«لايبْنتز» طَريدة «فولتير»

«لايبْنتز»  طَريدة «فولتير»

من الروايات العالمية التي وُصفت بأنها «أغرب من الخيال»، وبالتالي «أقرب إلى الحقيقة» – كما ذكر ذلك أحد الكتّاب ذات مقالة – رواية كانديد Candide التي نُشرت أولاً في جنيف عام 1759 باللغة الفرنسية؛ اللغة الأم لمؤلفها الفيلسوف الفرنسي فولتير Voltaire (1694 – 1778).

 وقد تم الاعتراف بها باعتبارها من تراثات أو كلاسيكيات الأدب العالمي. وقد تُرجمت هذه الرواية أو «النّوفيلاّ Novella» (1) إلى اللغة الإنجليزية في العام نفسه الذي تم فيه نشر الطبعة الفرنسية. كذلك ظهرت ترجمة باللغة الإيطالية أيضاً عام 1759، وذلك قبل أن تُتَرجم لاحقاً إلى جميع اللغات الحية حول العالم. ولا يفوتني أن رواية «كانديد» عندما نشرت لأول مرة أثارت دوياً هائلاً، فقد حُظرت وقُرصنت، وكانت حديث أوربا كافة. من هنا، فقد طُبعت، مثلاً لا حصراً، نحو 17 طبعة معروفة باللغة الإنجليزية، منذ العام الأول فقط. وفي هذا الصدد يمكن أن أستحضر كخزْعة ما ذكره الناقد الأدبي الأمريكي بورتون راسكو B. Rascoe (1892 – 1957) الذي وصف الرواية بقوله: «إن قصة كانديد لفولتير من أعظم القصص رواجاً عجيباً في عالم النشر، فلا يكاد يمضي عام حتى تظهر طبعة فاخرة أو أكثر من طبعة، من تلك الآيةِ المَاجنةِ المُنعشةِ الإنسانية، ذات السخرية اللذيذة» (2).
و«كانديد»، على ما مرّ القول، هي من تأليف فولتير الاسم المستعار لـ فرانسوا ماري أرويه Francois – Marie Arouet الذي لم يكن فيلسوفاً عادياً أو ناقداً أو أديباً أو شاعراً أو كاتباً أو مجادلاً فحسب، وإنما انْعِطافة في تاريخ الفكر الأوربي/العالمي كله، فالقضايا التي طرحها، والقذائف التي أطلقها في سماء الفكر الإنساني بدءاً من قضية التسامح مروراً بنقد الكنيسة واللاهوت إلى رفض السلطة القديمة، تشهد له بهذه الريادة. 
لقد وجد فولتير في «تقنية» الرواية طريقة مُثْلى لإيصال أفكاره وآرائه الفلسفية للسواد الأعظم من الناس، إذ يبدو أن الخيال الملتبس بالحقيقة، أو الحقيقة الملتبسة بالخيال أكثر إثارة من بعض النظريات/الأنساق الفلسفية أو العلمية البحتة. فألفى فولتير في «كانديد» ضَالّة/وسيلة لمواصلة طرح أفكار عصر «التنوير»، بل وجد في هذه الطريقة – بالنَّظر إلى النجاح الباهر الذي حقَّقته الرواية لاحقاً – فرصة للاقتراب من جميع الباحثين والكتّاب، بدلاً من التوسّل إلى النخبة المتعلِّمة والثَّرية فقط.

