الـمـــرأة في الرحلة السفارية المغربية خلال القرنين 18و19
قدَّمت سلسلة «ارتياد الآفاق» للمكتبة العربية زادًا من أدب الرحلة، يمكن أن يعوَّل عليه في إعادة قراءة تاريخنا، وليس أدل على تنوع الموضوعات في هذا الأدب أكثر من هذا الكتاب الذي بين أيدينا؛ «المرأة في الرحلة السفارية المغربية خلال القرنين 18و19»، الذي فازت به باحثته مليكة نجيب بجائزة الأدب الجغرافي لابن بطوطة، في فرعه، للعام 2013.
جاء في تقرير لجنة التحكيم أن المؤلَّف عبارة عن دراسة لمظاهر حضور المرأة، تمثيلا وتأريخًا، كما تنعكس في كتابات الرحالة وفي متون الرحلات السفارية، خصوصا تلك التي توجهت إلى أوربا بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وقد ركزت الباحثة، أساسا، على ست منها، هي: «نتيجة الاجتهاد، في المهادنة والجهاد، رحلة الغزال وسفراته إلى الأندلس» سنة 1766م إلى ملك إسبانيا، «الإكسير في فكاك الأسير»، لمحمد بن عثمان المكناسي، سنة 1779 إلى 1780، البدر السافر لهداية المسافر إلى فكاك الأسارى من يد العدو الكافر» لمحمد بن عثمان المكناسي، ت1213هـ، 1799م، «صدفة اللقاء مع الجديد، رحلة السفار إلى فرنسا، 1845 - 1846»، «تحفة الملك العزيز بمملكة باريز»، لإدريس بن الوزير سيدي محمد بن إدريس العمراوي، 1960، لأبي الجمال محمد الطاهر بن عبدالرحمن الفارسي. واستأنست برحلات أخرى سابقة مثل رحلة أفورقاي «ناصرالدين على القوم الكافرين»، وغيرها لاحقة وهي «الرحلة الأوربية» للحجوي الذي زار فرنسا مطلع القرن العشرين. وبينت اللجنة كيف أن التحليل الذي قامت به الباحثة لمختلف التمثلات كشف أنها تشكل بنية ذهنية متحجرة تأتي في تجليات وتمظهرات متنوعة تلتقي في تكريس دونية المرأة ومحاصرتها بين دهاليز التبعية والدونية والتهميش. وخلصت إلى أن اللقاء الإسلامي مع الحداثة، كما ينعكس في نصوص الرحالة الذين درستهم، اعتمد على منطق الانفصال والتقابل وليس على التكامل، فهو ركز على الفقه التقليدي والشريعة، ما خلق نوعا من التعارض، فالرحالة لم يكونوا ليتصوروا بالقيمة المضافة لإدماج النساء وإشراكهن في مسلسل التحديث والتغيير، وعندما خالطوا نساء الآخر المغاير، عبَّر الرحالة عن دهشتهم للاختلاط والتواصل بين الجنسين، وعابوا غلبة النساء على الرجال، وانبهروا بجمال النساء وسفورهن ونبوغهن في الفنون والتجارة والتفاوض والوجود في الفضاء الخارجي، وحمدوا الله على أن نساءهم مختلفات، محجبات داخل البيوت.
واستنادا إلى جملة من المعطيات العلمية، رأت لجنة التحكيم أن دراستها تفوقت على الدراسات الأخرى المشاركة في المسابقة وتستحق عن جدارة جائزة ابن بطوطة للدراسات حول أدب الرحلة للعام 2013 - 2014.
تناولت الكاتبة متنا رحليًا سفاريا لرحالة مغاربة، فقهاء رحلوا إلى أوربا خلال القرنين 18و19، في إطار دبلوماسية محكومة بعوامل ميزت العلاقة بين دار الأنا/دار الإسلام ودار الآخر/دار الكُفر. وقد انطلقت أول رحلة وفق مبادرة فرنسية خلال مفاوضات معاهدة للامغنية، بعد الهزائم التي تعرَّض لها المغرب, وفضحت ضعفه وتمكُّن الفساد من نظامه وتخلخل بنيانه، مما اضطره إلى الخروج من تقوقعه والانصياع للآخر الذي أبان عن تنظيم وقوة وتمكن.
