تغيَّرت الخارطة: الأدب العربي الآن كله مركز بلا هوامش

تغيَّرت الخارطة: الأدب العربي الآن كله مركز بلا هوامش

يعتبر الأديب العراقي الكبير، عبدالرحمن مجيد الربيعي، أحد رموز الأدب العربي الحديث في العالم العربي، ساهم بحضوره الوازن وبكتاباته العديدة، في تطوير الأدب العربي الحديث، وفي إثراء المكتبة العربية، بالعديد من الروايات والمجاميع القصصية والشعرية، فضلاً عن نصوصه السيرذاتية، وكتاباته النقدية ومقالاته التحليلية والسياسية، وحضوره المؤثر في المشهد الثقافي العربي، سواء وهو داخل العراق، إبان إشرافه على مجلة «الأقلام» العراقية الشهيرة، بما أدته هذه المجلة من أدوار طلائعية في التعريف بالأدب العربي، ونشره نصوصه، والتعريف بكتابه... أو خارج العراق، حيث يواصل مهامه وينجز مشاريعه الثقافية والإبداعية، من تونس، حيث يقيم منذ عام 1980، وصار يحمل الجنسية التونسية، ومنها، أيضا، يواصل أداء أدواره المضيئة في التعريف بالإنتاج الأدبي لهذا القطر العربي أو ذاك، كما يواصل إثراء المدونة الأدبية العربية، بنصوص إبداعية ونقدية مضيئة ومؤثرة.

الربيعي، إذن، كاتب متعدد الاهتمامات والانشغالات الثقافية والأدبية، كما أنه أديب وناقد دائم الحضور في الملتقيات والمهرجانات والندوات، المقامة هنا أو هناك، ويعتبر اليوم من أغزر الأدباء العرب، إنتاجا، حيث بلغ عدد إصداراته قرابة الخمسين عنوانا، طبعت وأعيد طبعها في العراق ولبنان وسورية ومصر وتونس والمغرب، كما يعتبر الربيعي الأكثر حضورا ومواكبة للمشهد الأدبي العربي، عدا كونه من أكثر الأدباء العرب، تشجيعا للكتاب الشباب، وحفزهم على الإبداع والنشر.
وستصدر له قريبا مجموعة قصصية بعنوان «الشعارات تتبارى»، من وحي المشهد التونسي، بعد 14 يناير، عن دار «نقوش عربية» بتونس. 
التقى، الكاتب والناقد المغربي عبدالرحيم العلام رئيس اتحاد كتاب المغرب، الربيعي في تونس وكــان هذا الحوار المتـنـوع لمجلة العـربي، حــول تجربته مع الكتابة والحياة، وحول قضايا الكتابة والإبداع والتلقي في العالم العربي.
- بداية، تجدر الإشارة إلى أن علاقتك بالأدباء المشارقة كانت قد تعمقت أكثر، مقارنة بنظرائهم المغاربة... فهل لك أن تقربنا من البدايات الأولى لعلاقتك بالأدب المغربي، وبكتابه ونقاده؟
- حقيقة بدأت بقراءة كتابات أبناء جيلي وأولئك الذين يكبرونني وبقيت متابعا لإنتاجاتهم الجديدة، وكنت بدوري أرسل لهم كل ما أصدره. أحببت الكثير من الكتَّاب، من أجيال مختلفة، ومازلت أتواصل مع الأحياء منهم، وخاصة عندما أزور المغرب، ولقد سكنت محبتي لهم صفحات كتابي الصادر بالمغرب، تحت عنوان «كتابات مسمارية على جدارية مغربية». قرأت للمغاربة كثيرا وبحفاوة، كما أنني أحببت المغرب وصرت أتردد عليه باستمرار، ولي فيه أيضا صديقي القريب د.علي القاسمي الذي سبقني إلى محبة المغرب.
كان وصول مجلة «الأقلام» إلى مكتبات المغرب أمرا جميلا، وكانت النسخ التي ترسل إليه وإلى تونس والجزائر ومصر تنفد كلها. ووصل المطبوع الشهري من هذه المجلة في سنوات زهوها تلك، رقما لم تصل إليه مجلة ثقافية عربية، وهو خمسة عشر ألف نسخة. وقد ربحت نتيجة لهذا أصدقاء لم أكن أحلم بمعرفتهم.