أوقات عصيبة لكنها سعيدة! 
عندما نَمَت بذور «كانديد» في عقل فولتير، أراد أن يلخِّص مأساة الإنسان وأن يضعها أمامنا بكلّ أهوالها. إن تَكِأة الرواية تدور حول الحياة غير المُنصفة تماماً، وأنها سوف تستمر في إعطاء الجميع جُرعات من الألم، والكثير من الأوقات العَصِيبَة، على الرغم من اعتقاد الناس بأن كل شيء يسير نحو الأفضل! 
لقد فجَّر الزلزال الذي وقع في مدينة لشبونة البرتغالية (يسمى زلزال لشبونة الكبير) في الأول من نوفمبر سنة 1755 الكثير من النقاشات بين الفلاسفة والمفكرين واللاهوتيين في القرن الثامن عشر. وقد أشار فولتير بدوره إلى الطابع الاعتباطي/التَّعسّفي – وفق منظوره – الذي لقي فيه الناس حتفهم أو تابعوا في ظلّه عيشهم. لقد جعل زلزال لشبونة، وهو من أكثر الزلازل فتكاً وتدميراً في التاريخ آنذاك، كثيراً من الناس يتساءلون عن سبب وجود «الشر» في حياتهم. فقد صرع الزلزال الفقراء كما قتل الأغنياء، وذبح الأطفال الأبرياء مثلما أزهق أرواح الكبار المذنبين. فقد كان للزلزال وَقْع كافٍ لإحداث تغيير ليس في الطبيعة فقط، وإنما في الفلسفة والثقافة الأوربيتين. وقد عبَّر الباحث البولندي تيودور بسترمان T. Besterman (1904 – 1976) عن المغزى الخاص للزلزال بالنسبة لذلك العصر بقوله: «لقد كان زلزال لشبونة بمنزلة صاعقة ضربت العالم الغربي بأكمله، وكان له الأثر الدائم في فلسفة كل إنسان مفكِّر» (3). وكما أن الدمار المروِّع لمدينة غورنيكا Guernica في إقليم الباسك سنة 1937 أوحت للفنان الإسباني بابلو بيكاسو P. Picasso (1881 – 1973) بجداريته الشهيرة لاحقاً، فإن زلزال لشبونة المأساوي شكَّل أساس رواية «كانديد». 
تحكي الرواية مغامرات «كانديد»، الشاب الذي أحب فتاة من طبقة اجتماعية/اقتصادية أعلى من الطبقة التي ينتمي إليها بكثير، ما أدى إلى إحباط حبهما، ثم كيف عاش كانديد عبر سلسلة طويلة من الأحداث المأساوية بعبثيّة. هذا، وتقوم الرواية على عدد من الـ «موتيفات motifs» الرئيسة، منها: التفاؤل، حرية الإرادة، الشّر، الحقيقة، السلطة الدينية... وفي الرواية أيضاً يُصارع فولتير جملة من «الصُّور» المتكررة في حياتنا، كالحرب، التعصّب، الخرافة والجهل، الاستبداد، القسوة والظلم، الشرور، وانتشارها في جميع أنحاء العالم. علماً بأن الرواية تتألَّف من ثلاثين فصلاً قصيراً نسبياً، ميَّزتها إمكانات فولتير اللغوية فيها بأنها مختصرة وحادّة كأنها لَدغة، وبالتالي فإن السَّرد في الرواية يتحرَّك بسرعة البَرْق! 