وتذكر الباحثة أن جريدة المدرب الفرنسية كتبت بمناسبة إرسال السفير إلى فرنسا أنه «لم تبق الخلافات الدينية بين الشعوب تقف حجر عثرة في سبيل التقارب بينها، وإن نفس أولئك المسلمين الذين كانوا لا يقبلون من الكفار إلا الخضوع أو السيف، صرنا لا نسمع منهم اليوم إلا ألفاظ الصداقة والتفاهم والانسجام، وباختصار فإن إمبراطور المغرب يكتب أنه يتمنى أن لفظة الاسترقاق البغيضة تزول من ذاكرة البشر».
وقد ساند بعض القادة المخزنيين مسألة إحداث «السفارة»، مثل بوسلهام بن علي أزطوط، نائب السلطان وممثله أمام الهيئة الدبلوماسية، الذي عبَّر عن رأيه بقوله: «إن التحالف مع فرنسا شيء مناسب لنا، وهذه الفكرة ليست مقبولة بعد بشكل تام من طرف الإمبراطور.. غير أنها بدأت تدور في خلده، وسأعمل على رعايتها بكل ما أملكه من وسائل».
السبب الداعي إلى الرحلة
تمت رحلتا الغزال والمكناسي نهاية القرن 18، وفرنسا تعيش مخاضًا سيسفر عن ثورتها سنة 1789، وكان الغرض من الرحلتين هو إبرام معاهدات الصلح وافتكاك الأسرى، والعناوين كعتبة للنصوص دالة على ذلك.
وكما سبقت الإشارة إلى ذلك، فبعض المصادر التاريخية تروي أن السلطان محمد بن عبدالله سلك سياسة خارجية تعطي الأولوية للعلاقات السياسية والتجارية بين المغرب والبلاد الأوربية ومع الخلافة العثمانية، وقد اهتم السلطان بتقوية أسطول بحري، فاختط لذلك مدينة الصويرة حتى يتوسع النشاط البحري وكذلك مدينة العرائش، ويذكر السلاوي في «الاستقصاء»: «لم تزل قراصنة السلطان عبدالله تغزو الشواطئ الأوربية وتعيث فسادًا فيها فتسبي وتأسر وتغنم حتى ضاقت الدول الأوربية ذرعًا بهذا النشاط»، وأمام هذا الوضع لجأت بعض الدول مضطرة إلى إبرام معاهدات ود وصلح وتبادل الخيرات، ومن هذه الدول الدنمارك سنة 1757 والسويد سنة 1763 وإنجلترا سنة 1765.
وتكتب مليكة نجيب استهلالا أنه في إطار مشروع سيدي محمد بن عبدالله (1757 - 1790) الرامي إلى تحديث المغرب وحل مشكلاته إزاء الأزمات والأخطار المتمثلة في نوايا أوربا الاستعمارية، نُظمت البعثات والرحلات السفارية مثل رحلة الصفار إلى فرنسا، ورحلة أبي الجمال الطاهر الفاسي وابن إدريس والغسال إلى إنجلترا.. إلخ.
وقد نسجت تلك الرحلات نسقا من التمثلات والتصورات الفكرية لواقع المجتمع المغربي وللواقع الأوربي، ولما يجب أن يكون عليه المغرب إذا أراد تجاوز وضعيته.
كما تضمنت نصوص الرحلات آراء ومواقف عن المرأة في أوربا في ما يتعلق بكل تجليات الحياة اليومية من سفور، وعدم الاعتكاف داخل الشأن الخاص وعلاقتها واختلاطها بالرجل ومقاسمتها إياه بالتمتع بالفضاءات العامة ومزاولتها للتجارة وممارستها للفنون ومشاركتها في إدارة الشأن العام.