لقد سمح لي سؤالك لأقول إن خريطة الأدب العربي لم تبق على ما كانت عليه في الخمسينيات من القرن الماضي، وانتهى ما كان يشاع من أن هناك بلدانا تكتب وأخرى تطبع وثالثة تقرأ. الآن، صار الجميع يكتبون ويطبعون ويقرأون. ومن كان هامشا لم يعد كذلك. أو إذا أردنا الدقة نقول: ليس هناك هامش، بل الكل صار مركزا، لأننا نعرف ونقرأ لبعضنا ونلتقي ببعضا ونعرف بلدان بعضنا. لقد انتصرنا على الجغرافيا.
المبدعون العرب يطمئنون للنقد المغربي، وقد استعانوا بما أشاع النقاد المغاربة من مصطلحات موضوعة ومترجمة. كما أن الكتابة السردية المغربية حققت إنجازات مهمة كمًّا ونوعا، وأضيفت أسماء جديدة عززت رصيد السرد العربي والروائي منه بشكل خاص.
في الإبداع العربي اليوم، لم يعد هناك مشرق أو مغرب، بل هناك إبداع، مع أن هناك خصوصيات لأدب كل بلد، هي بشكل أو بآخر تنويعات لخصوصيات مشتركة، منطلقها الدين الواحد واللغة الواحدة والجرح الواحد.
- بخــــصوص اهتمامــــاتك وانـــشغالاتـــك الإبداعية، أبدأ معك بموضوع قصيدة النثر، التي شغلت الناس، وملأت المجلات والصحف، وخاصة أنك واحد من كتَّاب الشعر في عالمنا العربي.
- قصيدة النثر أصبحت حقيقة اليوم، ونرى المجلات الأدبية البارزة تنشرها دون مساءلة، وتعاملها كما تعامل الشعر الحر أو الكلاسيكي. وأصبح لهذه القصيدة شعراؤها الحاضرون في المدونة الشعرية العربية.
وعندما أقرأ قصيدة، فإنني لا أهتم كثيرا بشكلها، بل بما تقدمه، أي أنه ليس هناك امتياز للقصيدة الحرة على النثرية أو العكس. نحن نبحث عن الشعر موزونا أو غير موزون لا فرق.
لكنني غير مقتنع بتعبيرات مثل الموسيقى الداخلية لقصيدة النثر، إذ هذا التعبير غير واضح، والموسيقى توجد في الصياغات اللغوية، حتى في الرواية والقصة القصيرة، كما يعنى بها شعراء قصيدة النثر، مثل محمد الماغوط الذي لقصيدته سلاسة نادرة.
ذات يوم، كانت قصيدة النثر ممنوعة في المجلات الرسمية خاصة، لا، بل إن البعض غالى في منعها واعتبرها مؤامرة صهيونية، هكذا، وأن غاياتها تخريبية ووراءها منظمة حرية الثقافة الأمريكية، ومن سوء حظ قصيدة النثر أن المجلات التي عنت بها مثل «شعر» و«أدب» و«حوار» كانت ذات علاقة فعلا بمنظمة حرية الثقافة، وخاتمة مجلة «حوار» معروفة. لكن هناك مجلات أخرى نشرتها، وهي مجلات خاصة مثل «الأديب» اللبنانية.
- وما سر هذا الإقبال على قصيدة النثر من قبل شعرائنا العرب، هل هو حاجة أو غاية للرد على استنفاد الشعر الكلاسيكي وظيفته؟
- أنا أرى أن قصيدة النثر ولدت فعلا كحاجة. فالقصيدة الكلاسيكية مستنفدة وليس هناك جواهري أو عمر أبو ريشة مثلا. والقصيدة الحرة بدأت تتململ إلى حد ما، فلا بد من التحرك حتى لا تبقى الأشياء كما هي عليه.
وأنا عندما أقول «حاجة»، فعندي أمثلة من شعراء كتبوا الشعر الكلاسيكي، وأجادوا فيه وعرفوا بشعرهم الحر، ومع هذا لجأوا إلى قصيدة النثر. لماذا؟ أليس هذا دليل حاجتهم لها؟ أذكر لك أدونيس ونزار قباني وعبدالوهاب البياتي وغيرهم.
