حضارات سادت ثم بادت ... الهكسوس

حضارات سادت ثم بادت ... الهكسوس

لم يكن الهكسوس بداة، بل قوم ضاقت عليهم أوطانهم بعد أن جدبت المياه بأرضهم واختفى النبت فيها، فأصبحت صعيدًا زلقًا. ويبدو أنّ تغيرًا مناخيًا قد طرأ على أرض الجزيرة العربية وجزء من العراق والشام جعل أقوامًا من متقاربي الأصول يرتحلون في طلب الماء، فكان النيل مصدر إغراء لهم. أما أصل كلمة «هكسوس» فتحريف لكلمة «هيقاخسوت» الهيروغليفية بمعنى الحكّام الأجانب. ولعل الإشارات إلى عبادتهم الإله «بعل» قد جعلت الباحثين في التاريخ القديم يرجحون بأنهم مجاميع منظمة من الكنعانيين والآموريين والحُوُريين، لذا نراهم قد توجهوا أولاً إلى أرض الشام، حيث كانت أقوام منهم تسكن هناك. 


قضت رحلة هؤلاء القوم أن تكون على شكل زحف بمجاميع كبيرة، الأمر الذي كان يستوجب وجود كشّافة في مقدمة تلك الجموع تستكشف أرضًا جديرة بالاستقرار. ولا ندري ما هي الأسباب، وإن ظُنَّ أنّ الأرجح أنْ ضاقت بهم الأرض والسُبل فاتجهوا غربًا إلى مصر. لقد قام كشافة الهكسوس بدخول مصر بشكل سري كطلاب علم ومثقفين، تزايدوا تدريجيًا ليصبحوا بعد ذلك قوة سياسية استطاعت أن تهيئ للزحف العسكري القادم من الشرق. وبعد الزحف المنظَم، اتخذ الهكسوس من مدينة أفاريس Avaris عاصمة لهم، وامتد حكمهم ليشمل ما حواليها من المدن شمالاً، بينما اندحرت السلطة الفرعونية لتتخذ من النوبة جنوبا حصنا لها من زحف الهكسوس. وتشير الأدلة التاريخية من نقوش ورسوم على الجدران، إلى أنّ هؤلاء «الهكسوس» قد حكموا مصر من 1674 حتى 1558 ق. م، وهو تاريخ الأسرتين الخامسة عشرة والسادسة عشرة من قوائم أسر حكّام مصر القديمة، حيث وردت أسماء ثلاثة وعشرين ملكاً من أسماء ملوكهم مدونة على الآثار التي تركوها. وعلى الرغم من أنّهم حاولوا جاهدين التظاهر بالعادات والتقاليد الفرعونية، من خلال كتابة أسمائهم بالهيروغليفية وارتداء الملابس والحلي المصرية، فإن أسماء ملوكهم التي دونوها كان بعضها من أصل سامي أو كنعاني.
باستقرار الهكسوس في مصر حصل تغيُّر حضاري واضح، فقد كان للهكسوس دور في تغيير بعض أساليب الحياة المصرية بما أدخلوه إليها من أفكار وتقنيات جديدة. الأمر الذي أدى إلى تطورات في مجالات عديدة، خاصة في استعمال «البرونز» في أدوات الحرب والمعيشة. كما عرف المصريون منهم صناعة واستعمال السيف المقوس والقوس المركبة النشاب. وتشير النقوش الجدارية في بعض معابد مصر العليا التي صورت دخول الغزاة على ظهور الإبل، إلى أنّ الهكسوس ربما استعملوا الإبل في حروبهم وغزوهم لمصر. كما استعمل الهكسوس الخيول لجر عربة حربية لشق صفوف المحاربين المشاة. من هنا نتأكد من أنه لا يمكن لدولة احتلال أخرى، أو يمكن لأمة إخضاع أخرى بالقوة من دون أن يكون لها تفوق عسكري بتقنية حربية جديدة أو غير معروفة للطرف الآخر، فاستعمال الإبل والعربات التي تجرها الخيول، كان كاستعمال الطائرات والمدرعات في العصر الحديث. انظر الرعب والهلع اللذين استوليا على دولة الرومان، وهم المحاربون الأشاوس، عندما نقل هانيبال الفينيقي مجموعة من الفيلة عبر البحر المتوسط من أجل استخدامها حربيا ضد الجيش الروماني. لقد استمر استعمال الفيل كأداة عسكرية لا تُقهر حتى معركة القادسية الشهيرة، فلم ينجُ قبلها شعب من شرّه إلا بمشيئة من الله، كما كان في غزو أبرهة لمكة المكرمة. 
ومع الاستقرار المكاني نشطت الصناعة وتطورت، فقد طوّر الهكسوس صناعة الزجاج ولونوه بألوان جميلة وخلابة، وقاموا بتحسين صناعة المنسوجات. وفي مجال الفنّ، خاصة الموسيقى، ظهرت آلات موسيقية لم يعرفها المصريون آنذاك، كالقيثارة والمزمار والدفوف الصغيرة. كانت حياة المصريين على مر العصور السالفة تعتمد اعتمادًا كليًا على الزراعة، وكانت زراعة القمح من أهمها. ولما كانت الزراعة توفر للناس ومواشيهم وأغنامهم الطعام، فقد كانت العناية بها تفوق ما عداها من مِهَن. لقد عانى الهكسوس فيضان النيل، الذي كان يهلك المحاصيل، وكان حساب فيضان النيل حسابًا عسيرًا على من عاش في مصر قديمًا، فأمسى المصريون وملوكهم قلقين من كابوس الجوع الذي ينتج عن فيضان النيل. وقد أقلقت رؤيا ملك الهكسوس في مصر، إذ رأى في منامه {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} (سورة يوسف 43)، ولم يجد الملك سوى نبي الله يوسف  في تفسير تلك الرؤيا، لوضع وتنفيذ خطة استراتيجية لمواجهة الجوع القادم عندما أفتاهم: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} (سورة يوسف 47-49). عندها طلب سيدنا يوسف  من الملك طلبًا: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (سورة يوسف 55). عيّنَ ملك الهكسوس يوسف  وزيرًا (عزيزًا) له كمشرف على شؤون زراعة الغلال وحفظها وتوزيعها، فقام سيدنا يوسف بالمهمة خير قيام. وفي فترة الجدب التي شملت المناطق المحيطة بمصر، استطاعت مصر تموين تلك المناطق وإنقاذها من هلاك الجوع. بدأت هجرة بني إسرائيل من البدو لتستوطن مصر مع قدوم سيدنا يعقوب  وعشيرته إلى مصر، حيث حصلوا على مكاسب مادية واجتماعية كثيرة. 
وعندما بدأت قوة الهكسوس العسكرية بالضعف، استطاع المصريون دحرهم وإخراجهم من مصر، راجعين إلى مواطنهم الأصلية. وقد أثر ذلك سلبا في بني إسرائيل الذين عوقبوا لكونهم حلفاء للهكسوس، فسُحِبَت منهم أراضيهم وصودرت أموالهم، وعاشوا في ذلٍّ وهوان حتى بعث الله سيدنا موسى  رسولاً، فأنقـــذهــم من بطــــش فــــرعون ■

 

أحمس وحروبه ضد الهكسوس