وتتعدد تساؤلات المؤلفة: هل مكنت الرحلة والسفر عند الآخر، سواء الغربي أو المسلم، الرحالة المغربي من التأثر وتكوين قناعة عن تمثلاته وتصوراته عن المرأة، وتبني دعوة للتغيير ترسم أفقا مغايرا لما هو كائن؟
هل امتلك الرحالة تصورا أو دعوة لتناول وضعية المرأة المغربية ضمن القضايا الراهنة لإسراتيتجية الإصلاح والتحديث؟
ثم ما مدى تأثر الرحالة بمظاهر تقدم المرأة الأوربية مقارنة بالمرأة المغربية؟
ممارسات نسائية لدى الآخر
تتنقل سطور المقتبسات في الرحلة خلال الفترة المشار إليها لتوثق صورة المرأة لدى الآخر في عيون الرحالة: «من أعجب ما رأيت عندهم بنية ما ظننت في عمرها تسعة أعوام، وقد أحيت الليل كله بالغناء بين أهل الموسيقى، ثم أخذت في الرقص بطريقة غير معهودة عندهم، ثم باشرت عود المطرب بيدها، ولما قضت منه الغرض، أسكتت المعلمين، ثم قامت على قدميها خاطبة في القوم، والكل في غاية الإنصات لها، وجعلت تارة تدمع عينها، وتارة تضرب بيدها على صدرها، وتارة تنقبض وتارة تنبسط، ومما يستغرب منه أيضا أنها تسرد ما تمليه على القوم بسرعة، ولم يصحبها توقف ولا تلجلج. واستمرت على تلك الحالة ما يقرب من ساعة. فكشف الغيب أن ما كانت تحدث به، هو محفوظ من كتاب عندهم كالعنترية وهم يسمونه بالكوميديا ....».
ويتضح للباحثة أن الرحالة انطلقوا من مرجعية دينية تحرِّم سفور النساء وتبرجهن والخلوة والاختلاط بالرجال في الفضاء الخارجي، وللإشارة تعتقد أنه اختلاط مضبوط، فقد نقل لنا الرحالة نفسه صاحب ذلك النص حرص الآخر على عدم السماح بالاختلاط بين الأطفال في الصغر «ويعزل الذكور على حدة والإناث على حدة، وكلهم أصغر من نحو 4 سنين، فإذا بلغوا ست سنين لم يبق للإناث اجتماع الذكور».
وانتبه الرحالة إلى ممارسة النساء للتجارة والمهن، فهم تركوا النساء في المغرب محجبات، مستقرات في الفضاء الخاص، وهي عبارة عن بيوت ضيقة نوافذها غير مشرعة على الشوارع، وغرف الإناث مقصية عن غرف الضيوف، والنساء مطالبات بطاعة الآباء والأزواج والإخوة، ومحرومات من التردد على الفضاء الخارجي. واعتبر الرحالة أن الآخر ضعيف أمام النساء مغلوب على أمره، «ومبالغتهم في اتباع مرادهن أشهر من أن تذكر».
وأهم آلية يستخدمها الرحالة هي الوصف، فعبر هذه الآلية يهدف السارد من خلال سرده الرحلي إلى جعل المتلقي يشاهد ويعرف، ولكن من خلال اعتقاد السارد أنه يقوم بنسخ العالم المرتحل إليه، بل إن همه الوحيد ومبتغاه، هو حضور أو غياب الآثار القوية، بل والوقع الحاسم للعرض وانتظام هذا الحضور أو الغياب حول «أنني شاهدت».
يقول صاحب «نتيجة الاجتهاد في المهادنة والجهاد»: «غير أنه لم يكن عن نقل وإنما هو مشاهد بالأبصار».