ليس بالإمكان...! 
إن وَجَاهة وحَدَاثة رواية كانديد تتأتّى من أن أطروحة الفيلسوف الألماني غوتفريد لايبنتز 
G.Leibniz (1646 – 1716) حول مسألة «العناية الإلهية» أو الـ «ثيوديسيا» لاتزال مقبولة على نطاق واسع بين الناس حتى يومنا الراهن. إذ يعتقد كثير من البشر – على الرغم من قَاطِبَةِ ما يواجهونه ويحملونه في داخلهم – أن كل شيء في حياتهم يسير نحو الأفضل، وأن ليس بالإمكان أحسن مما كان!  
والآن، عندما يحدث شيء سيئ في حياتنا، هل هو حقاً أفضل للجميع؟ إبان حياة فولتير كان هناك إطار فلسفي للعقل يقوم في أبرز روافده على أساس فلسفة لايبنتز، الذي أعلن أنه مهما حدث من شيء في الحياة فهو للأفضل، وأن هذا العالم الذي نعيش فيه هو أفضل العوالم الممكنة، لأن «الله» تعالى خَير مطلق، حتى مع وقوع بعض الكوارث والمظالم والعبثية في دنيانا. غير أن غضباً عارماً نما عند فولتير حينما شاهد الناس يستجيبون لهذه المآسي عبر هذا «التفاؤل الأعمى» بأن كل ما يحصل هو أفضل للجميع!
لقد حارب فولتير واستفظع في روايته «الكَسَل الفكري» الذي كرَّسته أطروحة لايبنتز «المتفائلة» بالنسبة له. فقد تطرَّق الفيلسوف الفرنسي إلى المآسي والمصاعب والبؤس الذي ينتج عن عدم التحرّك ضد الشرور في العالم مثل: الحروب، المجاعات، القتل، الزلازل، الفيضانات الكاسحة، البراكين، الأمراض، مستقبل ملايين البشر المحتّم بالشقاء، فقدان كثير من الشباب حياتهم من دون داع، الأطفال الأيتام والمشرّدين، الشعور المرير بالحزن عند فقدان عزيز ورحيله عن عالمنا... إلخ. بعبارة أخرى، كيف يمكن لنا، مثلاً، أن نشرح لصيّاد إندونيسي فقير لماذا حَصَد إعصار تسونامي عائلته ودمَّر قريته؟ أو كيف يمكن أن نفسِّر لقرويّ بائس يعيش في دارفور لماذا تطارده الميليشيات المسلحة والقنابل القاتلة؟ 
من الضروري الإشارة إلى أن فولتير لم يكن ضد التفسير «التفاؤلي» للفيلسوف الألماني لايبنتز، أو ضد مفهوم «خَيْرية»/عدالة الإله، فهو كما نعلم لم يكن مُلحداً – كما يُشاع عنه – وإنما «رُبوبياً Deism»؛ يؤمن بوجود خالق عظيم يمكن الوصول إليه باستخدام العقل ومراقبة العالم من دون الحاجة إلى دين، غير أنه – في الوقت نفسه – كان بالضدّ من استغلال هذا التفسير بصورة سياسية/لاهوتية بالدرجة الأولى لكي يَقبل الناس بكل غائلة تصيبهم، وذلك كله تحت ذريعة أنه «ليس في الإمكان أبدع مما كان في العوالم الممكنة Everything is for the best in the best of all possible worlds» وفق نص تعبير لايبنتز الشهير (4). 
جدير بالذكر أن جذور أطروحة لايبنتز «التفاؤلية» كما عَرَضَها في كتابه «مقالات في عَدْل الإله» بصورة عامة يمكن أن نرصدها في قصيدة «مقالة في الإنسان Essay on Man» للشاعر الإنجليزي ألكسندر بوب A. Pope (1688 – 1744) الذي فاه بقوله الشهير: «إن كلَّ ما يكون، يكون حَسَنَا»، بالإضافة إلى طائفة من الكتّاب الأقل شأناً. كذلك يمكن أن نعثر على ملامح أخـــــرى سالفـــة من المسألة في بعض كتابات الفيلسوفين أفلوطين Plotinus (204 – 270) وبروكلوس Proclus (412 – 485) (5).
لقد أراد فولتير من «مُطاردته» لايبنتز أن ينتقد بعض «الأيديولوجيات» في عصره – والتي لاتزال أطروحات بعضها قائمة حتى اليوم – ورفع الغطاء عن أن «تفاؤلها» لم يكن متطابقاً مع الواقع. إذ قد يكون بعض هذه الآراء معقولاً نظرياً، ولكن التطبيق العملي لها يثبت مدى تهافتها وإخفاقها.


