره، ويجتمع بها، من خلال المستويين السابقين: الموضوع، واللون. فهو إذ يرسم يحاول - كما يقول - أن يجعل لوحته جزءا من أحلامه.. «أن تترجم بعض الغموض الذي تتركه في نفسي أشياء ربما تكون صغيرة، أو عابرة.. تراني دائماً منسحباً إلى الأجواء السحرية، والبعيدة، والغامضة»، مؤكداً دور الحلم في عمله الفني: «ذات مرة رأيت في الحلم أن لي جناحين فطرتُ بهما إلى بغداد لرؤية أمي هناك.. أمي التي مرت عليّ سنوات طويلة لم أرها فيها.
عندها فكّرت في أن أرسم هذا الحلم وأعالجه، بوصفه رؤية تشكيلية، وبحسب رؤيتي وطريقتي في الرسم.. فرسمتُ سلسلة كبيرة من اللوحات تمثّل أشخاصاً مجنَّحين، يسبحون في فضاءات اللوحات. وكما يحصل في الحكايات التي كنا نسمعها ونحن بعد صغار، رسمتُ حلمي هذا، مقرِّباً هذه الشخصيات من أجواء الأسطورة والسحر. وابتدأتُ هذه السلسلة من اللوحات بلوحة «شوق إلى البيت»،وفيها يظهر شخص بأجنحة وهو ينظر إلى الأعلى حيث تتراءى له بيوت ملوّنة.. وانتهت، هذه السلسلة، بلوحة «ملاك شارد الذهن»، حيث يظهر فيها شخص يشبه ملاكاً يجلس على غيمة بعيدة، يتأمل القمر. ومن لوحات هذه الفترة ما تحمل عناوين مثل «الأقدام الراقصة» و«بعيداً عن الأرض» و«قبلة الملاك» و«غواية الملاك».. وسواها كثير (وقد اختارت «منظمة العفو الدولية» من لوحات هذه المجموعة لوحة «الحديث بصوت هادئ» وطبعتها على شكل بطاقة بريدية تم توزيعها في بلدان عديدة من العالم). وهكذا - يضيف الفنان - حاولت أن أحوِّل هذه الشخصيات التي تمرّ بي خاطراً، أو أحلم بها، إلى كائنات تقترب من الأسطورة وأجوائها، محوِّلاً اليومي والحياتي إلى سحري، غامض، ومضيء».
ويُعطي المسألة بُعداً آخر.. أكبر: «بالنسبة إلى حكايات البيئة الأولى وأجوائها، هناك مفردة، أو رمز بقي عالقاً في ذهني، وأحسب أنه سيبقى.. وهو الشبّاك، أو النافذة.. فهذه النافذة التي كنتُ، وأنا صغير، أتأمل من خلالها كل ما يحصــــل خــــارج البــيت. سحر هذه النافذة لايزال له تأثـــــيره عـــليّ». كــــيف؟ ومن أي زاوية؟ «لا تستغرب.. أنا أعدّ النافـــــذة أعظم ابتكارات الإنسان الجمالية على الإطـــلاق.. ربما لأنني أنظر إلى اللوحة على أنــــها «نافذة».
وقد صنّفتُ ذلـــــك في لوحـــــاتي من خـــلال المزج بين «داخل البيت» و«خارجه»، أو ما تُطلّ عليه النافذة، وما هو موجـــود داخل البيت. كذلك هي النافذة بمعناها/ بُعدها الرمزي.. ما تمثّل لي في «حدود الوطن» يوم غادرته، تلك الحدود التي تشبه النافذة وقد أتاحت لي أن أطل على هذا العالم الواسع، والمنفتح.. حتى غدت، كما تمثلتها، أو تمثّلت لي، أقرب إلى الأسطورة.. فكانت لوحاتي التي تحمل عناوين مثل «أغنية لها حكاية»، و«وداع الصيف»، و«حلم قرب النافذة»، و«امرأة من بغداد».. إلى جانب لوحات أخرى»، وهو ما جعل من أعماله هذه، على ما في تسمياتها من مباشرة، وروح رومانسية، تبدو وكأنها تستمد مقوماتها من «تكوينات» ذات بُعد ميثولوجي. فهي تعاين الواقع وما هو واقعي.. أما «ولادتها»، حين «تكون»، فتأتي وكأنها ولادة من رحم أسطوري.
هل يمكن أن نسمّي هذا العودة إلى ما نسميه «لغة الجذور»، هذه اللغة التي تنزع به إلى رسم وإنجاز أعمال تختط رؤيتها الخاصة، والتي هي رؤية الفنان نفسه، لكل من الإنسان والواقع؟ فالجذر هنا «نزعة أصالة» وليس انكفاء على الماضي.. والأصالة التي نعنيها هنا هي «استقاء من أصل كائن في الذات»، وليس خارجها.
يقابل هذا عنده، كما يقول، «حنين إلى أيام بغداد»، تلك التي لها عنده «جمال من نوع آخر، يبقى في الذاكرة، ولا يغادرها بسهولة». ومن اجتماع هذا كله، واجتماعه رؤية فنية على هذا كله، يحاول، كما يقول، أن يرسم لوحة جميلة، وناجحة، تُمسك بالمشاهد من ياقته وتُدخله إلى عالمها، بغدادية كانت أجواء هذا العالم أو هولندية..» >