المشاهدة بالأبصار تأكيد بدئي، ومن هنا فأثر الغرابة الذي يحدثه العالم المرتحل إليه والذي ينتجه السرد، تختلف درجته على السامع وفق صيغة السرد، هل انبنى على السمع أم عبر العين؟
وهكذا تلاحظ الباحثة مليكة نجيب أن ما يقوي الاعتقاد عند المتلقي بأن ما ينقل إليه حقيقة، ينبني أساسا على قطبين، بينهما يمتد الخطاب الرحلي، هما العين والأذن: عين الرحالة وأذن القارئ، ولكن كذلك أذن الرحالة وعين القارئ، حيث المقصد هو أن يتحول المشاهد بعين الرحالة إلى مرئي بعين القارئ، وخاصة أن الرحالة يقف على عجائب ذلك العالم وغرائبه مما لا يصدقه عقل كما يقول المكناسي: «وهذا من العجب المبين الذي لا يقبله العقل إلا بالمشاهدة».
وتقول الباحثة إن الإحساس العميق لفرد ما بأنه ينتمي إلى عدد من الآفاق والحدود الاجتماعية والثقافية التي يدركها مثل: أصوله، فروعه، عشيرته، قبيلته يسطر دائرة هويته، وكل ما هو خارجها يصبح هناك، الآخر هو ذلك المغاير بطريقته في العيش والتفكير والسلوك والإحساس وبمظاهره ومميزاته الجسدية، وبلغته، وبدينه، وبطقوس الفرح والحزن، فالآخر هو ذلك الذي لا يدخل في أي أفق من الآفاق الاجتماعية والثقافية الحاضرة في وعي الفرد والجماعة. والوعي بالذات لا يتأتى في الغالب إلا عن طريق الاحتكاك بالآخر، فالإنسان يكتشف نفسه وهويته عندما يقف أمام شخص مختلف، ويجد نفسه في وسط لا يقاسمه القيم الثقافية نفسها، فيصبح ذلك الوسط مرآة للشخص الطارئ، يرى فيه صورته بملامح وألوان لم يكن يعيرها اهتماما من قبل، لذا يقال إن السفر «يكوّن الشخصية، ليس فقط بالمعنى المربوط، عندما يكتسب المسافر تجارب جديدة، ولكن بمعنى الوعي المتزايد بالذات بالمقارنة مع الآخر».
ترى مليكة نجيب أن العرب المسلمين وجدوا صعوبة في الفكر اليوناني، خاصة في الانتقال من مجال التحديد اللغوي لضمير الغائب «هو»، إلى المستوى الوجودي، أي القصد بأن شيئا ما موجود، وهو ما لم يعرفه العرب في لغتهم منذ أول نشأتها، يعني الانتقال من ضمير الغائب «هو» إلى المصطلح الوجودي «هو هو»، ومن هنا مصطلح هوية الذي لم يصغ عند القدماء إلا اضطرارا، وذلك للإشارة إلى «نحن»، وسيعمل الفكر الغربي لاحقا على الجمع بين مستويين اثنين من مكوناته: إنتاج ذاته وعناصر هويته من جهة، ونقد هذه الذات وتحولات تلك الهوية من جهة ثانية.
وتمثلت الإشكالية بين الأنا المنبهر أمام الآخر القوي، الأنا المرتكزة على ذاتها، والمعتقدة أنها تمثل الخير المطلق، والدين القويم، والسباقة لبناء أمجاد حضارية غير مسبوقة، وكون الآخر يفتقر لكل فضل لأنه حقق التطور العسكري والاقتصادي والتقني والتكنولوجي، وطوّرت الخدمات، ورفع من المستوى المعيشي لشعوبه.
مظاهر حضور المرأة في المتن الرحلي
ويمكن حصر أهم التيمات المتعلقة بالنساء بوجه من الوجوه، والتي وردت في المتن المدروس في ما يلي:
1- ظاهرة وجود النساء بالفضاء الخارجي والاختلاط مع الرجال.