أما إذا كانت قصيدة النثر قد سرقت شيئا من مجد الشعر الكلاسيكي أو الحر العربيين، فلا أظن. فمجدهما باق، ومازال بعض شعرائنا حاضرين من الجاهلية إلى الإسلام إلى اليوم. ومازالت الأذن العربية تطرب لإيقاع الشعر الموزون. لكن قصيدة النثر جاءت معها باختلافها، وتصل إليك، ولكن بأدواتها هي وعلى طريقتها هي.
وأذكر، هنا، أن مجلة «شعر» ليست مبرراتها قصيدة النثر ونشرها فقط، برغم أن الدور الذي لعبته في هذا كبير. كما أذكر أن قصائدي الأولى، برغم أنني لا أطرح نفسي شاعرا، قد نشرتها فيها، وكنت في بداياتي الأدبية عام 1962.
- تكتب الشعر والقصة والرواية والمقالة وتمارس النقد الأدبي، وغيرها من الاهتمامات الأدبية والثقافية، ما يشي بأنك في كتاباتك الأدبية لا تستكين لجنس أدبي معين، أو لتقنية سردية بعينها، أو لأسلوب إبداعي خاص، فتبقى وفيا له.
- صحيح، أقول، بداية، إنني كاتب لا يستكين، أي أنني لا أتوصل إلى تقنية كتابية معينة، فأقول هذه بغيتي ومرادي. أبدا، وكما أنا في الحياة إنسان لم أعرف الاستقرار الكافي وأحيانا حتى العاطفي، فإنني هكذا في كتاباتي. إن الوصول لمنجز ما يجعلني في حالة بحث أخرى لأحقق إنجازا آخر، سواء انطلقت منه أو عدت لما قبله، لذا تكثر المحطات في تجربتي وتتلون حتى في الفنون الأدبية المتعددة التي أمارسها. فمثلا، ولضرورات الوضع العراقي، كتبت مقالات سياسية عن هذا الوضع، وأقول رأيي الذي يحتاج إيصاله عن طريق الرواية إلى زمن أطول.
- يحدث هذا، أيضا، حتى في تنويعك في طرائق استيحائك للواقع، في تمثلاته المختلفة، بما تعرفه من تفاوتات على مستوى اهتمامك برصد المكون السياسي تحديدا، باعتباره شكَّل، في مرحلة معينة، أحد تابوهات الكتابة الأدبية عندنا، والذي يطفو في كتاباتك أنت من حين لآخر، كما في مجموعتك القصصية «حدث هذا في ليلة تونسية».
- إن أشكال التحولات والتنويعات في طريقة استلهامي للواقع، كما ورد في سؤالك، تبدو أمرا طبيعيا جدا. فما يحصل خارجنا يحصل فينا. وهذا المكون السياسي الذي ترى أنه عرف نوعا من «التلاشي»، لم يدم طويلا، وربما تحصل هدنات بين الحين والآخر، لكنها ليست طويلة. وها أنت قد لمست هذا في مختاراتي القصصية «حدث هذا في ليلة تونسية» الصادرة عام 1998 في القاهرة، وقد عاد فيها السياسي إلى «الطفو» من جديد في محكياتها، علما بأن هذه القصص تعود إلى ثمانينيات القرن الماضي وما قبلها. ونصوصها ليست من جديدي الذي ظهر في مجموعتين أخريين هما «السومري» و«امرأة من هنا.. رجل من هناك»، إذ إن السياسي فيهما واضح في بعض النصوص ذات العلاقة بعراق التسعينيات المحاصر أو الحامل لآثار الحرب الطويلة مع إيران.
أما عن السياسي، فأقول نعم، إن السياسي هو «أحد» التابوهات في العالم العربي. إنه «أحد»، كما قلت في سؤالك، وليس كل التابوهات التي بينها ما هو أخطر، مثل الدين والجنس.