موقفا الخلْق والوجود 
عند ذلك، فقد آمن صاحب «رسالة في التسامح» و«رسائل فلسفية» بفكرتين أساسيتين استمد منهما مواقفه/نتائجه ضد الكنيسة واللاهوت الديني بشكل عام، هما: «من جانب، لدينا حق وعلينا واجب تَحْسين الخَلْق عبر إكْمَال الإرادة الإلهية بالعمل العقلاني. ومن جانب آخر، يبدو أن الشَّر بطريقة ما أمراً لا يُقهر، وبالتالي لا نستطيع تأسيس آمالنا (...) على فكرة أَفْضَل العوالم» (6). إن فولتير بذلك يَشْتَبك مع الموقفين الرائجين في عصره، الموقف «الديني» الذي يرفع شعار «العالم مَخْلوق». وعلى العكس منه، الموقف «المادي» الذي يتمحور شعاره الأساسي حول أن «العالم مَوْجود». علماً بأن اللفظتين (مَخْلوق) و(مَوجود) ليس بينهما فرق كبير مادام الطرفان يضعان ذلك في صيغة الماضي. غير أن فولتير يطرح خياراً مغايراً – لم نفكِّر فيه ربما – وهو أن «العالم يَنْخَلق» أو أن «العالم يَنْوَجد»، وهذه صيغة مضارع تنطبق على الماضي والحاضر والمستقبل، كما فاه بذلك المفكر السوري إلياس مرقص. 
لقد حافظت «كانديد» – بعد مرور مئات الأعوام على نَشرها – على تلك الرؤى الحيّة التي لاتزال نابضة/راهنة مثلما كانت آنذاك. فأهمية الرواية راهناً تتهيَّأ من أن العالم الذي كُتبت فيه يُشبه عصرنا اليوم. ذلك أن العالم الذي نعيش فيه تنتابه كل تلك العِلل التي كانت في عصر فولتير، وتَخْتَرمه كل تلك الأسباب التي تؤدِّي إلى الحروب والعداوات، الظلم والعنف.
إن سيرة فولتير عبر «كانديد» تصوِّر لنا ذلك الصراع الذي يدور في حياتنا اليومية، كما تعبّر عن احتجاج صارخ على انتهاك حقوق الإنسان، وتنطق بشهادة صادقة دفاعاً عما يبدو حقيقيّاً بالنسبة إليه. فلئن كانت حقوق المرأة، على سبيل الشاهد، قد لقيت اهتماماً كبيراً في العالم الغربي خلال القرن العشرين، فإنها في ما مضى من قرون كانت أوربا – كما هي الحال في عالمنا العربي/الإسلامي الراهن – مُعضلة أشد عمقاً وأكثر تعقيداً. غير أن فولتير عبر «كانديد» كان من أوائل الذين سلَّطوا الضوء على حقوق المرأة وعذاباتها المُرَّة، الأمر الذي ساعد في بناء الحماية لها لاحقاً، والتي صاغتها ونفَّذتها حركة حقوق الإنسان التي كان فولتير أحد أبرز أبطالها التاريخيين.

في الـ «تيتانيك» نفسه
والآن، ماذا في هذه الرواية حتى يجعل من قراءتها أمراً جديراً بالاهتمام؟ لقد كان هناك، وسيكون دوماً، أزمات وكوارث رهيبة على علاقة مباشرة بالأسئلة التي طرحها فولتير في «كانديد». وقد أورد الفيلسوف الفرنسي ما يبدو أنه إجابة ممكنة عن مآسي الحياة – بالنسبة للبعض على الأقل – في إقْفَال روايته عندما ذكر على لسان «كانديد» في جوابه على قولٍ لمعلِّمه «بانغلوس»: «حَسَناً قُلت. ولكن يجب أن نَزْرَعَ حديقتنا». وهو يعني بذلك – في ظني – أن علينا كأفراد الانخراط في دُنيانا بأنشطة إنسانية مفيدة، سواء كانت شخصية أو عامة. بعبارة أخرى، ينبغي علينا العمل على ما يمكننا التحكّم فيه ويكون له تأثير نافع فينا جميعا. جدير بالذكر، أن المزيَّة الأساسية في عصر «التنوير» هي الاعتقاد بأن الناس يمكنهم أن يعملوا بنشاط لخَلْق حياة أفضل.
وعلى الرغم من أن الإنسان خلال عمله/حياته قد لا يحصل على إجابة نهائية لسؤال: لماذا «الشر» موجود؟ فإن فولتير في رواية كانديد يُقدِّم رؤية لكيفية انحسار «الشر» للصالح العام كمكافأة لنهاية «المباراة» الوجودية. لقد أدرك فولتير/كانديد أن المُضَاربة على «الشر» لا معنى لها، ذلك أننا سنعاني دوماً، غير أن العمل في حِرَاثَة حَديقتنا/عقلنا/وَعْينا/أخلاقنا/سلوكنا... سوف يحفظنا/ يساعدنا ولو جزئياً في حياتنا. إن رواية «كانديد» جاءت انتصاراً لأطروحة «التنوير» بصورة عامة، ولموقف فولتير نفسه الذي رفع شعار «لا للتَعْتيم على المُعاناة في هذا العالم». إنها خُلاصة ما للفظائع والمظالم والعبثية التي تَحْدُث كل يوم في منطقتنا وبلداننا، مُدننا وشوارعنا، وتثير الاستنكار في نَفس كل إنسان حَي، والتي ينبغي ألا تُنسينا أننا كبشر نعيش/نجلس جميعاً في الـ «تيتانيك» نفسه .