... «واجتمع من الخلق ما ضاقت عنهم الأرض، خاصة وعامة، مجتمعة من المدن والقرى القريبة من المدينة، قالص وغيرها: نساء ورجالاً وصبيانًا، كأنهم الجراد المنتشر».
«والموضع الذي نحن فيه يتردد إلينا النساء فيجلسن بين أيدينا، بنا هنيئات، ثم يذهبن ويأتي غيرهن، فتحصل من هذا استيعابنا بالنظر لنسوة المدينة وبناتهن، كما لم يفت أحدًا منهن رؤيتنا».. «وما شعرنا إلا والنسوة يتزاحمن على المحل الذي نحن به، والكل يطلب رؤيتنا.. إلى أن تفاقم الحجاج في ما بينهن!».
«ونساؤهم ملازمات للشراجيب يسلمن على الذاهب والآيب، ورجالهن في غاية الأدب معهن».
«وللنسوة رغبة وغبطة في الحديث والمنادمة مع غير أزواجهن في الجماعة والخلوة، ولا حجر عليهن في ذهابهن حيث شئن. وقد يأتي نصراني داره فيجد امرأته أو ابنته أو أخته مع نصراني غيره أجنبي يشربون وبعضهم متكئ على بعض، فينشرح لذلك، ويرد الجميل للنصراني المنادم لزوجته أو غيرها من محارمه، على ما قيل. والذي يؤيد ذلك ما شاهدناه من أعيانهم حيث حللنا بلادهم من استئذانهم لدخول نسائهم علينا بقصد السلام. فذلك عندهم من الأمر الأكيد المحتم، فلم يسعنا إلا الإيجاب، فدخل علينا عدة منهن، وجلسن على الشليات».
«وقد عرفت عوائدهم وقوانينهم لما أقمنا بمدريد، ومنها أنه بعد صلاة العصر يركب الأعيان كلهم في الأكداش نساء ورجالاً ويخرجون إلى الباصيار في موضع متسع مستطيل مغروس في جانبه الأشجار مقصود منها الظل».
«ذلك أن لهؤلاء الأكابر دارا يجتمعون فيها نساء ورجالا كل ليلة بقصد التآنس والمحادثة».
«وأما العفيفات منهن، فإن من دخل بيت زوجها وهي هنالك، فإنه لا يعد من الظرفاء والأدباء إلا إذا بدأها بالتحية وخاطبها خطاب مباششة وملاطفة في عفة، وبذلك ينشط زوجها ويزداد عنده فاعل ذلك رفعة ومحبة».
«وأما أشكال دورهم فإنها مخالفة لشكلنا، فإن دُورهم ليست بالساحة والفوقي والسفلي والبيوت والغرف كما عندنا، فإنهم يتركون ساحة الدار خارجة عنها مرفقا لها لوقوف نحو الكراريص والدواب.. وتلك البيوت.. وكلها لها طاقات كبارا جدا منها تضيء، تشرف على الأسواق والشوارع».
«جلسات مخضرة بالنباتات عليها كراسي لمن أراد أن يجلس إن تعب من المشي، وغالب من يجلس النساء أو الشيوخ الكبار، وبه أحواض كبيرة جدًا من الماء، وبه أيضا قهاوي».
«قيل إن جملة من حضر هذه الليلة من الرجال والنساء أربعة آلاف، النساء منهن خمس عشرة ماية. وكانت صيلان هذه الدار على كثرتها واتساعها مشحونة بالناس في غاية التزاحم والتضام».
«وللنساء موضع مخصوص عليه نساء عجائز يقمن بأمورهن».
«وقد أرونا من ذلك مخازن كثيرة مملوءة منه ويخرجون منه شيئًا فشيئًا إلى نساء عجائز يميزون منه الجيد والوسط والرديء».
و«أهل مدينة شقوبية القديمة» أهل تقشف، والغالب عليهم أنهم أهل حرف ونساؤهم يستعملن الغزل كثيرا».