وأقول لك بصدق إنني عندما أكتب أنسى كل المحظورات الاجتماعية والسياسية، وأصبح وكأنني في حالة مكاشفة مع النفس. وأنا معك في أن التابوهات العربية تستوجب المزيد من الاقتحام والرصد والتحليل، ويبدو أن الكتابة العربية الجديدة قد حققت في السنوات الأخيرة ما لم يكن أحد يتوقعه أو يجرؤ عليه. فلدينا كمٌّ من الروايات والدواوين والقصص القصيرة الثائرة المتمردة المكسرة لكل القيود والأسوار، وهي لا تخص بلدا عربيا واحدا، بل إنها منجز عربي مشترك، ساهم فيه كل المبدعين الثائرين. إنني أقرأ اليوم نصوصا لا تقف أمام محظور أو محرم، بل تمضي بعيدا في هتك المسكوت عنه أو ما كان كذلك.
- لنتوقف قليلا عند هذه التجربة الإبداعية المهمة والمتواصلة، فالملاحظ أن تجربتك القصصية، خاصة، مطبوعة، في بعض قصصها، بطول النفس السردي، وبقصره في قصصك القصيرة الأخرى، عدا مع ما تحققه بعض قصصك من تداخل وتقاطع وامتداد في الأزمنة والفضاءات والقضايا المطروقة فيها، كما في مجموعتك «عيون في الحلم» مثلا.
- ربما هذا دليل على أنني أصبحت أمتلك نفسا طويلا، بمعنى أن لي مخزونا وافرا لا تتسع له القصة القصيرة. هذا بشكل عام، برغم أنني أخرق هذا الرأي عندما أضم قصصا قصيرة جدا لبعض مجموعاتي مثل «السومري» و«امرأة من هنا.. رجل من هناك».
وقد أسعدتني انتباهتك الذكية لقرب عالمين لقصة من زماننا وأخرى مستوحاة من حياة امرئ القيس. في «عيون في الحلم» رحلة من التحزب السياسي إلى الإبعاد إلى السجن. وفي «ثرثرة على مائدة الملك الضليل»، هناك قصتان متداخلتان، حكاية امرئ القيس وحكاية إنسان من زماننا، كان ملتزما سياسيا وآثر مغادرة التزامه وتناسيه في إيقاع حياة يومية عادية جدا، لكن رجلا من ماضيه ذاك لاحقه لإعادته إلى التزامه. قد تكون حكاية هذا الإنسان نقيض حكاية امرئ القيس، وقد عمدت لأن أجعل نهايتيهما متقاطعتين، لكن عالم الشخصيات كلها، سواء في «عيون في الحلم» أو «ثرثرة ....»، هو عالم ليس فيه ذلك التبتل السياسي الذي كانت الأحزاب تطالب به أعضاءها ومناصريها. 
ولعلك ترى – وأنت الناقد – أن كل هذا هو جزء من عالمي القصصي، وهو لا يخصني وحدي، والذي سأمضي به إلى أبعد في سيرتي الذاتية «أية حياة هي؟».
- فضلا عن ذلك، نجد أن مجمل أعمالك الروائية والقصصية قد ارتبطت بالمدينة تحديدا، تلك التي استوحيتها بكثافة وبفنية إبداعية نادرة. فهل لك أن تقربنا من طبيعة العلاقة النوستالجية القائمة بينك وبين نصوصك الإبداعية والمدينة؟
- أقول لك إنني كاتب مديني، والمدينة هي فضائي الروائي الأثير، صحيح أنني أتحدر من قرية اسمها «أبو هاون»، الواقعة على نهر الغراف القادم من دجلة، ليروي أرضا هي من ضمن نفوذ الفرات، وضمن هذا التآخي العجيب بين النهرين اللذين لا يذكر أحدهما إلا ومعه الآخر، حتى أن العراق نفسه سمي بلاد النهرين.
ولدت في الناصرية التي لا تبعد عنها قريتي إلا حوالي أربعين كيلومترا، ولكن الطرق الموحلة التي لم تعرف التبليط وقتذاك، كانت تمنع السيارات الخشبية من الوصول لها شتاء، وفي ذاكرتي أن الأربعين كيلومترا كانت تبدو وكأنها ألف.
هذا يعني أن المدينة أخذتني إليها كليا، وقد أحببت الناصرية، لا لأنها مدينتي فقط، بل ولأنها مدينة استثنائية، كما أن أجمل المغنين خرجوا منها، وظهر من المدينة، أيضا، أدباء وشعراء شعبيون ومسرحيون، ولا أدري سر كل هذا، برغم أن المدينة صغيرة ومعظم سكانها يتحدرون من القرى والأرياف المجاورة؟
إنها مدينة مليئة، وبعد كل الذي كتبته عنها، أحس بأنها لم تستنفد بعد، هل تصدقني إن قلت لك إن لدي روايتين مخطوطتين عن الناصرية، فيهما الحضور الطاغي، سواء للمكان أو للأشخاص، وكما كرست لها سيرتي الذاتية «أية حياة هي؟».
إنني أكتب اليوم عن الناصرية التي كانت، ناصرية الذاكرة، وليست ناصرية اليوم، التي لا أكاد أتذكر ما أراه منها في اللقطات التلفزيونية أو الصور التي يرسلها لي بعض الأصدقاء. كأنني بكتاباتي عن الناصرية التي كانت أعيد تشييد الماضي، وربما يكون ذلك تحت تأثير النوستالجيا كما ورد في سؤالك. فأنا ممتلئ بالحنين لها، وبطولة الفضاء (الناصرية) عندي تقترن بالشخوص، فهم يستكملون المكان، والمكان يستكمل بهم، شخوص كأنهم لا يمكن أن ينبتوا إلا في فضائهم المناسب والوحيد (الناصرية)، ثم هناك بغداد أيضا التي شكلت انبهاري الأول عندما غادرت فضاء الطفولة (الناصرية) للمرة الأولى. ومن بغداد إلى الدنيا والمدن الأخرى البعيدة والقريبة، حتى أن د. خليل أحمد خليل، في موسوعة «أعلام العرب المبدعين»، قد نعتني بسندباد القصة العراقية، وقد مارست سندباديتي بتواصل الرحيل، وما إن تلوح لي سفرة حتى ينبت لي جناحان.
- موازاة مع «الحب»، اهتم الأدب العربي الحديث برصد موضوع «الحرب» في العديد من النصوص الروائية والقصصية والمسرحية، وغيرها. كذلك فعلت أنت في كتاباتك السردية. فهل ما عرفته، ويعرفه العراق من حروب شكل بالنسبة لك حافزا على تمثل «الحرب» في بعض نصوصك السردية؟
 - كتبت قصصا عديدة عن الحرب العراقية الإيرانية، منها «مدارات سوداء»، و«الباب والوصية»، في مجموعتي «السومري»، وكذلك قصة «في نهار عراقي»، من المجموعة نفسها. ولي رواية كبيرة الحجم عن العراق في ظل هذه الحرب، صدرت في تونس عام 2012. وأرجو أن تتمعن في استعمالي لكلمة «ظل»، فأنا لم أر جبهات الحرب إلا بعد انتهائها، وضمن وفد من الأدباء والكتَّاب دعينا لزيارة أرض المعارك في الشمال، وصولا إلى الجبال الفاصلة بين العراق وإيران.
نعم، كنت ضد تلك الحرب، وضد أي حرب، ولكن يبدو أن تلك الحرب كما سماها أحد المحللين «تلد أخرى»، وهذا ما كان.
- هنا قد نتساءل: لماذا الحرب؟ أليست هناك من وسيلة غيرها؛ كيف بدأت الحرب؛ من البادئ، هذا الطرف أو ذاك؛ وهي أسئلة، برغم مشروعيتها، فإنها لا تقدم ولا تؤخر، بالنسبة لمجريات الحرب، ولكنها تهمّ الكاتب الذي يريد أن يوثقها روائيا.
- كنت أرى الحرب في المدن. خلوها من الرجال، الفقر، الخوف، اليافطات السود، التي ترثي شهداءها، وقد أشرت لهذا في قصتي «هناك في تلك المدينة»، من مجموعتي «السومري»، أراها في الشلل الحياتي الكامل، في الجنائز الملفوفة بالعلم العراقي التي تظن عندما تراها أن رجال العراق كلهم قد استشهدوا فيها.
تلك الحرب كنت ضدها، ولكن السؤال الذي لا جواب له: هل كان لا بد منها؟
وأرغب في أن أوضح أكثر أن اهتمامي كبير بمجريات تلك الحرب، لأنها حرب في بيتي... ووقتذاك، كان من الصعب عليك الكتابة ضدها، وكل ما كتب من روايات كانت معها، ولها سلسلة تصدر فيها ضمن منشورات وزارة الثقافة، ولكن لم يبق منها شيء. وقد بدأت في كتابة روايتي «نحيب الرافدين» وقتذاك، والتي تشكل هجائية مرة لتلك الحرب.