«ولهن صنائع فائقات من الرقم والنسج، وصنعة النوار المستعمل من الكاغد والكتان الذي لا يشك فيه أنه نوار، وأما صناعة الحلوي على اختلاف الأنواع والألوان فشيء انفردن به، فقد بعثن إلينا كم من مرة من صنائعهن على سبيل الإهداء والإكرام».
«وهذه الدار عينها الطاغية لليتامى والأرامل الذين ليس عندهم من يكفلهم، وعيَّن أقواما يبحثون عنهم في الأزقة ويأتون بهم إلى هذه الدار، وبها جميع الحرف والصنائع».
«دار كبيرة معينة للصبيات اليتيمات المهملات، وتلقانا كبيرها وفرح بنا، ثم أتت امرأة مسنة مقدمة على البنات اللواتي بالدار المذكورة... وأرتنا المعلمات اللواتي يعلمن الصبيات المذكورات الصنائع من الغزل والنسيج والرقم والطبخ وغير ذلك من حرف النساء، وقالت المقدمة إن الطاغية ينفق عليهن من عنده ويعطيهن الكسوة كل سنة ويعطي المعلمات أجرة تعليمهن، ويمكث البنات هنالك إلى أن يتزوجن فلا تخرج من الدار المذكورة إلا وقد تعلمت صنعة من الصنائع».
«في مرسيليا، وبها كثير من ديار الصنائع التي يسمونها الفبريكات، حتى أن جل حيطانها سود من دخان ديار الصنائع، وغالب من يخدم في هذه الصنائع بهذه المدينة وغيرها النساء، فعليهن العمدة في ذلك».
«ولأهل باريز حرص تام على التكسب, رجالهم ونساؤهم لا يتقاعدون ولا يتكاسلون، والنساء مثل الرجال في ذلك أو أكثر. ولا تجد أحدًا منهم خاليًا عن شغل، وإن كان عندهم من أنواع البطالات والفرجات العجب العجاب، لكن ذلك لا يلهيهم عن أشغالهم، فيعطون لكل وقت ما يستحقه».
«وعلم التجارة عندهم من جملة العلوم التي تدرس وتدوّن، ولها مكاتب ومدارس. وللنساء مهارة في التجارة كالرجال أو أكثر، غالب من يعمر الحوانيت النساء».
وفي خلاصات الباحثة نقاط توجز وتضيء ما ذهبت إليه وعثرت عليه، فهي تشير إلى عجز النخبة المثقفة المغربية خلال القرنين 18و19، وافتقارها لضبط سبل الانفتاح والتمكن من آليات التقدم. وأن هناك إبرازًا لوهم إرادة «الحقيقة» عند الرحالة عبر اعتماده على العين والأذن. كما أن هناك حيلولة السياق التاريخي للرحالة و«رأسمالهم» دون النفوذ إلى بنيات المجتمع المرحول إليه. وأرجعت الباحثة تغييب الحديث عن أحوال المرأة عند الآخر في نصوص الرحالة، حتى المتأخرة منها، كنوع من التحصين النفسي لأهم معقل يبسط المسلم صولته عليه وهو الحريم. ولاحظت، كذلك، انعدام حركات مطالبة بالإصلاح لدى بنيات المجتمع المغربي، ولاسيما ما يخص النساء، فالمرأة خانعة وراضية، ولم يكن الرحالة ليتزعم الدعوة لإصلاح وضعيتها. وفي البحث ما نراه من عالمية لحقوق الإنسان وخصوصيات الثقافة، في مقابل تحجّر وتصلّب الأنوية المشكلة لتمثلات الرحالة عن المرأة. وهناك أيضا إشارة إلى وتأكيد على دور الآخر في تكريس تخلُّف الأنا، إيمانا بدور العنصر البشري برجاله ونسائه في تحريك عجلة كل تنمية وتحديث وإصلاح .