- من بين اهتماماتك الإبداعية الأخرى، اهــتــمـــامك بـــالــرسم، ممارسة وتمثلا في نصوصك، فهل لك أن تقربنا من طبيعة هذه العلاقة التي ربطت بينك وبين عوالمك والرسم؟
- ربما كان من الصعب علي أن أفسر وأن أنظِّر لعلاقتي بالرسم، وتأثيره فيَّ رغم أنني حاولت ذلك من قبل، بكتاباتي عن الرسامين وهي كثيرة جدا، وخاصة عندما كنت في العراق، سنوات السبعينيات تحديدا، وعندما كانت جلسات الرسامين والمسرحيين والأدباء مشتركة.وبينهم حوارات مفتوحة كانت بمنزلة النوافذ على التجارب الإبداعية التي يمارسونها. وأذكر لك أيضا أنني كنت وقتذاك عضوا في جمعية الفنانين التشكيليين التي تحظى ببناية لائقة تقام فيها المعارض، وفي الصيف يحلو السهر في حديقتها الفسيحة.
كتبت كثيرا عن عالم الرسامين في قصصي وروايتي «الأنهار»، كانت عن فترة دراستي للرسم في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد. وكان القريبون مني يعرفون أبطال هذه الرواية، أو الأصدقاء الذين استلهمت من حياتهم أبطال روايتي هذه، وإن لم يكن ذلك بشكل متطابق، حتى أن الفنان المرحوم شاكر الطائي عندما توفي بضربة شمس في مدينته الحلة، في ظهيرة عراقية قائظة، وكان يعمل على نصب تمثال في إحدى ساحاتها، رثاه صديق له، بمقال تحت عنوان «مات سعدون الصفار»، وسعدون الصفار هذا هو اسمه في الرواية.
ومثال آخر عن هذه الرواية، أن صديقا آخر من أبطالها، هو صبري طعمة، غادر العراق مع أسرته هاربا، ووصل إلى اليمن، ومن هناك طلب مني أن أكتب شهادة، مفادها أنني من خلال خليل الراضي في الرواية، استلهمت شخصيته كحزبي ومناضل، ليقدمها إلى مكتب الأمم المتحدة، للحصول على لجوء في أحد البلدان الأوربية.لي أيضا قصة قصيرة أحبها، عنوانها «قراءة في تاريخ لوحة»، فيها حرفية الرسام العارف بعمله، من خلال شخصية الصحفي الذي تكلفه جريدته الكتابة عن معرض.
لكن الأهم من هذا كله في تقديري، هو أنني كاتب ذاكرته بصرية، ما أراه أحفظه، ولذا أعنى بتفاصيله، كأنني أعيد رسمه بدءا من خطوطه الهيكلية الأولى، ومن ثم الدخول في التفاصيل ألواناً وخطوطاً ورؤية. وهناك كثير من النقاد قد انتبهوا لهذا مبكراً وقرأوا قصصي وكتاباتي السردية عموما على هذا الأساس، وخاصة أولئك الذين يعرفون بأنني كنت أرسم وأكتب في آن واحد. وكانت لدي  مشاريع يبدو أنني لن أنفذها بأن أكتبها، وعندما أعجز عن المواصلة أستكمل بالرسم، وهكذا. لدي تجارب أولى في هذا النوع من المران - هكذا أسميها - ولكنني لم أعمل على رسم أغلفة كتبي ولا رسومها الداخلية، بل أترك ذلك لرسامين أصدقاء، إذ إنني أرى ذلك بمنزلة قراءة مختلفة لكتاباتي. ومع هذا، قمت برسم الغلاف والتخطيطات الداخلية لقصائد نثرية لي صدرت في كتاب بعنوان «فصول من كتاب الحب التونسي»، وكررت الشيء نفسه مع الطبعة الثالثة لمجموعتي القصصية «الخيول». كما أن روايتي الجديدة «هناك في فج الريح»، التي تدور أحداثها في تونس، حول وجود كوادر قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في تونس، قبيل اتفاق أوسلو، بطلها المحوري رسام عراقي يعمل مصمما بإحدى المجلات الفلسطينية ■